كان لبيع الكتب في القصر كل أسبوع يومان، وهي تباع بالمجان وأرخص الأثمان، وخزانتها بالقصر مزينة البيوت مقسمة الرفوف مفهرسة بالمعروف فقيل للأمير بهاء الدين قراقوش متولي مصر، والحال والقاعد للأمر هذه الكتب قد عاث فيها العث وتساوى سمينها والغث، ولا غنى عن تهويتها ونفضها وإخراجها من بيت الخزانة إلى أرضها وهو تركي لا خبرة له بالكتب، ولم يدر أن في نفضها أنفاضهاوإن في تصحيحها أمراضها، وهي مبوبة في مقاصيرها معينة في محاجيزها، مثبتة بخطوطها المنسوبة وإعدادها المحسوبة في دساتيرها.
وكان المقصود دلالي الكتب أن يوكسوها ويخرموها ويعكسوها فأخرجت وهي أكثر من مئة ألف من أماكنها وغربت عن مساكنها وخربت أوكارها وذهبت أنوارها وشتت شملها فاختلط أدبيتها بنحويتها، وشرعيتها بمنطقيتها، وطبيها بهندسيتها، وتواريخها بتفاسيرها ومجاهيلها (١٨٦ب) بمشاهيرها. وكان فيها من كتب الأمصار والتواريخ الكبار ما يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين مجلدا إذا فقد منها جزء لا يخلف أبدا فاختلطت واختبطت فكان الدلال يخرج عشرة عشرة من كل فن كتبا متبرة فتسام بالدون وتباع بالهون. والدلال يعرف كل شدة وما فيها من عدة ويعلم أن عنده من أجناسها وأنواعها وقد شارك غيره في ابتياعها حتى إذ١ ألفى كتابا قد تقوم عليه بعشرة باعه بعد ذلك لنفسه بمائة. فلما رأيت الأمر حضرت القصر واشتريت كما اشتروا ومريت الأطباء كما مروا، واستكثرت من المتاع المبتاع، وحويت نفائس الأنواع ولما عرفت السلطان ما ابتعته وكان بمائتين انعم بها علي ثم وهب لي أيضا من خزانة القصر ما عينت عليها.
ودخلت عليه يوما وبين يديه مجلدات كثيرة انتقيت من القصر وهو ينظر في بعضها فبسط يدي لقبضها وقال لي كنت طلبت عينتها فهل في هذه منها فقلت كلها وما استغنى عنها فأخرجتها من عنده بحمال. وكان هذا منه بالإضافة إلى سماحته أقل نوال وأهنا رفد بغير سؤال.
قال: وكتبت إليه رقعة ذكرت فيها أنني غرمت في طريق مصر ما يقارب ثلثمائة دينار وأنني من تعويض عنه على أمل وانتظار فأمر بطلاق ذلك من بيت المال. وشملني النعام الفاضلى في تحصيله وتعجيله للحال، ورتب لي بمصر وظيفة دارة وميرة بمصالحي بارة، واقطعني من الأنعام ما بقي بعده على الدوام ومرور الأيام مستمرا مضافا إلى ما هو مقرر بالشام فما يزال يتبع الأنعام بالأنعام ويقرن الفرد منه بالقوام، ويعلم أن الدنيا قليلة اللباث كثيرة الأحداث فتناهز فرصه بالاغتنام وادخار حمد الكرام.
ذكر القاضي ضياء الدين القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري
قال: وكانت للقاضي ضياء الدين بالقاهرة دار جميلة، هي دارة بدره ودايره قدره ومجال جماله وفضل أفضاله، وبمصر له منزل هو قطعة من دار الذهب بدار الملك القديم مقيمة على قواعدها المستقيمة، فهو تارة يضيفنا في داره بالقاهرة بمقاريه الباهرة وتارة يقرينا في منزله بمصر بألطافه الظاهرة، ونحن عنده في أرب وجد وسماع وغناء واستمتاع واستغناء.
قال: وعملت في تلك الأيام أبياتا يغنى بها ومنها:
إن لم تجد بالوصل مت بحسرتي ... إن الفراق منيتي يا منيتي
لك ناظر ذو صحة في علة ... ما صحتي إلا لديه وعلتي
كم منة لك في الوصال قوية ... وأراك في البحران تضعف منيتي
ومنها:
قلبي العليل فكيف سوغ ... وصف طرفك بالعليل
وأنا المحب المستهام ... فما لحضرك والنحول
سلبت شمايلك العقول ... فما يراد من الشمول
وسلاف ثغرك ليس يشفي ... غير رشفتها غليلي
ولقد ظميت فسل سبيلا ... نحو ذاك السلسبيل
1 / 48