وأقرب وجوه الشبه بينهما وأبرزها اشتراكهما في النعي والتنديد والنقمة من الحضارة الحديثة بسبب ما حوت من مفاسد ومضال ومساوي وأكاذيب.
ومنذ بدأ روسو سخريته من الحضارة، وهي في أوروبا مرمى سهام أكبر العقول في الغرب وأعظم الأذهان، فإن هؤلاء هاجموها طلقاء الفكر، وحاربوها غير هيابين ولا مشفقين، وحين بدأ الشرق يستيقظ ويحس شيئا من القوة يعاوده، ويشعر بالتمرد على الظلم والطغيان والعذاب الذي سامه الغرب، وألح به عليه، باتساع نطاق الاستعمار، واحتداد جشعه ومطامعه، لم يكن بحاجة إلى أكثر من أن يتصفح سجلات تاريخ أوروبا نفسها؛ لكي يتبين آثار مدنيتها الكاذبة، وما أحدثته في الدنيا من أذى وشر وضر وبلاء مستطيل.
وقد فعل غاندي ذلك، بدليل أنه في كتاب «هندسواراج» - أي «استقلال الهند» - قد راح يعدد كتبا وتواليف مما كتب الغربيون، ومن بينهم لفيف من الإنكليز أنفسهم، في تجريح المدنية الغربية واستنكارها والتنديد بها، وإظهار ما فيها من شرور ونقائص ومعايب وسيئات.
ولكن ليس ثم أبلغ من هذه الناحية ولا أنطق دليلا ولا أقوى حجة وسجلا وتدوينا مما كتبته أوروبا نفسها بمداد من دماء الشعوب التي اعتدت عليها وظلمتها وأفسدتها كل إفساد باسم أكذب الدعاوى وأعجب المبادئ على الحق اجتراء، وبخاصة في الفترة التي استغرقتها الحرب الماضية، فانكشفت أوروبا خلالها عن أكاذيب ووحشية وضراوة وجشع شديد، تلك الحرب التي زعم الغرب أنها حرب الحق والعدل، حرب الحضارة واستنقاذها، بل الحرب لتخليص المدنية من أعدائها الألداء؛ فقد هوت أوروبا يومئذ من السوء والرذيلة والشر إلى أبعد الأغوار وأسحق قرار، حتى لقد بلغ بها الجنون أن دعت شعوب الشرق إلى الفرجة عليها وهي متجردة عارية مهتوكة الحجب مهلهلة الثياب، فرأوها على حقيقتها بادية للعيان، وأصدروا عليها حكمهم الصحيح.
وفي ذلك قال غاندي سنة 1920: «لقد أبدت لنا الحرب الأخيرة بأبلغ برهان قيمة الحضارة التي تسود أوروبا اليوم، فقد حطم المنتصرون فيها كل فضيلة من فضائل الأخلاق باسم الفضيلة نفسها ... فما من أكذوبة تورعت عنها، وما من جريمة اقترفت إلا كان الباعث من ورائها جشعا ماديا يدفعها، إن أوروبا اليوم مسيحية اسما فقط، وهي في الحقيقة والواقع وثنية اتخذت المادة لها ربا معبودا وإلها من دون الله!»
المدنية في نظر غاندي هي مدنية بالاسم فقط، أما في الواقع فهي أشبه شيء بما تسميه الهندوكية القديمة «القرون المظلمة»؛ لأنها أقامت «المادة» أو الحياة المادية غرضها الأوحد في الحياة، ولأنها أصبحت تسخر من الروحانيات، فهي جحيم للضعفاء والطبقات الفقيرة والكادحين للأرزاق والأقوات، وهي تعتصر حيوية الإنسان وتمتص دماءه امتصاصا، وسوف تحطم نفسها بنفسها على الأيام.
الحضارة الغربية هي عدو الهند اللدود، وخصمها الحقيقي الأوحد، وهي في ذلك أكثر من الإنكليز، فإن هؤلاء - أفرادا - لا بأس بهم، وهم - مجموعا - ضحايا هذه الحضارة والمرضى بها، والعناة من شرها وأدوائها. وإن غاندي ليسخر من بني وطنه الذين يريدون أن يطردوا الإنكليز من بلادهم ليتولوا هم ترقيتها وتحضيرها وفق أقيسة الغرب وحضارته؛ فإن ذلك في نظره كمثل اكتساب طبيعة النمر وضراوته، وإن غاب النمر نفسه وتوارى في حد ذاته، ومن ثم كان واجب الهند وغرضها الأوحد أن تصد تيار هذه الحضارة بل تمحو كل أثر لها من الوجود.
وأشد ما يكره غاندي من هذه المدنية قلبها وجوهرها أو «ميكانيكيتها» الحديثة، فإنها اليوم تعيش في عصر الحديد، بل عصر الآلات، حتى لقد استحال قلبها فولاذا أصم جامدا، وأصبحت الآلات هي المعبود الضخم العظيم، ومن ثم كان جل ما يتمناه غاندي هو أن يرى الآلات قد محيت آثارها جميعا ومسحت من الهند مسحا.
وقد يعترض عليه المؤمنون بناموس التقدم والارتقاء مسائلين: وماذا ترى يكون مصير الهند إذا استغنت هي عن الآلات؟! فيجيب غاندي على هذا السؤال بسؤال آخر، وهو: ألم تكن الهند موجودة قبل وجودها؟! لقد ظلت الهند ألوف السنين تقاوم وحدها طوفان الدول، وتقلب السلطان، وصروف الدهر، وغير السنين، حتى تعاقبت تلك جميعا وبقيت هي ماثلة حاضرة، ولقد مثلت الهند على الدهر فضيلة القناعة وضبط النفس، وتواتى لها من ذلك الرضى والهناء، فهي ليست بحاجة إلى أن تتعلم شيئا آخر من الأمم، أو تتلقى درسا آخر من الشعوب، وهي في غنى عن الآلات، فإن سعادتها الغابرة كانت قائمة على المحراث والمغزل والفلسفة فحسب، فما عليها إلا أن تعود إلى مصادر سعادتها الماضية، ولا يمكن أن يتم ذلك عاجلا، ولكن لا بأس من أن يحدث تدريجا وعلى مهل.
فليس للقرون في اعتبار الهند حساب، كما أن غاندي يؤمن بأن استقلال الهند حتى تعيش هذا العيش وتكتفي بهذا النحو من أسلوب الحياة، لا يمكن أن يأتي عنفا، ولكنه إنما يتواتى بقوة الروح، فإن هذا هو سلاح الهند الوحيد، سلاح الحب والحق، أو ما يسميه هو بلغته «السايتا جراها»؛ أي قوة الحب وسلطان الإيمان، وما اصطلحنا نحن عيه بقولنا «المقاومة السلبية» وإن كان غاندي شديد الكراهية والنفور من هذا الاصطلاح؛ لأنه يستنكر «السلبيات»، إذ هو الرجل المحارب المكافح الذي لا يحس الكلال، ولا يكف عن المقاومة، وهي المقاومة التي تعمل وتكد وتجاهد، المقاومة العقلية النشيطة التي لا تجد متنفسها في العنف ووسائله، بل في الحب والإيمان والتضحية والفداء.
Неизвестная страница