وإن من يضع كل قوته في أعمال مناسبة تعود إليه الحكمة - بطبيعة الحال - كأغلى ما تكون. إنني لن أحبس نفسي بعيدا عن دنيا العمل هذه، وأنقل السنديانة إلى آنية الزهر، لتجف فيها وتذبل. ولن أثق فيما تجلبه لي موهبة وحيدة، وأرهق وترا واحدا من أوتار الفكر، فأكون أشبه بأهل سافوي الذين كانوا يحصلون على عيشهم بنحت تماثيل الرعاة والراعيات والهولانديين وهم يدخنون لكل أنحاء أوروبا، فلما قصدوا الجبل ذات يوم للبحث عن الخشب اكتشفوا أنهم قد قطعوا آخر شجرة من أشجار الصنوبر ليحرقوها. لدينا مؤلفون عديدون استنفدوا قدرتهم على الكتابة، ثم دفعتهم حكمة حميدة فأقلعوا إلى بلاد اليونان وفلسطين، أو اقتفوا أثر الصائد في المروج، أو تجولوا حول بلاد الجزائر؛ لكي يزودوا أنفسهم بالبضاعة الرائجة.
لو أن العالم لا يقصد إلا التعابير فإنه لا بد يتشوق إلى العمل؛ فالحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق السنين لو أنفقتها في العمل بالريف، أو بالمدينة، أو في تبصر الحرف والصناعات، أو في الاتصال الخالص بالرجال والنساء، أو في العلم، أو الفن، وذلك لغرض واحد هو إتقان لغة نوضح بها ونصوغ فيها آراءنا في حقائق هذه الأشياء جميعا. وإنني لأعرف في الحال من المتكلم مقدار ما أصاب من معيشة، وذلك من خلال حديثه التافه أو العظيم. إن الحياة تكمن خلفنا كأنها المحجر الذي نحصل منه على الآجر والحجارة لما نشيده اليوم. وبذلك نتعلم قواعد اللغة. أما الكليات والكتب فهي تكتفي بأن تحاكي اللغة التي صنعها الحقل وميدان العمل.
بيد أن قيمة العمل النهائية - شأنها في ذلك شأن قيمة الكتب بل أكثر من قيمة الكتب - هي أن العمل مورد من الموارد. إن القانون العظيم للتراوح في الطبيعة، الذي يتبدى في شهيق الأنفاس وزفيرها، وفي الاشتهاء والاكتفاء، وفي مد البحر وجزره، وفي الليل والنهار، وفي الحرارة والبرودة، ذلك القانون الذي يكون أشد انطباعا في كل ذرة وكل سائل، إنما نعرفه باسم «الاستقطاب»، وهذه «النوبات من الانتقال السهل والانعكاس اليسير» - كما عبر عنها نيوتن - هي قانون الطبيعة، لأنها قانون الروح.
يفكر العقل مرة، ويعمل مرة أخرى، وكل نوبة تبعث الأخرى. عندما يستنفد الفنان أدواته، فلا يصور خياله، وعندما يكف عن فهم الأفكار وتصبح الكتب مملولة، فإن لديه دائما مورد «الحياة». والشخصية أسمى من العقل. التفكير هو الوظيفة، والعيش هو صاحب الوظيفة، والتيار يتراجع إلى منبعه، والروح العظمى تقوى على العيش كما تقوى على التفكير. وهل تنقصها الأداة أو الوسيط لإذاعة ما لديها من حقائق؟ إنها تستطيع أن تركن إلى هذه القوة المبدئية، وهي قوة العيش وفقا لهذه الحقائق. وإن هذا لعمل كلي، في حين أن التفكير عمل جزئي. حينئذ يشرق على الروح جلال العدالة. ويبهج جمال المحبة مأواها، فإن أولئك «البعيدين عن الشهرة» الذين يقطنون ويعملون معها، سوف يحسون قوة بنائها في أعمال يومها وما يمر بها فيه، وذلك خير من أن يقاس هذا البناء بالتظاهر أمام الجمهور تظاهرا مقصودا. إن الوقت سوف يعلم صاحب هذه الروح. إن العالم لا يضيع الساعة التي يحياها كرجل؛ ففي هذه الساعة يكشف عن غرائزه التي تشبه الجواهر المقدسة، ويبعدها عن المؤثرات، وما يفقده في التظاهر يكسبه في القوة. إن أولئك الذين أرهقت نظم التربية ثقافتهم لا يظهر من بينهم ذلك العملاق الذي يعين على هدم القديم وبناء الجديد، وإنما يخرج هذا العملاق من الطبيعة الوحشية التي لم تلوث قط، إنما يخرج ألفرد وشكسبير في النهاية من المحارب النوردي الهمجي المتهور، ومن الكاهن الكلتي في بلاد الغال القديمة وبريطانيا.
