148

Мустафа Нахас

مصطفى النحاس

Жанры

وبدأت الوزارة الجديدة برياسة مصطفى النحاس باشا بداية خطرة، وكانت الأدلة والقرائن توحي من أول يوم في عمرها أنها سوف لا يطول الأمد بها، لا عن عجز أصيل فيها، فقد كانت قوية جليلة الشخصيات بارزة الكفاية؛ ولا عن كراهية في الشعب لها، فإن الأمة تلقتها بتأييد عظيم، وفرح بالغ، واغتباط كثير؛ إذ نجا بها الدستور من الغرق، ولم يطغ بها السيل على الحياة النيابية، وإنما كان يهدد حياتها اجتماع عوامل خفية عديدة عليها، وقيام مكائد منوعة ضدها، وبغضاء متأججة في صدر لورد لويد من ناحيتها، وكان الائتلاف يوشك أن يهن وتوهى ساقاه يومئذ لولا أن تماسك وتساند إذ وجد المختفون وراء الأستار أن الفرصة لتفكيكه غير طيعة ولا مؤاتية.

وكان مصطفى يعرف ذلك ويحسه تماما، ولكنه أبى أن يتراجع؛ لأن التراجع ليس من صفته، وظل في موقفه شجاعا جريئا مستعدا لملاقاة خصومه، متأهبا لمواجهة أعداء الدستور والكائدين له والمحاولين التخلص منه، مهما كلفهم ذلك من جهد وثمن ووصمة العار، والخزي في الدنيا، ونقمة الملايين.

بدأت الوزارة حياتها، وأمامها مذكرة «4 مارس» التي لم تجب عليها وزارة ثروت باشا التي سبقتها، بحكم استقالتها حين وصولها، وقد تعهد الإنكليز توجيهها في ذلك الظرف بالذات لتكون قنبلة في طريق مصطفى النحاس باشا أول ما يبدأ المسير.

وهنا يصف دولته الموقف من ناحية شعوره، فيقول: «ولكنا لم نهب خطرا، ولم ننكص على الأعقاب، بل رأينا من واجبنا أن نتحمل مسئولية الحكم التي ألقاها الدستور على عاتقنا، حتى نحتفظ - كما أعلنا ذلك في برنامجنا - بحقوق البلاد كاملة في مصر والسودان، احتفاظا يتفق مع كرامة حقنا، وروعة نهضتنا، والعمل على تمكين الدستور وتقاليده من نفوس الأمة جميعا، حكومة وشعبا، وأخذنا أنفسنا على أن تجري أعمال الحكومة في الداخل على سنن العدالة والمساواة، وألا يكون للأهواء سبيل إلى النفوس، فلا يميز فريق على فريق، ولا يغلب رأي على رأي إلا بالحق، في سبيل المصلحة العامة ...»

لقد كان الحرص على الدستور دائما، والدفاع عن الديمقراطية العامل البارز فوق سواه في حياة مصطفى السياسية؛ فقد ظل للدستور حارسا شجاعا على الأهبة أبدا للذود عنه، مهما كانت الظروف من الخطورة، ومهما كانت المواقف مرهوبة، ومهما كان الخصوم كثرا متألبين.

وكان لا بد في ذلك الموطن من تجنب التعرض لهيكل الائتلاف، وإن كان الواقع يومئذ أنه قد وهن وتراخت مسانده؛ إذ كانت الحكمة تقضي بألا يكون الوفد البادئ بنفض اليد منه والتخلي عنه، بل يدع غيره يروح المهاجم المبادر حتى يحمل وزر ما صنع، وإصر ما اقترف. فلا غرو إذا كان مصطفى النحاس باشا - بدافع ذلك الحرص، وإملاء تلك الحكمة - قد راعى موجبات الائتلاف حين تأليف وزارته، تاركا فريقا من زملائه غير مشركهم في الحكم، ليأخذ غيرهم من الأحزاب؛ وإن كان فريق كبير من الأحرار الدستوريين قد أظهروا يومئذ تعففا من الاشتراك فيه، ولكنه كان زهادة مصطنعة، لترقب الحوادث، وتحين الفرص، وانتظار الأزمات التي تخدم الأغراض التي كانوا يرمون إليها من اتخاذ ذلك الموقف المريب.

