Мустафа Нахас

Аббас Хафиз d. 1378 AH
75

Мустафа Нахас

مصطفى النحاس

Жанры

لقد كان الأزهر مهد الثورة الأولى، فيه جلس المعلم الأول السيد جمال الدين الأفغاني يلقي من علم الثورة مباديها، ويمهد لها ويغذيها، ويستبي بمنطقه شبابها وذويها، بل كان الأزهر هو يومئذ الثكنة العلمية، وساحة الجهاد وثقافته، ومعهد الدين ورسالته، والوطن وحماسته، وكان الحقل القوي التربة، العنيف الأرض، الصلب الطينة، السميك الأديم؛ فلا عجب إذا كان قد أطلع على أدوار الثورة أبطالا، وأنبت على مر المراحل شخصيات جبارة ورجالا، ونوابغ عظماء الأذهان.

لقد كان الأزهر مستنبت النبوغ ومزرعة التفوق إذا كانت الملكات من ذاتها صالحة، والاستعدادات بالفطرة قوية مستجيبة؛ ولكنه كان مقبرة للضعفاء والعجزة وأهل الأذهان الجامدة. وهو إذا كان قد أخرج نوابغ آحادا، فلكم ذوى فيه من زهر صغير صوح قبل أن تتفتح منه الأكمام! ولكم ذبل فيه من عيدان قبل أن تخرج شطأها وتستوي على سوقها تعجب الزراع!

في تربة الأزهر القوية العنيفة المجهدة، نبغ عبر الأجيال نوابغ عدة، كما تلاشت مصائر ألوف طحنتهم حياة الأزهر تحت أنيابها الحادة، فقد خرج منه قوم صالحون على قلة، وذوت فيه مئات على كثرة. ولا غرابة في أن يأتي النبوغ الأزهري إذن على هذه الصورة الخارقة للمألوف، وأن يبرز النابهون «الأزهريون» فوق مستوى النبوغ المعروف، جبابرة العقول، أفذاذ الأذهان؛ حتى ليغزو النابغة الذي يجود الأزهر به الحياة كلها، ويغمر الجيل الذي يظهر فيه جميعا، ويستبي بسحره العقول، ويبده الأذهان بما يضفي عليه الأزهر من النفوذ والقوة والجلال، ويحدث في زمنه من الأثر العظيم ما يبقى حديث الأجيال، ويظل به منفرد النظير منقطع المثال، حتى تخرج من التربة ذاتها من بعده أنبات أخرى وعيدان.

من الأزهر خرج في القرن الماضي آحاد معدودون من النوابغ، وأمثلة باهرة الضياء، من مصابيح الذكاء، وبرز أفذاذ من الزعماء والمصلحين، والهداة والمعلمين: محمد عبده، وعلي مبارك، وعبد الله فكري، وسعد زغلول، وأمثالهم مئات لا سبيل هنا إلى حصر أسمائهم. والذين أخرجهم الأزهر أقوياء من قوة ترتبه، جبابرة العقول من جبروت بيئته، هم أولئك الذين ساقوا العصر أمامهم، ودفعوا في ظهر الجبل بحوافزهم، وفي خاصرة العصر بمهاميزهم، وأحدثوا نهضات مختلفة الأنواع متعددة الألوان.

كذلك جاء سعد «أزهريا»، تدرب في صحن الجامع الإسلامي الأكبر من الحداثة والصغر، على كل ما سوف يروح من مزاياه في الكهولة والكبر، وما سوف يرد عليه في مسيرة الزمن ودورة الدهر؛ بل لكأنما انحدر من «دسوق» بعد تجويد القرآن في خطة القدر لكي يتاح له الجلوس إلى أستاذ عظيم في الشرق كان قد نزح إلى مصر، ولكنه موشك على سفر، وهو السيد جمال الدين الأفغاني، وكان قد جاء قبل الثورة والمنفجر، يعلم ويحاضر، ويبث جديد الفكر، ويتحدث عن الديمقراطية والحكومة النيابية، والدستور والإصلاح، والدين والدنيا، والخير والشر. وكان لا بد لهذا «الأزهري» الناشئ في تدابير القدر، أن يسمع هذا كله ويتفكر فيه ويتدبر؛ لأنه جاء إلى هذا الجيل ليكون في غده زعيم ذلك جميعا وسائق الجيل إليه والعصر، وقائد الجماعة في النهضة إليه على السنين.

