Великая азартная игра истории: на что делает ставку Горбачев?
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Жанры
كانت حركة التغيير الهائلة في المعسكر الاشتراكي إذن متعمدة، وكان في استطاعة جورباتشوف أن يحتفظ بالأوضاع الجامدة السابقة، مدة أطول بكثير، ولكنه آثر أن يخوض مغامرة التحول الحاسم. ومع ذلك فإن قوى التغيير حالما تنطلق من عقالها بعد طول احتباس، يمكن أن تخرج عن السيطرة، وتتخذ مسارات غير محسوبة، فهل أفلت المارد من القمقم، وانقلب على من فتح له فوهة الزجاجة؟ وهل يسير تداعي الأحداث بشكل طليق وبصورة غير منضبطة منذ اللحظة التي أضاء فيها جورباتشوف الضوء الأخضر أمام قوى التغيير؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات بالإيجاب أو السلب تكاد تكون مستحيلة في اللحظة الراهنة، ولكن الأمر المؤكد هو أن جورباتشوف قام بمقامرة تاريخية كبرى، كانت له فيها حساباته الذكية بعيدة النظر، ولكن احتمالات الخسارة واردة في كل مقامرة، مهما كانت دقة الحساب فيها، لاسيما وأن أعداءه يعملون بكل طاقتهم من أجل إفساد هذه الحسابات. وكل ما يستطيع الكاتب أن يفعله، في مرحلة الأحداث الساخنة التي نمر بها الآن، هو أن يحلل مختلف عناصر الموقف، ويقدر احتمالاته الممكنة؛ كيما يساعد القارئ على فهم الأحداث المتلاحقة بصورة أعمق، ويترك له مهمة استخلاص النتائج بنفسه.
وهذا بعينه هو ما سنحاول القيام به في الفصول التالية: فلا بد من البدء بتقديم تفسير للتغييرات الحاسمة التي وقعت بالفعل، يليه محاولة لبحث تأثير هذه التغييرات بالنسبة إلى مستقبل العالم الاشتراكي، والعالم الرأسمالي، والعالم الثالث، مع التركيز على الوطن العربي بوجه خاص. وأخيرا تأتي أصعب المحاولات وأعقدها، وهي المخاطرة باستخلاص مجموعة من التوقعات عن شكل العالم في عقد التسعينات، بعد أن تكون تلك التغييرات قد أخذت مداها، وأصبحت حقائق راسخة في عالم الغد.
الفصل الثاني
لعنة التسلح
قلت في الفصل السابق إن جورباتشوف كان يستطيع، من الوجهة النظرية، أن يحافظ على الأوضاع التي ظلت سائدة في الكتلة الشرقية منذ الخمسينات، وفي بلاده قبل ذلك، وإن أية صعوبات كانت تواجه أنظمة تلك البلاد في المرحلة التي سبقت ثورته التاريخية مباشرة، ما كانت لتتجاوز ما سبق أن مرت به من مشاكل طوال العقود السابقة. ولكن هذا الفرض النظري يعني تجميد الأوضاع إلى ما لا نهاية، ويعني الحكم على النظام الاشتراكي كله بالتحجر في قت تجتاح فيه العالم ثورة علمية وتكنولوجية ستنتقل به خلال القرن القادم إلى أنماط من الحياة تبدو معها أنماطنا الحالية عتيقة، وربما بدائية. ومن المؤكد أن عملية اختيار جورباتشوف زعيما للاتحاد السوفيتي كانت منذ البدء دليلا على قوة إرادة التغيير في هذا البلد الكبير، فمن المرجح، إن لم تقع مفاجأة، أن يكون هذا الرجل نفسه، أو واحد ممن يسيرون على نهجه، هو الذي يقود بلاده عند مطلع القرن الحادي والعشرين. وهكذا، اختير الرجل على أساس أن مهمته هي العبور إلى المستقبل، ولا بد أن الذين اختاره كانوا على وعي بأن أوان التغيير قد آن، وبأن هناك ظروفا هي التي تحتم هذا التحول الحاسم.
ويمكن القول إذن إن جورباتشوف قد جاء إلى السلطة وهو يحمل تفويضا بإحداث تحول هام في أسلوب الحكم، غير أن الرجل تجاوز هذا التفويض بمراحل، وكان العامل الرئيسي الذي ساعده على ذلك أن لديه رؤية كونية شاملة، فالتغيير في نظره يبدأ أولا من الداخل، من بلاده ذاتها، ثم ينتقل إلى بقية البلاد الاشتراكية، وبعد ذلك تمتد إشعاعاته حتما إلى العالم الغربي الرأسمالي؛ ومن ثم إلى العالم الثالث. وسواء تمكن جورباتشوف من تجسيد رؤيته هذه في عالم الواقع، أم أخفق في ذلك لسبب أو آخر، فإن الدلائل كلها تشير إلى أن البشرية لن تستطيع أن تشق طريقها بأمان في القرن القادم إلا إذا تمكنت من وضع نظام جديد للعلاقات بين الدول، يرتكز على تحقيق توازن بين قدرة الإنسان على التحكم في تصرفاته، وضبط علاقاته مع الآخرين بطريقة حضارية (وهي حاليا قدرة متخلفة إلى حد بعيد)، وبين قدرته على التحكم في الطبيعة المادية وتسخيرها لخدمة أغراضه (وهي حاليا قدرة متقدمة إلى حد هائل).
فما هي إذن تلك الأسباب التي جعلت هذه الرؤية الجديدة ضرورة ملحة؟ وما العوامل التي دفعت جورباتشوف إلى تلك المقامرة الكبرى التي أذهلت الخصوم قبل الأصدقاء، والتي قلبت جميع الحسابات التقليدية، على صعيد السياسات المحلية والعالمية، رأسا على عقب؟ لنبدأ أولا بأعم الأسباب وأهمها، وأعني به الحاجة الملحة إلى إنهاء سباق التسلح، فقد فرض هذا السباق الشيطاني على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع أن ميثاق الأمم المتحدة الذي أعلن في نهاية تلك الحرب كان يشير بوضوح إلى هدف إنهاء كافة الحروب وإقامة العلاقات بين الدول على أساس السلام الدائم، ولكن الحرب الباردة سرعان ما ابتكرت صيغة أخرى في العلاقات الدولية، وخاصة بين المعسكرين الكبيرين، هي علاقة الخوف المتبادل، والردع المتبادل: أي إن كلا منها يرهب الآخر ويمنعه من مهاجمته عن طريق تهديده بالدمار الشامل، فتكون النتيجة استمرار السلام، ولكنه سلام متوتر يهدد في أي لحظة بالانفجار.
ولكي نكون موضوعيين فلنقل إن صاحب المصلحة في هذا الطابع الذي اتخذته الحرب البادرة كان الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفياتي، غير أن السوفيات لم يكن في استطاعتهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء التصعيد الأميركي للتسلح، فاندمجوا في اللعبة على الرغم من الأضرار الفادحة التي ألحقها بهم التسلح المكثف. وكان السياسي الوحيد الذي قرر أن يوقف هذه اللعبة بتخطيط بارع هو جورباتشوف.
وليسمح لي القارئ بأن أورد اقتباسين مطولين من مقال كنت قد كتبته منذ خمس سنوات (مجلة العربي - يناير 1985م) بعنوان «أيديولوجية التسلح». وسيدرك القارئ بسهولة سبب هذا الاقتباس حين ينتهي من قراءته:
Неизвестная страница