بسم اللَّه الرحمن الرحيم
المقدِّمة
الحمدُ للَّه ربِّ العالَمِين، والصَّلاة والسَّلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعينَ.
أمَّا بعدُ:
فأنزل اللَّهُ القرآنَ العظيمَ تِبيانًا لكلِّ شيءٍ، وجاءت السُّنَّة النَّبويَّةُ مُفسِّرةً ومبيِّنةً له، ودالَّةً عليه، ومعبِّرةً عنه، وتنوَّعت جهودُ العلماء في جمعها في الصِّحاح والسُّنن والمسانيد والمُستَخرَجات والمُصنَّفات والمُستدَرَكات وغيرِها، ثمَّ أَفردوا منها أحاديثَ في أنواعٍ من العلوم؛ كأحاديث أسماء اللَّه وصفاته، وشُعَب الإيمان، ودلائل النُّبوَّة، والفِتَن وأَشْراط السَّاعة، وغيرِ ذلك.
وممَّا أفرده العُلَماء: أحاديثُ الأحكام الفِقهيَّة، فاقتَصَر بعضُهم على أحاديث الأحكام من الصَّحيحَين، ومِنهم من زاد عليهما مِنْ دواوين السُّنَّة المُسنَدة، ومِن أَجلِّ كُتُب الأحكام وأَدقِّها تحريرًا لألفاظِها، وحُكمًا على أحاديثِها، وإِشارةً إلى مراتِب كثير مِنْ رُواتِها بالجرح والتَّعديل: كتابُ (المُحرَّرِ في أحاديثِ الأحكام) للحافظ أبي عبدِ اللَّه محمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ عبد الهادي المقدسيِّ الحنبليِّ.
1 / 5
وقد جَعل كتابَ «الإِلْمامِ» - لمحمَّدِ بنِ عليِّ بنِ وَهبٍ المعروفِ بابنِ دَقيقِ العِيد الشافعيِّ، المُتوفَّى عام (٧٠٢ هـ) - أصلًا لكتابه «المُحرَّر»، وحَذا حَذْوَه فيه، قال الحافِظُ ابنُ حجرٍ ﵀: «اختَصره من (الإِلْمام) فَجَوَّده جدًّا» (^١)، ولم يَقتَصِر على اختِصاره؛ بل أَوْردَ أحاديثَ ليست في «الإلمام»، أو كانت مختصَرةً فيه فساقَها بأتمَّ منها، كما أنَّه في الحُكم على الأحاديث زاد على ما فيه.
وقد تابَعه في جُملةِ ترتيب الكتاب، وخَالَفَه في بعضِه، وكِلا الكتابَيْن مُقارِبٌ في ترتيبه لترتيب كُتب الشَّافعيَّة الفقهيَّة.
ولأهمِّيَّته حققته ضمن المتون الإضافية من سلسلة (متون طالب العلم)؛ ليظهر كما وَضَعهُ مؤلِّفُه.
وقد أثبتُّ في هذه النُّسخة حواشيَ التَّحقيق المتضمِّنةَ لفروق النُّسخ، وتَخريجِ الأحاديث، وشرحِ الغريب، وغيرِ ذلك، وأفردتُ للحفَّاظ نسخةً أُخرى مُجرَّدةً من جميع ذلك.
وأنا أَرْوي كتابَ «المحرَّرِ في أحديث الأحكام» عن مُصنِّفه مِنْ طُرُقٍ متعدِّدةٍ؛ أعلاها ما أَخْبرني به الشَّيخُ محمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آلِ الشَّيخ، عن حَمَدِ بنِ فارسٍ ابنِ رُمَيْحٍ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ حسنِ بنِ محمّدِ بنِ عبدِ الوهّاب، عن الشّيخ المجدِّد محمّدِ بنِ عبدِ الوهّابِ، عن عبدِ الله بنِ سيفٍ الشَّمَّريِّ، عن محمّدِ بنِ عبد الباقي البَعْلِيِّ، عن محمّدِ بنِ محمّدِ بنِ محمّدٍ الغَزِّيِّ، عن زكَريّا بنِ محمّدٍ الأنصاريِّ، عن
_________
(^١) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (٥/ ٦٢).
