وإني لأرى أنني أنا الذي يمر بالأيام وليست الأيام هي التي تمر بي، وأنني أنا الذي يطوي السنين وليست السنون هي التي تطويني، وإني لأجد أن شأني مع الزمن لكشأن المسافر في القطار، يخيل إليه أنه ثابت في موضعه وأن ما يجوز به من الأعلام والشخوص إنما هو الذي يجري على خلاف، وعلى هذا لو أذن لي في الوقوف ولو لحظة واحدة لاستشعرت القرار في الدنيا وأحسست هذا الذي يدعونه «الآن»، ولكني برغمي السائر المغذ لا ينيخ راحلة ولا يحط رحلا، فإذا لم أنعم بالاطمئنان إلى الزمان فلا ملامة على الزمان!
ترى ما حاجتي، أو ما حاجة هذا السائق الخفي الذي لا يني عن دفعي دائما إلى الأمام - ترى ما حاجته إلى أن أحسو العمر حسوا، فما كنت في ساعة من الدهر إلا استشرفت لما بعدها، ولا طلع علي يوم من أيام العمر إلا تشوفت إلى غده، ولا دخلت علي سنة إلا تعجلت السنة التي من ورائها، حتى لو تهيأ لي أن تجمع أيام عمري في سجل واحد، لأسرعت إلى تقليب صفحاته حتى آتي من فوري على آخرها، وفي آخرها - لو علمت - آخر العهد بالحياة!
ترى ما خيري أو ما خير هذا السائق المرير في ألا يدعني أطمئن في هذه الدنيا لشيء، أو أستريح فيها إلى حال، وما إن اشتقت إلى شيء فطالعتني منه البداية، إلا شغلني عنها الاستشراف إلى النهاية، وما إن هفت نفسي إلى أمر فهممت بالإصابة من بواكيره، إلا صرفني عنها التشوق إلى غاياته ومآخيره، وما حصل في يدي شيء ما تقدمت به المنى، وجد في طلبه المسعى، إلا أسرع إلى نفسي الزهد فيه، والتطاول بالمنى إلى سواه! فأنا من الدنيا ومن ساعاتها كالكرة بين مهرة اللعباء، تظل تتقاذفها الأيدي ولا تستقر في موضع أبدا !
ترى ما حاجتي إلى تعجل الساعات في الأيام، وإلى تعجل الأيام في السنين؟ وترى أية غاية أريد أن أبلغها بهذا السفر السريع؟
تالله إني لفي حاجة إلى من يهديني إلى ما أبغي بهذا وما أريد!
أتراني أطلب طي الحياة وأنا كسائر الناس حق حريص على هذه الحياة؟ والله إن «هذا محال في القياس بديع».
4
إذن فما هذه الشهوة الملحة إلى فناء الأيام، وهذه الشهوة الملحة إلى بقاء الأيام؟ •••
وبعد، فما أراني في هذه الحياة غير قصة خيالية أنا ممثلها، وأنا في الوقت نفسه شاهدها، فما إن جد لي منها منظر إلا تاقت نفسي لما بعده، ولا حل منها فصل إلا تعجلت غايته والتحول إلى ما وراءه!
وكذلك أفتأ أطلب النهاية حثيثا حتى تختم «الرواية»، ولن تختم إلا بتلك المأساة التي تنتهي بها جميع أقاصيص الحياة، غير «أن الرواية لم تتم فصولا».
Неизвестная страница