كنت أقرأ منذ عهد قريب، في ترجمة المستر هازلت، قصة مونتيني لرحلته في إيطاليا، ولم أعجب لشيء قط عجبي لطرز ذلك العصر التي تحترم ذاتها. كان وصوله إلى كل مكان، وصول الرجل المهذب الفرنسي، حدثا له نتائجه؛ فقد كان حيثما حل يقوم بزيارة لأي أمير أو رجل مهذب له وجاهته يقطن في طريقه، كواجب نحو نفسه ونحو المدينة. وعندما يترك بيتا أقام فيه بضعة أسابيع كان يطلب أن تطلى أسلحته وتعلق كعلامة دائمة لهذا البيت، كما كانت عادة الرجال المهذبين.
وإنما تتمم الكرامة هذا الاحترام الجليل للنفس، وهو أشد ما أتطلب وأصر عليه من بين جميع صفات التربية الحسنة. وإني لأحب أن يكون كل كرسي عرشا فوقه ملك، وأوثر الميل إلى العظمة على المبالغة في الزمالة. وليعلمنا الاستقلال ما في الطبيعة من أشياء لا يمكن بلوغها وما لدى الإنسان من عزلة ميتافيزيقية. لا أحب أن يعرف الواحد منا معرفة وثيقة.
وخير للرجل عندي أن يدخل بيته خلال قاعة مليئة بتماثيل الأبطال والقديسين، كي لا تنقصه لمحة من رباطة الجأش واتزان النفس.
يجب أن نلتقي كل صباح كأن كلا منا من بلد أجنبي، وبعدما نقضي نهارنا معا، نفترق في المساء كأن كلا منا راحل إلى بلد غريب. أحب ألا تغزى جزيرة المرء من أية ناحية من النواحي. ولنجلس متباعدين كالآلهة، يتكلم كل منا من فوق قمته، وكلنا حول أولمب. ولا ينبغي أن تضعف هذه السنة أية درجة من درجات المحبة. إنما ذلك هو المر وحصا البان الذي يحفظ غيره حلوا. وعلى العاشق أن يحتفظ بغرابته. فإذا ما بالغ العشاق في التهاون، انزلق كل شيء نحو الاضطراب والوضاعة. ومن اليسير أن ندفع هذه الكرامة إلى حد المجاملات الصينية، بيد أن البرودة وانعدام الحرارة والعجلة كلها من دلائل الصفات الطيبة. إن الرجل المهذب لا يحدث ضجة، والسيدة الكريمة تتصف بالرزانة. إن أولئك الغزاة الذين يملئون البيت المنهمك في العمل بالصياح والعدو كي يظفروا بالقليل التافه من أسباب الراحة إنما يقابلون منا بما يلائم مسلكهم من تأفف. ولست أقل كرها للعطف الشديد الذي يبديه الجار إزاء حاجات جاره. هل لا بد لكل منا أن يدرك ذوق صاحبه تمام الإدراك؟ كما يدرك الغافلون الذين طالت عشرة بعضهم لبعض متى يريد كل منهم السكر أو الملح. وإني لأرجو رفيقي إن أراد خبزا، وإن أراد نبات الغار أو الزرنيخ أن يطلبهما مني، ولا يمد طبقه إلي كأني أعرف من قبل ما يطلب. كل عمل طبيعي يمكن بالتروي والعزلة أن يكون كريما. ولنتخل عن العجلة للعبيد. إن مزايا تربيتنا وقيمتنا، تستدعي عظمة مصيرنا مهما بعد هذا المصير!
إن زهرة المجاملة لا تحتمل كثرة التقليب بين أيدينا. ولكنا إذا جرؤنا على فتح ورقة أخرى واكتشفنا من أي الأجزاء تتألف وجدنا كذلك صفة ذهنية. إن الذهن - كاللحم والقلب - لا بد أن يكون جانبا من جوانب قادة الرجال. والنقص في الآداب هو عادة نقص في دقة الإدراك، والناس في تكوينهم أشد غلظة من رقة السلوك والعادات الجميلة. إن اتحاد الشفقة بالاستقلال لا يكفي التربية الصحيحة تماما. إنما نحن نتطلب حتما إدراكا للجمال في رفاقنا وولاء له. إن الفضائل الأخرى مطلوبة في الحقل وفي ميدان العمل، ولكن درجة معينة من الذوق لا يستغنى عنها عند أولئك الذين يجالسوننا. وإني لأوثر أن أتناول طعامي مع رجل لا يحترم الحق أو القانون على أن أتناوله مع شخص سيئ البزة قبيح الهندام. إن الصفات المعنوية تحكم العالم، ولكن الحواس تستبد بنا في المسافات القصيرة. وإنك لتجد في جميع نواحي الحياة هذا التمييز عينه لكل ما هو لائق وجميل، وإن يكن أقل عنفا وشدة. إن الروح العامة بين أفراد الطبقة الناشطة هي الحس المرهف الذي يتأثر بحدود معينة ويهدف إلى أغراض معينة. وهو يضم كل موهبة طبيعية. ولما كان هذا الحس اجتماعيا في طبيعته فإنه يقدر كل ما يؤدي إلى الوحدة بين الناس، وهو يبتهج للقياس الصحيح. وليس حب الجمال في أساسه سوى حب القياس أو التناسب الصحيح. إن الشخص الذي يصيح، أو الذي يستعمل صيغة المبالغة، أو يتحدث في حرارة، ينفر منه رواد الصالونات جميعا. إن أردت أن تحب أحب القياس الصحيح. وإن أردت أن تخفي عجزك عن القياس الصحيح فلا بد أن تكون نابغا أو ذا نفع عظيم. إن هذا الإدراك