سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
فيها تقلب موسى بن موسى القسوي عن الطاعة، وأعند بتحامل عبد الله بن كليب عامل الثغر عليه، ومد يده إلى بعض أمواله، فأحفظه ذلك، وهاج حميته، وتحرك إلى تطيلة، وابن كليب داخلها، فطمع أن ينتهز منه فرصة، فاحتجز عنه عبد الله بحصانتها، ولم يؤته حربًا، واستغاث بالأمير عبد الرحمن، فأخرج إليه ابنه محمدًا بالصائفة، وقاد معه محمد بن يحيى بن خالد، فاحتل عليه محمد بالجيوش، فأذعن موسى، واعترف بالذنب، وسأل العفو، فسارع الولد محمد إلى إجابته وتطمينه وإقراره على حاله، وتقدم بالصائفة إلى بنبلونه فجال بأرضها وأداخلها، ونكأ العدو أبرح نكاية.
وفيها عزله الأمير عبد الرحمن حارث بن بزيع عن طليطلة في شوال منها، وولاها محمد بن السليم.
وفيها كان القحط الذي عم الأندلس، فهلكت المواشي، واحترقت الكروم، وكثر الجراد، فزاد في المجاعة وضيق المعيشة.
1 / 143
وفيها استأمن غليالم بن برناط بن غليالم، أحد عظماء قوامس إفرنجة على الأمير عبد الرحمن بقرطبة، فأكرمه وأحسن إليه وإلى أصحابه، وصرفه معهم إلى الثغر لمغاورة الملك لذويق بن قارله بن ببين صاحب الفرنجة، وكانت بينه وبين قواد لذويق وقائع ظهر عليهم فيها، وأعانه عمال الثغر، فأثخن العدو، وأقام بمكانه ظاهرًا على من انتقض عليهم من أمته مدة، وكتبه إلى الأمير متصلة.
سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
فيها في شعبان منها عزل الأمير عبد الرحمن محمد بن السليم عن طليطلة، وولاها بعده أيوب بن السليم.
سنة أربع وثلاثين ومائتين
فيها غزا بالصائفة المنذر بن الأمير عبد الرحمن، وقاد عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني، ودبرا الوزير يحيى بن خالد.
وفيها أغزى الأمير عبد الرحمن أسطولًا من ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتي ميورقة ومنورقة، لنقضهم العهد، وإضرارهم بمن يمر إليهم من مراكب المسلمين، ففتح الله للمسلمين عليهم، وأظفرهم بهم، فأصابوا سباياهم، وفتحوا أكثر جزائرهم، وأنفذ الأمير فتاة شنظير الخصي إلى ابن ميمون عامل بلنسية، ليحضر تحصيل الغنائم ويقبض الخمس، وكان قد صالح بعض أهل تلك الحصون على ثلث أموالهم وأنفسهم، وأحصيت ربعهم وأموالهم، وقبض ما عليه صولحوا.
1 / 144
وفيها ظهر غليالم بن برناط بن غليالم النازع إلى الأمير عبد الرحمن، القادم إلى باب سدته في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين على من حاده من أمته أهل إفرنجة، الذي نصبه الأمير عبد الرحمن لمغاورتهم وأمده بقوته، فاقتحم عليهم بلده في جمعه، فقتل وسبى، وحرق وخرب، وحاصر برشلونه حتى أضربها، وتقدم إلى جرندة، فشارفها، وورد كتابه على الأمير عبد الرحمن يعترف بما كان منه، ويذكر تماديه عليه، فأجيب بالإحماد لفعله، والإرصاد لمكافأته، وكتب إلى عبيد الله بن يحيى عامل طرطوشه وإلى عبد الله بن كليب عامل سرقسطة في إمداده ومعونته وتحريضه على شقاق قومه وتأييد عزيمته.
وفي شهر رمضان منها عزل أيوب بن السليم عن طليطلة ووليها يوسف بن بسيل. وفيها عزل الأمير عبد الرحمن معاذ بن عثمان عن القضاء بقرطبة، وولى مكانه محمد ابن زياد.
وفيها خرج فرج بن خير الطوطالقي بدنهكة وأروش، فأظهر المعصية، وجمع أهل الفساد، فعالجه الأمير عبد الرحمن بالخيل، فحوصر حتى أذعن بالطاعة، وعاد إلى الجماعة، فاصطنعه الأمير ورفع مرتبته، وولاه كورة باجة، فلم يلبث أن انتقض عليه إلى مديدة، وجرت منه خطوب أفسدت الصنيعة؛ ومن ولده بكر بن سلمة المستنزل من ناحية الغرب أيام الخليفة الناصر لدين الله.
