Избранные английские рассказы
مختارات من القصص الإنجليزي
Жанры
وكانت وينا هي التي أوحت إلي هذا الخوف بما قالته - وإن كنت لم أفهمه - عن الليالي المظلمة. ولم يكن من العسير علي الآن أن أخمن ما عسى أن تجيء به الليالي السوداء. وكان القمر يدخل في المحاق، فالعتمة في كل ليلة تجيء، أطول. وقد فهمت إلى حد ما سبب الخوف الذي يعتري هؤلاء العلويين الصغار من الظلام. وتمنيت لو عرفت ماذا عسى أن يرتكب هؤلاء السفليون من الخسة والأسواء في مطلع الشهر الجديد. وصرت موقنا أن نظريتي الثانية خطأ في خطأ. ولعل العلويين كانوا فيما مضى هم السادة والطبقة الأرستقراطية المفضلة، على حين كان السفليون خدمهم وخولهم. ولكن هذا عهد مضى وانقضى وصار النوعان اللذان أثمرهما تطور الإنسان على الأدهار يمضيان - أو عسى أن يكونا قد انتهيا - إلى حال جديدة وعلاقة أخرى، فالعلويون قد انحطوا فصاروا عبثا جميلا ليس إلا، وما زال لهم ملك الأرض، ولكن على التسامح، لأن السفليين الذين ألفوا باطن الأرض من أحقاب مديدة أصبحوا لا يطيقون ظهرها المضيء، وقد استخلصت أن السفليين يصنعون لهم ثيابهم، ويمدونهم بحاجاتهم المألوفة، ولعلهم يجرون على ذلك بحكم العادة القديمة كما يضرب الجواد الأرض بحافره، أو كما يلتذ الإنسان قتل الطريدة حين يخرج للصيد، لأن ضرورات عتيقة تركت أثرها في كيان المخلوق. ولكن النظام قد انقلب، وأخذ يوم الحساب والعقاب يدلف من هؤلاء الصغار الرقاق. ولقد استطاع الإنسان قبل آلاف من الأجيال أن يدفع أخاه الإنسان عن نور الشمس ونعيم العيش. فالآن يرتد هذا الأخ المدفوع، وقد تغير، ولقد شرع العلويون يتعلمون من جديد درسا قديما، فقد بدأوا يعرفون الخوف مرة أخرى. وطافت برأسي فجأة وأنا أفكر في هذا ذكرى اللحم الذي رأيته في العالم السفلي، وكان من المستغرب أن أتذكر ذلك، فما أثاره تداعي الخواطر، ولا أدى إليه تيار التفكير، بل خطر الأمر كأنه سؤال يلقى علي من الخارج، فحاولت أن أتذكر صورة اللحم، وخيل إلي أن فيه شيئا مألوفا، ولكني لم أستطع أن أعرف في ذلك الوقت ماذا هو.
ومهما يكن من أمر هؤلاء الصغار وعجزهم حيال ما يخافون فإن شأني غير شأنهم، وأنا ابن عصري، وثمرة شباب الإنسانية، فالخوف لا يشل المرء، والأسرار الخفية لا تفزع. وأنا، على الأقل، سأدافع عن نفسي. ولم أضيع وقتا، فعزمت أن أصنع لنفسي أسلحة، وأن أتخذ حصنا أنام فيه. ومتى صار الحصن قاعدة لي فإنه يسعني أن أواجه هذا العالم العجيب بشيء من الاطمئنان الذي أفقدنيه إدراكي لأي ضرب من الخلائق أتعرض ليلة بعد ليلة. وشعرت أن من العسير أن أنام بعد ذلك ما لم أكن في أمان منهم. وارتعدت وأنا أذكر كيف فحصوني.