وفي حلقات الأزهر، راح هذا الأزهري «النظيف» الذي قدم إلى القاهرة من صميم الريف وهو في السادسة عشرة على الأكثر، يتلقى العلم الديني، وينهل من العلم الدنيوي، ويصغي إلى أحاديث السياسة، ويعرف شئون البلاد من أفواه المعلمين والأساتذة، وتتوثق العلاقات بينه وبين مريدي الأفغاني وطلابه، وهم يومئذ عديد من النوابغ، كمحمد عبده الذي كانت الأقدار تعده كذلك لناحية من الزعامة، وضرب من الإمامة، ووجه من وجوه الإصلاح والتجديد.

وأحسب سعدا في الأزهر - وقد حدثتك عن نوع تربته وصفة بيئته - لم يحتج إلى طول زمن ورخي آن لكي يبرز ويظهر، فبينما كان أكثر الذين يدخلون لطلب العلم يشيخون فيه ولما يكتملوا، ويذبلون في نواحيه، قبل أن يحين قطاف ما حصلوا، إذ رأينا سعدا في ذلك الوسط الذي انتقته له الأقدار انتقاء، وهيأته له خير متهيأ، ينبغ وشيكا، ولكن في أندر ما يطلع النبوغ من الأزهر، وفي الوقت ذاته أقوى ما يكون مطلعا على ندرته، وأروع ما يروح مظهرا على قلته، وهو ظهور الكاتب المفكر، وخروج الأديب الجديد الأسلوب؛ إذ كانت علوم الأدب ينظر إليها في الأزهر كأن الطالب المعني بها غير صالح، وكأن الذي ينزع إليها أكثر من منزعه إلى علوم الفقه والنحو والصرف، لا يرجى منه ولا أمل فيه، ومن ثم كان الذين ينبغون من الأزهر في هذه الناحية من الدراسة وهذا الوجه من النزوع والاستعداد عددا قليلا، ولكنهم مع هذه القلة يتبدون أفذاذا لا يشق لهم فيه غبار.

كان سعد إذن من النشأة «أزهريا»، ولكن على غرار جديد، ومن طراز نادر؛ فهو لم يتمكث فيه، ولم يطل الاختلاف إليه، كأنما كانت مجاورته له مرورا موقوتا وسياحة قصيرة، وعارضا له حكمته والغاية السريعة منه، وهو تخريج «الكاتب» الذي يلقي بذور الثورة في المحاولة الأولى من محاولاتها، ولا يتعرض كثيرا لأذاها؛ لأنه موفور محتفظ به لمحاولة أخرى على دوران الزمن وسيرة السنين ، يروح هو فيها الباعث الظاهر، والعلة المباشرة، والمشعل المضرم لنارها، والقائد الحامل للوائها وشعارها، والكاتب العريف بأقدارها وتغذية تيارها، والخطيب المعجز الساحر الذلق الزارع اليقين النافث الإيمان.

لم يمكث سعد في صحن الأزهر غير بضع سنين، لا أظنها جاوزت خمسا، وهي فترة بالغة القصر لا تكاد تخرج شيئا بالنسبة لجمهرة المجاورين، والسواد الأعظم من طلابه الذين تطول بهم الآماد في تلك الثكنة العلمية قبل أن يصيبوا أول أشرطة الجنود المجاهدين في الدين، ولكنها في سعد كانت كافية لكي تخرج الكاتب الجديد، والمفكر المستبق جيله، وذا القلم الحامي الملتهب الذي يعد النفوس للثورة، ويهيئ الأذهان.

وهكذا بدأ سعد حياته العلمية وهو في الحادية والعشرين - أي سنة 1880 - كاتبا مفكرا، بعد خمس سنوات فقط في صحن الأزهر، وهي بداية نادرة ومطلع عجيب، ولكنها في حياة سعد وسياق حوادثها وحلقات سلسلتها متناسبة متوائمة مع الدور الذي قدر له أن يلعبه في مصير أمته، والمركز الذي أعدته الطبيعة ليشغله فيما بعد من قومه وبني وطنه، بل هي الوظيفة نفسها التي قدرتها العناية الإلهية لغيره من عظماء العالم وأبطال النهضات وقواد الشعوب في الثورات والحركات العامة، وهي الناحية الوحيدة التي كانت خليقة بهذا الأزهري الجديد أن يجنح إليها في ذلك العصر ووسط ذلك الأفق، حيث كل شيء ينذر يومئذ بسوء، ويتمخض عن ثورة، وينم عن وشك انقلاب.

Неизвестная страница