قال شاعر عربي آخر:
كل من سار على الدرب وصل
وهذا الآخر يشفع في نظريته أنها منظومة. كلا، لا يصل كل من سار على الدرب؛ لأن المدعوين كثير، أما المختارون فقليل. ويقال إن فضل المجاهدين في انخذالهم أعظم، ولا بأس بنشر هذه الكلمة للتشجيع لا سيما وأن نتيجة الجهاد لا تعرف قبل البلوغ إليها. ولكننا نعلم أن الحياة لا تكرم وتكبر إلا من كافح فغلب. أما الآخرون الذين ينهكهم الجهاد فيقعون صرعى في طول السبل وعرضها، فتلقي عليهم نظرة الإشفاق ثم تنساهم؛ لأن وقت البطولة ضيق لا يسع التحسر على الفريسة والضحية. وستظل الأرستقراطية - أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد - ما دامت الطبيعة، ولو تحولت منها الأنواع وتغيرت المظاهر وتعددت الأسماء. سيظل التفوق موجودا ما بقي بين البشر جماعات وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلون على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين. سيوجد أبدا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية، مهما تقلبت الثورات والنظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح» وهو الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا.
الفصل الثالث
العبودية والرق
من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض: تجعل الأكمة الجرداء قرب البحر الزاخر، وخضرة الخمائل وخصب الواحات وراء رمال الصحاري وقحط القفار. حيال الذروة الأرستقراطية يزينها تاج الملكية تحفر البطاح لسيل العبودية الجراف؛ حيث تتزيف السجايا وتتلاشى المكرمات. ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا، وما جادت بنابه إلا بلت بمعتوه، ولا سلمت بوليد إلا ودعت بصريع.
ألا إنما الحياة غنية بالمال والذكاء والكرم والصلاح والحب والجمال والفخار. على أن في كفتها الأخرى ما يعادل الأولى من شقاء وفقر وخمول وقبح وكره وانحطاط. كأنها مرغمة على حفظ النظام في توازنها؛ إذا هي أسرفت في نقطة، تعقبت الإسراف بالاقتصاد فيما يحاذيها؛ فحيث يمتد الرخاء تنتشر التعاسة، وحيث يكثر الخير يقل، وحيث يتغلب قوم يندحر قوم. هنا القصور والصروح والأواوين، وهناك الأكواخ والخصاص والزرائب. حتى الصحة ذاتها قتل متتابع، وكأن نفس الطفل البريء معمل هلاك يفتك بمكروبات لو انتشرت في جماعة لأودت بهم.
ترى هل امتداد الكون المهيع مسافة محدودة إن نحن رأيناها لا تحد فلقصر النظر، وقواه كمية معدودة إن نحن زعمناها لا تعد فلضيق الإدراك؟ هذا سؤال يخرجنا من الاجتماع والتاريخ لتدخلنا محاولة الجواب عنه في الفلسفة واللاهوت، وما نحن منه إلا في دائرة تبتدئ عندها الأبحاث حيث تنتهي. •••
كتاب «مانو» هو أحد كتب الهند المقدسة وقد حوى شرح مذهب البراهمة وتاريخ مدنية الآريين منذ نشأتها، فجاء فيه أن أصل العبيد سبعة: أسير الحرب، ومعدم رضخ لمن يكفل معاشه، وابن العبدة المولود في بيت المولى، والفرد مهدى هدية أو مبيعا بيعا، والمنتقل بالإرث من الوالد إلى الولد، والمستعبد عقوبة على جناية ارتكبها، والمستعبد لعجزه عن تأدية دين أو ضريبة أو غرامة. وسواء ألم هذا الإحصاء بكل الأصول أو أغفل بعضها، فالعبودية قديمة كالحرب، والحرب من خواص الخليقة. لقد حاذت طبقة العبيد طبقة الأحرار منذ فجر العمران، وكأنها في تلك المحاذاة تقول:
هم جيرة الأحياء أما جوارهم
Неизвестная страница