قال جيمي: «فلتتفضلي إلى هنا.» وتابع: «أمس رأيت العرض الأول. وهذا الصباح ستشاهدين العرض الثاني!» ومن ثم التقط جيمي الضمادة من سلة كانت تعبأ للذهاب إلى فرن حرق النفايات، وفتحها لتتمكن مارجريت كاميرون من رؤيتها.
قال جيمي: «منذ شهر مضى، كانت تلك الضمادات متشربة تماما بلون فاقع. أما هذه التي أزلتها للتو فهي تكاد تكون رطبة وبلون وردي شاحب جدا. آه، يا مارجريت، يا عزيزتي! سوف أنجو! سأعود رجلا مكتمل الصحة مرة أخرى!» «ستنجو بالتأكيد!» بادرته مارجريت كاميرون، وكانت على استعداد أن تبث في نبراتها جزما أكبر مما لديها في قلبها في سبيل هدف نبيل. لكن الفتى كان أفضل حالا. كان بمقدور أي شخص أن يرى ذلك. فقد بدا واضحا أن عظامه اكتست بمزيد من اللحم. ولم تعد بشرة وجهه شديدة الشحوب. راحت حمرة باهتة تتسلل إلى وجنتيه وشفتيه، فربما كان نصف المعركة يكمن في تصديقه أنه صار أفضل فحسب. كان ذلك على أي حال أفضل كثيرا من السلوك الكئيب حين كان يحسب أيامه معدودة ويقضي أغلب وقته في تخمين أكبر عدد.
خلال ذلك الشهر ظل الاثنان يعملان ويتشاوران باستمرار. فقد راجعا قوائم الحمية الغذائية مرارا، فجعلا الطعام الذي شعرا أنه مناسب ومفيد يتكرر أكثر، وحذفا الأشياء التي لم تكن مفيدة والتزما التزاما صارما بعصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال في العصر، وأفضل حليب يمكن التحصل عليه بأكبر كميات يستطيع جيمي احتساءها. في ذلك الشهر كانا يسيران بانتظام. وكانا أحيانا يتبادلان الحديث الهادئ. من ناحية جيمي كان الشهر مفعما تماما بما يمتن له مسرورا. إذ أصبح قادرا في كل يوم على رؤية الإنجاز الذي أحرزه والشعور به. أصبح قادرا في كل يوم على زيادة إنجازه قليلا في الحديقة. في كل يوم كانت معلوماته عن النحل تزيد.
في ذلك الشهر نشأت لديه عادة أن يضع الإنجيل بجانبه ليكون آخر شيء يفعله قبل الذهاب إلى الفراش هو أن يقرأ بضع آيات، ومن التفكير في الصلاة ومن تأمل الشكر، تطور به الحال حتى واتته الشجاعة ليجثو على ركبتيه ويصلي صلاة شكر، في ظل هدوء الحجرة الصغيرة وسكونها. ثم تبعها بصلاة طلب. وجد نفسه يطلب من الله أن يتولى العالم كله برعايته، وأن يساعد كل من هو بحاجة إلى مساعدة، وأن يزرع الحماس والشجاعة في كل قلب للخروج والإقدام على المغامرة الكبرى لصالح ذلك القلب. وعند الدعاء الخاص، طلب الطاقة لرعاية النحل والحديقة رعاية صحيحة، وطلب العون، جسديا ومعنويا، ليصبح الرجل الذي يمكن لأبيه وأمه أن يفخرا به عن حق. ثم طلب من الله أن يرعى مارجريت كاميرون، وأن يخفف المتاعب التي بدت كامنة في قلبها أيا كانت. وبعدئذ، من أول مرة يجثو فيها ويرفع وجهه نحو العرش بحق، ذكر جيمي الكشافة الصغير. فقد أخبر الله عن الروح الطيبة والذهن المتقد اللذين يتمتع الصغير بهما، وكم كان الطفل محبا للغير وكم كان إحساسه بالحق بالغ النضج، وطلب رعاية الطفل الصغير وهدايته للسبيل الصحيح وإعطاءه الفرصة لأن يصبح مواطنا تنتفع به الأمة.