سنة خمس وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب أهل ميورقة على الأمير عبد الرحمن بن الحكم، مستغيثين مما دهمهم من سخطه، مستقيلين لعثراتهم لديه، راغبين في صفحه وإقالته، فعطف عليهم وأقالهم زلتهم، وأجابهم إلى مسألتهم، وأعطاهم ذمته، وجدد لهم عهده.
1 / 145
وفي آخرها عاد موسى بن موسى القسوي إلى الخلاف، وكشف وجهه بالمعصية، فأفسد ما حوالي مدينة تطيله، وعاث حوز طرسونة وبرجة، وظاهره أخوه لأمه العلج ابن ونقه ببنبلونة، فخرج إليه بالصائفة عباس بن الوليد المعروف بالطبلي، فعاد إلى الطاعة، واستقال الزلة، وبذل إسماعيل ابنه رهينة، فعاد الأمير إلى القبول منه، والاستظهار عليه، وأخرج بيعته والتوثق منه وقبض رهينته خالد بن يحيى ومحمد بن الوليد ومطرف بن نصير، فتمموا سلمه، وتوثقوا من عهده، وجدد له الأمير الولاية على تطيلة، ودخل أخوه العلج ابن ونقه صاحب بنبلونة معه في الأمان، وقبض الأمناء المخرجون إلى موسى رهينته التي كانت ولده إسماعيل الذي هو لابنة عمه ميمونة، فأقبل عباس الطلبي بالعسكر إلى الحضرة لتأخر الوقت عن دخول أرض الحرب، وما تولى إسماعيل بن موسى رهينة أبيه موسى في يد الأمير عبد الرحمن أن هرب من يده عن قرطبة حانًا إلى ما فارقه من الشقاق، ذاهلًا عما كان فيه من غضارة المعيشة، لتوسعه في القطائع المنيفة والصلات الجزلة، فرفض ذلك كله، وسما للمعصية، وأمر الأمير بقص أثره، فلم يبعد أن جئ به إليه من طريق الثغر، وقد انتهى إلى وادي آنة فقبض عليه هناك بعض من عرف خبره، ورده للأمير عبد الرحمن بقرطبة، فعفا عنه، وأغضى عن زلته، وخلاه على ما كان عليه من سعة قطائعه.
وفيها سيلان عظيمان بنهر قرطبة في شهر رجب القمري الموافق لشهر ينير الشمسي رأس سنة العجم بالأندلس، عدًا في أمهات السيول، وحمل وادي شنيل أيضًا، وطغى مدة، وأخرب حنيتين من قنطرة مدينة إستجة، وأبطل عددًا من أرجائها، وطمى السيل أيضًا بكورة إشبيلية التي بها قراره، فذهب مده في مجتمعه هناك بست عشرة قرية ما بين البحر وحاضرة إشبيلية...........
1 / 146
فيها من ناس وبهائم وأمتعة، فكان ذلك حدثًا عظيمًا تحدث الناس عنه زمانًا.
وفيها هلك الطاغية رذمير بن أردميس ملك الجلالقة، فولى ابنه أردون، وكانت ولاية رذمير ثمانية أعوام.
سنة ست وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب للأمير من عبيد الله بن يحيى من الثغر الأعلى، يذكر استغناءه عن العدة التي قد أمر باحتباسها قبله من الحرس، واكتفاءه بمائة وثلاثين غلامًا ذكر أنهم معه من مواليه وغلمانه، يرضى بسالتهم، ويحمد مذاهبهم، ويسكن إليهم، ويجتزى بخدمتهم، لما أصبح الثغر بحمد الله من السكون والهدوء، ووقم العدو بحروب، بارتضاء رأيه، وإحماد نظره، وقدم مقنبًا من قبله من فرسان الخرس إلى مرابطهم بالماء، وأجرى القطائع على عدته تلك التي اقتصر عليها من الرواتب والنفقات والعلوفات عليهم مما في يده من مال السلطان، وأن يصرف جميع ما يقبضه بالثغر من الجزاء والعشور وجميع الوظائف بعد إقامة سائر النفقات الراتبة إلى فكاك أسراهم، وحمل مرجليهم، ومرمة حصونهم، ومصالح ثغورهم، وكل ما فيه تقويتهم على عدوهم، وسوغه أن يرتزق في كل شهر لعمالته مما يجتبيه مائتي دينار دراهم، وينهض معروفه للعام إلى ألف دينار مما يتقاضاه من جباية عمله، فكان عمل الأمير عبد الرحمن ذلك بالثغر وأهله من جلائل مناقبه.
