3
من الصدور أو المتون أو الأعقاب.
هذه الفطنة النافذة، وهذا الحس المرهف، وهذا الذوق التام، لقد أغنت جمهرة العرب عن المطالعة بفنون نقد الكلام، والتنبيه إلى ما في مطاويه من المحاسن والعيوب، حتى لكأن هذه الخلال الشائعة فيهم كانت عندهم من أفصح أساليب الخطاب!
ولست أزعم أن العرب كانوا كلهم أصحاب بيان، وأن شعراءهم إنما كانوا يرسلون الشعر من عفو الخاطر، لا! بل إن من أعلامهم لمن كان يجتمع للقريض ويتكلف تجويد النظم، ولقد يجهد ببعضهم كثيرا في تحرير الكلام وضبطه، والكر عليه بالجندرة والصقل والتهذيب.
ولقد ظل شأن البلاغة العربية كذلك إلى غاية العصر الأموي، فإذا كان قد نجم في هذا الباب جديد، فإن بعض البصراء بفنون الكلام قد انبعثوا لنقد بعض ما يجلى عليهم من الشعر، وجعلوا يدلون بوجه عام على ما لعله يخفى من عيوب، ولقد يقارنون بينه وبين شيء من جنسه من أشعار السابقين، ويفطنون إلى ما يضمر من دقة معنى وإحسان أداء، ومهما يكن من شيء فإن ذلك الضرب من النقد لم يكن جاريا على أي نهج علمي - إذا صح هذا التعبير - إنما هو الذوق والفطنة والحس العام.
وبالرغم من أن بعض العلماء تقدموا في أعقاب هذا العصر، وفي صدر العصر العباسي الذي وليه، لجمع الحديث واستخراج الأحكام الفقهية، وعقد القواعد للنحو والصرف، بل لقد تعمد الخليل بن أحمد المتوفى سنة (170) ضروب الشعر وتقصي أوزانه ومقاييسه، فوضع علم العروض، بالرغم من هذا كله فإن أحدا من العلماء لم يتكلف وضع قاعدة علمية واضحة المعارف بينة الحدود لشيء من فنون البلاغة، يرد إلى حكمها ما يندرج تحته من الجزئيات.
كيف عقدت للبلاغة قواعد وجردت لها علوم؟
سيداتي، سادتي
إذن فكيف ومتى ضبطت للبلاغة قواعد وجردت لها علوم؟
يقول ابن خلدون: «إن السبب في إطلاق «البيان» على الأصناف الثلاثة أنه أول ما تكلم فيه الأقدمون، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى، والجاحظ، وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته وهذب مسائله إلخ»، وهذا الكلام يحتاج إلى قدر كبير من الإيضاح والتفصيل.
Неизвестная страница