1 / 6
الحافظ أحمدَ بن عليِّ ابنِ حجرٍ، عن عُمَرَ بنِ محمّدِ بنِ أحمدَ ابنِ عبد الهادي، عن والده محمّدِ بنِ أحمدَ ابنِ عبد الهادي مصنِّف الكتاب.
أسأل اللَّهَ أن ينفع به، وأن يجعلَه ذخرًا لنا في الآخرة.
وصلَّى اللَّه وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه.
د. عبد المحسن بن محمد القاسم
إمام وخطيب المسجد النبوي
فرغتُ منه في الخَامسِ والعِشْرينَ مِنْ شهرِ اللَّه المُحرَّم
من عامِ أَلفٍ وأَربعِ مِئةٍ واثْنَينِ وأَرْبَعِينَ مِنْ الهِجْرة
1 / 7
منهجي في التحقيق
١ - رمزتُ للنُّسخ بالحروف الأبجديَّة مرتّبًا إياها بحسب تاريخها؛ الأقدم فالأقدم.
٢ - اعتمدت نسخة (أ) أصلًا في التَّحقيق، فأثبتُّ ما فيها - وهو الَّذي تتَّفق عليه النُّسخ غالبًا - إلَّا ما اقتضى النَّظر إثباته من نسخةٍ أخرى، وبيَّنت سببَ ذلك غالبًا؛ وراعيتُ نسختي (ب، ج) كثيرًا بسبب جودتهما وقدم تاريخ نسخهما.
٣ - كلُّ موضعٍ خالفت فيه الأصل لأجل المصادر فإنِّي لم أذكر التَّعليل؛ لكثرة ذلك جدًا، ورُبَّما أبيِّنُ سببَ ذلك عند الحاجة.
٤ - جعلتُ بداية الكتب والأبواب في رأس الصَّفحة، وراعيتُ في تفقير متون الأحاديث والتَّخريج وضوح المعنى، وتقريب نصوصه للحفظ.
٥ - أثبتُّ النَّصَّ على ما اشتهر من قواعد الإملاء المعاصر، ولم أُشِرْ إلى اختلاف النُّسخ في ذلك؛ كطريقة كتابة الهمزات، ورسم التَّاء مفتوحةً أو مربوطةً، ونحو ذلك، وكتبت الآيات القرآنيَّة بالرَّسم العثماني.
٦ - أثبتُّ الفروق المُهمَّة بين النُّسخ، مُكتفيًا بتسمية رموز النُّسخ المخالفة في الحاشية، دون النُّسخ الموافقة للمتن؛ إلا إذا كان
1 / 8
الاختلاف من قبيل الضَّبط فإنِّي أُبيِّنه بقولي في الحاشية: «والمثبت من كذا».
٧ - لم أُشِرْ إلى اختلاف النُّسخ في صيغ التَّرضِّي عن الصَّحابة والصَّلاة على النَّبيِّ ﷺ، وما يشبهها من ألفاظ التَّمجيد للَّه ﷾؛ كلفظة: «تعالى»، و«﷿»، وغيرها؛ إلا إذا كان ذلك واردًا في نصٍّ مرفوعٍ إلى النَّبيِّ ﷺ، والتزمتُ إثباتَ الصَّلاة على النَّبيِّ ﷺ، والتَّرضِّي عن أصحابه في مواضعها المناسبة.
٨ - وقع في بعض المواضع اليسيرة طمس في أوائل نسختَي (أ، ج)، وهي مواضع ظاهرة مقروءة في بقيَّة النُّسخ، فلذلك لم أنبِّه عليها في حواشي التَّحقيق.
٩ - أهملتُ في الغالب ذِكرَ ما سها فيه النُّسَّاخ، ممَّا هو من قبيل الأخطاء المحضة، وبخاصَّة ما كان منها من قبيل الخطأ في الضبط؛ إلا إذا كان لهذا الخطأ وجهٌ ولو ضعيفًا؛ فإنِّي أذكره في الحاشية.
١٠ - تركتُ الإشارة إلى الأخطاءِ التِي انفَرَدت بها النُّسخَة (ز)، بسبب كثرتها، إضافةً إلى تأخُّر تاريخ نسخها.
١١ - إذا كان في إحدى النُّسخ كلمةٌ غير واضحةٍ لكنَّها تحتمل الخطأ والصَّواب؛ فإنِّي أحملها على الصَّواب الموافق لبقيَّة النُّسخ، ولا أنبِّه على ذلك.