وفيها أدال الأمير عبد الرحمن ابنه الحكم بن عبد الرحمن عن ولاية كورة
1 / 147
إلبيرة بأخيه عبد الله بن عبد الرحمن، وولى الحكم كورة تدمير ومعه سعد أخو خزر لا يفارقه. ثم عزل عبد الله بن عبد الرحمن عن كورة إلبيرة فيها، فأعاد أخاه الحكم إليها.
ولم يخرج إلى كورة تدمير في هذه السنة ولدًا له على عادته لإمحال نالها في هذا العام. وفيها صرف الأمير عبد الرحمن عن كورة رية، وصرف خزر المولى الملازم له معه.
وفيها ثار حبيب البرنسي بجبال الجزيرة الخضراء، واجتمع له خلق من أهل الفساد في الأرض، فشن بهم الغارة على قرى رية وغيرها، فأشاع الأذى، ونهب وقتل وسبى، فأخرج الأمير عبد الرحمن عند ذلك الخيل مع عباس بن مضا، فألفى أضداده قد قصدوا حبيبًا وأصحابه، فأوقعوا بهم وقصوهم، وقتلوا خلقًا منهم، وتفرقت بقيتهم، فانخنس حبيب رئيسهم في غمار الناس، وطفئت نائرته، وطلب دهرًا فلم يظفر به.
1 / 148
ذكر مهلك نصر الخصي
الكبيرخليفة الأمير عبد الرحمن بن الحكم ﵀
وفي هذه السنة هلك أبو الفتح نصر الخصي، خليفة الأمير عبد الرحمن بن الحكم، المقدم على جميع خاصته، المدبر لأمر داره، المشارك لأكابر وزرائه في تصريف ملكه، وكان هلكه شبيه الفجأة في عقب شعبان من هذه السنة، أرقى ما كان في غلوائه، وأطمع ما هو بالاحتواء على أمر سلطانه، أرهب ما كان الناس له، وأخوفهم لعدوانه، إذ نال من أثرة مولاه الأمير عب الرحمن واصطفائه وإشراكه له في الرأي مع جلة وزرائه، وطوعه كثيرًا إلى ما يخالفهم فيه، فوق ما ناله خادم خاص مع أمير رشيد سمع عنه، وله بذلك أخبار في الناس تصدق دلائل تحققه، سما بها - زعموا - في باطنه إلى غاية كرهها الله، إخترمه دونها حمامه، فقضى ذميمًا مستراحًا منه.
وكثر القول في السبب الذي أراده، والخوض فيما أتاه، فكان من أوضح ذلك ما ذكره أبو بكر بن القوطية، قال: كان نصر الخصي الجريء المقدم الوساع الفهم قد غلب على قلب مولاه الأمير عبد الرحمن بن الحكم واستظهر على حراصة مكانه لديه بانقطاعه إلى حظيته طروب أم عبد الله، الغالبة عليه من بين جميع نسائه، وحطه في شعبها، وممالأته إياها على ما تسعى له من تقديم ولدها عبد الله للأمر بعد الأمير أبيه على جميع الأراجح الأكبرين من ولده متى حان حينه، فخالص السيدة تشديدًا، وأخلصت له، واستوى له بذلك أمره، وأصبح ملك عبد الرحمن في يده، يدبره كيف يشاء، فلا يرد أمره، قد أجهد سعيه آخر أمده في جهره وسره، بالتنويه بعبد الله بن سته طروب، والإشادة بذكره،
1 / 149
واستمالة طبقات الناس بالرغبة والرهبة إليه، والعمل على اختزان الخلافة عن أخيه محمد، بكر والده الأمير عبد الرحمن ومفضلهم المشار إليه إلى خالفتهم ابن طروب هذا، وسوقها إليه، يتأتى لذلك ويأتيه من جميع أبوابه، والقضاء يبعده عنه، ويسد دونه طرقه، وهو يرصد لوجبة الأمير عبد الرحمن مولاه، ليقضي في عبد الله قضاءه، فيملي لعبد الرحمن ويستأخر يومه، فيشق ذلك على الخصي ويرهب فوته، حتى سولت له نفسه اغتيال مولاه عبد الرحمن، وإلطاف التدبير عليه، كيما يتمكن من تقديم عبد الله مكانه، ولا يرهب الخلف عليه، لكثرة أنصاره من أهل الدار وغيرهم، وفشو صنائعه فيهم، فيتم له بابن طروب الاحتواء على الملك ويؤخر عنه محمد المرشح له وغيره ممن يطمع فيه.
