Море, закат и другие рассказы: Избранные рассказы Юкио Мисимы
البحر والغروب وقصص أخرى: مختارات قصصية ليوكيو ميشيما
Жанры
مقدمة
حب راهب معبد شيغا
فتى يكتب الشعر
البحر والغروب
ورق جرائد
الخوف على الوطن
التاجر
عمر التاسعة عشرة
إلهة الجمال
قبلة
Неизвестная страница
يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما1
يوكيو ميشيما وأزهار الكرز
مقدمة
حب راهب معبد شيغا
فتى يكتب الشعر
البحر والغروب
ورق جرائد
الخوف على الوطن
التاجر
عمر التاسعة عشرة
Неизвестная страница
إلهة الجمال
قبلة
يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما1
يوكيو ميشيما وأزهار الكرز
البحر والغروب وقصص أخرى
البحر والغروب وقصص أخرى
مختارات قصصية ليوكيو ميشيما
جمع وترجمة
ميسرة عفيفي
مقدمة
Неизвестная страница
لقد ابتعدت بالفعل كثيرا عن كتابة القصص القصيرة، حتى إنني أشعر بالحرج من مجرد تقديم مجموعة قصص قصيرة لي. ولكن ذلك الابتعاد لم يكن بسبب اتباعي لتيار عصر الصحافة الحالي الذي يقال عنه إنه يمثل مرحلة اضمحلال القصة القصيرة؛ فقمت بالإقلال من تأليف القصص القصيرة، وكأن الأمر مثل عملية تقليل الإنتاج في مصنع للغزل. ولكن الذي حدث أن قلبي ابتعد بشكل طبيعي عن تأليف القصص القصيرة. أما عن فترة شبابي وفتوتي فقد خصصتها لتأليف الشعر والقصص القصيرة، والتعبير فيهما عن أفراحي وأحزاني. فأعتقد أنه مع التقدم في العمر، أني تحولت من كتابة الشعر إلى كتابة المسرحيات، ومن القصص القصيرة إلى الروايات. وكلاهما، المسرحيات والروايات، يحتاج إلى جهد كبير لإنتاج أعمال أعمق بنية، تحتوي على عدد أكبر من الكلمات، وهو عمل يحتاج كذلك إلى صبر أطول وقوة تحمل أكبر. وليس أدل على هذا من أنني كنت أرغم نفسي على ذلك. ويوضح ذلك أنني أصبحت أحتاج إلى التحفيز والتوتر اللازمين لإنتاج الأعمال الضخمة والأكثر شمولية.
وأنا أعتقد أن لهذا الأمر علاقة بتحول أفكاري من شكل الأمثال والحكم القصيرة إلى شكل الأفكار البنائية المتكاملة؛ فعند التطرق إلى فكرة ما واحدة أصبحت أكثر ميلا إلى الاستطراد فيها وإعطائها وقتا أطول، ثم السير معها بتأن وروية؛ من أجل إقناع القارئ بها، وأصبحت أتلافى أكثر وأكثر قول الأمثال والإبيجرامات. ربما لو قلت إنه النضوج الفكري لكان لهذا التعبير رونق وجمال، ولكن الأمر عبارة عن توافق تقدم العمر مع اضمحلال تدفق الأفكار السريع المتوالي في خفة وانسيابية، وإن كان المرء متعجلا؛ أي إنه يمكنني القول إنني تحولت من فارس خفيف التسليح في سلاح الفرسان إلى فارس ثقيل التسليح.
حسنا، القصص التي تحتويها هذه المجموعة هي بالتالي أعمال من المرحلة التي كنت فيها فارسا خفيف التسليح، لكن الأمر ليس بهذا الإطلاق ولا بذلك التعميم؛ فهناك أعمال تنتمي فعلا إلى مرحلة الفارس الخفيف بشكل صرف، وهناك كذلك أعمال تنتمي إلى مرحلة التحول إلى فارس ثقيل التسليح، وتتضمن داخلها ذلك بشكل مثقل ومتعب، وقد كتبت خصيصا من أجل التدريب على ذلك.
إذا نظرنا نظرة خاطفة إلى قصص «فتى يكتب الشعر»، و«البحر والغروب»، و«الخوف على الوطن»، فستبدو لنا القصص الثلاث، وكأنها في نطاق الحكايات البسيطة السهلة. ولكن تلك القصص تحتوي ضمنا على أكثر القضايا إلحاحا بالنسبة لي. بالطبع من حق القارئ أن يستمتع بها كحكايات بسيطة وسهلة، بدون أي اعتبار لتلك القضايا، (لقد اعترفت لي بالفعل مالكة بار شهير في حي غينزا أنها قرأت قصة «الخوف على الوطن» كقصة غرامية خليعة، وأنها لم تستطع النوم ليلتها بسببها) ولكن هذه القصص الثلاث كان من المحتم علي ككاتب أن أكتبها بأي شكل كان. فقصة «فتى يكتب الشعر» تحكي عن العلاقة في فترة شبابي، بيني وبين الكلمات (الأفكار)، وتحكي عن نقطة انطلاقي في عالم الأدب، وتكويني النرجسي والقدري في الوقت ذاته. في هذه القصة يظهر فتى ذو مشاعر باردة يملك عينا ناقدة. لكن لهذا الفتى ثقة بالنفس لا يعلم هو ذاته من أين جاءت، بل وهو هنا يختلس النظر إلى جحيم لم يسبق له شخصيا أن فتح بابه من قبل. إنها سعادة «الشعر» التي تجتاح هذا الفتى، ثم تقوده في نهاية الأمر إلى خلاصة أنه لم يكن شاعرا من الأساس. ولكن هذا الفشل المفاجئ يصدم الفتى، ويقوده إلى «مكان لا يتذوق فيه طعم السعادة وإلى الأبد مرة أخرى».
أما قصة «البحر والغروب» فتحكي عن أعجوبة عدم حدوث المعجزة رغم الإيمان الكامل بحدوثها، لا بل أعتقد أنني حاولت تلخيص موضوعها، وتركيزه في أنها أعجوبة تتفوق على أعجوبة حدوث المعجزة نفسها. هذه القضية أعتقد أنها قضيتي المحورية التي واصلت حملها على عاتقي عمري كله. أعتقد أن الناس ستتذكر على الفور اليأس الأكثر رعبا، ذا المذاق الشاعري الذي قيل وقت الحرب العالمية الثانية في شرق آسيا: «لماذا لا تهب رياح الآلهة؟» إن سؤال «لماذا لا يأتي العون من الإله؟» هو السؤال المحوري النهائي والحاسم بالنسبة لمن يؤمن بالإله، ولكن قصة «البحر والغروب» ليست مجرد تجسيد أسطوري لتجربتي مع الحرب كما هي، ولكن على العكس من ذلك؛ فأنا أعتقد أن تجربة الحرب هي أكثر الأشياء التي أوضحت لي مشاكلي وعيوبي الذاتية، تمني المعجزة الذي يتلخص في قول «لماذا لم ينشق البحر وقتها إلى نصفين؟» كان بالنسبة لي أمرا لا يمكن تلافيه، وفي نفس الوقت، من المفروض أنني قد وعيت بوضوح، وفي الواقع منذ كنت في عمر قصة «فتى يكتب الشعر»، أن ذلك مستحيل الحدوث.
أما قصة «الخوف على الوطن»، فهي ببساطة عبارة عن سيرة خيالية لحادثة 26 فبراير،
1
إن ما تم رسمه هنا من مشاهد الحرب والموت، وتأثير التعاون والاندماج الكامل بين الإيروتيكا والولاء للحق، ربما يمكن القول إنها السعادة الوحيدة التي أنتظرها أنا من هذه الحياة. ولكن الأمر المحزن في النهاية أن هذه السعادة لا يمكن وقوعها إلا على الورق فقط. إذن لو كان الأمر كذلك فربما يجب علي، ككاتب، الرضا والاكتفاء بقدرتي على الانتهاء من كتابة قصة «الخوف على الوطن». لقد سبق لي أن كتبت في الماضي: «إذا كان هناك شخص ما ليس لديه متسع من الوقت، ويريد قراءة قصة واحدة فقط من قصص ميشيما ورواياته، تكون بمثابة خلاصة تكثف أدب ميشيما كله بحلوه ومره، فمن الأفضل له قراءة قصة الخوف على الوطن؛ فإنها تكفيه.» وشعوري هذا لم يتغير حتى الآن.
حسنا، هناك كذلك حالات يميل فيها ذوقي إلى الاعتماد تماما على الإبداع الفكري الصرف في شكل موقف فكاهي سريع. هذه الأعمال لا يوجد لها موضوع يمكن أن نصفه بأنه موضوع، بل تكون كالسهم الذي تم سحبه لتوجيهه إلى هدف وتأثير محدد؛ إذ تحتفظ القصة بسمة التوتر في كل ركن من أركانها، ويكون الهدف هو «لا وعي» القارئ. فإذا أصابت الهدف تكون «متعة له»، وتكون القصة بمثابة التوتر الفكري الذي يتذوقه لاعب الشطرنج من المعركة؛ إذ يكفيه تشكيل معركة ليس لها أي معنى محدد. وقد اخترت من بين القصص التي كتبت بهذا القصد قصص «ورق جرائد»، و«في سن التاسعة عشر»، و«التاجر»، و«إلهة الجمال»؛ لأنها الأعمال الأجود نسبيا في ذلك الإطار.
يوكيو ميشيما
Неизвестная страница
سبتمبر 1968م
حب راهب معبد شيغا
1
أعتقد أنه لا مفر من أن أتقبل أي لوم أو عتاب بسبب كتابة هذه الحكاية دون إعداد، ودون بذل أي جهد في البحث التاريخي حولها. الشيء الوحيد الذي اعتمدت عليه حتى الآن، هو الوصف الأسطوري المذكور في المجلد السابع والثلاثين من كتاب «تايهيه كي» الأدبي المكتوب في القرن الرابع عشر، وفيه كما يعلم الجميع، مجرد ذكر سريع مختصر لحب راهب معبد شيغا في بلادنا، مقارنة بحادثة «العجوز إيكاكو سن نين» في الهند.
أنا في الواقع كنت أهتم بهذه الحقيقة النفسية البسيطة أكثر من اهتمامي بأحداث ذلك الحب الذي له طبيعته الخاصة. القصة هنا تتعلق بصراع الحب مع الإيمان. هناك الكثير من أمثلة ذلك الصراع في الغرب، ولكنه موضوع نادر في اليابان؛ إذ تتدخل قضية الحياة الآخرة بوضوح في سبب الحب، ليس فقط بالنسبة للراهب، بل كذلك في داخل قلب المرأة المحبوبة، يوجد صراع على احتلال ذلك القلب بين الحياة الآخرة وهذه الدنيا. وإذا تحدثنا بمبالغة في القول؛ فقد تصل عاقبة ذلك الحب إلى حد انهيار البناء الفكري الذي يحمله كلاهما عن العالم. في تلك اللحظة المحورية، تتأسس معالم قصة هذا الحب. في الواقع كانت عقيدة «الأرض الطاهرة»، التي ازدهرت منذ منتصف عصر هييآن،
1
اكتشافا عملاقا لعالم الفكر أكثر منها عقيدة دينية على وجه التحديد.
