وكان ذلك عند مصطفى فوق كل وظيفة، وعزاء عن كل حرمان، وأمانا من كل خيفة؛ فأقبل على خدمة بلاده، يبذل لها بقية ما عنده؛ وهي نفسه، ويدفع إليها بآخر ما لديه؛ وهو حياته ودمه وأعصابه، وكل ما في أعماقه من قوة وجلد وإيمان.
وقد صحت مخاوف الوفد وظنونه، إذ حين وصلوا إلى باريس، وجدوا أبواب المؤتمر موصدة في وجوههم، ورأوا الصحف نفسها لا تصيخ إلى شكاتهم، وأبصروا ذلك الرجل «الرسول السياسي» الذي كانوا يعتمدون على نصرته لحقهم، وهو ويلسون، قد بادر إلى الاعتراف بالحماية البريطانية المفروضة ظلما وعدوانا على بلادهم، وإذا هم وسط أفق خانق محتبس، لا تشع في جوانبه ومضة رجاء.
ولكنهم لم ييأسوا، وإنما راحوا يقدمون مطالبهم إلى مؤتمر السلام ورؤساء الحكومات، ثم لا يجدون مع ذلك سميعا؛ إذ تبين أن تلك الأناشيد التي كان الحلفاء يتغنون بها، وهي أناشيد الدفاع عن الحق والعدل والإنسانية، والحضارة والإخاء، لم تكن سوى خدع سياسية، وأكاذيب ضخمة من زخارف يلهون بها المظلومين، ويخدعون بزيفها الأبصار والأخلاد، ريثما ينتهون فيما بينهم من توزيع الغنائم والأسلاب، في شراهية الجياع، وشهوة الغالبين.
وفي مصر كانت الثورة قائمة في النفوس، وإن سكنت مظاهرها العنيفة، وهدأت حركتها الفائرة، بعد أن بلغت آخر مداها، وانتهت إلى أقصى عنفها وشدتها؛ فإن الثورة لا تنقضي مرة واحدة، ولا تخبو جملة؛ ولكنها تعيش دائما في طور جديد، وتحيا ولكن حياة عقلية عميقة متزنة بعد الهزيمة المستطيلة، راجحة بعد الترنح الشديد، فلم يسع الإنكليز أمام هذه الثورة الساكنة الرهيبة في سكونها، البارزة الجلال في إجماع الأمة على مطالبها والثقة بوكلائها، إلا محاولة معالجتها في رفق، وتناولها ببعض الرياضة والمصانعة.
ومن ثم جاءت لجنة ملنر إلى مصر، متجاهلة وكلاء الأمة في باريس، فلم تكد تنزل بالبلاد حتى واجهتها مقاطعة تامة وإعراض شديد، وارتفع حيالها صوت واحد، وهو أن الوفد وكيل الأمة المختار للمطالبة بالاستقلال، فهو وحده الذي يرجع إليه.
وقد حاولت اللجنة أن تجد سبيلا إلى مشورة أو تبادل رأي، فأخفقت كل الإخفاق، واضطرت إلى المآب فاشلة.
ولكن بعض الوسطاء استطاعوا يومئذ إقامة الصلة بين الوفد وبينها، فدعته إلى المفاوضة في لندن، فسافر سعد إليها في السابع من شهر يونيو سنة 1920 في رفقة من أعضاء الوفد ورجاله.
وقدم الوفد إلى لجنة ملنر في السابع عشر من يوليو مشروعا لمعاهدة كان يومئذ يعتبر ممثلا لأقصى مطالب مصر، وإن لم يكن يحقق الاستقلال تماما. ولكن الوفد أراد يومئذ به إقناع الإنكليز بالعدول عن الحماية التي اعترفت الدول بها، وأصرت إنجلترا على فرضها، وأبت إلا بقاءها بعد خرجتها من الحرب ظافرة.
وجرت المفاوضات بين الوفد واللجنة، فقدمت هذه مشروعا من عندها في أغسطس سنة 1920، فاقترح الوفد وقف المفاوضات ريثما يستشير الأمة فيه.
وكان مصطفى النحاس قد رجع إلى مصر قبل إخوانه الذين ندبهم سعد لعرض المشروع الأخير على الأمة، وهم محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، و«المرحوم» عبد اللطيف المكباتي بك، وعلي ماهر بك، فتولى مصطفى عرض المشروع ملتزما مجرد عرضه، في غير تحبيب إليه أو إغراء بقبوله، وكان سعد قد عهد إليه بذلك ، فحرص على أن يكون العارض فقط، دون إملاء أو ترغيب فيه من جانبه.
Неизвестная страница