وقد كان خطاب العرش يتضمن عبارات صريحة تقوم بمثابة الرد على تلك المذكرة البريطانية التي أريد بها أن تكون عقبة في طريق الوزارة، وكانت هذه العبارات كافية بسبيلها، مغنية عن الإجابة عليها، ولكن خصوم الدستور وأعداء الوفد ومتلمسة الحكم والذاهبي النفوس حسرات عليه، أبوا أن يستمعوا إلى صوت الضمير، وأصروا على أن يكون رد آخر، وجواب حاسم؛ وهم يحسبون أن إصرارهم هذا قد يرد مصطفى عن التقدم، ويغريه بالإحجام، ويرسل الخوف من جوانب النفوس، فلا تجلد على الجواب. ولكن مصطفى بتلك الجرأة الرفيعة المعروفة عنه مضى في الثلاثين من شهر مارس سنة 1928 يرسل إلى الحكومة البريطانية ردا صريحا بليغا على مذكرتها، محتجا فيها على التدخل الذي تتوعد إنجلترا مصر به؛ لأنه يشل سلطة البرلمان في التشريع والرقابة على الإدارة، ويجعل مهمة الحكم مستحيلة على أية حكومة جديرة بهذا الاسم، خاتما الرد بقوله: «ولذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تقبل تدخلا، ولو أنها سلمت بمبدئه، لأسلمت رايتها، وأنكرت وجودها، بل إنها كحكومة دولة مستقلة ذات سيادة لتدرك حق الإدراك ما عليها من واجبات، وتعتزم - بعون الله وتوفيقه - أن تنهض بأعبائها في حرص ودقة، وعلى وجه مرض للجميع ...»

هذا هو الرد القوي الصريح الذي بعث به مصطفى النحاس باشا إلى الحكومة البريطانية في ذلك الموقف الخطير، والظرف الدقيق؛ فتلقته الصحف الإنكليزية يومئذ بالتعليقات الهائجة المحنقة، وراحت تكيل للوفد المطاعن وتنادي بأنه قد غلا غلوا كبيرا، وتصف الحرص على حقوق البلاد، والصراحة في الرأي، والشجاعة في المجاهرة والمكاشفة، حماقة وإسرافا. وأسرعت الحكومة البريطانية إلى إرسال مذكرة أخرى في الرابع من شهر أبريل، معلنة فيها أنها لا تستطيع قبول رد الحكومة المصرية كبيان صحيح للعلاقات القائمة بين مصر وبريطانيا ، ومؤكدة تمسكها بتصريح 28 فبراير، واحتفاظها بالتصرف المطلق بالنسبة للتحفظات الأربعة المبينة فيه.

وأمام هذا الإصرار من جانب الحكومة البريطانية على موقفها المتحدي ووجهة نظرها المتحرشة المستنفرة، لم يتراجع مصطفى النحاس ولم ينثن مجفلا، ولم يتهيب ما قد يكون من وراء هذا العنت الصارخ، والتحدي المعتمد على القوة والسلطان، بل وقف في مجلس النواب في الخامس من شهر أبريل سنة 1928 يخاطب المجلس كله والعالم الخارجي بجملته، مناديا بأن رده كان متفقا مع البيان الوزاري الذي ألقاه في المجلس من قبل، وكان موضع رضاه وقبوله لاحتفاظه بحقوق البلاد مع استبقاء صلات المودة بين مصر وبريطانيا العظمى، ولا حاجة به إلى القول بأن الحكومة المصرية متمسكة بوجهة نظرها المستمدة من برنامجها، والتي تعتقد أنها خير سبيل لتوثيق عرى الصداقة بين البلدين.

وقد قوبل هذا البيان في المجلس بموجة من الحماسة، وعاصفة من التصفيق؛ واشترك في الحماسة له والإعجاب به المتكلمون عن الأحزاب الأخرى ممن عرفوا من قبل بالإسراف في المعارضة، والغلو في النقد والانتقاص والتعييب.

Неизвестная страница