إن المتع العشر، كما يراها الراهب الكبير إيشين في كتابه «أساسيات الخلاص»، لا تعدو أن تكون قطرة في محيط، مقارنة بمباهج الأرض الطاهرة. والمتع العشر هي: متعة استقبال بوذا، ومتعة تفتح زهرة اللوتس للمرة الأولى، ومتعة الحصول على قدرات إلهية خارقة، ومتعة الحصول على الحواس الخمس مع الجمال الفائق، ومتعة الحصول على متع لانهائية، ومتعة مصاحبة الأهل والأقرباء في النعيم، ومتعة الوجود الدائم مع بوذا، ومتعة مقابلة بوذا والاستماع إلى وعظه، ومتعة تقديم العطايا إلى أشكال بوذا المختلفة بشكل كامل ومتكامل، وأخيرا متعة التقدم في طريق الاستنارة والإشراق، تلك هي المتع العشر.
أما الأرض الطاهرة ففيها جعلت الأرضية من اللازورد، وطرق الأرض الطاهرة مصنوعة من شبكة أحبالها من الذهب. وسطح الأرضية لانهائي ومستو في كل مكان منه، ويوجد داخل كل حرم مقدس، خمسون مليار برج عال مصنوع من الجواهر السبعة: الذهب والفضة واللازورد والبلور والمرجان والعقيق واللؤلؤ. وتمتد أقمشة مدهشة على جميع المنصات المرصعة بالجواهر. وفوق الأبراج العالية عدد وفير من الملائكة على الدوام يعزفون الموسيقى، ويغنون أناشيد مقدسة تعظم بوذا. كما توجد بحيرات للاغتسال في الحدائق التي تحيط بالقاعات والأديرة والقصور والأبراج، وتنتشر في قاع البحيرة الذهبية رمال فضية، وتتناثر في قاع بحيرة اللازورد رمال بلورية، فضلا عن أن البحيرات تغطيها نباتات اللوتس التي تتألق مشعة في ألوان متنوعة. مع هبوب النسيم على سطح الماء، تتحرك أشعة الأضواء الرائعة منتشرة في جميع الاتجاهات. يمتلأ الهواء ليلا ونهارا بأغاني طيور البط، والإوز، وبط الماندرين، والكركي، والطاووس، والببغاء، والكالافينكاس (طائر له وجه امرأة جميلة ذو صوت رخيم). كل هذا وغيره مئات من الطيور المرصعة بالجواهر، تغني بأصوات رقيقة ملحنة في مدح بوذا. ولكن بالطبع مهما كانت رقة الأصوات؛ فإن تجمع تلك التشكيلة من الطيور بهذا العدد اللانهائي، لا بد أن يجعلها في منتهى الإزعاج.
تصطف بساتين من أشجار للجواهر على حدود البحيرة وضفاف الأنهار. وتنعكس الجذوع الذهبية والفروع الفضية والزهور المرجانية على صفحة الماء اللامعة. وتتأرجح في الجو أحبال من الجواهر، وتلك الأحبال معلق بها كثير من أجراس من الجواهر، ويسمع كتاب بوذا المقدس، وآلات موسيقية عجيبة تعزف بمفردها دون أن يمسها مخلوق، وتسمع بعيدا في الفراغ الهائل.
Неизвестная страница
وإذا شعر المرء برغبة في أكل شيء ما، تظهر أمام عينه تلقائيا طاولة مرصعة بالجواهر السبعة، ومجهزة بأوان مرصعة بالجواهر السبعة وممتلئة عن آخرها بما لذ وطاب من الأطعمة الشهية النادرة. ولكن ليست هناك حاجة لالتقاط هذه الأطعمة وأكلها. فبمجرد النظر إلى ألوانها والاستمتاع برائحتها، تمتلئ المعدة ويتغذى الجسم، في حين يبقى الشخص نقيا؛ روحا وجسدا. وعندما تنتهي الوجبة، بدون تناول أي طعام، تختفي الأواني والطاولة فجأة.
وبالمثل، فإن الجسد يرتدي الملابس تلقائيا، دون أي حاجة لحياكة أو غسيل أو صباغة. المصابيح أيضا، غير ضرورية؛ فالأشعة المضيئة منتشرة في كل مكان. لا حاجة للتدفئة ولا للتبريد؛ فدرجة الحرارة معتدلة على مدار العام. وتعطر الجو روائح جميلة بأنواع جمة، وتتساقط أوراق زهرة اللوتس بلا انقطاع.
بالإضافة إلى ذلك يشرح كتاب «أساسيات الخلاص» في فصل بوابة المراقبة، أن المبتدئين في المشاهدة والتأمل لا يمكن لهم التوغل عميقا؛ ولذا يجب عليهم أن يركزوا كل جهودهم أولا في إيقاظ الخيال الخارجي، وبعد ذلك، في توسيع مداركه إلى ما لا نهاية. إن أقصر الطرق من أجل رؤية بوذا، هو الهروب من نطاق حياتنا الدنيوية بواسطة قوة الخيال، فإذا كنا نتمتع بمخيلة جامحة؛ يمكننا إذن أن نركز اهتمامنا على زهرة لوتس واحدة، ومنها ننتشر إلى آفاق لا نهائية.
فعن طريق الملاحظة المجهرية والتقديرات الفلكية يمكن لزهرة اللوتس أن تصبح أساس نظرية كاملة للكون، وتصبح عاملا من الممكن من خلاله رؤية الحقيقة. أولا إن كل ورقة من أوراق الزهرة لها أربعة وثمانون ألف وريد، وكل وريد يخرج أربعة وثمانين ضوءا. وعلاوة على ذلك، يبلغ قطر الزهرة، حتى الأصغر منها، مائتين وخمسين يوجانا.
2
وبهذا، إذا التزمنا التفسير الذي يقول إن مسافة اليوجانا التي نقرؤها في الكتابات المقدسة تساوي مائة وعشرين كيلومترا لكل منها، نستنتج أن أصغر زهرة لوتس يبلغ قطرها ثلاثين ألف كيلومتر.
مثل تلك الزهرة لها أربع وثمانون ورقة، وبين كل ورقة وأخرى توجد عشرة مليارات جوهرة، كل جوهرة تشع ألف ضوء. وفوق كأس الزهرة المزين بجمال تعلو الزهرة أربعة أعمدة مرصعة بالجواهر، وكل من هذه الأعمدة يبلغ مائة ألف تريليون مرة أكبر من حجم جبل سوميرو وتتدلى من الأعمدة ستائر كبيرة، وتزين كل ستارة بخمسين مليار جوهرة، وكل جوهرة تشع أربعة وثمانين ألف ضوء، وكل ضوء يتكون من أربعة وثمانين ألف لون ذهبي مختلف عن الآخر، وكل لون من تلك الألوان الذهبية بدوره له القدرة على تحوير نفسه بشكل مختلف.
إن التركيز في تلك الأفكار يعرف باسم «التفكير في مقعد اللوتس»، والعالم الفكري الذي يمتد في خلفية قصة الحب التالية هو عالم واسع الآفاق والرحاب إلى هذه الدرجة.
2
كان الراهب العظيم لمعبد شيغا، راهبا رفيع الأخلاق حسن المناقب.
Неизвестная страница
كانت حواجباه أبيضين، وجسده الذي بلغ به الكبر مداه، لا يستطيع أن يحمله إلا بالاعتماد على عصاه.
كانت هذه الدنيا لا تمثل في نظر هذا العالم الزاهد إلا مجرد كومة من القمامة. إن شتلة الصنوبر الصغيرة التي كان قد زرعها بيديه قبل الانتقال للعيش في صومعته الحالية، قد نمت لتصبح شجرة عالية، حتى إن أطرافها الضخمة في السماء تناوش الرياح. ويعتقد أن من نجح في ترك هذه الدنيا لهذا الوقت الطويل ربما يكون قد تولد لديه إحساس بالأمان المطلق منها.
كان الراهب العظيم عندما يرى الأغنياء والنبلاء، يبتسم في شفقة ويتساءل: كيف لهؤلاء الناس ألا يدركوا أن ملذاتهم هي أحلام فارغة؟ وإذا قابل امرأة جميلة كان رد فعله، فقط، الشفقة على من هم في عالم الحيرة المتقلب مكبلين بالهوى.
منذ تلك اللحظة التي أصبح فيها لا يحمل أي مشاعر توحد، ولو قليلة، مع الدوافع التي تحرك هذه الدنيا، أصبحت الدنيا بالنسبة له في حالة توقف تام. في نظر الراهب العظيم لا يظهر العالم إلا مجرد صورة متوقفة على قطعة من الورق، مجرد ورقة تظهر خريطة لدولة ما غريبة. حالة الزهد الكاملة تلك والبعد عن الشهوات تجعلك تنسى حتى حالة الخوف، ولا تفهم لماذا ينبغي لجهنم أن توجد، كانت هذه الدنيا ضعيفة ضعفا واضحا أمامه؛ ولكن لأنه لم يكن أبدا ذلك الشخص المغرور، فلم يكن يخطر له على بال أن ذلك بسبب أخلاقه الرفيعة.
كان الراهب قد فقد جسده على الأغلب، كان يشعر بسعادة عندما يتأمل جسده أثناء الاستحمام مثلا، وقد أصبح عبارة عن عظام بارزة يغطيها جلد بالغ الذبول. إذا وصل الجسد إلى هذه الحالة؛ فيمكن وقتئذ التصالح معه كما لو كان جسد شخص آخر. ويعتقد أن طعام وشراب الأرض الطاهرة أصبح بالفعل أكثر ملائمة لذلك الجسد.
إذا تكلمنا عن أحلامه في كل ليلة، فهو لم يعد يرى في أحلامه إلا الأرض الطاهرة، وعندما يستيقظ ويعلم أنه لا يزال مقيدا ومكبلا في أحلامه البائسة الفانية، وأنه ما زال يعيش في هذه الدنيا، فإنه يأسى ويحزن.
بحلول الربيع، وموسم مشاهدة أزهار الكرز، يأتي عدد كبير من الناس من العاصمة لزيارة قرية شيغا، إلا أن ذلك لم يزعج الراهب مطلقا؛ لأنه أصبح في حالة روحية لا يمكن أن تضطرب أو تهتز بسبب هؤلاء الزوار. خرج الراهب من كوخه متكئا على عصاه، وذهب إلى ضفاف البحيرة. في تلك اللحظة من الوقت بدأت أشعة شمس الغروب تتسلل أخيرا بعد عصر اليوم، وكانت موجات البحيرة هادئة تماما. وقف الراهب بمفرده على حافة البحيرة، وبدأ أداء طقس تأمل المياه.