إنما يصقل أجزاء الأداة الاجتماعية ويؤدي بها إلى الكمال. إن الجماعة تتسامح كثيرا مع النابغين وأصحاب المواهب الخاصة. ولكن لما كانت بطبيعتها تقليدية فإنها تحب التقليد، أو ما يتعلق بالتضامن. وذلك هو ما يخلق الطيب والخبيث من الآداب، أعني ما يعين على الزمالة أو يعوقها؛ لأن النمط الجديد ليس هو الحس المرهف مطلقا، ولكنه حس نسبي، ليس حسا مرهفا خاصا، ولكنه حس مرهف يدخل في حسابه الرفاق. إنه يمقت الزوايا وصفات الشخصية البارزة، يمقت الأشخاص المشاغبين المحبين لأنفسهم المنعزلين المكتئبين، يمقت كل ما يعوق الامتزاج الشامل بين فريق وآخر، في حين أنه يعتبر كل الصفات التي تتفق والزمالة الصحيحة صفات يانعة إلى أقصى الحدود. وإلى جانب شيوع النكتة في الحديث لتوكيد المجاملة، فإن السناء المباشر يشع من القوى الذهنية أمر يرحب به المجتمع الرقيق ويعده أغلى صفة من صفات سلطانه وامتيازه.
يجب أن يشرق في حفلنا الضوء الجاف لكي يجمله، ولكنه يجب أن يخفف وأن يظلل، وإلا أساء إلينا. الدقة لازمة للجمال، والإدراك السريع لازم للأدب، ولكنه لا ينبغي أن يكون سريعا جدا؛ فالمرء قد يكون مواظبا ودقيقا أكثر مما ينبغي. ويجب عليه عندما يقبل على قصر الجمال أن يتخلى عند مدخله عن العلم التام بالأعمال.
إن المجتمع يحب الطبائع المهجنة، والآداب الناعسة المتراخية، بحيث تنطوي على الإحساس، والجلال، والنية الحسنة: جو القوة المسترخية التي تنزع عن النقد السلاح، وربما كان ذلك؛ لأن مثل هذا الشخص يبدو كأنه يحتفظ بنفسه لخير أدوار المباراة، ولا يبذل ذاته فوق السطوح، إنه كالعين المتغافلة، التي لا ترى أسباب الضيق، والحيل، والقلق، مما يجلب الغم، ويكبت صوت كل امرئ حساس.
ولذا فإن المجتمع - فوق القوة الشخصية وقدر من الإدراك يكفي لخلق الذوق الذي لا يخطئ - يتطلب في الطبقة الأصيلة عنصرا آخر أشرنا إليه من قبل، عنصرا تطلق عليه «الطبيعة الطيبة» وهي تسمية لها دلالتها، وهي تعبر عن كل درجة من درجات الكرم، من أدنى رغبة وقدرة على صنع الجميل، إلى قمم النخوة والمحبة. ولا بد أن تتوفر لدينا البصيرة، وإلا عارض أحدنا الآخر، وضللنا الطريق إلى طعامنا، ولكن الذهن ضحل محب لذاته.
إن سر النجاح في المجتمع إحساس قلبي معين ونوع من العطف. إن الرجل الذي لا يسعد بالرفاق لا يستطيع أن يجد كلمة في ذاكرته تلائم المناسبة. كل ما لديه من معرفة فيه شيء من الفظاظة. أما الرجل الذي يسعد في الجماعة فإنه يجد في كل لون من ألوان الحديث فرصا طيبة متكافئة تقدم لما يريد أن يقول. إن المفضلين في المجتمع ومن يسميهم المجتمع «النفوس الكاملة» رجال قادرون، لديهم من الروح أكثر مما لديهم من الفطنة، تعوزهم الأنانية البغيضة، ولكنهم يملئون الساعة والجماعة تماما، قانعين مقنعين، سواء في زفاف أو مأتم، في مرقص أو محكمة، في رحلة مائية أو مباراة في الصيد. وقد أخرجت إنجلترا، الغنية بالرجال المهذبين، في بداية هذا القرن، مثالا طيبا لهذا النبوغ الذي تحبه الدنيا، وذلك في شخص المستر فوكس، الذي ضم إلى جانب قدراته الفائقة ميلا اجتماعيا شديدا، ومحبة حقيقية للناس. وليس في تاريخ المجالس النيابية أقوال أروع مما جاء في المناقشة التي افترق فيها برك عن فوكس في مجلس العموم، حينما ناشد فوكس صديقه القديم حق الصداقة القديمة في شيء من اللطف استدر دموع النواب جميعا. وهناك حادثة أخرى وثيقة الصلة بموضوعي ولا بد لي أن أخاطر بروايتها: كان هناك تاجر يلح عليه كثيرا في طلب دين له عليه مقداره ثلاثمائة جنيه، وقد ألفاه ذات يوم يعد ذهبا، فطلب إليه أن يدفع الدين، فأجابه فوكس قائلا: «كلا، إني مدين بهذا المال لشريدان، وهو دين وعدت أداءه بكلمة الشرف، فإن وقع لي حادث فلن يجد لدي ما يبرره.» قال الدائن: «إذن فإني أحول ديني إلى دين شريف.» ومزق الصك إربا إربا. فشكر فوكس الرجل على ثقته وأدى له دينه قائلا: «إن دينه قديم، وعلى شريدان أن ينتظر.» وكان يتمتع بسمعة طيبة جدا بين الجماهير، كمحب للحرية، وصديق للهندوس، ونصير لرقيق أفريقيا. وقد قال عنه نابليون بمناسبة زيارته باريس في عام 1805م: «إن مستر فوكس سوف يمثل الصدارة دائما في أي اجتماع بالتويلري.»
