قال: ولما دخل أسد الدين إلى دمشق عرف خبري فحضرت عنده للسلام وتلقاني بالإكرام والاحترام وكان يجلس كل ليلة للأفاضل وأكثر حديثه معي في تقريظ عمي العزيز وتأبينه ووصلني بمعرفته ومعروفه وخصني من عموم بره بصنوفه فخدمته بهذه القصيدة ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين.
بلغت بالجد مالا يبلغ البشر ... ونلت ما عجزت عن نيله القدر
إسكندر ذكروا أخبار حكمته ... ونحن فيك رأينا كل ما ذكروا
ورستم خبرونا عن شجاعته ... وصار فيك عيانًا ذلك الخبر
يستعظمون الذي أدركته عجبًا ... وذاك في جنب ما ترجوه محتقر
قال: واتصلت بيني وبين صلاح الدين مودة ولم يزل يستهديني نظمي ونثري وأول ما خدمته بهذه الكلمة قلت ومن سردها:
نار قلبي لضيف طيفك تبدو ... كل ليل فيهتدي ويزور
كيف يصحو من سكره مستهام ... مزجت كأسه الحسان الحور
أورثته سقامًا الحدق النجل ... وأهدت له النحول الخصور
ولكم عودة إلى مصر بالنصر ... على ذكرها تمر العصور
فاستردوا حق المامة ممن ... خان فيها فانه مستعير
قال: وكان صلاح الدين في خدمة نور الدين المساعد والمعين وبهذه المعرفة السالفة من الأسلاف خصصت منه أيام دولته بالإسعاد والإسعاف.
ذكر دخولي في خدمة نور الدين
قال: عرفني إليه القاضي كمال الدين الشهروزي ورغبه في استثباتي وقرر لديه من حساب آمالي ما لم يكن في حسابي. وقال: لا بأس بان تكتب إليه أبياتًا ونحن نرجو لك في دولة ثباتًا وفي روضته نباتًا فأنشأت هذه القصيدة وعرضت من جانب القاضي وهي التي أولها
لو حفظت يوم النوى عهودها ... ما مطلت بوصلكم وعودها
ماذا جنت قوبنا حتى غدا ... في النار من شوقكم خلودها
لم أنسها إذا نثرت دموعها ... في خذها ما نظمت عقودها
إذا قربتني للوداع نحوها ... فبان في وصلها صدودها
كأسهم الرامي متى قربها ... يكون في تقريبها بعيدها
(١١٦٦) قال فرتبني في ديوانه منشيًا وذلك لاستقبال سنة ثلاث وستين قال: ودخلت سنة ثلاث وستين ورحل لملك العادل نور الدين ﵀ أقام بحمص أياما، ورتب بها أسبابًا وأحكاما، وخرجت معه ورآه ورحلت معه إلى حماه وأنزلني أسد الدين شيركوه في حماه وضرب لي خيمة بقربه وأنا أمضي كل يوم إلى الديوان مبكرًا ومما أقدم عليه فمن خدمة لا دربة لي بها مفكرًا على أن أهل ديوانه ينظرونني شذرًا ويعدون كثير ما عندي من الفضل نزرًا وكنت أظن أن صناعة الكتابة لا سيما الإنشاء صعب حتى قرأت كتب المصار والمراسلات الواصلة من ساير الأقطار فوجدتها في غاية من الركة وياليتها كانت بعبارات معسولة فتجرأت على الكتابة وغيرت تلك الأوضاع الوضيعة واخترعت أسلوبًا ما عرفوه والفت مصنوعًا ما ألفوه ووفيت بالبلاغتين، ونفيت الغش عن الصياغتين، وكتبت إلى الأعاجم وصارت نواب ديوانه يستغربون ويستهزئون ويهزمون وأرشدتهم من ضلالتهم فحكت نسج المداراه وما سلكت نهج المماراة حتى جرى بسكوني وسكوتي قلمي وعلا بمنار علمي ورجعوا إلي واجتمعوا على ولنا على مر الجديدين أتجدد في بناء النباهة واجعلوا بأسراري أسارير وجه الوجاهة وزاد نور الدين دنوي نورًا وملأت صبح دولته ووجه مملكته بما أمليه أسفارًا وسفورًا وتأكدت رغبته وتمهدت محبته وتكررت موهبته.
ولما أراد قصد حلب حل أسد الدين شيركوه قبله بأيام فوصى بي ابن أخيه صلاح اليدن وترك الخيمة المضروبة لي بما فيه من جميع الآلات فاقمت مدة مقامه أرافقه ولا أفارقه حتى مضى نور الدين إلى حلب ونزل في قلعتها في ذروتها ونزلت في مدرسة ابن العجمي وكان الشتاء كالحًا يابسًا ووجه الدهر عابسًا وكنت أتردد إلى صلاح الدين في منزله واسترسل إليه في تفاصيل أملي وجمله واستدعى مني أن اعمل له أبياتًا في الشوق يرصع بها كتبه إلى من يشتاقه ويحبه فمنها ما نظمته له:
وحرمة الود الذي بيننا ... ومالنا من كرم العهد
ما نفضت عهدي لكم جفوة ... ولا أحالت حالة ودي
ولا تغيرت ويأبى الهوى ... ذلك في قرب وفي بعد
1 / 6