في تلك اللحظة جاءت عربة بجوار شاطئ البحيرة تنتمي بوضوح لشخص نبيل من ذوي المنزلة العالية، وتوقفت على مقربة من مكان الراهب الواقف. صاحبة العربة كانت محظية جلالة الإمبراطور. كانت المحظية قد أتت لمشاهدة مناظر بلدة شيغا في فصل الربيع، والآن قد أوقفت العربة في طريق عودتها، ورفعت ستائر النافذة من أجل إلقاء نظرة وداع أخيرة على البحيرة.
دون قصد نظر الراهب في اتجاهها، وعلى الفور جذبه ذلك الجمال. تلاقت عيناه بعينيها لفترة، ولم يحاول الراهب إبعاد نظره عنها؛ ولذا أصرت المحظية على ألا تبعد نظرها بعيدا عنه. لم تكن بتلك الروح المتسامحة؛ لكي ترضى بتلك النظرات الوقحة؛ ولكن لأن الطرف الآخر كان راهبا عجوزا قد بلغ منتهى الزهد والتعفف؛ فلقد ظلت لفترة تتشكك في معنى ذلك التحديق.
وفجأة أرخت المحظية ستائر النافذة، وبدأت العربة في التحرك، وأخذت تبتعد في اتجاه الطريق التي تمر عبر سفوح الجبال في شيغا واصلة إلى العاصمة. على الأغلب ستدخل العربة العاصمة في الليل بعد المرور بطريق «المعبد الفضي». ظل الراهب العظيم واقفا مكانه ينظر إلى العربة حتى اختفت ظلالها خلف الأشجار البعيدة.
Неизвестная страница
لقد انتقمت الدنيا في طرفة عين من الراهب العظيم بقوة مرعبة. إن من كان يظن أنه آمن تماما قد انهار وصار أطلالا.
عاد إلى صومعته وواجه تمثال بوذا الرئيس، وحاول التضرع بأسمائه المقدسة. لكن أعاقته أفكار خيالية وهمية تقف بظلالها الغامضة أمامه. كان يحاول إقناع نفسه أن ذلك الجمال هو هيئة مؤقتة، ظاهرة لحظية للجسد الفاني بلا شك، ولكن تلك القوة اللحظية التي خطفت قلب الراهب العظيم بذلك الجمال الذي لا يمكن التعبير عنه، جعلته يعتقد أنها قوة ما رهيبة ونادرة وأبدية. ومن جهة أخرى لم يكن الراهب العظيم شابا بأي معنى من المعاني، لكي يقنع نفسه أن هذا الانبهار هو مجرد خدعة قد لعبها عليه الجسد؛ فالجسد لا يمكن أن يتغير في لحظة واحدة بهذا الشكل. إذن فالأمر المنطقي هو الاعتقاد أنه سقي سما غريبا بسرعة رهيبة، سما غير طبيعة الروح في هذه اللحظة الخاطفة.
لم يقترف الراهب العظيم إثم اقتراب النساء قط، وكان صراعه في شبابه مع ذلك، جعله على العكس لا يرى في المرأة إلا وجودا جسديا فقط. كان الجسد النقي الحقيقي، هو الجسد الموجود في خياله فقط. نتيجة لذلك اعتمد الراهب العظيم على قوته الروحية من أجل أن يخضع الجسد الذي ليس إلا وجودا فكريا مجردا. في هذا الجهد حقق الراهب نجاحا، ولا يوجد شخص واحد ممن يعرفون أفعاله حتى الآن يشك في ذلك النجاح.
ولكن وجه المرأة الذي بدا من نافذة العربة ناظرا تجاه البحيرة كان ذا وجود في غاية التناغم والتألق المشع، ولم يكن الراهب يعرف ماذا يمكن أن يسميه. لم يكن أمامه إلا الاعتقاد أن شيئا ما ظل مختفيا بداخله لفترة طويلة خادعا إياه، قد ظهر له لكي يحقق تلك اللحظة النادرة ويجليها، ولم يكن هذا الشيء إلا هذه الدنيا ولا غير، تلك التي كانت ساكنة متوقفة فوق لوحة الورق قد قامت فجأة وبدأت في التحرك.
الأمر يشبه وكأنه، مثلا، يقف على طريق كبيرة في العاصمة تروح فيها العربات وتجيء، وقد غطى أذنيه الاثنتين بيديه، وفجأة يرفع يديه من على أذنيه؛ ففي التو والحال تختلط الأصوات وتمتزج، محدثة ضوضاء حوله.
لمس متغيرات هذه الدنيا وسماع أصواتها، يعني أنك قد دخلت في دائرة تلك الدنيا. الشخص الذي قطع علاقاته تماما بكل شيء وأي شيء، عاد وقد أصبح له علاقة مرة أخرى بأحد أشياء هذه الدنيا.
حتى عندما يقرأ الراهب العظيم في كتاب السوترا المقدس، كان في مرات عديدة يطلق تنهدات بائسة لا يقدر على كتمانها. كان يعتقد أن الطبيعة ربما تلهي قلبه، فكان يتأمل السحب في الجبال وقت الغروب، ولكن قلبه كان فقط يضطرب في حيرة واندفاع مثله مثل السحاب. وعندما يشاهد الهلال، كانت مشاعره مائلة بنفس اتجاه الهلال، وحتى عندما يتجه أمام تمثال بوذا الرئيس محاولا تنقية قلبه، يجد أن أوهامه قد صورت له وبدا وكأنه وجه المحظية. كان عالمه قد سجن داخل حدود دائرة صغيرة. كان الراهب العظيم يوجد في جانب من الدائرة، وكانت محظية الإمبراطور توجد في الجانب الآخر.
3
سرعان ما نسيت محظية الإمبراطور أمر الراهب العجوز الذي ظل يحدق في وجهها بتركيز على ضفاف البحيرة في شيغا. ولكن بعد مرور وقت قصير، وصلت شائعة إلى أذنيها وعندها تذكرت ذلك الأمر. أحد أبناء القرية الذي رأى منظر وقوف الراهب العظيم يودع بنظره عربة المحظية حتى اختفت عن الأنظار، ذكر ذلك الأمر لأحد رجال البلاط الإمبراطوري الذي جاء إلى شيغا لمشاهدة أزهار الكرز، وأضاف أنه منذ ذلك اليوم والراهب مضطرب، وكأنه قد جن.
بالطبع تظاهرت محظية الإمبراطور بعدم تصديق تلك الشائعة؛ ولكن لأن راهب معبد شيغا العظيم مشهور للغاية بأخلاقه الرفيعة وفضائله الكثيرة. فإذا كانت الشائعة حقيقية؛ فسوف يكون في تلك الحادثة ما يسهم في تغذية غرور المحظية؛ لأنها كانت قد سئمت تماما من المحبة التي تتلقاها من رجال هذا العالم العاديين.
Неизвестная страница
كانت محظية الإمبراطور واعية تماما بشدة جمالها، ومن عادة مثل هؤلاء الناس الميل إلى الانجذاب إلى أية قوة، تتعامل مع جمالها ومنزلتها العالية كأشياء لا قيمة لها، وبالتالي؛ فقد كانت شديدة التدين، وبسبب شعور الملل الشديد كانت تؤمن بعقيدة الأرض الطاهرة. وكانت تعاليم البوذية التي تكره هذه الدنيا الزاهية الجميلة وتبتعد عنها في زهد وتعفف؛ لأنها تعتبرها مدنسة. كانت بلا ريب تهون عليها ملل الحياة الفخمة المرفهة وكللها، تلك الحياة التي توحي بنهاية هذه الدنيا.
كانت محظية الإمبراطور تمجد بين المخصصين في الحب والغرام على أنها تجسيد للنقاء والجمال داخل بلاط جلالة الإمبراطور. ولأن هذه السيدة النبيلة العظيمة لم يسبق لها الوقوع في حب أي من الرجال، فلقد كانت تستحق في الواقع ذلك التمجيد والتوقير، ولم يكن أحد ممن يعرفونها يعتقد ولو للحظة أنها تحب جلالة الإمبراطور من قلبها. كانت محظية الإمبراطور تعيش داخل أحلامها قصص حب، تقع في الأغلب على حدود المستحيل.
كان راهب معبد شيغا يشتهر بأخلاقياته، وأنه قد بلغ من العمر ما بلغ، ويعرف الجميع في العاصمة أنه قد زهد هذه الدنيا تماما، فإذا كانت الشائعة حقيقية، يكون الراهب العظيم قد وقع في الحيرة والضلال بسبب جمال وجه المحظية، ويكون قد ضحى بالحياة الآخرة فداء لها. لا يمكن أن تكون هناك تضحية أكبر من ذلك، ولا هدية أعظم من تلك.
لم تكن محظية الإمبراطور يجذبها أفضل الرجال في القصر الإمبراطوري، ورغم ذلك أيضا، فلم يحرك قلبها النبلاء الوسيمون من الشباب. لم تكن أشكال الرجال تعني لها شيئا؛ كان اهتمامها الوحيد هو: من الذي يستطيع أن يحبها حبا كأقوى وأعمق ما يكون الحب؟
امرأة تمتلك ذلك الطموح تكون كائنا مخيفا حقا. لو كانت عاهرة، فسيكفيها أن تعطى ثروة من هذه الدنيا. ولكن محظية الإمبراطور تمتلك بالفعل كل ما يمكن تملكه من ثروات الدنيا؛ ولذا فقد كانت تنتظر الشخص الذي يقدم لها ثروات الآخرة.
انتشرت شائعة غرام راهب معبد شيغا في كل أركان البلاط الإمبراطوري، وتم إبلاغ القصة بنبرة شبه ساخرة إلى الإمبراطور نفسه. بالطبع لم تسعد المحظية بتلك السخرية، واحتفظت بموقف بارد غير مبال؛ لأنها تدرك جيدا أن هناك سببين لأن يتحدث الجميع بحرية، ساخرين من تلك المسألة؛ أولا: لأنهم يودون مدح جمال المحظية الباهر الذي أوقع في الحيرة والضلال حتى ذلك الراهب المشهور بأخلاقه الرفيعة لهذه الدرجة، وثانيا: بسبب الاطمئنان الذي مبعثه أن الجميع يدرك تماما أنه من المحال أن يتحقق حب على أرض الواقع بين ذلك الرجل العجوز وهذه المرأة النبيلة.
