على أن هذا النوع من البيان قد تسرب إلى المسارح وإلى بعض الآثار المترجمة أو المنشأة، فلا زلنا نسمع ونقرأ «الموت البنفسجي - وضوء القمر الطري - والصخرة المدمدمة - والزهرة الفيلسوفة - واضطراب الشيطان في نسيج عنكبوته»!
ونعود بعد هذا إلى ما كنا بسبيله؛ ولقد قرأت رسالة صديقي الدكتور هيكل في صحيفة الأدب التي خرجت بها السياسة أمس، وبين فيها رأيه في القديم والحديث؛ وإني لأوافقه على كل ما قاله في جملته وتفصيله، وأعلن فوق هذا إعجابي بدقته واعتداله وصحة حكمه.
وإذا كان المقام يحتمل مزيدا على ما كتب ففي بعض التفصيل.
ولقد عرفت أن عندنا أنصارا للقديم وأنصارا للجديد، أما أولئك فالذين يرون بوجه عام أن الأدب مسألة عربية لغوية، فما جاءنا عن العرب وما انتهى إلينا من بلاغة الصدر الأول والذين يلونهم إلى عهد انقباض اللغة هو الأدب لا غيره، وأما هؤلاء فلا يرون إلا أن الأدب هو الوفاء بحاجة العقل والفكر والتصور والشعور، وأن اللغة وأساليبها ليست إلا أداة لها وظرفا، وثمرة هذا الخلاف تظهر، كما حدثتك أمس، في أنه إذا لم تتواف اللغة لكل تلك الحاجات فأيهما ينبغي أن يخضع للآخر؟
ونحن حين نتحدث عن أنصار القديم وأنصار الجديد نثر الحقيقة ونظلم الواقع إذا نحن نظمنا كل فريق في صف واحد، فإن أنصار القديم يبتدئون بقوم لم يتصل لأدبهم حس بحضارة القرن العشرين، وينتهون بقوم قد اتصل شعورهم بكل ما حولهم، وإنك لتراهم يستشرفون لكل ما يلامسهم من فنون الحضارة وحاجات العقل والتصور في هذا العصر، ويشكونه بالترجمة والتعبير ما استطاعوا بشرط ألا ينبو عنه الذوق العربي ولا تشمس عليه أساليب الكلام، وأما الآخرون فينتهون بطائفة لعلها لا تلمح شيئا من بهاء هذه اللغة ورونقها، ولا ترى لديباجتها وأسلوبها حقا ولا كرامة، وأولئك الذين لا يقع لكلامهم من العربية إلا مفرداتها، ولكن بيانهم نفسه ليس من العربية في شيء أبدا!
ولعله لا يشق على الفريقين أن يسقطا ذينك الطرفين من حساب هذا الخلاف، فيدعا أولئك مزملين بشملاتهم، ظاعنين على عيسهم، حتى إذا «وخدت» بهم يوما في شارع عماد الدين صدمها «المترو» صدمة جعلتها وجعلتهم «أنقاضا على أنقاض»، ويدعا هؤلاء في رطانتهم وعجمتهم، فإلى المالطية غايتهم وبئس المصير!
وبعد أن ينفض الطرفان أيديهم من تراب أولئك وهؤلاء لا يبقى إلا قوم تفقهوا في لغة قومهم، وحذقوا أساليبها، وهم مع هذا دائمو الاستشراف لما تطلع به الحضارة الحديثة من علم وفن، حراص على أن يشكوه بلغتهم وينتظموه ما استطاعوا في أساليبها النصاح، وقوم حذقوا العلم والفن يحبون أن يجلوهما على قومهم بلغة العرب؛ فهم دائمو البحث والتقري، علهم يعثرون بين محكم صيغها وروائع تعبيراتها على ما يمكنهم من أن يحملوه رسالة العلم الحديث.
وهذا هو الواقع والحمد لله، وإن من حقنا أن نغتبط كل الاغتباط بهذه النهضة الكريمة، نهضة العلم والفن الحديث، تجاولها نهضة اللغة والأدب القديم، ولن يخرجا من هذه الحرب إلا إلى الصلح والسلام، ولن يفضي بينهما هذا الخلاف إلا إلى الوفاق والوئام.
سيقول فلان من أنصار الجديد: إني ليعتلج في نفسي معنى لا أستطيع أن أنفضه في ديباجة عربية صحيحة، وسيبادره فلان من أنصار القديم بأن هذا أو قريبا منه قد وقع في تعبير المتقدمين فهاكه، وبهذا يحيا الأدب وتحيا اللغة معا. •••
لم يبق من مواطن الإشكال إلا فيما لم يعن فيه القديم على الوفاء بأداء الجديد، ولا شك أن أكثر هذا أو كله من مستحدثات العلوم والفنون، وكيف الحيلة في هذا، وما عسى أن يرى فيه أنصار القديم؟ أيرون أن يلينوا بقديم لغتهم حتى يتسع له؟ أم يرون أن يذاد جملة ويدافع ألبتة حتى لا يقع للعربية ما يفسد كرائم مفرداتها ويذهب بأساليبها النصاح؟ وكذلك تكتب الفرقة بين العلم والعربية إلى غاية الزمان!
Неизвестная страница