وكيف نترواه؟
عرض وجلاء تاريخ
لا شك في أن من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومن أبرزها نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في هذا العصر بقدر عظيم، كما أعليت مكانته، وأبعدت أغراضه، وتلونت فنونه، وبعد أن كان يضطرب في أضيق مضطرب، ويتقلب في أفسل المعاني، ولا يستشرف إلا للضئيل التافه من الغايات : من المديح الوضيع الذليل، ومن الغزل المصنوع المتكلف، ومن فخر مكذوب لا يمت إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وصف مفترى على الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يخلع عليه الخيال الصناع صورة الواقع، ومن هجو تتلقط فيه المعايب والمقاذير من هنا ومن هنا لتعفر بها وجوه الناس عفرا، ونحو ذلك مما كان يجول فيه الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتتجرد في طلبه والتشمير له جمهرة المتأدبين، على أنه لم يكن له أي حظ من وجدان ولا من جيشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يذك له حس، ولم يخفق به قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعود في مذهبها تلك الحركة التي تنبعث بها الصناعات اليدوية، إلى أن تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ذلك مما تطلق عليه كلمة المعاني، كانت، في الكثير الغالب، تجلى في صور مترهلة متزايلة، لا يقوي بناءها أو يشد متنها شيء من جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها شيء من حسن الصياغة وإشراق الديباجة وجمال النظام!
ولقد قيدت هذا «بالكثير الغالب»؛ لأن ذلك الجيل الماضي لم يخل من كتاب ومن شعراء أغلوا حظ الأدب، ففسحوا في أغراضه، وأبعدوا في مطالبه، وحلقوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتسق لجلالة المعاني شرف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من المنظوم والمنثور كليهما كلام يترقرق ماؤه، ويتألق سناؤه، ورحم الله إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكتاب، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هدوا إلى حسن البيان السبيل. •••
وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة التي كان يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أفقا وأبعد، مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أفق الكماليات البحت إلى موطن الضرورات في الحياة الاجتماعية إذا كان المتأدبون قد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب.
لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلوا عليها من صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن من ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره إلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يوصل به شأن.
ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جلي عليهم من أدب الغرب، وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع جهدهم دون هذه الغاية، فلم يظفروا من الأمر بجليل، ولا شك أن ذلك يرجع إلى أنهم - في غالب الأحيان - إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب!
ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى.
وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب؛ وأنه كان - في الجملة - يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول - في الجملة - لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة العرب قائمة، وظلت حضارتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه إلى كثير! ولو قد عني النشء من متأدبينا بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أثر من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يمتع حقا وينعم الروح حقا بما ينفض من عاطفة معتلجة، ويصور من دقيق حس، ويتدسس إلى ما استكن في مطاوي الضمير؛ إلى ما أصاب من المعاني البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرف فيه من كل دقيق وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس، ما ترك جليلا من الأمر ولا دقيقا إلا مسه وعرض له وعالجه بالتصوير والتلوين، وكل أولئك يصيبه في مصطفى لفظ، ومحكم نسج، وبارع نظم، ودقة أداء، وحلاوة تعبير!
على أن الأدب العربي، مع هذا، طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقدر غير يسير؛ ومهما يكن من شيء فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لمن أغنى الآداب التي قامت في العالم ومن أعلاها مكانا.
Неизвестная страница