استدعت محظية الإمبراطور إلى ذهنها وجه الراهب العجوز الذي رأته من نافذة عربتها، ولكنها لم تجد أي تشابه ولو من بعيد في وجهه مع أي من الرجال الذين وقعوا في حبها حتى ذلك الوقت. من العجيب أن ينبت الحب أيضا في قلب رجل ليس لديه أي مؤهل ليكون محبوبا، مقارنة بذلك تعتبر عبارة مثل «حب بلا أمل» التي كثيرا ما تستخدم في الواقع في أشعار اللقاءات التي تقام في القصر الإمبراطوري من أجل استثارة شعور التعاطف، لم تكن في الأغلب إلا تمثيلا بائسا لشخص مغرور يدعي لنفسه قدرات أكبر من الحقيقة.
بحديثي حتى الآن، أعتقد أنه أصبح واضحا أن محظية الإمبراطور لم تكن تجسيدا للفخامة العالية، ولكنها إنسانة هوايتها العظمى أن تكون محبوبة؛ إنها في نهاية الأمر امرأة، فمهما كانت وجاهتها أو منزلتها، فإن أي سلطة أو قوة تحصل عليها لا تعوضها شيئا عن أن تحب؛ ففي خضم صراع الرجال حول السلطة السياسية، كانت تحلم بإخضاع العالم من خلال وسائل مختلفة؛ وسائل أنثوية خالصة. كانت تضحك استهزاء من النساء اللائي يقمن بحلاقة شعرهن والدخول في الرهبنة؛ لأنه مهما كانت المرأة تتكلم عن التخلي عن العالم، فمن المستحيل أن تتخلى عما تملكه. الرجال فقط هم القادرون على التخلي عما يملكون في الواقع.
ذلك الراهب العجوز قد تخلى مرة في حياته عن هذه الدنيا وجميع متعها. لقد كان أكثر رجولة من نبلاء القصر، ثم إنه كما تخلى عن هذه الدنيا، فهو على وشك التخلي عن الآخرة أيضا من أجلها.
تذكرت محظية الإمبراطور، ذات الإيمان العميق، أفكار زهرة اللوتس المقدسة. فكرت في زهرة لوتس ضخمة يبلغ حجمها مائتين وخمسين يوجانا. كانت زهرة اللوتس العملاقة غير المحدودة تلك، توافق ذوقها أكثر بكثير من أزهار اللوتس الصغيرة التي تشاهد بالعين. فحتى لو استمعت إلى أصوات النسيم تمر عبر أشجار الحديقة الأمامية مثلا، فإنها تعتقد أنها بلا أي قيمة مقارنة بالموسيقى العجيبة التي يحدثها الريح من خلال أشجار الجواهر في «الأرض الطاهرة». وهي عندما تفكر في الآلات الموسيقية المعلقة في الهواء التي تعزف الموسيقى من تلقاء نفسها؛ فإنها لا ترى في أصوات أنواع الآلات الموسيقية العادية، مثل: القيثارة والقانون، التي يتردد صداها حولها، سوى تقليد تافه مقارنة بتلك.
Неизвестная страница
4
كان راهب معبد شيغا في صراع في معركته ضد الجسد في شبابه، كان هناك أمل فيما سيحصل عليه في الآخرة، لكن هذه المعركة اليائسة بعد وصوله إلى تلك الشيخوخة والكبر، كانت مرتبطة بإحساس بخسارة لا سبيل إلى تعويضها.
وهو وإن كان إكمال حبه لمحظية الإمبراطور مستحيلا استحالة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، فإنه كذلك يستحيل عليه المضي قدما في السير تجاه الأرض الطاهرة، طالما ظل أسيرا لهذا الحب.
إن الراهب العظيم الذي كان يعيش في حالة تحكم كامل في مشاعره لا مثيل لها في هذا العالم، أصبح مصيره يلفه الغموض تماما في طرفة عين، إذا كان الأمر كذلك؛ فلعل الشجاعة التي حارب بها معركة الشباب وانتصر فيها، ربما كانت قد تولدت من كبريائه وفخره أنه يمتنع بمحض إرادته الذاتية عن القيام بأفعال يمكنه فعلها بسهولة إذا رغب في ذلك.
تملك الرعب مرة أخرى من الراهب العظيم؛ فلقد انتبه إلى الظلام العميق لهذه الدنيا التي لا يعرف ماذا ينتظره منها لو تحرك خطوة واحدة إلى الأمام، فحتى لحظة اقتراب تلك العربة الفاخرة من ضفاف بحيرة شيغا، كان يؤمن أن ما ينتظره في القريب العاجل هو الوصول إلى «النيرفانا» ولا غيرها.
ولكن بعد تلك اللحظة الفارقة أصبحت مختلف أشكال التأمل الديني، من تأمل قاعدة اللوتس، والتأمل في مجمل الأشياء، والتأمل في الأجزاء، جميعها بلا فائدة؛ ففي كل مرة يبدأ فيها التأمل، يظهر أمام عينيه دائما وجه المحظية الجميل، وحاول كذلك تأمل مياه البحيرة ولكن كان ذلك أيضا عديم الفائدة؛ لأن وجه المحظية الجميل كان يهتز من تحت موجات البحيرة الخفيفة.
وبالطبع كخلاصة طبيعية، حاول الراهب العظيم بذل جهوده في جعل قلبه مبهما غير مستقر عن طريق تشتيته؛ لإدراكه أن التركيز لا ينفع قدر ما يضر. ولقد أدهشه أن التركيز في الواقع يؤدي على العكس إلى حيرة عميقة؛ ولذا لم يكن أمامه إلا محاولة فعل العكس، أي ليس أمامه إلا الاعتراف بوجود الحيرة. واعتقد أنه عندما ينهزم القلب من ثقل الضغط عليه، يكون على العكس من الأسهل الهروب من محاولة الهروب من خلال تركيز أفكاره عمدا على وجه المحظية.
أحس الراهب العظيم بمتعة جديدة في تزين شبح المحظية بطرق مختلفة كما يزين تمثال بوذا بالتيجان والأكاليل. لم يدر سبب إحساسه بالسعادة، وهو يقوم بتلك الطريقة بجعل محبوبته ذات وجود أكثر عظمة وأكثر بعدا عنه وأكثر استحالة. أليس الطبيعي أن يرسم المحظية في خياله كجسد امرأة عادية قريبة منه؟ أليس بهذه الطريقة يحصل المحب على فائدة من حبه، ولو على الأقل في داخل خياله فقط؟
لقد كان الراهب العظيم كلما فكر بهذه الطريقة يجد أن ما يرسمه خياله للمحظية ليس مجرد جسد، ولا هو مجرد شبح خيالي، بل كان الراهب بكل تأكيد يرسم جوهرا حقيقيا وواقعيا. وكان من العجيب أن يبحث عن ذلك الجوهر في امرأة. إن الراهب ذا الأخلاق الرفيعة حتى مع وقوعه في الحب، لم يفقد خصلة التدريبات الدائمة في محاولة التقرب من الجوهر، حتى ولو من خلال التجريد. صارت محظية الإمبراطور الآن متوحدة مع زهرة لوتس هائلة من مائتين وخمسين يوجانا. لقد أصبحت وهي نائمة مستندة على عدد كبير من أزهار اللوتس، بحجم عملاق أكبر من جبل سوميرو، بل ومن الدولة بأكملها.
في الواقع أنه كلما حول الراهب العظيم حبه إلى شيء مستحيل، كانت خيانته لبوذا أكثر عمقا. والسبب أن استحالة هذا الحب، يرتبط بشكل ما مع استحالة تحقيق النيرفانا. وكلما اعتقد أنه حب ميئوس منه، أصبحت الخيالات أكثر تأكيدا، وأصبحت أفكاره الدنسة راسخة في أعماقه. وإذا اعتقد أن حبه أصبح ممكنا، لربما على العكس يصبح من السهل تولد اليأس منه، ولكن هذا الحب المستحيل أصبح راسخا عتيدا يغطي سطح الأرض مثل البحيرة الهائلة ولا تبدو أي بوادر لتزحزحه عن مكانه.
Неизвестная страница
لقد تمنى رؤية وجه المحظية مرة أخرى بطريقة ما، لكنه كان يخشى عند لقاء ذلك الوجه الذي صار مثل زهرة لوتس عملاقة، أن ينهار دون أن يترك أثرا. إن انهياره بالتأكيد سينقذ الراهب العظيم. أجل، هذه المرة بالتأكيد تتحقق له النيرفانا، وهذا بالضبط ما يخشاه.
لقد وصل هذا الحب المفعم بالوحدة أخيرا إلى خداع الذات بنسج شبكة عجيبة من الحيل، وعندما انتهى أخيرا إلى اتخاذ قرار الذهاب لمقابلة المحظية، أحس الراهب أن المرض العضال الذي كان يحرق جسده قد شفي تقريبا، كانت فرحته هائلة عند اتخاذ القرار، لدرجة أن الراهب نفسه اعتقد خطأ أنها فرحة النجاة من قيود ذلك الحب.
5
لم يجد أحد من الذين شاهدوا راهبا عجوزا بائسا يتكئ على عصا، ويقف بصمت في ركن من أركان حديقة القصر الإمبراطوري للمحظية في ذلك، أي شيء غريب؛ فلم يكن مشهد وقوف المتسولين والرهبان البوذيين أثناء جمعهم للصدقات داخل حدائق منازل النبلاء والكبراء بالأمر النادر.
أبلغت إحدى خادمات القصر ذلك الأمر إلى محظية الإمبراطور. نظرت محظية الإمبراطور بتوجس من خلال ستائر الخيزران. هناك خلف ظلال أوراق الشجر اليافعة كان الراهب العجوز الذي خارت قواه يقف محني الرأس. ظلت المحظية تنظر إليه فترة من الوقت، وعندما أدركت بدون أي شك أنه هو الراهب الذي قابلته على ضفاف البحيرة في شيغا، لم تستطع أن تمنع وجهها من أن يتحول لونه إلى الشحوب.
وقعت المحظية في حالة من الحيرة والتردد، لم تعرف ما القرار المحتم اتخاذه؛ ولذا أمرت بتركه وشأنه كما هو. تلقت الخادمة الأمر واستجابت له.
تولد القلق في قلب المحظية. هذا القلق تولد الآن لأول مرة في قلبها.
كانت قد شهدت حتى الآن العديد من الناس الذين قد تخلوا عن متع هذه الدنيا، ولكنها لأول مرة ترى شخصا يترك الآخرة وراء ظهره ويأتيها، كان أمرا مشئوما ومرعبا بشكل يفوق الوصف. لقد فقدت هذه السيدة النبيلة السعادة التي كان خيالها يرسمها لها مع حب الراهب. وبفرض أن الراهب العظيم قد تنازل لها عن الحياة الآخرة، فإن الحياة الآخرة تلك لن تكون من نصيبها بلا مقابل.