ولذا فإني أستمع بسرور إلى كل ما بدأ الناس يذكرون عن كرامة العمل وضرورته لكل مواطن. فلا تزال للفأس والمعول فضيلتهما لأيدي المتعلمين وغير المتعلمين على السواء. مرحبا بالعمل في كل مكان، إننا دائما ندعى إليه، ولكن علينا أن نلاحظ هذا الشرط: وهو أن الرجل لا ينبغي له من أجل اتساع نطاق العمل أن يضحي بأية فكرة في سبيل أحكام العامة وأساليب العمل.
تحدثت الآن عن تربية العالم عن طريق الطبيعة، وعن طريق الكتب، والعمل، وبقي أن أقول شيئا عن واجباته.
إنها الواجبات التي تلائم «الإنسان المفكر»، ويمكن أن تشملها كلها الثقة في النفس. وظيفة العالم هي أن يدخل البهجة في نفوس الناس، ويعلو بهم، ويرشدهم، وذلك بأن يوضح لهم الرشد من الغي. إنه يثابر على القيام بالملاحظة البطيئة التي لا تجلب شرفا ولا مالا. إن فلامستيد وهرشل في مراصدهما البلورية يستطيعان أن يقرآ النجوم بما يسر الناس جميعا، وهذه النتائج العظيمة النافعة تكفل لهما الشرف الرفيع. ولكن العالم في مرصده الخاص، وهو يحسب نجوم العقل البشري المعتمة المظلمة التي لم يفكر فيها قبل اليوم إنسان، وهو يرقب بضع حقائق أياما وشهورا في بعض الأحيان، مصححا سجلاته القديمة، هذا العالم لا بد له من نبذ التظاهر والشهرة المباشرة. وفي خلال فترة استعداده الطويلة لا بد له غالبا من أن يفضح جهلا وجمودا في الفنون الشعبية، فيجلب على نفسه ازدراء القادرين الذين ينحونه جانبا. ولا بد له من التعثر طويلا في كلامه، وكثيرا ما يهجر الأحياء إلى الأموات. وأسوأ من هذا، أنه لا مناص له من قبول الفقر والعزلة، وما أكثر ما يفعل ذلك! وإنه ليستعيض عن السهولة والمتعة في طرق الطريق القديم، وقبول الطراز السائد وما تتبعه الجماعة في التربية والدين، يستعيض عن ذلك بما ينشئه لنفسه، وإنه ليصبح من أجل ذلك هدفا بطبيعة الحال لاتهام النفس وضعف القلب، والشك في قيمة الوقت وضياعه في كثير من الأحيان، وهي أمور كالحشائش والكروم المعقدة تعترض سبيل الاعتماد على النفس والتوجيه الذاتي، كما يستهدف لخصومة حقيقية يبدو فيها عدو المجتمع وبخاصة المتعلمون منه. وماذا يقابل كل هذا الخسران والازدراء؟ إنه يجد عزاءه في ممارسة أعلى وظائف الطبيعة البشرية. إنه رجل يسمو بنفسه عن الاعتبارات الخاصة ويتنفس ويعيش على الآراء المشرقة العامة. هو عين العالم، وقلبه. إنه يقاوم الرفاهية الدنيئة التي تعود بنا دائما نحو البربرية، وذلك بنقله مشاعر البطولة والسير النبيلة، وعذب الشعر، وعبر التاريخ، وكل حكمة عبر عنها قلب الإنسان في كل ظرف طارئ وكل ساعة رهيبة، تعليقا على عالم الأعمال، كل حكمة من هذا القبيل يتلقاها العالم ويعلمها غيره، وكل حكم جديد ينطق به العقل من كرسيه الحصين على ما يمر اليوم من رجال وأحداث، كل حكم من هذا القبيل يصغى إليه ويصوره.
ولما كانت هذه هي وظائف العالم، فجدير به أن يستشعر كل الثقة في نفسه، وألا يذعن أبدا لصوت الجماهير؛ فهو وحده الذي يعرف العالم. والعالم في أية لحظة من اللحظات ليس إلا مظهرا. والعمل الذي يكون له بريق، أو الحكومة التي يقدسها الشعب على غير أساس، أو الصناعة الزائلة، أو الحرب، أو الإنسان، هذه أمور قد يؤيدها نصف البشر وقد يعترض عليها النصف الآخر، كأن كل شيء يتوقف على هذا التأييد أو ذاك الاعتراض. والأرجح أن الموضوع كله لا يستحق أدنى تفكير ينفقه العالم في الإصغاء إلى الجدل. وعلى العالم ألا يتخلى عن عقيدته في أن البندقية الفارغة لا تعدو أن تكون بندقية فارغة، حتى إن أكد لنا القدامى والأشراف في هذه الأرض أنها تنطلق فتقضي على الدنيا. ليثق العالم في نفسه، في صمت وثبات وتجرد مطلق، وليضم ملاحظة إلى أخرى، صبورا على إهمال الناس له، وعلى لومهم إياه، ويترقب الوقت لنفسه، ويكفيه سعادة أنه يستطيع أن يقنع نفسه وحده أنه في هذا اليوم قد شاهد شيئا ما على حقيقته. وإن النجاح ليحدو خطوة صحيحة؛ لأن الغريزة التي تدفعه إلى أن يخبر أخاه بما يرى غريزة صادقة، وسوف يدرك بعد ذلك أنه حينما يغوص في أسرار عقله إنما يهبط إلى أسرار العقول جميعا. وإنه حينما يتحكم في أي قانون من قوانين فكره الخاص، إنما يتحكم في جميع الناس الذين يتحدث بلغتهم، وفي جميع من يتكلمون لغة يمكن أن تترجم إليها لغته؛ فالشاعر الذي يذكر في عزلته التامة أفكاره التلقائية فيدونها، إنما يدون ما يجده الناس في المدائن المزدحمة حقا لديهم كذلك. والخطيب يرتاب أول الأمر في صلاحية اعترافاته الصريحة، وفي نقص علمه بالأشخاص الذين يخطبهم، حتى يجد أنه متمم لسامعيه، وأنهم يستقون من كلماته لأنه يعبر عن طبيعتهم نيابة عنهم. وكلما اشتد غوصه في خوالجه الخاصة الدفينة يشتد عجبه حينما يجد أن ذلك هو أشد الأمور قبولا، وأكثرها شيوعا، وأصدقها عند الناس أجمعين؛ فالناس يسرون منها، ويشعر الجانب الطيب في كل إنسان أن هذه هي موسيقاه وتلك هي نفسه.