١٢ - إذا كان الاختلاف بين النُّسخ في تقديم كلمةٍ على كلمة؛ فإنِّي أذكر الخلاف فقط في الحاشية، وأقول بعده: «بتقديم وتأخير».
1 / 9
١٣ - مَيَّزتُ النَّصَّ المرفوع قولًا بالأحمر، وضبطتُ متن الكتاب كاملًا بالشَّكل، معتمدًا على النُّسخ الخطِّيَّة، والمصادر، وما تقتضيه اللُّغة؛ قاصدًا بذلك تيسيره على القُرَّاء والحُفَّاظ.
١٤ - إذا اختلفت النُّسخ في ضبط كلمةٍ ما؛ فإنِّي أثبت في المتن الوجه الأصح والأشهر، وأشير في الحاشية إلى بقية الأوجه، مع بيان وجه التَّرجيح من كلام العلماء غالبًا.
١٥ - إذا ضُبطت كلمةٌ في بعض النُّسخ وأُهملت في البقيَّة، ولم تختلف النُّسخ المضبوطة في وجه الضَّبط؛ فإني أُثبت في المتن الضَّبطَ الواردَ فيها مِنْ غير إشارة إلى النُّسخ المُهْمَلة، وأمَّا إذا اختلفت النُّسخ في الضَّبط؛ فإنِّي أشير إلى ما في النُّسخ المضبوطة، وأهمل ذكر النُّسخ غير المضبوطة، وأكتفي في وصف اختلاف النُّسخ ببيان الاختلاف المؤثر، وأمَّا ما لا أثر له فلا أذكره.
١٦ - راجعت المصادرَ التي نقل منها المُصنِّف، وكلامَ العلماء على الأحاديث والمسائل الواردة في الكتاب، واستفدت من ذلك في التَّرجيح بين فروق النُّسخ.
١٧ - إذا عزا المصنِّف لفظ الحديث إلى كتابٍ بعينه، وكان لفظ إحدى النُّسخ مطابقًا للفظه؛ فإنِّي أثبت ما في تلك النُّسخة.
مثاله: أن ينسب المُصنِّف اللَّفظ لسنن أبي داود، وبمراجعة السُّنن يتبيَّن أنَّ لفظَه يوافق ما ورد في إحدى النُّسخ دون بقيَّتها، ففي مثل هذا: أثبت ما في هذه النُّسخة استئناسًا بموافقتها لعزو المُصنِّف.
1 / 10
١٨ - راعيتُ في وصف اختلاف ضبط الكلمات: تمييزَ علامة البناء عن علامات الإعراب؛ فأقول في الأولى: «بالضَّمِّ أو بالفتح» - مثلًا -، وفي الثَّانية: «بالرَّفع أو بالنَّصب»، وهكذا، ورُبَّما خرجتُ عن ذلك لفائدة.
١٩ - انتقيتُ ممَّا ورد في حواشي النُّسَخ من تعليقات النُّسَّاخ: ما رأيتُ فيه فائدة للقارئ، وتركتُ ما كان من قبيل الشَّرح والاستطراد والنُّكَت العِلْميَّة.
٢٠ - اعتمدت في عزو الأحاديث والألفاظ والرِّوايات على أجود الطَّبعات المعروفة، وأفدت ممَّا ذكر في حواشي بعضها من الإشارة إلى النُّسَخ والرِّوايات، وكذا ما ذكره الشُّرَّاح منها، وما ذكره المزِّي في «التُّحفة»، وما لم أقف عليه في شيء من ذلك نبَّهتُ عليه.
٢١ - رتَّبت مصادر التَّخريج في الحاشية على الترتيب الذي ذكره المُصنِّف.
٢٢ - اكتفيتُ في التَّخريج بالعزو إلى مواضع الحديث في الكتب التي ذكرها المُصنِّف ولم أزد عليها شيئًا، ولم أنقل أحكام العلماء على الأحاديث إلَّا ما أشار إليه المُصنِّف مُصرِّحًا أو مبهِمًا.
٢٣ - اكتفيت في تخريج الأحاديث بذكر أرقامها فحسب، دون ذكر الجزء والصَّفحة، ولا الكتب أو الأبواب.