وحين جاء لسيد النحل، ازداد جيمي تضرعا، وتوسل إلى الله العظيم، إن كان ذلك مما ينسجم مع الخطة الإلهية ولو قليلا، أن يمد في عمر سيد النحل، وأن يعيده إلى بيته والأشياء المألوفة البسيطة التي تعطي للبيت روحه، وأن يدعه يتمتع ببضع سنوات أخرى في حديقته وألق ألوانها لتعزيه في أيام سهاده ونشيد البحر ليرسله إلى نوم هادئ. وأخيرا وصل إلى فتاة العاصفة، فطلب جيمي من أجلها الأمان والرحمة وأن يمنح القدرة على مساعدتها. ثم نهض، شاعرا بالاستقواء بطريقة ما، وأنه أعظم شأنا بقدر قليل، وأكثر اعتزازا بالنفس بنسبة ضئيلة، وأشد بأسا، وأكثر إنسانية مما كان في اليوم السابق. لقد طلب العون وشعر أنه سيتلقى العون، وشعر أنه لن يخجل ثانيا أبدا من مواجهة أي رجل، أو شخص من البشر، وسيخبرهم أنه قد طلب العون وأن العون آت في الطريق، وأن تلك التجربة في متناول كل رجل إذا قرر فقط أن يصدق كلمات الله؛ فقط إذا فعل ما يدعى كل الرجال دعوة جادة إلى فعله، أن يؤمن.
مر ذلك الشهر طيبا على جيمي. فقبل نهايته أصبح جيمي ينزع الضمادات التي تغطي جانبه ليجدها جافة ونظيفة. وبات الآن يستخدمها على سبيل الحماية للحم الرقيق الذي تكون حديثا ويغطيه جلد بالغ الرقة حتى يبدو كأن نفسا قد يمزقه، لا بسبب أي ارتشاح. حين كان جيمي يذهب إلى البحر فهو يستخدم ذراعه اليمنى فقط في السباحة. وحين كان يرفع حملا ثقيلا فهو يحمي جانبه الأيسر. وكان ليحضر شيئا من مكان عال فهو يستخدم ذراعه اليمنى. لكن لم يحدث قط ولو للحظة، خلال النهار أو في ساعات استيقاظه من الليل، أن توقف بين جنباته نشيد الشكر بسيطا خفيضا هامسا. ظل يغنيه طوال اليوم، مرارا وتكرارا، لكن كلماته كانت قليلة جدا. إذ كان يقول: «الحياة! الحياة! حياة نافعة! أحمدك، يا ألله، على فرصة الحياة، وفرصة العمل الجميل، وفرصة الأصدقاء الطيبين. أحمدك، يا ألله، على الحياة!»
كان كلما ذهب إلى المستشفى حمل معه زهورا من الحديقة، وأحيانا فاكهة ورسائل محبة من الكشافة الصغير، وهدايا طريفة متباينة تباينا كبيرا من مدية جيب بالية وعصا للكشط، إلى مجموعة مهترئة من أوراق اللعب للعب سوليتير.
ذات يوم وهو ذاهب إلى المستشفى قابل مارجريت كاميرون أثناء خروجها؛ فعرف أنها كانت في زيارة لسيد النحل وأنها لم تكن قد أخبرته بذهابها، وعرف من شحوب وجهها والألم البادي في عينيها أن حال سيد النحل لم يتحسن، وأنه لم يكن يستجمع قواه، وأن الأمل في رجوعه يوما إلى منزله الودود المحاط بحديقة من الحب زادته جمالا، ربما كان يتضاءل ببطء، يوما بعد يوم.
صعد جيمي إلى حجرة سيد النحل وطالع الحقيقة بنفسه. إذ كان السيد بصعوبة قادرا على الكلام. ولاحت على الملامح الكريمة شحوب بدا لجيمي مؤذنا بأن الروح النبيلة العجوز الماثلة أمامه باتت قريبة جدا من التأهب كي تصعد إلى بارئها. وحين نهض ليرحل واجه صعوبة بالغة في الحفاظ على صوته ثابتا وعينيه بلا دموع.
قال جيمي: «أريد أن أبلغك بمدى امتناني لك على الفرصة التي منحتني إياها لاستعادة رجولتي وتعلم عمل ما زال حبي له ينمو كل يوم أكثر فأكثر. وأود أن أشكرك على إعطائي في بيتك فرصة للرجوع إلى اتفاق سري مع الله، من أجل العثور على السلام والقوة الداعمة التي يمنحها طواعية لكل رجل يستطيع حشد شجاعته لتلقي الهدية.»
Неизвестная страница