فوثق في ذلك بالحراني الطبيب، وكان في عداد صنائعه وقدر منه - مع الوفاء - الشره إلى ما يبذله له، فخلا به، وذكره أياديه لديه، وتدارسًا فيما ينويه له، وقال له: هل لك في إحراز حسن رأيي للأبد، وحوز جزيل صلتي للآخر؟ فقال له الحراني: هذه هي المنية التي لا وراءها طلبة! فمن لي بنيلها؟ فقال له: هذه ألف دينار معجلة بين يدي الجري بالحاجة، واعمل لي سؤر الملوك الذي يدني الأجل، ويقلب الدول، ودعني لمكافأتك إن انقضت حاجتي. فوالله لأتجاوزن بها ظنك!.
فأراه القبول لما بذله، والقيام بما كلفه.
وخرج عنه وقد عدلت البدرتان جناحيه، فعمل ذلك الخلط باسم الدواء المسهل كما رسمه له، وأجهد رأيه في تقويته، واحتال في أن دس في خفية إلى فجر خطية
1 / 150
الأمير عبد الرحمن ضرة طروب مع بضع من كان يستطب لها عنده من ثقات قهارمتها يشير لها على ما دبر على الأمير من طريق العلاج، ويأمرها أن تحذره من شرب ما يأتيه نصر به أو يرسله، فوقاه جده بذلك، وسقى الخصي معينًا له.
وقد كان الأمير شكا إلى نصر خلال ذلك خلطًا تحرك به عدل له عن أخذ الدواء الذي من عادته وإعداده ليوم فارقه على التوحش أمامه، فكان من توطئة نصر لذلك ما قدر أنه واقع به لا محالة. وبكر بذلك الخلط المسموم إلى الأمير في اليوم الذي ربط فيه موعده، فأصابه حذرًا للذي سبق إليه، فتعلل على نصر، ووصف وعكًا طاف به ليلته، فنكث مرته، فلا فضل فيها للدواء، وأشار عليه بشربه، إذ لم يزل كثيرًا يسعده في مثله، فذهب يعتذر بعدم التوحش له، فزجره وقال: سبحان الله! شيء اجتهدت لي فيه وألطفت تركيبه تخاف غائلته؟ عزمت لتشربنه! فعلم نصر أن خلافة لا يمكنه، فشربه بين يديه، واستأذنه في الخروج إلى منزله، فأمره، فانطلق يركض وركضه يزيده شرًا، واستغاث بالحراني، فعرفه بما جرى عليه، والسم يجد به، فقال له: عليك بلبن المعز، فإن شربه يفتر عنك! ففرق غلمانه في طلبه، فعوجل قبل أن يؤتى به، ومضى لسبيله.
فسر الناس بحتفه، وأطبقوا على ذمه، وقال يحيى الغزال عدوه الموتور من لدنه عند موته: من البسيط.
1 / 151
أغنى أبا الفتح ما قد كان يأمله ... من التصانع والتشريف للدور
وكل عرض وقرض كان يجمعه ... حفيرة حفرت بين المقابير
لم يألها القوم تضييقًا ولا وقعت ... فيها الكرازين إلا بعد تقدير
فصار فيها كأشقى العالمين وإن ... لفوه بالنفح في مسك وكافور
ما العرف لو أخبرونا بعد ثالثة ... إلا كعرف سواه المناخير
وكان أزمع شيئًا لم تكن سبقت ... به من الله أحكام المقادير
إذا أراد الإله الشيء كونه ... فلن يضرك فيه سوء تدبير
وذكر أن الغزال أنذر بهلك نصر هذا من طريق النجم قبل وقوعه بمدة، فقال: من الكامل، الضرب الأحد المضمر.
قل للفتى نصر أبي الفتح ... إن المقاتل حل بالنطح
وأراه قهقر فيه ثم مضى ... قدمًا ومدبرًا إلى الرمح
وأرى النحوس له مساعدة ... فانظر لنفسك واقبلن نصحي
ووجدت ذلك إذ حسبت له ... مما يدل على غلا القمح
1 / 152
ونزول أمر لا أفوه به ... لو كان يبلغ بي إلى الربح
وإذا رأيت البدر في بلع ... نزل القضاء بأبرح البرح
يا رب طالعة العشاء أتت ... بخلاف ذاك طوالع في الصبح
ولرب رافلة عشيتها ... في الوشي أضحت وهي المسح
تبكي على من كان يكرمها ... نحاء بين نوادب نح
وليحيى الغزال في نصر وذكر مسكنه بمنيته إلى جانب مقابر الربض والنهر: من الطويل.