٢٤ - اكتفيتُ في العزو إلى صحيحِ مسلم بذكر الرقم الأصلي للحديث دون الرَّقم الفرعي - من الأرقام التي وضعها الشَّيخ محمَّد
1 / 11
فؤاد عبد الباقي -، إلَّا إذا ذكر المُصنِّف للحديث أكثر من رواية؛ فإنِّي أثبت الرَّقم الفرعي ثمَّ الرَّقم الأصلي مفصولًا بينهما بشرطة؛ هكذا: (١ - ٢٠١).
٢٥ - بيَّنتُ معانيَ الكلمات الغريبة؛ سوى ما بيَّنه المُصنِّف منها؛ فإنِّي أكتفي بتوثيق شرحها من كتب العلماء.
٢٦ - اكتفيت بعزو الأقوال والأحكام التي ذكرها العلماء على الأحاديث من مصادرها، وإذا دعت الحاجةُ إلى نقل نصوصهم؛ فإنِّي أنقلها.
٢٧ - بيَّنت الأقوال والأسماء التي أبهمها المُصنِّف بحسب الإمكان؛ كقوله: «قال بعضهم»، و«قال غيره»، و«بعض المحقِّقين»، و«ادَّعى بعضهم»، ونحو ذلك.
٢٨ - إذا عزا المُصنِّف الحديث إلى أحد كتب الحديث ثم نقل عن صاحب الكتاب حكمًا على الحديث، وكان حكمه على الحديث في نفس الموضع؛ فإنِّي أكتفي بالعزو في الموضع الأول إلى رقم الحديث، ولا أكرر العزو عند ذكر حكمه، ويكثر هذا فيما نقله عن الترمذي والحاكم، وكذا إذا نسب التَّصحيح إلى ابن خزيمة وابن حبان.
٢٩ - إذا عَزا المصنِّف اللَّفظ الذي أورده إلى أحد كتب الحديث، وكان عزوه مطابقًا لما في المصادر؛ فإنِّي أسكت عن ذلك، وأما إذا ظهر في اللَّفظ بعد مقابلته اختلافٌ يستدعي التَّنبيه؛ فإنِّي أنبِّه عليه.
1 / 12
٣٠ - إذا لم ينسب المُصنِّف لفظ الحديث الذي أورده إلى أحد كتب الحديث؛ فإنِّي أجتهد في بيان صاحب اللَّفظ، وإذا كان اللَّفظ موافقًا لأكثر من مُصنّف أو كتاب؛ فإنِّي أكتفي بالعزو إلى أوَّلِهِم ذكرًا.
مثاله: أن يقول: «أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنَّسائي»، واللَّفظ الذي أورده موافقٌ للفظ أحمد، والنَّسائي، وابن ماجه؛ فإنِّي أكتفي بقولي بعد أحمد: واللَّفظ له؛ إذ لا يفوتُ القارئَ شيءٌ مهمٌّ بعدم ذكر ذلك، ولما في التزام ذلك من تطويل لا حاجة إليه.
٣١ - إذا عزا المُصنِّف الحديث إلى الصَّحيحَيْن أو أحدهما وكان اللَّفظ الذي أورده مطابقًا لما فيهما؛ فإنِّي أعزوه وأسكت عن اللَّفظ، وأما إذا كان اللَّفظ الذي ذكره المُصنِّف يخالف ما فيهما؛ فإنِّي أبين ذلك بعبارة توضح المقصود.
٣٢ - عزوت أحاديث النَّسائيِّ إلى السُّنن الصُّغرى؛ إلا في المواضع التي نقل فيها المُصنِّف من الكبرى، فقد عزوت إليها.
٣٣ - استفدتُ ممَّا بين يديَّ من أجزاء شرح المُحرَّر لابن الحريريّ (نسخة ح) في بعض المواضع، ونقلت عن الشَّارح ما يناسب المقام.
٣٤ - اكتفيتُ عند العزو إلى فتح الباري للحافظ ابن حجر باختصاره إلى «فتح الباري» من غير تسمية المُصنِّف، وأما عند العزو إلى فتح الباري لابن رجب؛ فإنِّي أسمي مصنفه.
1 / 13
٣٥ - رقَّمتُ أحاديث الكتاب والآثار ترقيمًا مسلسلًا، وميَّزت الرقم قبل الحديث بالحمرة.