وذهبت بعد الظهر أتمشى في وادي التيمز ، فلم أجد شيئا يصلح في رأيي أن يكون معقلا، فقد كانت المباني والأشجار كلها لا تعيي متسلقين حذاقا كهؤلاء السفليين، وكفى بآبارهم شاهدا. ثم تذكرت البروج العالية في قصر الصيني الأخضر وجدرانه المصقولة اللامعة، فلما كان المساء حملت وينا على كتفي كما يحمل الطفل، وذهبت أصعد في التل في اتجاه غربي جنوبي. وكانت المسافة - فيما أقدر - سبعة أميال أو ثمانية، ولكني وجدتها أقرب إلى ثمانية عشرة. وكنت قد رأيت القصر أول مرة في المساء والضباب، فالأبعاد تخدع. وكان عقب حذائي قد تخلخل. وكان في النعل مسمار، فصرت أظلع. فلما صرت على مرأى من القصر كان النهار قد ولى، فصار القصر أسود أمام الشفق.
وكانت وينا قد سرها جدا أني حملتها، ولكنها بعد قليل طلبت أن أحطها عن كاهلي، وراحت تجري بجانبي، وتعرج يمينا وشمالا، لتقطف لي أزهارا تدسها في جيوبي. وكانت جيوبي هذه مبعث حيرة لوينا، وأخيرا هداها التفكير إلي أنها نوع شاذ من الزهريات، أو هي، على الأقل، صارت تتخذها لوضع الزهر فيها. وهذا يذكرني ... فقد وجدت وأنا أغير سترتي ... (وأمسك الرحالة في الزمن، ودس يده في جيبه، وأخرج زهرتين ذابلتين وضعهما، بلا كلام، على المائدة. ثم وصل ما انقطع من حديثه.)
وسكن الليل، وواصلنا الإصعاد في التل في اتجاه وملبدن فتعبت وينا، وأرادت العودة. ولكني أشرت إلى بروج القصر وأفهمتها بطريقة ما أننا سنجد فيه معاذا مما يخيفها. وأحسبكم تعرفون ذلك السكون الذي يشمل الدنيا قبل الغسق؟ حتى النسيم يقف، في الشجر، وما زلت أرى في هذا السكون معنى الانتظار، وكانت قبة السماء صافية، بعيدة، فارغة، فيما خلا بضعة خطوط أفقية في حيث غربت الشمس، وقد اكتسى ما أتوقع في تلك الليلة، ثوب الخوف والحذار، فصارت حواسي في ذلك السكون المظلم مرهفة، وكان يخيل إلي أني أحس أن الأرض التي أطؤها بقدمي، مجوفة، محفورة، بل أكاد أرى من خلال قشرتها هؤلاء السفليين يذهبون ها هنا وها هنا متربصين، حتى يجيء الظلام، وخيل إلي أنهم سيعدون تطفلي عليهم في سراديبهم بمثابة إعلان للحرب عليهم. ولماذا أخذوا آلة الزمان؟!
وهكذا مضينا في هذا السكون، وانتقلنا من الشفق إلى العشوة، وغابت الزرقة الصافية، وبرزت النجوم واحدا بعد واحد، وخفيت معالم الأرض، واحلولكت الأشجار، وزادت مخاوف وينا، وتحلل بها التعب، فحملتها بين ذراعي، وذهبت أحدثها وألاطفها، فلما طخطخ الظلام طوقت عنقي بذراعيها، وأغمضت عينيها، وأراحت خدها على كتفي، وانحدرنا، ونحن هكذا إلى واد، وجئنا إلى جدول صغير خضته إلى الناحية الأخرى من الوادي، مارين بعدد من المساكن وتمثال بلا رأس، وكانت هناك أشجار سنط، ولم أر أحدا من السفليين ولكنا ما زلنا في أول الليل، وأمامنا ساعات حالكة قبل أن يطلع القمر القديم.