أيا لاهيًا في القصر قرب المقابر ... يرى كل يوم واردًا غير صادر
كأنك قد أيقنت أن لست صائرًا ... غدًا بينهم في بعض تلك الحفائر
تراهم فتلهو بالشراب وبعض ما ... تلذ به من نقر تلك المزاهر
وما أنت بالمغبون عقلًا ولا حجى ... ولا بقليل العلم عند التخابر
وفي ذاك ما أغناك عن كل واعظ ... شفيق وما أغناك عن كل زاجر
وكم نعمة يعصى بها العبد ربه ... وبلوى عدته عن ركوب الكبائر
سترحل عن هذا وإنك قادم ... وما أنت في شك على غير عاذر
1 / 153
وقال يحيى الغزال عند ذكر الناس لإنزال السلطان زريابًا مغنيه في منية نصر الخصي أثيره بعد موته، يذكر تقلب الدنيا بأهلها: من الخفيف.
ذكر الناس ... نصر لزريا ... ب وأهل لنيلها زرياب
هكذا قدر الإله وقد تجرى بما لا تظنه الأسباب
أخرجوه منها إلى مسكن ليس عليه إلا التراب حجاب
لا يجيب الداعية فيه ولا ير ... جع من عنده إليه جواب
وتغانت تلك المراكب عنه ... وأميلت إلى سواه الركاب
ليس معه من كل ما كان قد جمع إلا ثلاثة أثواب
وتلاشى جميع ذاك فلما ... يبق إلا ثوابه أو عقاب
عسكر جندوا فليس بمأذو ... ن لهم عنه أن يكون الحساب
فرأيت الرقاب من أهله ذلت وعزت من آخرين رقاب
وكذاك الزمان يحدث في تص ... ريفه الذل والبلا والخراب
لتعجبت والذي منه أعجبت إذا ما نظرت شيء عجاب
لكأن الذي تولى الذي كا ... ن عليه مخلد لا يراب
فعله بعده كفعل امرئ ليس عليه بعد الممات حساب
ولعقل الفتى صحيح ولكن ... حيرته الأوراق والأذهاب
وحكى الحسن بن محمد بن مفرح في كتابه قصة مهلك نصر هذا، فقال:
كان السبب في مهلك نصر الفتى الكبير الغالب على الأمير عبد الرحمن بن الحكم المظاهر لسيدته طروب حظية الأمير عبد الرحمن على سوق الملك إلى ولدها منه عبد الله المعزو إليها أن عبد الرحمن التوى بهما معًا في تقديم عبد الله على محمد أخيه أكبر ولده،
1 / 154
المرشح من بينهم للأمر، لصدق نفسه على كون ما بينهما في الرجاحة والفضل، وتغليبه لرأيه فيه على هواه، لمعصيته لحظيته طروب. فلما أعيا عليها وعلى نصر ظهيرها لفته عن ذلك شق ذلك على نصر، وفكر في سوء عاقبته مع محمد إن خلص له الأمر، وقد كشف وجهه في صده عنه، فذهب إلى احتيال الأمير مولاه كيما يتمكن من نصب عبد الله ودحر محمد، فأتى الأمر من باب طبيب الأمير المعروف بالحراني، وكان يثق به، فخلا معه، وقال له: ما ترى رأيك في شيء تحوز به حسن رأيي، وتعجيل العطاء الرغيب مني، وتعتقد المنة علي؟.
فقال: يا سيدي. بعض هذا غاية أملي! فكيف لي ببلوغه؟! فقال له: فقد أمكنك! فخذ هذه الألف دينار ابتداء، فأصلح بها من شأنك، واعمل لي سنون الملوك، من أجل ما تقدر عليه وأوحاه فعلًا، فيدك فيما عندي منطلقة! فأعده لميقاتك الذي أعرفك به.
فلم يخطر على عصيانه، وأراه الرغبة في صلته، والحرص على قضاء حاجته، وقبض الألف منه، وعمل له السنون كما أراده.
واتفق أن شكا الأمير إلى نصر فتورًا يجده، فأشار عليه بالدواء المسهل، وكان من عادته، فذكره بإدخاله، وأوصل إليه طبيبه الحراني، فوافقه على إدخال الدواء، وحد له تقديمه، ورسم له التوحش لإدخاله ليوم سماه، فتقدم الأمير إلى نصر بإدخال الحراني إلى خزانة الطب، وتمكينه مما يريد من أخلاط دوائه ليقيمه على حده، فشرع الحراني في ذلك، وفجر ثقة الأمير تطالعه بوصاياه، فأمكنت الحراني منها فرصة أوحى إليها
1 / 155
بشأن الدواء، وسألها أن تحذر الأمير من شرب الدواء، ففلعت ذلك خفية، فحذر الأمير، وطار بجناح الإشفاق عليه.
