قلت لها: أنا خايف تكون دي هلوسة، هلوسة ما أكتر؟
قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيدا وصاحبني طفولتي كلها: أنا كنت دائما قريبة منك.
أمي وأنا كنا صديقين حميمين، مرت بنا سنوات شدة عصيبة وسنوات فرح عظيمة أيضا، أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلى اليوم، منذ أن تفتحت عيناي على هذا المخلوق الرقيق النشط، الذي لا يستريح من العمل، الذي يسعي مثل نمل الأرض بحثا عن حبة عيش نطعمها معا، كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصيا، وأذكر أنني طلبت منها ذات مرة أن تشتري لي دراجة هوائية مثلي مثل صديقي في المدرسة والصف والكنبة أبكر إسحاق.
وأذكر إلى اليوم كيف أنها انتهرتني، بل قذفت في وجهي شيئا كان بيدها في ثورة وغضب، وأنها صرخت في مؤنبة: إنت قايل نفسك ود منو؟ ود الصادق المهدي؟
بالطبع ما كنت أعرف من هو الصادق المهدي، ولكن سؤالها أثار في سؤالا آخر.
أنا ود منو؟
ولم أسألها؛ لأن السؤال نفسه لم يكن ملحا بالنسبة لي؛ لأنني لم أعرف قيمة الأب ولا أهميته ولا وظيفته، بالتالي لم أفتقده، والآباء الكثر الذين في حينا لم يقم واحد منهم بعمل خارق تعجز أمي عن القيام به، بل إن أمي هي التي كانت تفعل ما لم يستطع الآباء فعله، فهي تبني وتصون بيتنا بيديها، وتصنع السدود الترابية لكي تمنع مياه الخريف من جرف قطيتنا؛ حيث إن بيتنا يقع على تخوم خور صغير، ولم أر أبا فعل ذلك، كانوا يستأجرون العمال حتى لصنع لحافاتهم ومراتبهم وغسل ملابسهم، إنه لأمر أدهشني كثيرا، أضف إلى ذلك أن أمي تعمل خارج المنزل في وظيفة مهمة، إنها تبيع الشاي والقهوة عند بوابة السجن ويستلف منها الجميع، حتى المأمور نفسه؛ لذا التبس علي الأمر، والآن ولأول مرة أعرف من أمي أن من وظائف أب غامض يسمى الصادق المهدي تقديم الدراجات الهوائية إلى من هم أطفاله، ولكن الشيء الذي أطاح بسؤال الأب نهائيا أن أمي آمنة بعد ثلاثة شهور أو أكثر اشترت لي دراجة هوائية، ولو أنها ليست جديدة تماما مثل دراجة أبكر إسحاق، وأنها مستعملة من قبل، إلا أنني فرحت بها جدا وخصوصا بعد أن أكد لي أصدقائي أنها دراجة جميلة وهي أجود من دراجة أبكر.
أمي تعمل في صنع الزلابية وأقوم أنا ببيعها للجيران في الصباح الباكر وتعمل فراشة في السجن ما بعد بيع الزلابية وشرب الشاي، وعندما تركت العمل في السجن عملت بائعة للشاي عند باب السجن كمحاولة منها لتحويل زملاء الأمس إلى زبائن اليوم، وبالفعل استطاعت أن تكون منافسا حقيقيا لأم بخوت، وهي إحدى زبوناتها في الماضي عندما كانت أمي تعمل فراشة، أما أنا فذلك الولد الذي يطلق الناس عليه (ود أمو) أعني: لا أبرح مجلسها أبدا، بعد نهاية اليوم الدراسي أحضر إلى موقع عملها، أغسل لها أكواب الشاي الفارغة، أحمل الطلبات البعيدة إلى الزبائن، أشتري لها السكر والشاي الجيدين من الدكان، أحكي لها عن التلاميذ، الحصص والمعلمين، وعندما أنعس تفسح لي مرقدا خلفها فارشة لي برشا من السعف، متوسدا حقيبة المدرسة، عجلتي الجميلة قرب رجلي تنتظرني، أنام.
قلت لها في جرأة: أنت وين الآن؟ في الجنة؟ في النار؟ في الدنيا؟ ووين كنت الزمن دا كله؟
قالت لي: أنا هنا.
Неизвестная страница