ومن ثم كان الزعيم الذي تنتخبه الجماعة بمحض إرادتها وتضع فيه كل ثقتها، أنزع إلى النجاح وأدنى إلى التوفيق في مهمته التي ألقى إليها كل قلبه، وادخر لها كل جهوده، وأفنى في سبيلها عصارة روحه؛ لأن أثره في كل إصلاح بارز، ونفوذه عند الجماعات المخلصة الواثقة به شديد الأثر، قوي التوجيه، بالغ السلطان.
العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة
يرد العلماء الذين بحثوا في سر الزعامة وتقصوا نشأتها والتمسوا بالمشاهدات والاستقراءات والإحصاءات الاهتداء إلى العوامل والمؤثرات في إيجادها، وتكوين الصفات الواجبة لها، يرد هؤلاء العلماء نشأة الزعامة إلى عوامل مختلفة، ومؤثرات متعددة منوعة، منها الطبيعية؛ وهذه تتصل بالوراثة والبيئة والإقليم، والاستعدادات الفطرية، والغدد والإفرازات، ومنها الاجتماعية كالظروف المهيئة والفرص السانحة، وأثر البداوة والحضارة والمحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية، والأفق المنزلي ونوع الأصحاب والرفقاء والخلطاء واللحظات الموقظة، ونقطة الدوران الفجائية، ومنها الشخصية كالنزعات والأهواء والميول والاتجاهات الخاصة، وقوة النشاط ونسبة الذكاء والأخلاق القويمة من التكوين من نحو حب الاستكمال والقدرة على التمام والرغبة في الإجادة والإتقان، وكقوة الاحتمال، والصبر الرفيع، والتجلد المتناهي، والمثابرة والدأب الملح على الاستمرار، والشجاعة وانتفاء التهيب والمخافة، وقبول تحمل التبعات والاضطلاع بالمسئوليات والإخلاص، وصدق النية والأمانة والنزاهة ونقاء الذمة والعطف على الناس، والثبات على الفكرة أو المبدأ والوفاء للعقيدة، والتصميم على الرأي وقوة العزيمة وعمق الإيمان، وضبط النفس والاتزان والتزام السكينة، ومقاومة الانفعالات واللياقة والكياسة وحسن التصرف، ومعالجة الأمور بالحكمة وفصل الخطاب.
على أن هذا التقسيم التقريبي للعوامل المؤثرة في نشأة الزعامة وخلقها كما ترى لا يزال متداخلا مشتبكا متصلا بعضه ببعض، فما سميناه طبيعيا منها لا يخلو من صلة بما دعوناه اجتماعيا من بينها، كما أن من العوامل الشخصية ما يرتبط بالمؤثرات الطبيعية، ويتولد عنها ويجد منها التعهد والتنمية والغذاء والوراثة والاكتساب.
ولو أردنا أن نتحدث عن كل عامل من هذه العوامل المختلفة في فصل قائم بذاته، وبحث مستقل بمفرده، لترامت حدود هذا الكتاب في مقدماته قبل أن يدخل في تخومه ويعالج الموضوع الرئيسي الذي وضع بسبيله.
ولكن لا ضرر من أن نتناول هذه العوامل في شيء من الإيجاز يكفي لشرحها من حيث اتصالها بالفكرة التي بعثتنا على إخراجه إلى الناس، في عجلة ومبادرة حتى يوافي مناسبته ويلحق وقته، ولو قد استأنينا له ووجدنا الفسحة الواسعة الخليقة به، وتوفرنا عليه دون سواه، واستنفدنا فيه الزمن الطوال، والدراسة المتقصية، والبحث المستفيض، والعلاج المدقق؛ لكان خيرا من هذا وأحسن مردا، وأوفر مادة، وأروع بناء. •••
كان أول من عالج بحث عامل الوراثة في خلق الزعامة وتنشئة الزعماء العالم المشهور فرانسيس غالتون الذي راح يطبق علمه البيولوجي على الحياة الإنسانية، فذهب إلى أن العبقرية أو الحد المتناهي في العقل والذكاء هو أثر فطري حيواني طبيعي، محتوم الأثر، معلن عن ذاته، مهما قامت في وجهه العقبات والظروف غير المساعدة، وأما غياب الصفات الوراثية الرفيعة السامية فلا ينتج تفوقا، ولا يعمل على إيلاد نبوغ وإحداث عبقرية، ولا يخرج نباتا صالحا زكيا.
ولكن الدراسات الحديثة بعد غالتون قد تقدمت شوطا آخر في فهم عامل الوراثة أكثر مما كان مفهوما في بداية البحوث الخاصة به، وأصبح المقرر اليوم أن ناموس الوراثة ليس بالعامل المخيف العنيف المستبد الذي يؤيس الذين لا يكسبون رضاه، ولم تشع على حياتهم من أثره ابتسامته ووميض حظوته.
واليوم إذا أنت سألت كيف ينشأ النبوغ، وتحدث العظمة، ويصيب الفرد السمو والرفعة والقوة الدافعة إلى الصعود والعلاء، أجابك العالم البيولوجي أن النوابغ والأفراد الصالحين السامين المتوفقين هم نتاج اشتراك صفات الأبوين واقتران نطفهما وتلازم عناصرهما، بحيث إذا وجد نقص في أحدهما، استكمل من الآخر نقصه، وبحيث يعمل المؤثران معا؛ أي أن ذلك وليد اتحاد البذرتين وتكاملهما وتفاعلهما في إنشاء الأجنة والتأثير في الذراري والولدان.
وقد يتولد الرفيع أحيانا من الرفيع وأحيانا يأتي من الصغير والضئيل القيمة، كما يبدو ذلك في خليقة شكسبير وظهور كيتس الشاعر ومولد لينكولن، فقد نبت هؤلاء في أسرات صغيرة، ونشئوا كما نشأ عشرات من النوابغ والعظماء في عشيرات دنيا، وإن كانت هذه الظاهرات قد لا تبدو شذوذا إذا نحن استطعنا أن نعرف تاريخ أرومة الفرد وتسلسله وأجداده من أجيال عدة وسلالات كثيرة متعاقبة.
Неизвестная страница