نظرت محظية الإمبراطور إلى ملابسها الفخمة ويديها الجميلة، ثم نظرت إلى الراهب الواقف بلا حراك في الحديقة بعيدا، ملامح وجهه التي قبحها الهرم وملابسه الرثة المبتلة. هذه الرابطة بينهما كان لها سحر جهنمي، ولكن ذلك لم يكن مثل الحلم الرائع الذي حلمت به، ظهر لها الراهب العظيم وكأنه شخص جاء من الجحيم، اختفت تماما هالة الرجل الفاضل رفيع الخلق، التي كانت تصدر من خلفه أشعة الأرض الطاهرة المتألقة، ذهبت عنه كل الأشعة والأنوار التي تدعو إلى الأذهان مجد الأرض الطاهرة. بالتأكيد وبدون أي شك، إنه هو نفس الرجل الذي رأته على ضفاف بحيرة شيغا، ولكنه كان في نفس الوقت يبدو وكأنه شخص مختلف تماما.
كانت محظية الإمبراطور، كعادة شخصيات البلاط الإمبراطوري، تميل إلى الحذر من انفعالاتها العاطفية. كانت تفعل ذلك دائما عندما تأتي أمامها أشياء تضطرها إلى التأثر والانفعال، حتى بعد أن رأت البرهان على حب الراهب لها لهذه الدرجة، شعرت بخيبة أمل أن يأخذ الحب الأسمى الذي رأته في أحلامها طويلا، تلك الهيئة المتواضعة للغاية.
Неизвестная страница
كان راهب معبد شيغا الذي وصل العاصمة أخيرا بعد سفر طويل متكئا على عصاه، قد نسي كل تعبه، بعد أن تحايل لدخول القصر الإمبراطوري حيث توجد محظية الإمبراطور ، عندما أيقن أن وراء ستائر الخيزران تلك، توجد المرأة التي يهواها، أخذ يفيق من كل الأحلام الكاذبة.
عندما أخذ الحب هذا الشكل البريء، مرة أخرى بدأت الحياة الآخرة تسحر لب الراهب العظيم. أحس وكأنه لم يسبق له أن رسم في ذهنه الأرض الطاهرة بهذه الدرجة من النقاء والصفاء، لقد أصبح شوقه للأرض الطاهرة يأخذ شكلا حسيا على الأغلب، لم يبق له من أجل أن يزيل أوهام هذه الدنيا التي تحجب عنه الآخرة، إلا لقاء المحظية وإعلان حبه لها. هذا فقط هو ما تبقى.
كان يعاني كثيرا من الوقوف هناك، يستند بجسده الهرم على عصاه، تنسكب فوق رأسه أشعة شمس مايو الساطعة المتسللة من خلال أوراق الشجر، كلما أحس بدوار في رأسه يتكئ على عصاه؛ ليحمي نفسه من الوقوع. لو أن المحظية تنتبه إليه سريعا وتستدعيه، ستنتهي هذه الخطوة في الحال، ووقتها يفتح له باب الأرض الطاهرة على مصراعيه، الراهب العظيم ينتظر، ينتظر مسندا على عصاه كلله الذي يصل به إلى حد الإغماء. أخيرا احتجبت أشعة الشمس، وصار الوقت مساء، ولا تأتي أخبار من محظية الإمبراطور.
ولكن المحظية بالطبع لم تكن تعلم أن الراهب يعتقد أن الأرض الطاهرة تكمن خلفها، كانت تنظر مرة بعد مرة من خلف ستائر الخيزران ناحية الحديقة. كان الراهب يقف في الحديقة. المساء يزحف، والراهب ما يزال يقف هناك.
أصاب محظية الإمبراطور الرعب؛ فلقد شعرت أن ما رأته هو تجسيد حي لأوهام التعلق العميقة الجذور، لقد احتواها رعب عارم من السقوط في الجحيم. الرعب الإنساني العادي الذي يقول إنها بعد أن تسببت في الحيرة والضلال لراهب على تلك الدرجة من الأخلاق الرفيعة، بالتأكيد لن تستقبلها الأرض الطاهرة، بل مآلها سيكون إلى الجحيم. وقتها قد تحطم بالفعل الحب الأسمى الذي كانت تحلم به. لقد حطمته بالفعل؛ فالجحيم هو أن تحب. كانت المحظية على العكس من الراهب العظيم ترى الجحيم من ورائه.
ولكن تلك المرأة النبيلة المتغطرسة قاتلت خوفها بشدة، ولقد شجعت روحها مستعينة بقسوتها وعنفها الفطري؛ فالراهب سيسقط صريعا حتما عاجلا أو آجلا. فما عليها إلا أن تنتظر سقوطه. ولكنها ما إن تلقي نظرة خلف ستائر الخيزران متوقعة أنه قد سقط، تجده واقفا بصمت هناك بلا حراك، مما يزيد من غضبها.
دخل الليل، وبدت هيئة الراهب الواقف في ضوء القمر كأنها هيكل عظمي.
لم تستطع محظية الإمبراطور النوم من الرعب، ولكنها رغم عدم النظر في اتجاه الستائر، وقد أعطت ظهرها لها، فإنها كانت تشعر بنظرات الراهب.
فهمت الآن أنه ليس حبا عاديا. ولكنها من الخوف من أن تحب، ومن الخوف من الوقوع في الجحيم، أصبحت على العكس تتمنى الأرض الطاهرة بقوة أكثر. فكرت أنها تريد الحفاظ على الأرض الطاهرة الخاصة بها بلا أي جروح. أرضها الطاهرة تلك تختلف تماما عن أرض الراهب الطاهرة، وليس لها أية علاقة بحبه؛ فهي تعتقد أنها لو تحدثت مع الراهب ستنهار أرضها الطاهرة على الفور. إنها تريد أن تعتقد أن حب الراهب ليس له علاقة بها؛ فالراهب يحبها من تلقاء نفسه وبدون تدخلها؛ ولذا فمن المفروض ألا تفقد ولو قليلا استحقاقها في أن تستقبلها الأرض الطاهرة.
ولكن ورغم ذلك، فكلما تقدم الليل تدريجيا، وأصبح الجو أكثر اعتدالا، فقدت ثقتها في إمكانية التحكم في قلبها لو سقط الراهب في مكانه ميتا.
Неизвестная страница
الراهب العظيم واقف بلا حراك، بدا القمر بعد اختفائه خلف الغيوم في هيئة عجيبة ساحرة، وكأنه شجرة ذابلة.
صرخت المحظية في قلبها: أنا ليس لي علاقة بهذا الرجل. لم تكن محظية الإمبراطور تفهم إطلاقا لماذا حدث ذلك.
في تلك اللحظة، ونادرا ما يحدث ذلك، نسيت المحظية جمالها تماما. أو ربما قد يكون من الأنسب أن نقول إنها تعمدت نسيانه.
أخيرا، بدأ لون السماء يميل قليلا إلى اللون الأبيض.
الراهب ما زال واقفا كالطود في غسق الفجر.
هزمت محظية الإمبراطور. استدعت الخادمة، وأخبرتها أن تدعو الراهب الواقف في الحديقة للمجيء أمام ستائر نافذة الخيزران.
كان الراهب على حدود الغيبوبة بعد أن وصل الجسد إلى حافة الانهيار التام. ولم يعد يدري ماذا ينتظر؟ محظية الإمبراطور .. أم الحياة الآخرة. حتى مع إدراكه أن الخادمة قد نزلت إلى الحديقة من جهة ستائر الخيزران وتقترب منه، فإنه لم يكن يشعر أن ما كان ينتظره قد أتاه أخيرا.
أبلغته الخادمة رسالة سيدتها؛ صرخ الراهب في داخله صرخة مهولة، ولكن لم يصدر منه أي صوت تقريبا.
حاولت الخادمة أن تسحب يديه. ولكنه تقهقر رافضا، ثم مشى حتى موضع ستائر الخيزران بخطى ثابتة راسخة بشكل مدهش وعجيب.
المكان خلف الستائر كان مظلما، ولا يمكن رؤية شكل السيدة من الخارج. جثا الراهب على ركبتيه أمام الستائر، ثم غطى وجهه بيديه، وانخرط في البكاء.
Неизвестная страница
طال النواح لفترة ولم يكن قادرا على التفوه بالكلمات، وبدا وكأنه سيظل يبكي إلى الأبد.
عندها ظهرت في غسق الفجر يد بيضاء من أسفل الستائر المدلاة.
أمسك راهب معبد شيغا يد محبوبته بيديه الاثنين، ثم قام بوضعها على جبهته، ثم وضعها على خده.
شعرت محظية الإمبراطور بتلك اليد الباردة العجيبة تلمس يدها، ثم بعد ذلك أحست بيدها قد تبللت بشيء دافئ. أحست محظية الإمبراطور بشعور مقزز؛ لأن يدها قد ابتلت بدموع شخص غريب عنها.
ولكن مع إحساسها بدخول لون السماء الذي يميل إلى البياض من خلال ستائر النافذة، وبسبب قوة إيمانها الحار، لمستها فجأة مشاعر روحية رائعة. لقد جاءها اقتناع أن اليد الغريبة التي لمستها هي يد بوذا نفسه بلا أي شك.
لقد بعثت من جديد الأوهام في قلب المحظية، بعثت مجددا أرضية اللازورد في الأرض الطاهرة، والأبراج السباعية المرصعة بالجواهر، ومناظر الملائكة التي تعزف الموسيقى، وبحيرات الذهب الخالص المفروشة برمال بلورية، وزهور اللوتس ذات الأشعة اللامعة، وأصوات طائر الكالافينكاس الجميلة. إذا كانت تلك الأرض الطاهرة ستكون من نصيبها، والحقيقة أنها لا تزال تؤمن بذلك حتى الآن، فليس لديها مانع في تقبل حب الراهب العظيم. انتظرت المحظية أن يطلب منها ذلك الرجل صاحب يد بوذا أن ترفع الستائر التي تفصله عنها. لا بد وأن الراهب العظيم سيطلب منها ذلك، ثم تقوم برفع الستائر. ثم يظهر له جمالها الذي لا مثيل له، كما حدث في ذلك اليوم على ضفاف بحيرة شيغا. ثم تدعو الراهب العظيم للصعود إلى غرفتها.
انتظرت محظية الإمبراطور العظيم.
لكن كاهن معبد شيغا لم يقل أي شيء، ولم يطلب منها أي شيء، اليد العجوزة التي كانت تمسك يدها بقوة، أخيرا حلت قبضتها، وتركت اليد البيضاء كالثلج وحيدة تحت ضوء الفجر.
غادر الراهب العظيم المكان، وأصبح قلب محظية الإمبراطور باردا.