فلما غدا به نصر في اليوم الذي فارقه عليه أظهر الأمير الانكسار عنه، ووصف عائقًا يمنعه منه، وأمر لحينه نصرًا بشربه، فكأنه توانى إذ لم يستعد له، فأكرهه عليه، وأسرع الخروج إلى داره، وبادر الإرسال في الطبيب الحراني، فعرفه ما جرى عليه، واستغاثه، فأمره أن يشرب لبن المعز، فآل إلى أن طلب له وجيء به، فأعجل عليه السم، فمات، ولم يشربه.
وذكر الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن حزم أن نصرًا هذا الذي إليه تنسب منية نصر - الأثير كان - عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم، وكان من الفتيان المنتقين الذين خصاهم أبوه الأمير الحكم من أبناء الناس الأحرار الذين تعبدوا ليستخدمهم داخل قصره وأبوه المعروف بأبي الشمول من أسالمة أهل الذمة من أهل قرمونة، نال بابنه نصر دنيا عريضة، وكان موته قبيل مهلك نصر ابنه بأيام. وأخبار نصر كثيرة.
سنة سبع وثلاثين ومائتين
فيها كانت وقيعة البيضاء، والبيضاء مجاورة لمدينة بقيرة من بلد بنبلونة بين المسلمين والكفرة الجاشقيين، فكان اليوم الأول منها على المسلمين، فاستشهد منهم جماعة، ونالت فيه موسى بن موسى خمس وثلاثون وخزة تخللت حلق درعه، واليوم الثاني كافحهم المسلمون، وقد أخذ المقدمة موسى بن موسى متحاملًا لألم جراحه، فحامى على المسلمين، وحسن غناؤه، فهزم الجاشقيون أعداء الله أفحش هزيمة، وفرشت الأرض بصرعاهم.
1 / 156
وفيها هلك ينقه بن ينقه أخو موسى بن موسى لأمه وظهيره على أمره، وكان قد أصابه فالج عطله إلى أن مضى لسبيله، فولى مكانه ابنه غرسيه، واستملكت له إمارة بنبلونة.
وفيها في أيام ولاية عبيد الله بن يحيى للثغر قام بناحيته رجل من المعلمين، فادعى النبوة، وألحد في القرآن، فأحاله عن وجوهه، وأوله على غير تأويله، وقام معه خلق كثير. وكان ينهى عن قص الشارب والأظفار، ويقول لا تغيير لخلق الله، فأرسل عبيد الله من جاء به، فلما دخل عليه وكاشفه كان أول ما ابتدأه به أن دعاه إلى إتباعه، فاستشار فيه عبيد الله أهل العلم عنده، فأشاروا باستتابته ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل، ففعل به ذلك، فلم يتب، فأسلمه للقتل صلبًا، فجعل يقول: " أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله "؟ فأمضى عبيد الله قتله بالفتوى، وكتب إلى الأمير بأمره، فأحمد فعله.
وفيها ابتدئ بعذاب عباس الطلبي وأخيه، ووليد بن أبي لحمة في استخراج الأموال التي غلوها بدفاع نصر الخصي عنهم، إذا كانوا صنائعه وبطانته، فلجوا بالمال، وشد عليهم العقاب.
وفيها أيضًا قبض على مسرة الخصي الفتى الكبير وعباس أخيه، فسجنا، وذلك في صفر منها، وصير مكان مسرة قاسم الخصي الصقلبي، وذكر أنه وجد لمسرة ثمانية آلاف دينار دراهم.
وفيها عزل الأمير عبد الرحمن محمد بن زياد عن القضاء بقرطبة وولى مكانه سعيد ابن سليمان بن حبيب الغافقي مجموعًا له إلى الصلاة، وذلك في ربيع الآخر منها، فكان آخر قضاة الأمير عبد الرحمن.
1 / 157
سنة ثمان وثلاثين ومائتين
وفيها توفي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك بن مروان ليلة الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر من هذه السنة، فدفن يوم الخميس في تربة الخلفاء بقصر قرطبة. وأدلاه في قبره أخواه المغيرة وأمية، وصلى عليه ابنه الخليفة محمد بن عبد الرحمن.
مولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة، وأبوه الحكم يومئذ واليها لوالده الأمير هشام، فكانت سنة اثنتين وستين سنة. وكانت خلافته إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر وستة أيام.