ورأيت من ذروة التل التالي غابة كثيفة، فترددت فما بدا لي آخر لها، إلى اليمين أو إلى اليسار. وأحسست بالتعب - وبالحفى في قدمي خاصة - فأنزلت وينا عن كتفي، وقعدت على الخضرة. وكنت لا أرى القصر من مكاني فشككت في النهج الذي أنا ناهجه، أهو مستقيم أم أعوج؟ ونظرت إلى الغابة الملتبسة، وفكرت فيما عسى أن يكون مخبوءا فيها، ومتى دخل المرء تحت هذه الغصون المتوشجة، فإن النجوم تغيب عنه، وحتى لو أنه لا خطر كامن فيها - خطر أبيت أن أطلق لخيالي العنان فيه - فإنه يبقى التعثر بالأعواد والاصطدام بالشجر، وكنت قد تعبت جدا بعد الذي تجشمته في النهار فقلت أتقي الغابة، وأقضي الليل على التل.
وسرني أن وينا كانت مستغرقة في النوم، فلففت عليها سترتي وجلست إلى جانبها أنتظر طلوع القمر، وكان جانب التل ساكنا مهجورا. ولكني كنت من حين إلى حين أحس بحركة من ناحية الغابة. وكانت النجوم تومض وتتلامح فوقي، فقد كان الليل ساجيا، والسماء صافية، فكنت أجد في ذلك أنسا وروحا، على أن العقود القديمة قد ولت، وأعادت نظمها في صور جديدة تلك الحركة البطيئة التي لا تحس في مائة عمر إنساني، ولكن نهر المجرة بقي على العهد به فيما بد لي. ورأيت في ناحية الجنوب - فيما رجحت - نجما أحمر مشرقا لا أعرفه، وهو أبهر من الشعرى. وكان هناك بين هذه الأضواء البراقة كوكب ثابت النور رقيقه، كأنه وجه صديق قديم.
وقد تضاءلت همومي، وأنا أنظر إلى هذه النجوم، وخفت أثقال الحياة الأرضية، وفكرت في الأبعاد المهولة لهذه النجوم، وفي دلوفها البطيء من الماضي المجهول إلى المستقبل المجهول، وفي دورة الاستقبال التي يصنعها القطب الأرضي، وكيف أن هذه الدورة الصامتة لم تحدث سوى أربعين مرة في كل هذه السنين التي قطعتها، وفي خلال هذه الدورات القليلة زال وامحي من الوجود كل النشاط، وكل التقاليد، والنظم المعقدة، والأمم واللغات والآداب والآمال، بل زالت ذكرى الإنسان كما عرفته. وجاء هؤلاء الضعاف الذين نسوا أسلافهم الأماجد، وهذه المخلوقات البيضاء التي أمشي منها على حذر. ثم فكرت في الفزع الذي يفصل ما بين النوعين، فتبينت لأول مرة معنى اللحم الذي رأيته، فسرت في بدني رعدة، ونظرت إلى وينا الراقدة بجانبي، ومحياها الأبيض، وكأنه النجم تحت النجوم، فجاهدت حتى نفيت هذا الخاطر من رأسي.
وظللت ذلك الليل الطويل أصرف ذهني عن التفكير في السفليين على قدر ما يسعني ذلك، وأتسلى بأن أحاول أن أتصور أني أرى ما يدل على وجود العقود والمنظومات القديمة في الاضطراب السماوي الجديد، وقد ظلت السماء صافية، ولم يغشها إلا سحابة رقيقة. ولا شك أني كنت أغفي من حين إلى حين، ولما تقضى الليل إلا أقله، ظهر غشاش في الأفق الشرقي، كأنه انعكاس نار لا لون لها، وطلع القمر هزيلا مقوسا، وفي بياضه كدرة، ومن ورائه بلجة الفجر. وكان شاحبا في أول الأمر ثم احمر وسطع. ولم يقترب منا أحد من السفليين، ولم أر منهم واحدا فوق التل في تلك الليلة، وأعاد اليوم الجديد ما كان ضاع من الاطمئنان والثقة، فخيل إلي أن مخاوفي لم يكن لها موجب، فنهضت فإذا قدمي الذي انفصل كعب حذائها قد ورم رسغها، وصار عقبها يؤلمني، فقعدت ثانية، وخلعت حذائي ورميته.
Неизвестная страница