بعد بضعة أيام وصل نبأ وفاة الراهب العظيم في صومعته، وبهذا الخبر قررت محظية الإمبراطور نسخ كتب السوترا لفة بعد لفة في كتابة جميلة، وإهداءها إلى المعبد. وكلها كتب رائعة تبعث على الامتنان، إنها كتاب «سوترا زهرة اللوتس»، و«كتاب سوترا الحياة الأبدية»، وكتاب «سوترا أكاليل الزهور».
Неизвестная страница
فتى يكتب الشعر
كان الفتى يستطيع بسهولة تامة كتابة الشعر، وينتقل في سلاسة من قصيدة لأخرى. وفي الحال ينتهي من كراس المدرسة الذي يبلغ حجمه ثلاثين صفحة، والمطبوع عليه اسم مدرسة «غاكوشوين». ولقد شك الفتى في ذلك، لماذا يستطيع كتابة الشعر بهذه الطريقة لدرجة الانتهاء من قصيدتين أو ثلاث قصائد في اليوم الواحد؟ بل إنه عندما حجز في المستشفى لمدة أسبوع كامل، ألف ديوانا باسم «ديوان شعر أسبوع»، وقام بعمل شكل بيضاوي مفرغ على غلاف الكراس؛ ليظهر من تحته كلمة
، ثم كتب تحت ذلك باللغة الإنجليزية:
12
th ->18
th
MAY 1940.
عندما طافت شهرة شعره الجيد بين زملائه الأقدم منه في المدرسة، كان يقول في نفسه: «غير معقول! .. من المؤكد أن هذه الجلبة فقط؛ بسبب أن الجميع ينظر إلى أنني في سن الخامسة عشر.»
ولكن الفتى رغم ذلك كان متأكدا تماما من أنه عبقري؛ ولذلك فهو يرد على زملائه الأقدم منه بحديث الند للند. ويرى أنه من الأفضل تجنب قول «أنا أظن أن الأمر هو كذا»، وأنه عليه أن ينتبه لكلامه في كل المواضيع ليأخذ صيغة «إن الأمر هو كذا».
كان الفتى مصابا بفقر الدم بسبب كثرة الاستمناء، ولكنه لم يكن يهتم بعد بقبح وجهه؛ فالشعر شيء مختلف تماما عن تلك المشاعر الفسيولوجية البغيضة. الشعر يختلف تماما عن كل شيء. كان الفتى يكذب كذبا غير ملحوظ يناسب الموقف. من خلال الشعر تعلم الفتى طريقة الكذب غير الملحوظ بما يناسب الموقف. المطلوب فقط أن تكون الكلمات جميلة، وبهذه الطريقة كان يوميا يقرأ المعاجم بجد واجتهاد.
Неизвестная страница
كان الفتى عندما يبلغ النشوة، يظهر أمام عينه دائما عالما مجازيا. «ديدان اليسروع حولت أوراق الكرز إلى سباق.» «الحصى التي رميت تخطت أشجار البلوط، وذهبت لرؤية البحر.» «في يوم ذي سحب، قامت الرافعة العملاقة بنزع صفحة البحر ذات التجاعيد الكثيرة، ولفتها في الهواء؛ لتبحث تحتها عن جثث الغرقى.» «ثمرة الخوخ القريبة من الخنفساء تضع في الواقع مكياجا خفيفا.» «يلتصق الهواء الغاضب المضطرب حول الهارعين جريا بكل طاقتهم، وكأنه مثل النيران فوق ظهور التماثيل.» «الغروب هو نذير شؤم، ولونه مثل لون صبغة اليود المركزة.» «أشجار الشتاء ألقت أرجلها الصناعية تجاه السماء، ثم بعد ذلك بدا جسد الفتاة العاري بجوار المدفأة وكأنه ورد مشتعل، ولكن عندما تقترب من النافذة تكتشف أنه ورد صناعي، وأن البشرة التي بها قشعريرة بسبب البرد، قد تحولت إلى قطعة من زهرة مخملية منفوشة.»
كان الفتى يصل إلى ذروة السعادة عندما يتحول العالم بهذه الكيفية في الواقع. ولم يكن الفتى يندهش من حدوث حالة السعادة القصوى تلك بشكل مؤكد عندما يتولد داخله الشعر. كان يعلم في عقله أن الشعر يتولد من داخل الحزن واللعنة واليأس، يتولد الشعر من وسط الوحدة القاسية، ولكن من أجل ذلك كانت توجد ضرورة أن يحمل هو نفسه اهتماما أكثر تجاه ذاته، وأن يعطيها قضية ما. ورغم إيمانه الذي لا يتزعزع أنه عبقري، فإنه من المدهش أن الفتى لم يكن يحمل اهتماما تجاه ذاته. فلقد جذبه تماما سحر العالم الخارجي. أو الأصح عوضا عن ذلك هو القول إنه لحظة وصوله لذروة السعادة القصوى، كان العالم الخارجي بلا سبب واضح يتخذ بسهولة الشكل المفضل لديه.
لم يكن الفتى يعرف جيدا هل الشعر يظهر من أجل إثبات سعادة الفتى بين حين وآخر، أم أن الفتى يكون في سعادة بسبب ميلاد الشعر، ولكن تلك السعادة كانت تختلف بشكل واضح عن سعادته عندما يحصل على شيء كان يريده وظل يطالب بشرائه لفترة طويلة، أو عندما يخرج مع والديه في رحلة ما، غالبا هي ليست السعادة الموجودة عند أي شخص آخر، ولكن المؤكد أنها سعادة لا يعرفها بحق إلا هو فقط.
في كل الأحوال لم يكن الفتى يحب الاستمرار في تأمل أمر ما فترة طويلة، سواء أكان ذلك نفسه أو العالم الخارجي، يلفت الشيء انتباهه، فيبدأ في التحول السريع إلى شكل ما مغاير ومختلف في الحال. على سبيل المثال: إذا تلألأت أوراق الغابة الخضراء، ولم يتحول الجزء المشع منها في وسط الظهر من أحد أيام شهر مايو، وكأنها زهور كرز ليلية، فهو على الفور يسأم منها ويتوقف عن مشاهدتها، وكان يواجه الصور الحادة، التي من المؤكد أنها لن تتغير ولو قليلا، بابتسامة باردة قائلا: «تلك لا تصلح لأن تكون شعرا.»
في يوم اختبار المدرسة، جاءت الأسئلة كما توقعها تماما، فكتب الإجابات بسرعة، ثم سلم ورق الإجابة إلى المدرس دون أن يراجعها بشكل دقيق، واستطاع أن يخرج من الفصل قبل أي زميل آخر من نفس صفه، وأثناء عبور فناء المدرسة الذي لم يكن يوجد به ظل لإنسان في فترة الصباح، نظر إلى قمة سارية العلم التي تنتهي بكرة ذهبية صغيرة تلمع متألقة. وعندها غمرته سعادة بالغة لا يمكن وصفها. اليوم ليس عيدا قوميا؛ ولذا فالعلم لم يكن مرفوعا، ولكنه كان يعتقد أن اليوم عيد داخل قلبه، وأن أشعة الكرة الذهبية اللون تحتفل به وتهنئه. ينخلع قلب الفتى بسهولة عن جسده ويبدأ التفكير في الشعر. يا لها من نشوة تنتابه في تلك اللحظة! يا لها من وحدة مكتملة! يا لها من خفة لا متناهية! يا لها من سكرة صافية تصل إلى كل الأركان! يا له من تقارب وتوافق كامل بين داخل النفس وخارجها!
كان الفتى عندما لا تأتيه هذه اللحظة بشكل طبيعي، يستخدم شيئا ما من الأشياء حوله، ويحاول عنوة ولو بشكل مصطنع أن يستدعي حالة سكرة مشابهة. يقوم مثلا بالنظر إلى ما داخل الغرفة باستخدام غلاف علبة السجائر الشفاف الذي يأخذ تصميم ظهر سلحفاة مخططة، أو أن يقوم برج زجاجة المسحوق الأبيض السائل الخاصة بأمه بعنف، حتى يقوم المسحوق أخيرا بالرقص متثاقلا معربدا، وفي النهاية يظل يتأمل ذلك المسحوق، وهو يترك السائل الرائق يتكون في أعلى الزجاجة، ثم يترسب هو تدريجيا في قاعها.
كان الفتى كذلك يستخدم كلمات مثل: «الصلاة»، و«اللعنة»، و«الاحتقار» بدون أي تأثر أو عاطفة.
انضم الفتى إلى نادي الأدب في مدرسته، وقد أعاره عضو اللجنة المفتاح، فكان الفتى يذهب إلى غرفة النادي وقتما يشاء، وكان بذلك يستطيع الاستغراق في قراءة الكتب والمعاجم التي يحبها. كان الفتى يحب صفحة الشعراء الرومانسيين في موسوعة الآداب العالمية؛ فجميع الشعراء كانت صورهم في تلك الصفحة بدون لحى شعثاء، وكانوا جميعا شبابا ذوي جمال أخاذ.
وكان الفتى يهتم كثيرا بقصر حياة الشعراء، يجب على الشاعر الحق أن يموت مبكرا، ولكن حتى لو قلنا موتا مبكرا؛ فبالنسبة للفتى ذي الخمسة عشر ربيعا، كان الأمر ما زال بعيدا جدا، وبسبب ذلك الأمان الناتج من الأرقام، ظل الفتى يفكر في الموت المبكر بمشاعر سعيدة.
كان الفتى يحب قصيدة أوسكار وايلد القصيرة التي تسمى «قبر كيتس». «يرقد هنا أصغر الشهداء، الذي أخذ من هذه الحياة عندما كان في ريعان الشباب حيث الحب والحياة.»
Неизвестная страница
يرقد هنا أصغر الشهداء. كانت هناك دهشة كبرى من هجوم الكوارث والتعاسة الواقعية على الشاعر، وكأنهما منحة إلهية. لقد كان الفتى يؤمن بالتوافق القدري، التوافق القدري لسير حياة الشعراء. بالنسبة للفتى كان الإيمان بالتوافق القدري والإيمان بعبقريته نفس الشيء.
وكان ممتعا له أن يفكر في محتوى نعي طويل يكتبه لنفسه، أو في مجده بعد الموت، ولكن عندما يصل تفكير إلى جثته بعد الموت، تجعله تلك الأفكار في النهاية يمتعض قليلا. كان يحدث نفسه بقوة وحماس قائلا لها: «يجب علي أن أحيا كالألعاب النارية؛ أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم أختفي في الحال.»
كان يفكر في أشياء متعددة، ولكنه لم يستطع تخيل طريقة للحياة غير ذلك. ولكن الفتى كان يكره الانتحار؛ لذا فالتوافق القدري سيسدي له معروفا ويقتله في الوقت المناسب بشكل ملائم.