وتشتمل الثقة في النفس على جميع الفضائل؛ فالعالم يجب أن يكون حرا وجريئا. يجب أن يكون حرا على حد تعريف الحرية «دون عائق لا يصدر عن نفسه»، وجريئا لأن الخوف شيء يخلفه العالم وراءه بحكم وظيفته؛ لأن الخوف دائما ينشأ عن الجهل. وعار عليه إذا كان هدوءه، في الأوقات العصيبة، ناشئا عن افتراضه أنه من الطبقات المحمية، كالأطفال والنساء، أو إذا كان يبحث عن السلام المؤقت بتحويل أفكاره من السياسة أو الموضوعات الشائكة، مخفيا رأسه كالنعامة في الشجيرات المثمرة، ناظرا في مناظيره المكبرة، أو ناظما للشعر، كما يصفر الطفل لكي يحتفظ بشجاعته. فالخطر لا يزال هو الخطر، والخوف أسوأ. وإنما يجب عليه أن يلتفت إليه ويجابهه كما يفعل الرجال. وليحدق في عين الخطر ويبحث عن طبيعته، ويفحص أصله - ويرى منبت هذا الأسد - الذي لا يبعد وراءه كثيرا. سوف يجد في نفسه حينئذ إدراكا كاملا لطبيعته ومداه، ولسوف تلتقي يداه في الناحية الأخرى. ومن ثم يستطيع أن يتحداه ويمر به في استعلاء. إنما الدنيا لمن يستطيع أن يخترق مزاعمها بالنظر. وما ترى من صمم ومن عادة عمياء ومن خطأ متفاقم إنما مرده إلى رضا المرء باحتماله، فإن نظرت إلى ذلك على أنه أكذوبة، فقد قضيت عليه بضربة لازب.
أجل، إنما نحن الأذلاء، نحن الذين لا نثق في أنفسنا، وإنها لفكرة شريرة تلك التي تزعم أننا قد قدمنا إلى الطبيعة متأخرين، وأن العالم قد تم منذ زمان بعيد. وكما أن الدنيا كانت مرنة سائلة في أيدي الله، فهي كذلك دائمة في كثير من الصفات التي نجلبها لها، إنها كحجر الصوان عند الجاهلين والخاطئين، فأولئك ينصاعون لها ما أمكنهم ذلك، ولكن بمقدار ما في المرء من قداسة يخضع الكون له، ويتخذ طابعه وصورته. وليس عظيما من يستطيع أن يغير المادة، وإنما العظيم من يستطيع أن يغير حالتي العقلية: إنما عظماء العالم هم الذين يضفون لون تفكيرهم الراهن على الطبيعة كلها وعلى الفن كله، ويحملون الناس بمعالجتهم الأمر في جد وانشراح على أن هذا الذي يعملون هو بمثابة التفاحة التي كانت العصور الماضية تتوق إلى قطفها، والآن تم نضجها، وهي تدعو الأمم إلى جنيها؛ فالرجل العظيم هو من يحقق الأمر العظيم. فأينما يجلس «ماكدونالد» يكون رأس المائدة. ولقد جعل «لناوس» علم النبات أكثر الدراسات تشويقا، واكتسب ذلك من الفلاح والمرأة التي تجمع العشب، وكذلك فعل «ديفي» بالكيمياء، و«كوفير» بالحفريات. إنما يكسب اليوم من يعمل فيه بجد ولأغراض سامية، ويظفر بتقدير الناس - الذي لا يستقر على حال - من امتلأ عقله بالصدق، ويتراكم له التقدير كما تتراكم أمواج الأطلانطي في إثر القمر.
Неизвестная страница