يخيل إلينا - نحن أبناء اليوم - أن امتلاك الإنسان للإنسان من خصائص الزمن الخرافي، مع أننا نعلم أن النفوس كانت تحصى في عقود البيع بلبنان مع الغنم والخيل وآلات الفلاحة منذ عهد قريب، وأن دولة المماليك المؤلفة من عبيد الأمس ارتفعت إلى أوج الحكم فكان لها جيش من العبيد الغرباء، ثم جاء نابليون الشرق محمد علي باشا فغلبها على أمرها، ونظم جيشا كبيرا منه فرقة أو فرق بأكملها من السود النوبيين، وكادت المتاجرة بزنوج أفريقيا تشوه جيلنا، وهي من أفظع أنواع الاستعباد؛ إذ لا أسر، ولا دين، ولا جريمة تبررها، وما هي غير اقتناص البشر للبشر طمعا بالمال، لولا أن مطاردتها واكتساحها من أشرف ما تفاخر به بريطانيا العظمى.
ترى، ألم يكن للنصرانية والإسلام من أثر في القلوب لتحملها على الرحمة والعطف؟ لا شك في تأثير الدين أيا كان، وإذا أحصيت العوامل الكبرى كان الدين في مقدمتها لتكييف النفوس. وقد انتقى السيد المسيح تلاميذه من الخاملين ومضى ينادي بالمساواة والغفران وحب الأعداء؛ لأن الجميع أبناء الله يدعون. وعزز مذهبه العظيم بمثله في حياته الطاهرة، وصار النصارى يرددون هذا النداء الجميل في الصلوات والاحتفالات؛ ففعل فعله وملأ القلوب أملا وتعزية. على أن الدين المسيحي أقرب إلى النظريات، وعلى نقيضه الإسلام؛ فإنه نظري وعملي معا؛ وجد العبودية عند شعوب سبقته فاقتبلها ولكنه لطفها أيما تلطيف، وعلى مقربة من تعاليمه العالية ونصائحه الحكيمة أوصى باليتيم والضعيف والرقيق، وكان الطائع الأول النبي العربي ذاته الذي بكى عبده الميت كما يبكي الكريم صديقا عزيزا؛ فكانت حالة العبد في دين محمد من أحسن حالات أمثاله. أما الإعتاق والدعوة إليه فمن أمجد صفحات تاريخ الإسلام .
يرمز المصورون إلى العبودية برسم رجل بائس رسف في قيوده، ولو أنصفوا ما كان غير المرأة رمزا. الرجل عبد مرة وهي عبدة مرات. قيمة الرجل في استقلاله النفسي وطموحه إلى بعيد الغايات. والمرأة إن هي أبدت ميلا إلى الانعتاق من الأوهام القديمة والتحرير من العادات المتحجرة نظر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا؛ ذلك لأنهم اعتادوا استبعادها ليس بالجور والضغط والتعذيب فقط، بل باللطف والتدليل والتحبب. وإلا فماذا تعني هذه الحلي وهذه الجواهر؟ بل ماذا يعني تغني الشعراء بجمال الوجه وملاحة القوام؟ النساء المسكينات يتهن دلالا أن يكن محبوبات لجمالهن، ولو تفكرن قليلا لأدركن ما في ذلك من معنى التحقير لجميع قواهن، حتى الأنثوية نفسها، ولكفى أن يتقدم إليهن رجل بامتداح حسنهن وحده ليرفضنه زوجا. وهؤلاء هن اللائي بعد أن يشترين بالمال والحلي والتملق - وقد عنى سكوتهن قبول نير العبودية والرضى عنه - ينبرين فجأة مطالبات بحقوقهن مناديات بالاستقلال والتحرير. وأنا التي أكتب هذا يشوك الآن ساعدي سوار دار حوله، فأنظر إليه وأضحك ولا أزيحه عني. لقد توارثت النساء حمل القيود في صورة الحلي حتى عشقتها، إن هي لم تثقل حركتهن لغرض ما وضعن مكانها ما يشير إليها لغير سبب.