لقد بدأ الشعر يجعل الفتى يميل تجاه الكسل النفسي. لو كان أكثر اجتهادا من الناحية النفسية، لربما كان قد فكر في الانتحار بقلب متحمس.
في طابور الصباح، دعاه مشرف الطلبة للقائه. قال له: «تعال إلى مكتب المشرف.» ومعنى دعوته إلى ذلك المكتب أنه سيلاقي تعنيفا ومساءلة أثقل من الدعوة إلى مكتب المدرسين. زملاؤه قاموا بإخافته قائلين: «أكيد أنت تعلم ماذا فعلت.» شحب وجه الفتى وارتعشت يداه بشدة.
كان مشرف الطلبة ينتظره وهو جالس ممسكا بملقاط الفحم الحديدي يكتب به حروفا ما على رماد المدفأة التي بلا نيران. وعندما دخل الفتى قال له المشرف بصوت حنون: «اجلس!» ولم يعنفه مطلقا. بل قال له إنه قرأ شعره الذي نشر في مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، ثم بعد ذلك سأله عدة أسئلة عن الشعر وعن أسرته، وفي النهاية قال له: «يوجد نوعان من الشعراء، شيلر وغوته. هل تعرف شيلر؟» - «هل تعني فريدريش شيلر؟» - «نعم، هو، لا يجب عليك أن تكون مثل شيلر. بل يجب عليك أن تكون مثل غوته.»
كان الفتى متجهم الوجه أثناء عودته إلى فصله بعد أن خرج من مكتب المشرف بسبب عدم رضاه، وكان يجر رجليه جرا، فهو لم يكن قد قرأ من قبل أيا من أعمال شيلر أو غوته، ولكنه يعلم صورتيهما فقط. - «أنا أكره غوته، نعم أكرهه، فهو عجوز طاعن في السن، أنا أحب شيلر أكثر.»
كان «ر» رئيس نادي الأدب، الذي يكبر بالفتى بخمسة أعوام كاملة، يعتني به. وكان الفتى يحب «ر» كذلك، والسبب أن «ر» كان يعتقد في نفسه بوضوح أنه عبقري ليس له مثيل، وهو قد اعترف بعبقرية الفتى بدون النظر إلى فارق السن بينهما؛ ولأنه من الضروري أن يصبح العباقرة أصدقاء لبعضهم البعض.
كان «ر» هو الابن الأكبر لعائلة من النبلاء؛ ولذلك فقد تقمص دور الشاعر الفرنسي أوغست دوليل آدم، ويفخر بنسب عائلته العريق، ويكتب أعمالا يبث بها مشاعر رثاء جمالية تجاه تقاليد النبلاء القدماء وفنونهم وآدابهم، كذلك قام «ر» بتجميع أشعاره وكتاباته القصيرة في كتاب، ونشره على حسابه الخاص، وهو ما جعل الفتى يشعر بالغيرة تجاهه.
كان الاثنان يتبادلان يوميا رسائل طويلة. وكانت عادة كتابة الرسائل اليومية ممتعة بالنسبة للفتى. تقريبا كل صباح كان يصل لعنوان الفتى رسالة من «ر» في مظروف غربي الطراز مشمشي اللون. مهما كان سمك الرسالة فكان يمكن معرفة وزنها، ولكن خفة تلك الرسائل المنتفخة كانت تسعد الفتى وتعطيه شعورا بأنها مملوءة عن آخرها بالرشاقة، وفي نهاية رسالة كل منهما كانت تختم بما ألفه كلاهما من شعر في ذلك اليوم أو آخر وأحدث أشعارهما، وكانا يكتبان أشعارهما القديمة إذا لم تكن هناك أشعار جديدة.
Неизвестная страница
أما محتوى الرسائل فهو بلا هدف محدد؛ يبدأ مرسل الرسالة بالنقد والتعليق على شعر الطرف الثاني في آخر رسالة له، ثم ينتقل من ذلك إلى أحاديث لا نهاية لها، فيكتب عن آخر ما سمعه من موسيقى، والأحاديث العائلية اليومية، وانطباعه عن فتاة جميلة شاهدها، وتعريف بما قرأه من كتب، والتجارب الشعرية في تلقي الوحي لعالم شعري كامل من خلال كلمة واحدة، وحكي مفصل عن الحلم الذي حلم به الليلة السابقة ... إلخ. مثل هذه الرسائل لم يمل كتابتها أبدا لا الشاب الذي بلغ العشرين عاما، ولا الفتى ذو الخمسة عشر ربيعا.
ولكن الفتى قد لاحظ في رسائل «ر» ظلالا ضئيلة من الاكتئاب والقلق، يعرف تماما أنها لا توجد في رسائله هو مطلقا. الخوف تجاه الواقع، والقلق من ضرورة مواجهته في النهاية، أعطيا لرسائل «ر» نوعا من المعاناة والوحدة الموحشة. وكان الفتى السعيد يعتقد أن تلك الظلال ليس بينها وبينه أية علاقة، وأنه لا يمكن أن يسقط فيها. «هل يمكن يا ترى أن أستيقظ على شيء ما قبيح؟» لم يخطر هذا السؤال على بال الفتى قط، ولم يتوقعه مطلقا. على سبيل المثال من المستحيل أن يحدث له مثلما حدث مع غوته، حيث هجمت عليه الشيخوخة وتحملها لوقت طويل. كان الفتى ما زال على مسافة بعيدة من فترة ريعان الشباب التي يقال عنها إنها قبيحة، وفي نفس الوقت جميلة. ونسي الفتى تماما ما كان قد اكتشفه داخل ذاته من قبح.
الأوهام التي تخلط الفن بالفنان، الأوهام التي تجعل فتيات المجتمع المتساهلات يتجهن بأعينهن إلى الفنان، تلك الأوهام قد أمسكت بالفتى ذاته. لم يكن لديه اهتمام بدراسة وجوده الذاتي وتحليله، ولكنه كان دائما ما يحلم بذاته تلك. كان هو ذاته ينتمي إلى عالم الخيال الوهمي، ذلك الذي تتحول فيه الفتاة العارية إلى زهور صناعية. الإنسان الذي يصنع الأشياء الجميلة من المستحيل أن يكون قبيحا، هكذا كان الفتى يفكر بعناد، ولكن للأسف لم يصل عقله حتى النهاية إلى القضية الأكثر أهمية وراء ذلك. ألا وهي قضية: هل هناك ضرورة أن الإنسان الجميل يصنع أشياء أكثر جمالا؟ «ضرورة؟!» لو سمع الفتى هذه الكلمة؛ لضحك بلا أدنى شك. والسبب أن شعره لا يولد تلبية لضرورة؛ فكل أشعاره، تولد بشكل طبيعي، حتى لو رفضها الفتى ذاته. يحرك الشعر يد الفتى، ويجعله يكتب الحروف على الورق. إذا قلنا ضرورة؛ فهذا يعني أنه لا بد من وجود نقص ما، ولكن هذا النقص غير موجود. مهما أطال التفكير؛ فالنقص غير موجود؛ فأولا منبع أشعاره كلها يمكن تعويلها على الكلمة السهلة المفيدة التي تسمى عبقرية، ومن جهة أخرى فهو غير قادر على الإيمان بوجود نقص ما عميق داخله لا يستطيع هو الوعي به، وحتى لو آمن بذلك؛ فهو بدلا من التعبير عنه بكلمة نقص، كان الفتى يحب أن يسميه عبقرية.
ورغم ذلك، فلم تكن قدرة الفتى على النقد الذاتي لشعره منعدمة تماما. مثلا القصيدة ذات الأربعة أسطر التي أغرقها زملاؤه الأقدم منه مدحا، كان يرى هو أنها طائشة ويخجل منها. كانت القصيدة عبارة عن شعر يتكلم في مجمله عن قدرة عينيها الصافيتين على اختزان الكثير من الحب داخلها؛ بسبب تلك الدرجة العالية من الشفافية والزرقة مثل قطعة من الزجاج.
يسعد الفتى بمديح الآخرين له بالطبع، ولكن كان غرور الفتى ينقذه من مصير الغرق في بحر المديح. وفي الحقيقة كان الفتى لا يحمل أي تأثر أو اهتمام حتى بمواهب صديقه «ر». كان «ر» بالتأكيد ذا موهبة بارزة متميزة بين أعضاء نادي الأدب الأقدم منه، ولكنها لم تكن تصنع ثقلا في قلب الفتى بكلمات أو عبارات متفردة. كانت في قلب الفتى مناطق بالغة البرودة، وإذا لم يقم «ر» بالإسهاب في مديح مواهب الفتى الشعرية باستخدام الكثير من الكلمات، لما كان الفتى على الأرجح ليعترف بموهبة «ر».
وبديلا عن تذوق السعادة الهادئة التي تأتيه من وقت لآخر، كان الفتى يعلم جيدا أنه تنقصه العاطفة الخام التي تلائم فتى في مثل سنه. في مباريات كرة المضرب التي تقام بين المدارس التابعة لجامعة «غاكوشوين» مرتين من كل عام في الربيع ثم الخريف، عندما ينهزم فريق مدرسة «غاكوشوين» الإعدادية أمام المدرسة الإعدادية التابعة. بعد نهاية المباراة يلتف المشجعون من الزملاء الأحدث حول اللاعبين الذين ينهارون في البكاء بشدة، ويبكون معهم، ولكن الفتى لم يكن يبكي، ولم يكن يشعر بأي حزن ولو قليلا.
رأي الفتى هو: «ما هو الأمر المحزن في خسارة مباراة لكرة المضرب؟» الوجوه التي تبكي لسبب كهذا كانت بعيدة جدا عن قلبه، بالتأكيد كان الفتى يعلم أنه مخلوق سهل التأثر والتعاطف، ولكن سهولة التأثر تلك كانت تتجه في اتجاه يختلف عن الآخرين جميعا، ومن ناحية أخرى كان ما يبكي الآخرين لا يتردد صداه في قلب الفتى على الإطلاق.
زادت تدريجيا عناصر الحب فيما يكتبه الفتى من أشعار. ورغم أنه لم يسبق له خوض تجربة الحب؛ ولكنه كان قد سئم من تأليف الشعر معتمدا فقط على تحول كائنات الطبيعة، فبدأت نفسه مع الوقت ترغب في كتابة الشعر عن تحولات القلب. ولم يكن الفتى يشعر بأي حرج في كتابة الشعر عن موضوع لم يسبق له خوض تجربته بنفسه. فلقد كان من البداية متأكدا أن الأدب والفن هو كذلك . ولم يتباك على الإطلاق من عدم خبرته؛ فالحقيقة أنه لم يكن هناك أية بوادر للتصادم أو التوتر بين حقائق العالم الذي لم يخض تجربته بعد، وبين عالمه الداخلي الخاص به. ولم يكن في حاجة إلى ضرورة الإيمان بتفوق عالمه الخاص ولو بالقوة. ومن خلال تأكيد ما غير عقلاني، كان يستطيع حتى الاعتقاد أنه لا يوجد في هذا العالم أية عاطفة لم يسبق له تجربتها شخصيا. والسبب أنه كان يعتقد أنه بالنسبة لقلب حاد العاطفة مثل قلبه، يمكنه من خلال تجميع العناصر الأساسية لجوهر كافة المشاعر والعواطف في هذه الدنيا في الشكل المناسب، حتى لو كان ذلك من خلال توقعها في حالة معينة. فكل التجارب الأخرى من الممكن له التقاطها والتدرب عليها ثم إيجادها. ما هي العناصر الأساسية للمشاعر؟ كان الفتى قد وضع لها تعريفا خاصا، «إنها الكلمات».