وقال الحسن بن محمد بن مفرج: قال ابن عبد البر: توفي الأمير عبد الرحمن ليلة الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
وقيل: بل هي لثلاث خلون منه، فكانت خلافته إحدى وثلاثين سنة وثمانية وعشرين يومًا. وقيل: بل خمسة أشهر وقيل: ثلاثة أشهر وأربعة أيام. وقيل: ستة أيام.
فدفن يوم الخميس من غد ليلة موته في روضة الخلفاء سلفه بقصر قرطبة، وصلى عليه ابنه الأمير محمد بن عبد الرحمن الوالي مكانه. وكانت سنة اثنتين وستين سنة. ومولده بطليطلة من الثغر الأدنى أيام كان والده الحكم بن هشام واليًا عليها لجده هشام وذلك في شعبان سنة ست وسبعين ومائة.
قال الفقيه محمد بن وضاح: احتجب الأمير عبد الرحمن بن الحكم عن الناس قبل موته مدة من ثلاثة أعوام أو نحوها من أجل علة أصابته طالت به واشتدت عليه، فحمته الحركة، وهدت قوته،
1 / 158
وأحدثت عليه رقة في نفسه، ووحشة في خاطره، وشدة أسف على ما نغص عليه من عصارة ملكه.
فذكر أنه قال يومًا لأكابر خدمته الخاصة، وقد حفوه في مرضه، وفيهم سعدون زعيمهم الذي اختصه بعد مهلك حظيه نصر ومن يليه: يا بني! - وبذلك كان يخاطبهم مستلطفًا لهم ومرفقًا بهم - لقد اشتقت أن أعاين ضوء الدنيا وفسحة الأرض، إذ قد حميت عن الخروج إليها، فلعلني أعلو مرقبة يسافر بصرى فيها، فأتسلى بالنظر إلى بسيطها، وجسمي منزع، فهل سبيل إلى ذلك؟ فقالوا له: نعم يا مولانا.
وابتدر أكابرهم إنفاذ أمره، فأخذوا سرير خيزران لطيفًا، وثيق الصنعة من أسرة الخلافة، ووضعوا فوقه فراشًا خفيفًا وثيرًا حشوه الريش، أجلسوه فوقه، واحتملوه على أعناقهم، فصعدوا به إلى العلية على هيئته التي كانت من بنيان الأمير على باب الجنان من أبواب القصر القبلية، ثم هبطوا كذلك، فعانوا ذلك مرات يسوقون به الأمير في تعاريج درجة الدائرة، حتى استوى لهم ذلك كما أرادوه، وأمنوا على الأمير المشقة فيه.
فوضعوا الأمير عبد الرحمن عند ذلك فوق ذلك الفراش، وشدوه من جهاته، واستوثقوا من اضطرابه، وصعدوا به هونًا، حتى صيروه بأعلى تلك العلية، فأجلسوه صدرها، وأدنوه إلى الباب الأوسط منها، فأشرف على صحراء الربض قدام باب القصر، وسرح بصره فيها، ورآها إلى كدى القنبانية، ونظر إلى النهر أمامه، والسفن تجري فيه صاعدة ونازلة.
فاستروحت نفسه، وانشرح صدره، وشكر لخدمه ما تجشموه من إدنائه من مسرته وقال لهم: يا أولادي اجلسوا الآن حولي، وأنسوني بكلامكم، ومتعوني بأحاديثكم، ولا تنقبضوا عني بشيء مما تتحدثون به بينكم إذا انفردتم، كيما أشتغل بذلك عما أقاسيه من علتي. ففعلوا، وأنس هو بذلك وانبسط، وقطع أكثر نهاره في تلك العلية. ودنا المساء، فدعوه إلى النزول إلى مجلسه، فبيناه يتهيأ لذلك، إذ وقعت عينه في الصحراء قدامه على قطيع شاء وهي ترعى في منحدرها، ولم ير معها راع يسوقها، فقال لهم.
1 / 159
يا أولادي؟ ما بال هذه الغنم مهملة ولا راعي لها؟ فتأملوا فقالوا: يا مولانا هاك راعيها قاعد إلى جانبها مستريح في فيء جنان طروب تجاهه، يتملى في انحدارها.
فقال:
لعًا؟؟!.
ثم أثبت بصره في تلك الغنم، فتنفس الصعداء، وأرسل عبته يبكي حتى أخضل لحيته، وقال: وددت والله أن أكون مكان ذلك الراعي ولا أنشب فيما نشبت من الدنيا ولا أتقلد من أمور الناس ما تقلدت! ثم استغفر الله كثيرًا ودعاه. ونزلوا به إلى مهاده، فلم تطل فيما بعد نهاره هذا حياته.
