وأقام الجزيريون أيامًا كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلًا، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلًا: [الطويل]
أيشبهنا في العالمين قبيل ... ونيل علانا ما إليه سبيل
أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا ... ولا في حمانا يستذُّل ذليل
وأعراضنا بين الأنام جواهر ... وجوهرنا في الخافقينْ يسيل
ترى السعد والأيام ملك يميننا ... تميل على العِلات حيث نميل
صوارمنا تطغى على طول دهرنا ... لها في رؤوس الدارعين صليل
إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا ... فماضيه بالنصر العزيز كفيل
وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا ... وللخيل وقع في الثرى وصهيل
تكاد جال الأرض من عظم بأسنا ... تذوب على سطح الثرى وتميل
عوائدها التي كانت عليها تلك المدة، وساعده البخت فأخصبت البلاد، وأعلن أصحابه ومن كانوا بمعيته بأفراحهم فاستعملوا الآلات المطربة للأنس بعد طول غربتهم، وجرى معهم في ذلك الميدان غيرهم. حتى كانت أيام تلك الدولة كأنها أعراس، وفاقت به وسطى دول بني العباس، ولا سيما وقد أكرم الله هذا الأمير بولديه أبي الثنا محمود باي وأبي الفداء إسمعيل باي اللذين جعل الله الملك مخلدًا في عقب أولهما جزاءً من الله على حسن طوية هذا الأمير.
وكان عالي الهمة عزيز النفس ضخم الدولة مشيدًا لدعائم شارات الملك وتعظيم شأن الدولة والميل إلى المعالي وحب العلم والعلماء وهو منهم، له ديوان شعر بديع جيد النظم والنثر والتوشيح. وقد نظم قصائد نبوية وتوسلية تدل على حسن وثوقه بالله وأوليائه.
أما قصيدتاه الميمية والقافية فهما آية الله في الإبداع. وقد سمى أولاهما "محركات السواكن، إلى أشرف الأماكن" وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل]
هل زَورَة تشمِي فؤاد متيم ... يا أهل مكة والحطيم وزمزم
وشرحها أستاذه الشريف الشافعي بجزأين ضخمين التزم في شرح كل بيت منها خمسة فنون؛ وهي اللغة والنحو والمعاني والبيان والبديع عدا حاصل المعنى وسمى شرحه المذكور "إظهار النكات، من خبايا المحركات " فكان شرحًا مشحونًا علمًا وأدبًا حيث اعتكف به مؤلفه على استخراج الدر من بحرها العميق إذ أنه لما استقر به النوى ورجع مع تلميذه ومخدومه إلى أرضه التونسية التزم الإقامة بجبل المنار تاركًا جميع علائق الدولة. وكان الأمير يرسل له ليلة كل جمعة فرسه الأشهب، ولم يمتطه غير أستاذه المذكور فيحضر عنده بباردو للمبيت ومن الغد يرجع الفرس المذكور موصولًا بجميل الصلات، ووافر العطيات، وهو في رغد العيش من إقبال السعد، بإنجاز الدهر لجميل الوعد، يرصع تيجان تلك القصيدة، بالجواهر النضيدة، حتى أظهر ما احتوت عليه من النكات، بالآيات البينات، فرحم الله الناظم والشارح، إذ أخصبا تلك المسارح.
وأما القصيدة الثانية القافية فقد شرحها الشيخ محمد الكواش وقيل شارحها والده الشيخ صالح الكواش غير أني لم نطلع عليه.
وقد عم فضل هذا الباشا سائر الموفين بعهده من أصدقائه ومن أدركهم من رجال دولة والده إلى أن مرض نحو العشرة أيام، وأدركته المنية ليلة الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ محمد الورغي بقصيدة كتبت على قبره وهي قوله: [الكامل]
هذا ضريح للإمام الأمجد ... نجمِ الملوك السيد ابن السيد
علم غدا للقاسمين مجاورًا ... فأضا أمامهما ضياء الفرقَد
لاقى برأفته العباد فربه ... يلقاه بالغفران يوم الموعد
عم الأنامَ الهديُ في أيَّامِه ... إحكام حكم قل من لم يهتد
فالحلم شيمته وحليته الرضا ... والخير فيه لمن يروح ويغتدي
يا واقفًا بضريحه سل ربه ... كرمًا يمتعه بجور نهدِ
واقرأ له أم الكتاب هدية ... فعسى يفوز برحمة يم تنفذ
1 / 8