السؤال الصريح ساعدها كثيرا لتجيب بوضوح: لأني لست مركبا لجيناتك .. أنت تريد الاستمرار وحسب! - وأنت؟ - أريد أن أمارس وجودي وحسب.
ضحكت وأنا أقول: هذه عبارتي أنا .. قلتها لك سابقا أليس كذلك؟ - لا تقلها .. بل مارسها .. دعنا نمارسها معا دون ممارسة للجنس، أيمكن ذلك؟
اتضح أن كلانا اتفق ضمنا على الحديث بهذا الأمر وبمنتهى الصراحة، وغدا واضحا مدى حاجتي إليها .. لشخصها ولرحمها .. من المؤرق أن تعطيني الجزيرة أملا بالنجاة ولا أجد فيها أي سبيل للاستمرار .. لقد حدثتها عن أمي وعن حلمي بالعائلة الكبيرة الممتدة .. حدثتها عن الخوف والعجز السابق في الإنجاب.
لم أتمكن يوما من الإنجاب .. الخوف يمنع أي إنسان من فعل هذا .. الخوف .. ذاك الشعور اللعين الذي يجعل مني عاجزا عن أبسط الأمور .. رفضتني زوجتي وهاجرت إلى اليونان .. بقيت وحدي مع أمي، ولم تكبر العائلة بل نقصت زوجتي قبل أن أخسر أمي أيضا .. كان يجب أن أهاجر إليها، هناك، حيث الأمل في مستقبل أكثر وضوحا وأقل خوفا .. لقد عشت الخوف بكل حالته .. قاسيت في المصنع وفي الفقر والفقدان، لقد مارست القتل والدفن والهرب .. ولم أمارس يوما الحياة بمعناها البسيط والهادئ .. أخبرتها بكل هذا وحدثتها أنني أشبهها بطريقة أو بأخرى، فهي تنتظر من لن يأتي، وأنا ذاهب إلى من لا ينتظرني .. زوجتي هربت ولا تنتظرني .. وعندما قررت الذهاب إليها لم أكن أعرف إن كنت سألتقيها أم لا، وإن التقينا فلست أعرف إن كنا سنكون معا أم أننا سنفترق بشكل أكثر وضوحا وحسما .. ولكن كان يجب أن أفعل شيئا. كنت بحاجة لأن أتحرك متجاوزا ما كنت فيه من سكون.
ورغم كل ما قلت، فقد رفضتني مجددا، ولكن رفضها هذه المرة كان حزينا .. لقد قالت إنها لا تريد أحدا .. لقد أقسمت لي أنها موجودة، دون أن أفهم، وأن الموجود بالضرورة حر .. وهذا ما يقلقها: يؤرقها التفكير بوجودها، وحريتها كشخص موجود، ومعنى حياتها الذي تصنعه عبر الحياة. «أجل، إنها ترهق نفسها بترهات كثيرة من هذا القبيل.»
وأنا أيضا بت أشعر بامتعاض شديد ثم قلت وفي داخلي توسل أرعن: «لا يكفي أن أكون وحدي لأكون قبيلة.»
وقد انتقيت هذه الكلمات تحديدا من نفس القصيدة كي أجد جسرا للتواصل بيننا؛ فإن كانت ترفضني لشخصي فقد تتقبلني لاقتباسي من قصيدة استخدمتها آنفا وتحبها. ولكنها ترفض الفكرة ولا ترفضني لشخصي، فقد قالت: القبيلة لا تعني لي شيئا، ولا المجتمع، ولا الخلود .. أريد أن أكون .. وأيضا أريدك جانبي، فلا تتخل عني .. ولكن أرجوك توقف عن محاولاتك بالتقرب من جسدي. - سأنسحب من كل المحاولات، ولكن ألا تظنين بأن الحرية التي تحدثت عنها قادرة لوحدها أن تلغي مجتمعا كاملا محتملا على هذه الجزيرة ويحق له أن يوجد؟ - أرأيت كم هو قاس أن يعي الإنسان لوجوده؟ لو كنت أرنبا لتناسلت دون أن تعي .. المأزق الإنساني بدأ من لحظة إدراكنا لوجودنا.
ابتعدت وهي تقول: سأفكر بذاكرتي .. فقد أستطيع البدء من هناك.
وبالفعل، راحت تسترجع ذاكرتها في محاولة لأن تكون موجودة، دون أدري ما الذي يدفعها لتثبت بل وتقسم أنها موجودة .. بدأت تحصي الضفائر لتحصي سنوات حياته على الجزيرة، وصمتت طويلا وهي تفكر محاولة لتعرف شيئا عن ذاكرتها، اسمها، عائلتها، أبيها، وكل ما يتعلق بماضيها.
لقد توقفت عن انتظار زرياب، وراحت تنقب في ذاكرتها لتبدأ حياتها، أما أنا فقد بدأت أنتظر بجدية سفينة متجهة إلى اليونان .. وهنا سألتني: «أحقا تنتظر السفينة؟» فقلت: «سفينة متجهة إلى اليونان.» ضحكت قبل أن أردف: «نحن مجبرون أن نجد شيئا ما ننتظره حتى لا نموت، أليس كذلك؟»
Неизвестная страница