إن النوع البشري وإن امتاز عن الطبيعة المحسوسة بطبيعته الإدراكية والأخلاقية والروحية، فهو يظل مربوطا بها بجسمه واحتياجاته المادية، خاضعا لجميع نظمها، وفي ميوله ميول وحشها؛ فهذا قرد، وذاك ثعلب، وذلك عقرب، والآخر ثعبان، وأما التنوع بين الطبقات، وبين الأفراد، وبين مظاهر الطبيعة فأصلي، ولولاه لما كانت الخليقة. وأرجح أن أفلاطون يوم كتب «جمهوريته» ضرب صفحا عن هذه الحقيقة التي لا أدري كيف استطاع إغفالها.
لقد طال تأمل روسو في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود، وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أن الهمجي مستعبد بجهله الفادح وأن له من الخرافات سجنا لعقله، ومن الأوهام حجابا لروحه؛ فهو وإن كان حرا حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله وبقناعته - التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمن ما - فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها. وهيهات الرجوع إلى الماضي! إذ إن عودة النظام الشمسي المندفع بسياراته وأقماره نحو النجمة الكبرى من كوكبة الشلياق؛ قلت إن عودته إلى حيث كان منذ مائة ألف سنة توازي في نظام الكون تجريد النوع البشري مما اكتسبه بالألم والخبرة والبطش خلال تحدر الدهور.
خلفنا قوة نجهلها وتتجاهلنا، هي قوة الحركة الدائمة في جميع مناطق الحياة، تدفع بنا أبدا إلى الأمام فنسمي سيرنا ارتقاء. وقد يكون الارتقاء المزعوم تقهقرا في نقط شتى على أن ما لا مهرب منه هو السير المرغم، هو التحرك المتواصل، هو الاستطراد الذي لا راحة منه أمام القبر ولا وراءه.
يتعذر علينا فهم ما هو «الوراء» وما هو «الأمام» في معاني المكان والزمان والذهن، ورغم ذلك يمكن القول إن اتجاه التاريخ البشري بمعنى التقدم والتحسن وإن كثرت حركاته الرجعية واللولبية. «إلى الأمام ولو على الجثث!» ليست كلمة حماسة شعرية قالها غوتي الألماني فحسب، وإنما هي صوت الخليقة القاهر، هي صوت توالي الأشياء وتناسخ الموجودات، هي انبثاق الحركات من الحركات، والذراري من الذراري، والأنظمة من الأنظمة.
لا بد من تنوع الصور وتعدد الطبقات. فلولا التنوع والتعدد ما كانت المدنية ولا كان الوجود الحسي، ولو لم يكن للفروق من فضل سوى شحذ العزائم وإرهاف القوى والتسابق إلى الأولوية، لكفى لنقبلها محاولين عبورها بما أوتينا من عزم وكفاءة. والفوز للأصلح دواما.
الفصل الثاني
الأرستقراطية
لو كان هذا البحث تاريخيا لكنت بدأته بالكلام على الملكية أرستقراطية الأرستقراطية على نوع ما، أو أفضلية الأفضلية، لا سيما الملكية التيوقراطية أي المستمدة سلطتها من الله؛ فاستنجدت بالأساطير التي هي سجل الانتقال من واقع مجهول مأثور إلى واقع مزعوم منشور يقبله من أهل السذاجة من قبل واقتنع، ويكتفي الآخرون بالتمويه والمحاباة. استنجدت بها لطلب جرثومة تلك الأسر الشاهانية الجلى، فماشيتها في نشأتها التدريجية سائدة على العائلة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة بالقوة البدنية أو الفكرية، أو التدبيرية، حتى يمدها متلاحق الظفر بمطامع تتعدى أفرادها العصاميين إلى سلالة المستقبل.
أما والناموس الكوني ناموس بقاء الأفضل، يستخدم ولا يستخدم في ضمانة الأفضلية لتلك السلالة، فلا بد من صيانتها دون منافسة المزاحمين، ولا بد أن تملأ قبل الرماء الكنائن، ومن ثم التذرع بأقوى البواعث النفسية من عاطفة دينية وخشية ما وراء المنظور؛ من ثم استجارة الملك بالدين والدين بالملك لتبادل المنفعة، فيصبح الحاكم حامي حمى العقائد ورافع منار الفضائل، ويصبح الكاهن حامل لواء السلطة الفردية وأول شاهد بأنها آتية من الله. ولا يطول حتى تستهوي البدعة ملفقيها. وهل من عجب ما دام الاستهواء الذاتي شرطا أساسيا للاستهواء الغيري؟ فلا يستفز الخطيب حماسة إلا عند تحمسه، ولا يحدث الكاتب تأثيرا إلا بعامل تأثره . ومن ذا ينفي أن انجذاب الشهداء واستهواءهم الذاتي في مصرع العذاب بين الضواري الممزقة لحمانهم، واقتحامهم الموت بصبر الأمل وثقة الشجاعة؛ إنما كان أعظم نصير للمسيحية على الوثنية وأسمع داع إلى الانسلاك فيها؟
هكذا صار الفراعنة مع الزمن - على نحو ما وجد الفتح الإسباني بعدئذ زعماء القبائل في أمريكا الجنوبية - أبناء الشمس المنيرة. وهكذا صار زعماء الجرمان صنيعة فخذ «تهور» إله الحرب، فغدوا أحفاد «أودين» الإله الإسكندنافي الميثولوجي واهب البسالة وعلة المعلولات. وهكذا صار المهرجاه ثمرة تقمص من تقمصات ڤيشنو الأقنوم الثاني من الثالوث الهندي، فضلا عن أن جماعة من ملوك اليونان واللاتين وأبطالهم جاءوا من تزاوج البشر والآلهة عند مرور هؤلاء على الأرض. وصار من الملوك من إذا رؤي صعق رائيه كأن جلاله جلال المولى في عليقة موسى. وأوتي آخرون علما وحكمة خارقين كملوك فرنسا وإنجلترا يشفون الصرع والشلل وداء الخنازير وغيرها بمجرد اللمس الكريم. وظلت القرون الوسطى - بعد الأولى - ترى هالة الألوهية حول الملكية، وتحسب حبل سلطانها مشدودا بمتكأ العرش الصمداني.
Неизвестная страница