وذكر أحمد بن الأمير محمد بن عبد الرحمن قال: اعتل جدي الأمير عبد الرحمن علته التي توفي فيها، فطاولته ونهكته، وماطلته مدة: تارة تخف عنه، وتارة تثقله، فيركس ويضعف، وينيبوا العلاج عنه على اجتهاد تارة تخف عنه، وتارة تثقله، فيركس ويضعف، وينيبوا العلاج عنه على اجتهاد أطبائه في التماس شفائه، فنعى عليهم وقت سقامه. فلما كان قبل وفاته بأربعة أيام أو نحوها انحط مرضه، وتحركت له قوة خال بها أنه مبل من ضناه، فأمر بأن
1 / 160
يصلح له الحمام، ويعدل مزاجه، فاحتم فيه، وأجد خصابه، وكان يواليه ويجمل به، وحدثته نفسه بالركوب مع عياله طلب النزهة، وهو يأمل الإنظار، والموت أدنى إليه من وريده.
فلما عزم على إتيان ما سولت له نفسه من ذلك دعا حاجته عيسى بن شهيد، وكان خفيفًا على قلبه، فأوصله إلى نفسه صبيحة اليوم الذي قضى نحبه في آخره، فبشره بتخفيف مرضه وانبعاث نشاطه، وقال له: كيف ترى خضابنا يا عيسى؟ فقال له: أصلح الله الأمير سيدي! أحسن خضاب رأيت قط، وأدله على انتعاش سيدي واقتيامه البقاء بخلوص القمر من انكسافه بفضل الله عليه وعلى رعيته.
فسره قوله وقال له: إن بعض كرائمنا سألننا تجديد العهد لديهن بالركوب معهن للنزهة على مقتضى العادة، فاخرج من فورك، فانظر في إقامة ما يحتاج إليه لنزهتنا على أتم رسومها، واعجل بذلك، فإنا متحركون صبيحة غد بحول الله.
فمضى عيسى لشأنه، وقال الأمير للراشدة القائمة على رأسه: أدخلي إلى خزانة الكسوة، فمريها أن تتخير لنا مما عندنا من الوشي رداء يوسفيًا من أفخر نوعه، فجيئينا به.
فمضت الراشدة وجاءته برداء يوسفي معمر، لم تر العيون آنق منه، فأمر بعض
1 / 161
أكابر الخدم أن تخرجه إلى عريف الخياطين بالقصر، فليقطعه ثوبًا للبوسه، ويتخذ منه قلنسوة لحاجبه عيسى كيما يلبساه جميعًا لركوبهما صبيحة غدهما، ويجمع الصناع على إتمامهما للبوسهما، فعاد إليه الخادم بجواب عريف الخياطين، فذكر أن خياطة الجلد لا تمكنهم في مثل الوقت الذي حده، لدقة صنعة الثوب والأناة لنقشه، وتعذر جمع الأيدي عليه، فضلًا عن عمل القلنسوة التي يستأنف تجسيدها لحاجبه من فضل الثوب، ولا بد من الاستيناء بها.
فشق ذلك على الأمير وكسر منه حتى ثناه حاجبه عيسى عن ذلك بلطفه، وهون عليه الخطب، وقال له.
في الذي تحويه خزانة الأمير من الثياب ورفيع القلانس ما فيه مندوحة عن استكداد هذا الثوب الذي لا يؤمن الخطأ في حثه، ولن يفوته نيل ما قام في خاطره منه، لأقرب مداه بحول الله، وتجاوزه بالإبلاء إلى ما سواه، كما أن عندي من جليل خلعه ورفيع قلانسه ما أسره بالتجمل به في خدمته. فليضع عن نفسه العزيزة كلفة هذا في مثل هذا الوقت الضيق، ولينفذ عزمه في تفريج نفسه بنزهته.
فوضع ذلك الرداء على كرسي في المجلس.... الإضراب عنه، والعمل على الحركة صبيحة غد. فنظر عيسى فيما أمره به، وهيأه على رسومه، وانقضى نهارهم، فما هو إلا أن صلى الأمير المغرب، فانتكثت مريرته، وثارت علته، وحضره حمامه، فتهوع، ودعا بالطست، فقاء دمًا غبيطًا، وعاود ذلك مرارًا، فلم يقلع عنه وجعه حتى لفظ نفسه، فتنوقضى نحبه. وقعد الأمير محمد من ليلته مكانه، فتنظر إلى ذلك الثوب الموشى المرجى قطعه موضوعًا على الكرسي، فعرف شأنه مع والده مساء ليلته، فعجب وقال:
1 / 162