وهنا ضم جيمي مارجريت كاميرون بشدة بين ذراعيه وقبلها مرة تلو الأخرى على أم رأسها. ثم أطلقها ولاحقها بعينيه متعجبا، إذ كانت وهي تخرج من الباب الخلفي، يهتز كتفاها ببكاء أعمق وأطول من الذي قد تبكيه أشد النساء حنانا من فرحتهن بخطوة في الاتجاه الصحيح، حتى إن كان البكاء لجار عزيز جدا.
على مهل تحول جيمي عن الباب الخلفي. وعلى مهل عاد إلى الفراش الذي كان ممددا عليه. وعلى مهل جثا على ركبتيه وضم يديه المرتجفتين ووضع جبينه عليهما، وعندئذ، بخشوع، وبتأثر، من أعماق قلبه شكر الله.
ثم توجه إلى الثلاجة مباشرة واحتسى نصف لتر من عصير الطماطم.
الفصل الثالث عشر
مربي النحل
توالت بضعة أيام على جيمي حين كان الاستيقاظ في حد ذاته كل صباح بمثابة معجزة صغيرة له. أن يستيقظ مستريحا ومنتعشا، أن يستيقظ بأمل في قلبه، وينظر إلى امتداد الحديقة المتباين ونحو تلاطم أمواج البحر بلا توقف، ويقول لنفسه: «اليوم سأنقل الزنابق. سأشذب نباتات بنت القنصل. سأزرع بعض الطماطم.» أن يكون قادرا أن يقول لنفسه إنه سيفعل شيئا بناء، ولديه اليقين في قلبه أنه يمتلك القوة ليفعله والإقبال في روحه الذي سيجعله يستمتع بما يفعله؛ لأنه من ذلك الوقت فصاعدا، كان الاستيقاظ كل صباح معجزة جديدة بطريقة ما. بدا له كأنه يستطيع أن يشعر بالنقاء، بنظافة الدم الذي يتدفق في أوردته. كان يشعر أن القلب الذي في صدره قد هدأ، وراح ينبض بانتظام واطمئنان لم يعهدهما منذ زمن طويل؛ إذ توقف عن الاضطراب، حتى عند تسلق ارتفاع يتطلب مجهودا شاقا. أحس أن العضلات صارت تتشكل تدريجيا في أطرافه ويديه وأن ذهنه بات صافيا. فلم يعد الكائن الرعديد الذي يسير بتوان متسائلا كم من العمر تبقى له. إذ صار رجلا مصلوب العود متفائلا، لديه هدف محدد وهو أن يستمر في المباراة للنهاية ما دام الفوز متوقفا عليه هو ومارجريت كاميرون وكاليفورنيا. وقد كانت مباراة طويلة تلك التي هو بصددها.
يجري النضال من أجل الحياة من الإنسان مجرى الدم. فهو يطيق أي شيء إلا الموت. وقد جلس جيمي على جانب الفراش وجعل يتأمل كم هو غريب أن البشر قد يشكون من الألم والفقر والإحباط والانهزام من كل نوع، لكن حين يوشك الموت، الموت الذي قال الكشافة الصغير إنه جميل، يتسلح البشر في مواجهته ويقاومون حتى النفس الأخير، كما قاومه هو. وأقر بأنه قد يكون مخطئا، وأنه قد يكون مفرطا في التفاؤل، بل أن رؤية مارجريت كاميرون ربما تأثرت بآمالها من أجله. لكن ثمة شيء وحيد لا يمكن أن يكون مخطئا بشأنه. وهو أن جسده لم يعد بالغ النحافة ، وأن يديه صارتا أكثر ثباتا، وصار باستطاعته المشي دون أن تتقوس ساقاه تحته، وأنه أمسك عن نظرته السقيمة لذاته. كان قد وصل إلى المرحلة التي قام فيها مرات عديدة وهو وحده في المساء بإزاحة كتب النحل جانبا وانتقاء أعظم الكتب جميعا وقراءة فصلا تلو الآخر، فأدرك أنه لم يفعل ذلك قط ولو مرة دون أن يغلق الكتاب المقدس وقد اعتراه شعور بأنه قد اكتسب شيئا بطريقة ما؛ قد تكون كلمة واحدة فقط، أو فكرة ما، شيء يبقى معه ويعينه على أن يصنع يومه التالي.
وحينئذ نهض جيمي، وأمسك بقلم رصاص ورسم دائرة حول اليوم السابق في التقويم، ومن الدائرة مد خطا إلى الهامش وكتب الحرفين «ميم، كاف». أي مارجريت كاميرون، والتاريخ كان يوم اكتشافها أنه تحسن. سوف يتابع النظام نفسه شهرا آخر وبمزيد من الدقة، وبعد ذلك ستلقي عليه نظرة أخرى، وقد حفظ في ذاكرته عهدا وهو يرتدي ملابسه بأن تجده أفضل حالا.
وبينما هو ينظم الضمادات على جانبه المصاب، نظر عن كثب إلى الطبقة التي أزالها، وإذا بجيمي يجد نفسه فجأة يفعل ما كان الصغير سيسميه دورانا على ساق واحدة. فبالكاد كان هناك رشح طفيف شبه وردي. وظل يشعر طيلة الأيام التالية أن البقع لم تعد بالغة الضخامة ولا بالغة السوء. في ذلك الصباح كان هناك دليل عيني لا يمكن تجاهله. فقد كان البرهان على أن مارجريت محقة ماثلا أمام جيمي، أوضح من أن تنكره كلمات. وقبل أن يدرك جيمي ماذا كان يفعل، وجد نفسه يرقص في أنحاء المخدع بتحفظ أقل كثيرا وحماس أكثر من الكشافة الصغير وهو يرقص في ممشى الحديقة. حتى إنه كان يضحك من نفسه فعلا وهو يرتدي ملابسه، وحين سمع مارجريت كاميرون في المطبخ وقد جاءت بفطوره، فتح الباب ونادى عليها قائلا: «يا سيدة اسكتلندا!»
دوى صوته بنبرة لم تلحظها مارجريت كاميرون من قبل.
Неизвестная страница