كان مصطفى أخا فاقة، مفصولا من وظيفته، قليل المعاش، كثير النفوس المعلقات في رقبته، كبير التبعة إزاء أهله وعشيرته. وكانت تلك كلها شفائع له لو أنه التمس مآبا، وخشي ذهابا، وخاف عقابا؛ ولكن مصطفى لم يكن بالذي تقدم ليرجع، وأقدم ليحجم، وسار ليلوي عنقه مرتدا.
لقد جاء مصطفى لمعنى كبير، وغاية بعيدة، جاء ليشارك سعدا، ثم ليخلفه يوم يذهب، ويتقدم هو يوم يغيب سعد ويحتجب؛ ليسير بالقضية في طريقها غير خائف ولا متهيب، فهو منذ اندفع كان مؤمنا بأنه سوف يتعذب. فلم يباغت بالصدمة الأولى حتى يتراجع؛ لأنها كانت في حسابه، واحتمالها في تقديره، وتوطين النفس على أمثالها عدته قبل الانبعاث مع سعد وإقدامه ومسيره.
كان مصطفى قد انتهى من التفكير يوم اجتمع مع بعض أصحابه على هذا الأمر العظيم والشأن الجلل، فلم يبق إذن أمامه شيء يحتاج إلى تجديد تفكير أو معاودة بحث أو مراجعة خاطر، فقد أقدم وهو عالم بما قد يكون من إقدامه، وهو ضحى وما به استرداد لتضحيته، أو نكول عن تفديته؛ وعزاؤه يومئذ أن ما قد يصيب سعدا يصيبه، وليس هو بأحسن من سعد، حتى يستريح وهو الشاب، لكي يضنى ويشقى سعد وهو الشيخ، ويوم يجد المرء على الخطوب رفيقا، ويظفر في مجاز الشدائد بشريك أو صديق، تخفف الرفقة من الألم، وتكسر الشركة من حدة العذاب، ويسهل الطريق الوعر على المسافرين.
وفي ذلك العام، عام 1920 بالذات، فقد مصطفى والده، إذ قضى الشيخ في سمنود، ورحل عن هذه الحياة الأب البار الحنون، والمرشد الهادي، والناصح الأمين، مات الرجل الذي كان أعز صلته بهذه الدنيا، وأقوى آصرته بهذه الحياة، الرجل الذي كان له أكبر الفضل عليه في تكوين نفسه، وتربية حسه، ورياضة وجدانه، وغرس إيمانه، وبث تقواه، مات النصير الروحي الكريم عليه، الباذل النفس له، الحار الدعوات في خلواته إلى الله من أجله؛ فكان ذلك مصابا عظيما لا يجدي فيه الجلد، ولا ينفع الصبر، ولا يواسي الإيمان. وكان حزن مصطفى على أبيه بالغا متناهيا لا حدود له ولا مزيد عليه؛ حتى لقد قال لبعض صحبه في الجواب على تعزيته إنه مع إيمانه العظيم بالله لا يجد مخففا من حزنه، ولا مسكنا من حرق أساه، لا في «المنقول» ولا في «المعقول».
وكان فقدان أبيه أيضا يصلح شفيعا للرجوع مع الراجعين، والانزواء مع المنزوين؛ لأنه يزيد في مسئولياته «العائلية»، وتبعات البر بذوي رحمه، وبخاصة والدته العزيزة التي فقدت زوجها الشيخ الحنان الكريم.
ولكنه مع قيام هذه المسئوليات الكبار ثبت بجانب سعد ولزم مكانه، ولم يفقد في الجهاد ذرة من إيمانه، ولم يزعزع طول الشقة ووعورة الطريق من جلده وقوة جنانه، وظل قائما يعمل بحزم وعزم وعمق يقين.
وفي وقت فراغه من عمله في الوفد راح يعاود المحاماة، فاشتغل بها فترة من الزمن، ولكن بالقدر الذي لا يحول دون مواصلة جهاده، وإلى الحد الذي لا يعوقه عن عمله الوطني، ولو أنه أعطى المحاماة يومئذ كل جهده، وأكب عليها بكل نشاطه وجلده، وانكمش فيها غير فارغ لغيرها، لكان كسبه منها وفيرا، وإثراؤه منها نتيجة لازمة، ولكنه سكن إلى القناعة إيثارا للواجب الوطني، فلم يدع الصناعة تستنفد كل قواه، وإنما جعل الفريضة الوطنية هي الجائرة على صناعته، الآخذة من مرتزقه، القائمة في المحل الأول من منازعه ومجانحه ومدار حياته؛ فظل مكتبه في شارع المدابغ ينتظره كلما أسلمته شدائد الجهاد وخطوبه إلى معاودة المحاماة، فلم ينتقل منه إلا من عمارة إلى عمارة، وبين رقم 21 ورقم 30، وفي ذلك المكتب ذكريات وعهود لا تمحوها الأيام ولا يعدو عليها النسيان.
وعلى أثر الصدمة الأولى عاد سعد إلى مصر، ولم يكن قد رآها منذ احتمل إلى مالطة معتقلا، فاستقبلته البلاد استقبالا باهرا، هزها هزا، وأوقد حماستها كل متقد «وأظهرها أمة عظيمة في وطنيتها، حكيمة في أفرادها، نبيلة في مقاصدها»، رائعة الحمية، مكينة البنيان.
ولكن القوة لم تلبث أن عادت تتجاهل مشيئة الأمة، وتقاوم إرادتها، وترجع إلى سابق سيرتها، وأساليبها الغاشمة وأدواتها، وتلا سفر الوفد الرسمي إلى لندن برياسة عدلي باشا للمفاوضات، قدوم جمع من أعضاء البرلمان البريطاني لمشاهدة الأحوال السياسية في البلاد عيانا، والوقوف على حقائقها عن كثب؛ فإذا هم حيال مظهر رائع لإرادة الشعب ووطنيته المتدفقة، وحماسته المشتعلة المشرقة، ولهفته الصادقة على الحرية والاستقلال؛ فرجع القوم إلى بلادهم متأثرين بما شاهدوه، وقدموا تقريرا إلى الحكومة البريطانية، ونشروا خلاصته على الرأي العام؛ فكان له عامل كبير في تقديره لحقيقة الحركة المصرية وميول المصريين.
وحبطت المفاوضات الرسمية مع عدلي باشا، فقدم استقالته في الثامن من شهر ديسمبر سنة 1921، وبدأت السياسة البريطانية تجرب مرة أخرى أساليب القمع والعدوان، وخطة الإرهاق والمقاومة مع الذين جعلت تدعوهم «بالمتطرفين». وأصدرت في الثامن عشر من ديسمبر أمرا بمنع اجتماع عام دعا سعد إلى عقده جميع الهيئات على اختلاف طبقاتها في الثالث والعشرين منه، بنادي سيروس في القاهرة؛ ولكن الأمة لم يزدها التحكم والتعنت والمقاومة إلا ثباتا ومصابرة، والتفافا حول خدامها الأمناء، وزعمائها الأوفياء.
Неизвестная страница