ومن اليسير أن نبدو مضحكين في إطرائنا على المجاملة، كلما أصررنا على أن فعل الخير هو أساسها. إن الصورة الوهمية الملونة للطراز الحديث ترتفع لكي تلقي ضربا من ضروب السخرية على ما نقول. ولكني لن أنزل عن شيء من التسامح لاعتبار الطراز العصري أساسا رمزيا، ولن أنزل كذلك عن الاعتقاد بأن المحبة هي أساس المجاملات. يجب علينا أن نحصل على «هذا» إن استطعنا، كما يجب علينا أن نؤكد «ذاك» بأية وسيلة من الوسائل. إن الحياة تدين بالكثير من روحها لهذا التباين الشديد؛ فالطراز العصري الذي يزعم أنه الشرف ليس في أكثر الأحيان في خبرة الناس جميعا سوى قانون صالة الرقص، ولكن ما دام ذلك هو أعلى الدوائر، كما تتصور خير الرءوس في هذا الكوكب، فلا بد أن يكون فيه شيء ضروري وفائق؛ لأننا لا يصح أن نفترض أن الناس قد اتفقوا على أن يكونوا مخدوعين لأي شيء سخيف، والاحترام الذي توحي به هذه الألغاز إلى أشد الشخصيات غلظة وسذاجة، والشغف الذي نقرأ به تفصيلات الحياة الرفيعة، كل ذلك يدل على حب الآداب المهذبة في كل مكان. وأنا أعلم أننا نحس مفارقة مضحكة إذا ولجنا «الدوائر العليا» المعترف بها، وطبقنا هذه المعايير المزعجة، معايير العدالة والجمال والمنفعة، على الأفراد الموجودين هناك فعلا؛ فالملوك والأبطال، والحكماء والعاشقون، هؤلاء ليسوا قوما شهما. للطراز العصري طبقات متعددة وقواعد كثيرة للتمرين والانتساب، وهو لا يضم الأخيار وحدهم. لا يشترط حق الغزو فقط، الذي يزعم النوابغ - وإنما الفرد الذي يظهر أرستقراطيته الطبيعية يكون من خيار الخيار - بل إن هناك صفات أقل من هذه يمكن قبولها في الوقت الحاضر؛ لأن الطراز الحديث يحب الأسد، ويشير - مثل كيرشي الساحرة - إلى رفيقها ذي القرنين. هذا الرجل المهذب وصل هذا المساء من الدنمارك، وهذا سيدي رايد عاد بالأمس من بغداد، وهنا كابتن فريزر من رأس تيرناجين، وكابتن سمز من باطن الأرض، ومسيو جوفير الذي هبط هذا الصباح في بالون، ومستر هبنيل المصلح، والمقدس جول بات الذي آمن على يديه كل أبناء المنطقة الحارة في مدرسة الأحد التي يملكها، وسنيور تور دل جريكو الذي أطفأ نيران فيزوف بمياه خليج نابلي التي صبها فيه، وسافي السفير الفارسي، وتل ول شان، أمير نبول المنفي من بلاده، الذي يعد سرجه الطراز الجديد. غير أن هؤلاء أشخاص يبرزون في يوم، ويردون في غد إلى جحورهم وكهوفهم؛ لأن كل مقعد في هذه الحجرات له من يترقبه. إن الفنان والعالم ومن إلى هؤلاء عامة يصعد إلى هذه الأمكنة، ويمثل هنا، على أساس هذا الغزو إلى حد ما. وثمت طريقة أخرى، وهي أن يمر المرء خلال جميع الدرجات، وينفق عاما ويوما في ميدان سنت ميشيل، مغمورا في مياه كولونيا، معطرا، متناولا عشاءه، ومقدما إلى المجتمع، ومؤسسا تأسيسا صحيحا في سير السيدات وسياستهن ونوادرهن.
Неизвестная страница