ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غناء لنا عنه، فإن ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولم يكن حظهم منه جليلا، ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث.
على أن شيئا من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئا من نبو ولا نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات.
هذا هو الهدف الأكبر فيما رمى إليه الأستاذ بمختلف مباحثه القيمة في الأدب: ما تناول منها الموضوع في لبابه أو جال به جولاته في النقد والشعر، ومن مر بالقلائد التي نظمها في هذه الفصول كلها والفرائد التي رصعها بها، لم يفارقها إلا بقلب مشتاق، ولب يستظهر بالذكرى على ألم الفراق.
الباب الثاني: في الوصف
هذا الجناح من المتحف فيه العجب العجاب: أتنظر بعين البدوي إلى تلك الآلة العجيبة «الراديو» فترى هيئتها كما يراها وتدهش من مفاعيلها مثل ما دهش منه؟ أتشهد المؤلف قبل أن يركب الطيارة وحين ركبها، وبعد أن تدلى منها وصار إلى مأمن، وأعاد ذكراها في نفسه مروعا حين رآها في السماء قافلة، وهو يجالس بعض صحبه على شاطئ البحر بالإسكندرية؟
أتتفرس في رسم المؤلف حين يهتف هاتف من أصدقائه بسنه وقد تشرف على الخمسين، وتقرأ في ذلك الرسم كل ما تراءى عليه من الأحساس المتلونة التي تكن أمثالها جوانح كل حي؟ ولكن من فيهم يستطيع جلاءها كما جلا؟
أيروعك شكله وهو صحيح معافى؟ غير أنه لا يشعر بأنه مجتمع الشمل، ولا يسكن إلى ما هو فيه، وكلما اطلع على ساعة من ساع الزمان رآه مشغولا بالانحدار إلى التي تليها، فعلى محياه يرتسم سؤال: «إلى أين؟ إلى أين؟» وسؤال آخر: «ألا من قرار؟» على أن إجابته عن هذا السؤال هي إجابة الإنسانية كلها، أجل، ولكنها إجابتها بأفصح ما يتسنى لنفس أن تعبر به تعبيرا خلابا بديعا عن أسرار حيرتها الدائمة!
أتنظر إليه في رسم آخر وهو ينمق ما يوحيه إليه الجمال، فتمر بك الألواح العجيبة من بزوغ شمس واستوائها على عرش ملكها تصدر توقيعاتها في حياة هذا العالم، ومشبها بعد ذلك متثاقلة إلى خدرها، لتتوارى عن العيون خلف سترها؟
ثم من طلوع القمر «يبدو لك أول الشهر خيطا دقيقا، ويبدو في ثانيه كحاجب الأشيب، ويستوي بعده قوسا، ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرا كاملا»، فهو في كل حالاته أولئك «ما حضر إلا أهنأ وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى».
ثم من روض أريض «قد انسرح بانه، وفرعت فروعه وبسقت أغصانه، وزكت أوراقه، ورف بوحي النسيم نبته وجلجل اصطفاقه» إلخ، فأنت مفتتن بما يطالعك به، أبدع وشي في أبرع ديباجة.
Неизвестная страница