وقد قال الأستاذ ويل ديورانت في كتابه تاريخ الفلسفة - وهو بسبيل الكلام عن أرسطو - إنه نشأ ونما وسط رائحة الأدوية، فكان ذلك فرصة أعانت على أن يكون له ذهن علمي واتجاه بحث وتفكير، كأنما كان معدا مجهزا من النشأة ليكون مؤسسا للعلم، إذ شب على قوة الملاحظة من الحداثة.
وقد أسلفنا عليك أن الفرد الرفيع المواهب تنقصه الفرصة إذا هو ولد ونشأ في محيط راكد وبيئة جامدة آسنة، وقد تكون الأحوال السياسية أو النظام الاقتصادي في البيئة كاتمة الأنفاس موصدة الأبواب في وجوه سائر الأفكار الجديدة، فلا يصيب الذين يخالفونها ويتمردون عليها غير النفي والتشريد والعذاب الشديد، وقد تقطع السبيل على كل فرصة أمامهم غير فرصة المماثلة بينهم وبين أفقهم والنزول على حكم محيطهم.
إن الفرصة أو الظرف المهيأ المساعد تقتضي بيئة من الأكفاء والنظراء؛ حتى يحتك الفولاذ بالفولاذ، ويشتبك الصلب بالصلب، وتصطدم الآراء وتتعارض الأفكار، ويقوم الجهاد بين متنازع الحجج ومختلف المذاهب والنظريات، ويكون ثم تقدير للعقول ووزن عادل للمواهب والجهود وثمرات الأذهان، وليس معنى الفرصة هنا إلا وجوب الإقرار والاعتراف بالحاجة التي تطلبها البيئة، وبالأفراد الذين يستطيعون قضاءها، وفي مقدورهم حل مشاكل الجماعة وقضايا البيئة ومطالب المجموع.
ويراد بالفرصة الاجتماعية كذلك سنوح الظروف للسفر والتجوال في الآفاق واكتساب الخبرة والاحتكاك بالنوابغ والقادة والزعماء في مختلف الأقطار، والإقدام على الزج بالنفس في مواقف ومواطن تبعث المواهب الكامنة، وتوقظ المشاعر الهاجعة، وتوقد خبوة الذكاء.
ويندمج في معاني الفرص مطالب المرانة والتدريب؛ لأن النبوغ مهما كان محله من الرفعة لا يزال بحاجة إلى المرانة، والعبقرية وإن بلغت الذروة لا يزال ينقصها التدريب وتعوزها الرياضة، وقلما رأينا المقدرة الذاتية مغنية عن التعاليم، بل إن النابغة الخلي من المرانة لأشبه شيء بمعزف فيه كل الأصوات، وسائر الألحان وطبقات الموسيقى، وجملة الأوتار، وإنما تنقصه اليد العازفة والأنامل الموقعة الخفاف، فضلا عن أن المرانة تستوجب التناسب والملاءمة، فكثيرا ما يخطئ المدرب أو القائم بالتمرين فهم تلميذه؛ فيدربه على ما لا يتفق مع استعداده، ويسلك في رياضته وتمرينه أسلوبا غير مناسب لمواهبه، أو يحاول أن يجعل منه صورة أخرى من نفسه، وهو مخلوق لغير ذلك، مفطور لكي يبلغ غير مبالغه.
وقد يحرم الفرد الفرصة المؤاتية للرياسة والاستعلاء؛ لأنه جاء فوجد أناسا أقوى منه وأقدر وأكثر فضلا في الميدان، وقد اعترف الناس بهم وازدحموا من حولهم، وقد شهدنا نوابغ صالحين لم يستطيعوا الظهور؛ لأن ظل عظماء استبقوهم تعرض فحجبهم عن الأنظار.
ومن معاني الفرص أيضا مواجهة العظيم للصدمات والظروف القاسية والضربات العنيفة الأليمة المدمية حتى يألف الخشونة ويعتاد الجهاد والمجالدة، ولا يستنيم للراحة والترف ويسكن إلى الطراوة والعيش الناعم الظليل، كما تشمل الفرصة قيام الزعيم بمنجاة من الحاجة والكدح للرزق، والتماس العيش والأقوات للذين يعولهم من الأقارب وأهل العشيرة، فكم من رجل كان ينتظر أن يصبح في قمة الرياسة وذروة النبوغ قد حيل بينه وبين هذا باضطراره إلى العمل لكي يعول الآخرين، والبحث عن رزق الضعفاء من ذوي نفسه وقرابته.
وقد يكون معنى الفرص أحيانا ظهور حادث يقتضي مواهب عاجلة للبروز بالنسبة له، من نحو أزمة سياسية، أو نشوب حرب فجائية، ففي هذه الحالات تتمخض الطبيعة عن الرجل الخليق بالظرف، والبطل المنتظر في اللحظة الواجبة.
وقد تخلق الفرص العارضة ومحض المصادفة، زعامة لا تلبث أن تستبي الجوانح، وتصيب أكبر الإعجاب والتقدير، كأن يصاب أحد اللاعبين في الحلبة بإصابة أو أذى، فيقال لأحد الأفراد: خذ مكانه في اللعب لسداد موضعه، فإذا هو لا يكاد ينزل إلى المستبق حتى تبعثه حرارة اللعب وحماسته إلى بذل جهود لم تكن منتظرة منه، وإنه ليشاهد يجري أسرع مما كان معروفا عنه، ويصيب الهدف ناجحا موفقا، ولم يكن ذلك في الحسبان.
لقد واتته الفرصة في غير انتظار، وكان له من مادته ومقدرته ما أعانه على الانتفاع بها، والملاءمة بينه وبينها، وحسن القيام عليها، ومن شأن الفرص أن أكثرها وأغلبها يجيء على هذه الصورة، ومن الناس خلق كثير يتركز كل جهدهم وينحصر كل اهتمامهم في حل مشكلة أو علاج مسألة من المسائل؛ حتى ليقع منهم موقع الدهشة البالغة أن يكتشفوا اهتمام الجماهير بهم، وينتبهوا إلى حفاوة الجماعات بأمرهم والازدحام عليهم من كل حدب ومكان، وأنت فلتتصور كيف كانت دهشة الطيار لندبرج المشهور قاهر المحيط لذلك الاستقبال الرائع المجيد الذي قوبل به عند وصوله إلى مطار ليبورجيه في باريس في مساء الحادي والعشرين من شهر مايو سنة 1927، فقد كان بلا شك يتوقع شيئا من هذا، ولكنه لم يكن ينتظر هذا اللقاء العظيم، ولا تلك الضجة الداوية بداية أنه قبل سفره عبر المحيط على متن طائرته، أخذ معه كتب توصية ورسائل تعريف به ...!
Неизвестная страница