لم يكن الفتى قد تمكن بعد من الإمساك بالكلمات أو اتخذ لنفسه طريقة استخدام لها خاصة به وحده حقا. ولكن الكثير من الكلمات التي يكتشفها في المعاجم، كلما كانت كلمات شاملة، وكانت لها معان متعددة ومحتوى متنوع، ظن أنه يملك طريقة استخدام خاصة به وتحمل بصماته. ولكنه لم يكن يعتقد بالضرورة أن طريقة الاستخدام الخاصة به تلك، تحمل صفاتها وألوانها وتتكون لأول مرة من خلال الخبرة والتجربة المعيشية.
إن اللقاء الأول لعالمنا الخاص مع الكلمات، هو تلامس الشيء الفردي مع الشيء الشامل. وكذلك الشيء الشامل يتم صقله، بالتالي يحصل على مكانه لأول مرة كشيء فردي. إن تلك التجارب الداخلية التي يصعب التعبير عنها تراكمت بشكل كاف حتى داخل الفتى ذي الخمسة عشر ربيعا. والسبب أن الفتى عندما يصطدم بكلمة ما جديدة ويشعر بغرابة تجاهها، في ذات الوقت كان ذلك يجعله يحس بتجربة عاطفة ما مجهولة داخله. وكان ذلك مفيدا له أيضا في الاحتفاظ بملامح هادئة لا تتناسب أبدا مع عمره. ولأنه كان قد تعود على التعامل عندما تهجم عليه عاطفة ما، من الدهشة التي تحدثها تلك العاطفة داخل قلبه، يتذكر على الفور إحدى العواطف المناسبة التي تم ذكرها سابقا، ويتذكر الكلمة التي سببت تلك العاطفة. ومن خلال تلك الكلمة يعطي بسهولة تلك العاطفة التي أمامه اسما. ولهذا السبب كان الفتى يعرف أشياء متنوعة مثل: «اليأس» و«اللعنة»، و«فرحة بلوغ الحب»، و«حزن فقد الحب»، و«الألم والمعاناة»، و«الذل وجرح الكرامة».
Неизвестная страница
كان من السهل أن يسمي ذلك قوة الخيال. ولكن الفتى كان مترددا إزاء تلك التسمية. فلو قلنا قوة الخيال، فيجب أن يتضمن ذلك تخيل آلام الآخرين. وحدوث انتقال عاطفي يجعله هو نفسه يتألم مثلهم. ولكن برود الفتى الطاغي لم يجعله يشعر مطلقا بآلام الآخرين. كان فقط يهمس: «ذلك الألم رهيب، أنا أعرف ذلك جيدا.»
كان ذلك في وقت ما بعد الظهيرة في يوم صحو من شهر مايو. انتهى الدرس وفكر الفتى أن يذهب إلى غرفة نادي الأدب؛ ليتناقش مع من يجده هناك قبل أن يعود إلى منزله، وخطا خطوات فعلا في اتجاه الغرفة. عندها قابل «ر» في منتصف الطريق.
قال «ر»: «كنت أبحث عنك. دعنا نتبادل الحديث قبل أن نعود لمنازلنا.»
دخل الاثنان مبنى المدرسة القديم الشبيه بالثكنات، وفصوله مقسمة بحوائط من خشب الأبلكاش. توجد غرفة نادي الأدب في أحد أركان الطابق الأرضي المظلم. يسمع من غرفة نادي الرياضة أصوات ضوضاء وضحكات عالية. ونشيد المدرسة يسمع من غرفة نادي الموسيقى صدى لصوت البيانو على فترات متباعدة.
أدخل «ر» المفتاح في ثقب الباب الخشبي المتسخ. ولكي يفتح الباب كان يجب دفعه بقوة بالجسم بعد إدارة المفتاح.
كانت الغرفة خالية لا يوجد بها أحد. فاحت رائحة التراب المألوفة. دخل «ر» أولا، وفتح النافذة ونفض الغبار الذي التصق بيده، ثم بعد ذلك جلس على مقعد قديم على وشك الانكسار.
بعد أن هدأ قليلا بدأ الفتى التحدث على الفور: «لقد رأيت ليلة أمس حلما ملونا. لقد كنت أنوي أن أكتب لك رسالة بعد عودتي للمنزل اليوم. (كان الفتى يؤمن أن رؤية الأحلام الملونة ميزة خاصة ينفرد بها الشعراء فقط، وكانت تلك من مهاراته). كان مكانا يشبه ربوة عالية أرضها حمراء. كانت شمس الغروب تشع بلون فاقع الاحمرار، ولكن رغم ذلك كان لون الأرض الأحمر بارزا. ثم بعد ذلك ظهر من ناحية اليمين، شخص يجر سلسلة طويلة، ومقيد في نهاية السلسلة طاووسا أكبر خمس مرات تقريبا من حجم الإنسان. ويسير الطاووس مسحوبا ببطء شديد طاويا جناحيه أمام عينيه. كان لون الطاووس أخضر زاهيا. كان في غاية الجمال، جسمه كله أخضر، واللون الأخضر يتألق لامعا. ولقد ظللت أتأمل ذلك الطاووس إلى أن تم سحبه والابتعاد به. كان حلما مهولا! أحلامي ذات الألوان دائما ما تكون ألوانها زاهية وواضحة ربما بشكل زائد عن الحد. ماذا يعني يا ترى ظهور الطاووس في الحلم طبقا لتفسير فرويد للأحلام؟» - «آه.»
رد «ر» ردا مبهما بلا مبالاة واضحة.
كان «ر» مختلفا عما هو عليه دائما. شحوب وجهه كان كما هو عليه دائما، ولكنه لم يظهر الحالة التي يرد بها دائما على كلمات الفتى بحماس لا يتغير ويتحدث إليه بصوت تملؤه حرارة هادئة. كان من الواضح أنه يستمع إلى حديث الفتى الفردي بلا وعي ولا انتباه. لا بل هو لم يكن يستمع له أصلا.
كان قشر الرأس ينتشر قليلا حول الياقة الطويلة للزي المدرسي. أشعة الظلام جعلت شارة الياقة الذهبية التي على شكل زهرة الكرز تلمع، وبرزت الأنف عالية لتبدو أطول من أنوف الآخرين. تلك الأنف التي وإن كانت أكبر قليلا عن اللازم؛ إلا أنها ذات شكل جميل وراق، كما أنها تبرز ملامح قلقة محتارة إلى حد كبير. وقد جاء للفتى إحساس أن المعاناة تتبلور في ذلك المكان.
Неизвестная страница
يوجد فوق المكتب العديد من الأشياء التي علاها التراب، مثل مسودات قديمة، ومسطرة، وقلم رصاص قصف سنه، ومجلد تجميع أعداد مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، وورق كتابة مربعات به بعض الكلمات. كان الفتى يحب هذا الجو الأدبي الفوضوي. مد «ر» يده متثاقلا، وتناول المسودات القديمة وكأنه يحاول ترتيب الفوضى. وعندها صبغت أنامل يده الرقيقة البيضاء، بتراب ذي لون فيراني، ضحك الفتى بصوت خفيض. ولكن «ر» لم يضحك بل عبر عن استيائه بقرقعة من لسانه. وقال، وهو ينفض يده من التراب: «في الواقع هناك ما أريد قوله لك اليوم.» - «وما هو؟» - «في الواقع ... أنا ...»
بعد أن تباطأ «ر» في القول واصل في عجلة: «أعاني بشدة؛ لقد قابلت موقفا شديد الصعوبة.» - «هل وقعت في الحب؟»
سأله الفتى ذلك السؤال بهدوء تام. - «نعم».
بعد ذلك تحدث «ر» عما يلاقيه في مسيرة حياته حاليا. كان يتبادل الحب مع زوجة شابة، وقد فطن أبوه إلى ذلك الأمر؛ ففرق بينهما.
فتح الفتى عينيه على وسعهما، وظل يتأمل «ر» غير مصدق. - «يوجد أمامي هنا إنسان يعاني من الحب. إنني الآن ولأول مرة أرى ما يسمى «الحب».» ولكن على أي حال لم يكن ذلك المشهد جميلا بالمرة، بل ربما يكون هو أقرب إلى القبح. كان «ر» قد فقد حيوية روحه المعتادة فيه، ومالت ملامحه إلى البؤس، بمعنى أنه كان متعكر المزاج. لقد سبق للفتى أن رأى مثل ذلك الوجه لأناس فقدوا أشياء لهم، أو تأخروا عن موعد القطار فرحل بدونهم.
ومع ذلك، فقد دغدغ غرور الفتى أن يبوح له زميله الأقدم سنا بقصة غرامه. وكان بالطبع سعيدا بذلك. وحاول الفتى بكل جهده أن يظهر مشاعر التعاطف والحزن. ولكنه في الواقع كان يحس بالضيق والتذمر من الصورة المتواضعة للغاية للإنسان الواقع في الحب.
أخيرا لاحت للفتى كلمات يواسي بها «ر». - «إنه أمر مهول. ولكن من المؤكد أن ذلك سيجعلك تكتب شعرا رائعا.»
رد «ر» عليه وهو خائر القوى منهك العزيمة: «الأمر أخطر بكثير، ولا مجال للشعر فيه.» - «ولكن، أليس وظيفة الشعر إنقاذ الإنسان في وقت كهذا؟»
برزت إلى مخيلة الفتى قليلا حالة السعادة التي يكون هو عليها عند كتابة الشعر. إذا استعار تلك السعادة؛ فهو يعتقد أنه يستطيع التغلب على أية حالة من التعاسة أو المعاناة مهما كانت. - «ليس الأمر بهذا الشكل، أنت ما زلت صغيرا على فهم ذلك.»
جرحت هذه الكلمة كبرياء الفتى، وتحول قلبه إلى البرود، وبدأ يخطط للانتقام. - «ولكن إذا كنت شاعرا حقا، إذا كنت عبقريا حقا، ألا يكون الشعر هو المنقذ لك في هذه الحالة؟»
Неизвестная страница