تشكون من زواج هذا العصر وتستصغرون الذي يتزوج البائنة ويقبل صاحبتها معها، بدلا من أن يتزوج المرأة ويقبل معها بائنتها. ولكن أتظنونه أفظع من زواج يؤدي فيه الرجل مهرا؟ إذا شاء شراء المرأة زوجها فكيف يحسن ابتياع الرجل زوجته؟ الزواج عقد اجتماعي يأتي فيه الشريكان برأس مال حسي ومعنوي: المال والكفاءة الشخصية؛ فالمال يجعل المرأة مثيلة الرجل، والكفاءة الشخصية تؤهلها لأن تكون زوجة معتبرة وإما محبوبة. تزعمون - أنتم النظريين المتطرفين - أن صفاتها تكفي لإسعاد رجل نشيط يتكل على جده واجتهاده! ألا فادخلوا هيكل أسرار العائلة وقفوا على ما هناك من نكد وويلات أصلها فقر عائلة المرأة! لا أنكر أن الكفاءة الشخصية تفوق المال أهمية، وأن المال لا يدوم إلا حيث تكون الكفاءة، ولكن أواثقون أنتم من أن كل امرأة تنصف زوجها ولا تختلس نتاج جهوده أو بعضه؟ أبي النفس يخاف أن تستعبده المرأة الغنية، فهل هو للفقيرة أقل استعبادا؟ وعلى كل، فعبيد اليوم كعبيد الأمس ليس أمامهم للتحرير من سبيل غير ذينك السبيلين القديمين: المال والكفاءة الشخصية. •••
هذه هي الخطوط الكبرى في خريطة العبودية التاريخية، فرغت من تعدادها بانشراح من نفذ من تحت جبل ووقف يتمتع بمحاسن الرياض.
لقد اتفقوا على أن العبودية كانت وانقضت، وأظنني كتبت منذ هنيهة أن عصرنا يفخر بإلغاء متاجرة الإنسان بالإنسان، وقد استجمعت فكري للمرة الأخيرة قبل أن ألقي بالقلم جانبا فتململت في حافظتي جميع معاني الأسى، ورأيت أشباح الذل متجمهرة في رحاب خيالي، كشرت عن أنيابها تهددني، ومدت بمخالبها نحوي لتفترسني، جيش عرمرم من أرواح العبودية والرق أخذ يصفق بأجنحته السوداء صارخا: «نحن أحياء نتألم فكيف تذكرين الموتى وتنسيننا؟» فدنوت من جماعة وقلت: «من أنتم؟» فصاحوا: «نحن نزلاء الليمانات وضحايا الأشغال الشاقة، أحجار الصوان تحني ظهورنا، وأزيز السياط يمزق أجسامنا، ما نحن إلا عبيد إسبارطة.» قلت: «وكيف يكفي الاجتماع أبناءه شركم؟ لقد سرتم في وسطه فكانت الجرائم منكم بعداد الخطوات.» فتنهدوا وقالوا - وتنهدهم وكلامهم مقذوفات براكين: «ما نحن إلا عبيد إسبارطة.»
وسرت نحو جمع آخر انحنى يشتغل والعرق يقطر من ذرات وجهه فصرخ: «نحن الشعوب المغلوبة، وما غرامة الحرب إلا رق القرون الوسطى.» فقلت: «وهل من وسيلة أخرى ليستعيض الظافرون عما خسروه من مال ورجال؟» فهزوا أكتافهم وانحنوا على الأرض متظلمين: «ما هذا إلا رق القرون الوسطى.»
وتحولت إلى جهة أخرى، وإلى أخرى وإلى أخرى، وأنى توجهت لاقيت أقواما ينبعث من صدورها التظلم والعويل، وتخيم فوقها الأجنحة السوداء. رجال ونساء، شيوخ وأطفال، مثرون ومعدومون، عبيد الوراثة، وعبيد العاهات، وعبيد الأمراض، وعبيد الجهل، وعبيد الأوهام، وعبيد الطمع، وعبيد الحاجة، وعبيد الحياء الإنساني، وعبيد الغرور، وعبيد الكذب، وعبيد الحسد، وعبيد الأهل، وعبيد الأبناء، وعبيد الغرباء؛ يزحفون جميعا من كل ناحية كالجحافل الجرارة، وهدير شكواهم كهدير العباب المتلاطم؛ فصرخت جزعا: «من أنتم، من أنتم؟» والعبيد - جميع العبيد، عبيد الماضي والحاضر والمستقبل - أجابوا كجوق رهيب: «نحن العبودية الدائمة!» قلت: «كلا، كلا! لقد ألغيت العبودية وأنتم أحرار، ارفعوا أيديكم لا سلاسل فيها! حركوا أقدامكم لا قيود تثقلها!» فقالوا: «السلاسل والقيود أقل رموز العبودية هولا، القيود في دمائنا وأهلنا وأوطاننا، القيود في رغباتنا وحاجاتنا، القيود في بشريتنا.» فصرخت بملء صوتي: «أقول لكم أنتم أحرار ولا عبودية في القرن العشرين!» فقالوا: «إذا محيت من العبودية صورة رسمت أخرى؛ لأن أصل العبودية باق على كر الدهور، نحن العبودية الدائمة، نحن أودية الحياة المجوفة عند أقدام الرواسي.»
واختفت الجماهير في لحظة فوجدتني مقلبة صحائف هذا الفصل، وقد وقفت أقرأ كلمات الاستهلال «من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض ... ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا ...»
الفصل الرابع
Неизвестная страница