ما لي أجد غمزا على كبدي، وأكاد أحس بأن شعبة قد انخلعت من قلبي، وأن ذهني تطاير عني كلما لاح شبح الخمسين، فلقد بلغت الخمسين، وا رحمتاه، حقا! ...
لا تأسي يا نفس ولا يتعاظمنك الأمر، فإنني إن كنت قد بلغت الخمسين عددا، فإنني لم أعل بها قط سنا، وكيف تعلو بي السن وأنا لما أزل في انتظار الشباب الذي لم أخضه بعد، ولم أله به لهو من يخوض الشباب؟
لا! لا! ليست المسألة عددا في السنين، وليست الحياة مساحة تقاس بدورة الفلك، فلتعد علي السنون ما شاءت أن تعد، ما دمت - في الواقع - لم أزل فتي الروح مستشرفا لعهد الشباب! وليس من سنن الطبيعة أن يسبق الجدة القدم، ويتقدم على الشباب الهرم!
إذن فأنا لما أزل على شرف الشباب الغض، وأنف هذه الخمسين العددية راغم!
لقد بلغت الخمسين حقا، ولكنها ليست تلك الخمسين التي كان يتمثل لنا الناس فيها شيوخا قد شاب قذالهم، وابيضت لحاهم، وتكرشت وجوههم، وترهلت لحومهم، وتجلجلت أسنانهم، وفترت حدة عيونهم، وضعفت قوة متونهم، وثقلت آذانهم، وكلت أذهانهم، فإذا تحدث أحدهم جعل يعصر ذاكرته عصرا، وإذا مشى فكأنما يحمل على ظهره وقرا.
4
لقد بلغت الخمسين عددا، ولكنني لم أتقدم بها في السن كما يتقدم سائر الناس، وكيف تعلى سني حتى تدخلني في الشيخوخة على حين أني لو قد استعرضتها وفررت عنها
5
من يوم تفطنت إلى الحياة ما زادت في الواقع على عشر، وهذا على أسخى تقدير، فأين يا ترى سائر هذه السنين؟ اللهم إني لأبحث عنها وأجهد ذاكرتي في طلبها سوية فلا أجدها، فليس من العدل أن تسقط من مدة العمر هذه السنون! وإن ظلما دونه كل ظلم أن نجري حساب الأعمار في هذه الدنيا على دورة الأيام!
وليت شعري ما الدليل على أنني قد بلغت هذه الخمسين لو أنني عشت في بداوة لا تتعقب فيها السنون؟
Неизвестная страница