ولقد حاول الصدور الأولون أن يضبطوا حدود الذوق، ويدلوا على ما يرضيه وما ينشز عليه، فوضعوا فيما وضعوا في هذا الباب فن الموسيقى، وعلوم البلاغة.
6
وهنا ينبغي أن يفهم النشء حق الفهم أن استمداد مثل هذه الفنون ليس من الأمور الواقعة، ولا هو من أحكام العقل، كاستمداد علوم الكمياء والطبيعة، والحساب والمنطق مثلا، إنما مادتها الذوق السليم، وتعرف ما يرضيه، وتقصي ما يطربه، وعلى هذا أجروا قواعدهم، وفي حدوده أطلقوا أمثلتهم وشواهدهم.
وأحب بعد هذا، أن تعرف فرقا جليلا بين شأن العلوم وشأن الفنون، فإنك بمدارسة العلوم والتمرين فيها، تستطيع أن تكون بقدر ما منتجا، أي تكون كيميائيا أو طبيعيا أو حاسبا، أما في الفنون فإنك في الأكثر، تستطيع أن تكون بصيرا بالفن ومميزا بين جيد الصنعة ورديئها، كما تستطيع أن ترفع جيدها في التقدير درجات على درجات ، وتحط رديئها درجات دون درجات، أما أن فن الموسيقى يؤهلك لأن تكون مغنيا بارعا أو عازفا رائعا، وأن علوم البلاغة تستطيع أن تخرج منك كاتبا لبقا أو شاعرا فحلا، فذلك ما تتحسر دونه تلك الفنون!
ذلك أن البراعة في هذه الفنون الجميلة إنما ترجع أولا إلى الاستعداد والطبيعة وتهيؤ الملكة، على أن التعليم والتهذيب إنما يصقلان الطبيعة صقلا ولا يخلقانها خلقا، وإنك وإن غيرك ممن جروا من أصول الصنعة على عرق، لتقضون بالتفوق والتبريز لهذا المغني على ذلك المغني إذ أنتم كلكم جازمون بأن هذا المسبوق أبلغ خبرة وأغزر علما، كما قد تحكمون بأن هذا الشاعر أبلغ من هذا الشاعر وأحلى كلاما، وأبرع منزعا، وأروع مقطعا، إذ أنتم كلكم قاطعون بأن هذا المبروع أوسع باللغة علما، وأكثر لعلوم البلاغة تحصيلا وأصدق فهما!
والوجه في هذا أن العلوم التي تستند قضاياها إلى العقل أو إلى الواقع كالحساب والمنطق والطبيعة، إنما يكون التبريز فيها في العادة على قدر ما حصل المرء من قواعدها، وتفهم من قضاياها ومسائلها، أما الفنون التي تستند قضاياها إلى الذوق، فالبراعة فيها إنما تجري على براعة الذوق نفسه، لا على العلم بالقضايا الاصطلاحية التي تحرى بها علماء الفن ضبط ما يرضي هذا الذوق وما ينشز عليه، وإنك لا تجد في الدنيا رجلا واحدا درس فن الطبقة وضروب النغم، وضبط حدودها، وعرف ما يستقيم على الصبا وما يتسق من التناغيم للعراق، ثم أقبل يمط حلقه متأثرا هذه القواعد الفنية، فانتظم مغنيا حاذقا يشيع الطرب ويبعث الأريحية في الناس!
وكذلك قل في سائر هذه الفنون، وإنك لتجد آلافا من الناس أعلم من مثل شوقي بمتن اللغة وبأوزان الشعر وما يلحقه من زحاف وعلل، وأفقه في علوم البلاغة وسائر أسباب الكلام، وإذا شوقي يسجع بأعلى الشعر، وإذا أولئك لا يبعثون إلا الفسل المليخ
7
من المقال.
وإنك لتجد كثيرين من الضراب أعلم من محمد العقاد بالموسيقى، وأحفظ لأصولها، وأضبط لقواعدها، فإذا أطلقوا في «القانون» أيديهم لم يحركوا منك ساكنا، حتى إذا أرسل العقاد فيه بنانه، أخذ منك العجب، وتمشى فيك الطرب، ولربما ارتفع بنفسك وأدخل عليك من الأريحية ما يخيل إليك أنك أصبحت على المؤمنين أميرا!
Неизвестная страница