Монадология и начала рациональной природы и божественной благодати
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
Жанры
تقديم
بقلم فؤاد زكريا
حين يمعن المرء النظر في فترات النهوض الفلسفي على مر العصور، يجد بينها جميعا سمة مشتركة تبرز أمامه بوضوح كامل، هي العناية بالنصوص الفلسفية؛ فالنهضة الفلسفية العربية التي أثرت الحضارة الإنسانية بفكر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، سبقتها وعاصرتها فترة نشطة من الترجمة، نقلت إلى اللسان العربي ذخائر الفكر اليوناني، فحدث ذلك الامتزاج بين طريقتين في التفكير وأسلوبين في النظر إلى العالم، كان أحدهما وثنيا عقليا منطقيا، وكان الآخر مستندا إلى إيمان ديني متفتح، وأثمر تزاوج هاتين الطريقتين في التفكير فلسفة لها طابعها المميز، وأسلوبا في البحث لا يزال، حتى اليوم، يحتل مكانة رفيعة في التراث العالمي.
كذلك كان عهد الحركة الفلسفية الخصبة التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر، والتي كان أقطابها عمالقة للفكر من أمثال بيكن وديكارت وإسبينوزا، مسبوقا بجهد ضخم يهدف إلى نشر النصوص الفلسفية القديمة، من العصر اليوناني بوجه خاص، بين أكبر عدد ممكن من المثقفين. وبفضل هذا الجهد، الذي اضطلعت به مجموعة من الباحثين الممتازين فيما يعرف بحركة «النزعة الإنسانية» عرفت أوروبا في مطلع العصر الحديث نماذج حقيقية للفكر القديم، لم تشوهها تحريفات مفكري العصور الوسطى وتأويلاتهم، واكتسب العقل الأوروبي فائدة لا تقدر من الاطلاع على نمط فكري مخالف للنمط اللاهوتي الذي ظل مسيطرا على الأذهان طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام، فكانت حصيلة ذلك كله تلك الانطلاقة الرائعة التي أثمرت، مجموعة متلاحقة من المذاهب الفلسفية العميقة، فاقت في تنوعها وخصبها ما أنتجته خمسة عشر قرنا سابقة، وهيأت الأساس العقلي لحضارة تلائم تطلعات الإنسان الحديث.
هذان إذن مثلان يقطعان بأن إحياء النصوص الفلسفية الأصلية، ونشرها على أوسع نطاق هو شرط ضروري يمهد لنهضة الفكر الفلسفي. وقد يبدو في هذا الفرق نوع من المفارقة، إذ يخيل إلى المرء للوهلة الأولى أن الرجوع إلى النص الأصلي يقيد من انطلاقة العمل الخلاق؛ إذ يضعه أمام نماذج فكرية رفيعة يشعر المرء إزاءها بالتضاؤل، وبأنه لا يملك أن يضيف المزيد إلى ما قاله العباقرة من أصحاب هذه النصوص، ولكن حقيقة الأمر أن الصحبة المباشرة للمفكرين الكبار - لا تلك الصحبة التي تتم بتوسط المفسرين والشراح - تعطي العقل الفلسفي دفعة هائلة إلى الأمام؛ إذ تطرح أمامه الأسئلة الأصيلة في الفلسفة، وتقدم إليه نماذج لإجابات عبقرية عنها، وتدعوه إلى أن يعيد طرحها من جديد، وتحفزه إلى أن يبحث بنفسه ولنفسه - كما بحث هؤلاء - عن إجابات تتمشى وطبيعة عصره ومجتمعه، وترضي نزوعه الشخصي إلى إضفاء صبغة معقولة على العالم.
إن النص الفلسفي إنما هو دعوة للقارئ إلى التفكير الحر، سواء في فهم النص وفي تأويله وفي الكشف عن دلالته، وهو قبل ذلك كله دعوة له كيما يجد لما يقرؤه مكانا في عالمه العقلي الخاص، ويدمجه في تصوره العام لحياة الفكر على العصور. ومن هنا كانت القراءة الخلاقة للنص أبعد ما تكون عن حالة التلقي السلبي أو الخضوع الممتثل. والدليل الواضح على ذلك تلك الاختلافات الهائلة بين الشراح - وبين القراء - في فهم النص الواحد. فمعايشة الفيلسوف من خلال كتاباته تختلف كل الاختلاف عن قراءة بحث يضع فيه العالم خلاصة كشف جديد توصل إليه؛ إذ إنك في الحالة الأخيرة مدعو إلى أن تقتنع بالنتائج التي يعرضها عليك، وتقبلها - بعد اقتناعك - قبولا تاما. وإنما يجد العقل المتفتح هذه المعايشة أقرب ما تكون إلى تذوق عمل فني كبير، يقدم إليك من الإيحاءات أكثر مما يقدم من المعاني الثابتة، ويدعوك (بل يتحداك) إلى أن تجرب قدرتك على تفسيره، واتخاذ موقف منه، أكثر مما يدعوك إلى قبوله والتسليم بعظمته في سلبية وخشوع.
وإني لأرى لزاما علي في هذه الكلمة التي أقدم فيها سلسلة من النصوص الفلسفية تتيح للقارئ العربي أن يطلع، بلغته القومية، على الفكر الحي لعدد من أقطاب الفلسفة، أن أشير إلى ما نأمل أن يحققه نشر النصوص الفلسفية من نهضة فلسفية في بلادنا. فطالما سمعنا من يحدثوننا عن افتقار بلادنا إلى التفكير الفلسفي الأصيل، الذي يجمع بين الشمول والأصالة، والذي ينبع من تربتنا لكي يعلو شاهقا، حتى يبلغ سماء الفكر العالمي، وتلك بالفعل حقيقة لا بد من الاعتراف بها، ومحاولة البحث عن أسبابها. وعلى الرغم من أنني لست الآن في معرض الخوض في هذه المسألة، فإنني مؤمن بأن من أنجح وسائل علاج هذه الظاهرة، إتاحة الفرصة أمام جمهور المثقفين؛ لكي يمارسوا بأنفسهم، دون حاجة إلى وسطاء، تجربة معايشة الفكر الفلسفي في صورته النقية، ويتابعوا البناء الشامخ الذي شادته عقول جبابرة، وهو يعلو أمام أنظارهم طابقا فوق طابق، فبهذه المعايشة يتحقق حوار حقيقي بين العقول، تكتسب بفضله القدرة على الجدل الخصب البناء، وتكشف بنفسها عن زيف المرايا الخادعة التي تقدم إلينا من خلالها بين الحين والحين، صورة التيارات الفكرية العالمية، والتي تكاد تكون هي الزاد الفلسفي الأوحد لعدد كبير من المتطلعين إلى الثقافة في بلادنا.
وإني؛ إذ أحيي هذه المحاولات الجادة التي يقوم بها مجموعة من خيرة شبابنا المشتغلين بالفلسفة من أجل نشر الفكر العالمي على أوسع نطاق بين قراء العربية، وأرى فيها بشيرا بنهضة فلسفية حقيقية في بلادنا، آمل مخلصا أن يقترب اليوم الذي يزيح فيه مجتمعنا من طريقه كافة العقبات التي حالت دون تحقيق ذلك الحلم الذي يراود كل محب للثقافة، وأعني به ظهور فكر فلسفي أصيل يعبر عن شخصيتنا القومية أصدق تعبير.
تمهيد
أولا: حياة ليبنتز
Неизвестная страница