٣٦ - عزوتُ كلَّ النُّقول التي أوردتُها في حاشية التَّحقيق إلى مصادرها، وحافظتُ غالبًا على ألفاظ العلماء، ورُبَّما تصرّفتُ في بعضها بما يناسب المقام، ولم ألتزم بيانَ التَّصرُّف - كما هي طريقة أهل العلم -.
٣٧ - حوَّلتُ المقاييس والأوزان والأطوال والمسافات بين المواضع والبلدان بالحسابات المعاصرة، وَفق ما حرَّرتُه في كتابي (تحقيق المقاييس والمكاييل الشَّرعيَّة وتنزيلها على الأطوال والأوزان المعاصرة).
٣٨ - جعلتُ لِلكتابِ نُسْخَتين:
أ - النُّسْخةَ الأُولى: وهي النُّسْخة المُتضمِّنة لِحَواشي التَّحقيق؛ مِنْ الفُروقِ بين النُّسخ، والتَّرجيح بينها، والتَّعليق على ما يحتاج إلى تعليق، وهي هذه النُّسخة.
ب - النُّسْخةَ الثَّانية: وهي مُجردةٌ من جَميع الحَواشي المثبتة في النسخة الأولى، وهي أنسب للحفظ.
1 / 14
ترجمة المصنِّف (^١)
اسمُه، ونسبُه:
هو: مُحَمَّد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهَادِي بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن قدامَة المقدسِيُّ، الجمَّاعيليُّ الأَصْلِ، الصَّالِحِيُّ، الحَنْبَلِيُّ.
مولدُه:
وُلِدَ الحافظ ابن عبد الهادي ﵀ في الصَّالحيَّة بدمشق، في شهر رجب، واختُلف في سنة مولده ﵀؛ فقيل: سنة أربعٍ وسبع مئة (٧٠٤ هـ) كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي ﵀ (^٢)، وقيل: سنة خمسٍ وسبع مئة (٧٠٥ هـ) كما ذكر ذلك الصفديّ والحافظ ابن كثير رحمهما الله (^٣)، وقيل: سنة ستٍّ وسبع مئة (٧٠٦ هـ).
_________
(^١) انظر لترجمته: المعجم المختص بالمحدثين (ص ٢١٥)، وتذكرة الحفَّاظ للذهبي (٤/ ١٥٠٨)، وأعيان العصر وأعوان النصر (٤/ ٢٧٣)، والوافي بالوافيات للصفدي (٢/ ١١٣)، والبداية والنهاية لابن كثير (١٨/ ٤٦٧)، والوفيات لابن رافع (١/ ٤٥٧)، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (٥/ ١١٥)، والرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي (ص ٢٩)، والدرر الكامنة (٥/ ٦١)، والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لبرهان الدين ابن مفلح (٢/ ٣٦٠)، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة (١/ ٢٩)، وطبقات الحفَّاظ للسيوطي (ص ٥٢٤)، وطبقات المفسرين للدَّاوودي (٢/ ٨٣)، ودرة الحجال في أسماء الرجال (٢/ ٤٤)، والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الكرمي (ص ٥١)، وشذرات الذهب (٨/ ٢٤٥)، والبدر الطالع (٢/ ١٠٨)، والأعلام للزركلي (٥/ ٣٢٦).
(^٢) ذيل طبقات الحنابلة (٢/ ٣٥١).
(^٣) أعيان العصر وأعوان النصر (٤/ ٢٧٥)، والبداية والنهاية (١٨/ ٤٦٧).
1 / 15
وقد أشار إلى هذا الخلاف الحافظ الذهبيُّ ﵀ فقال: «ولد سنة خمس وسبع مئة، أو قريب منها» (^١).
وقال ابن حجر ﵀: «ولد في رجب سنة (٧٠٥ هـ)، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها» (^٢).
أشهرُ شيوخِه:
أخذ الحافظ ابن عبد الهادي ﵀ عن كثيرٍ من العلماء؛ ومن أشهرهم:
١ - أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي الصالحي (ت ٧١٨ هـ).
٢ - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة الحرَّاني (ت ٧٢٨ هـ).
٣ - أحمد بن أبي طالب بن نعمة الصالحي المعروف بابن الشِّحْنة (ت ٧٣٠ هـ).
٤ - أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزِّي (ت ٧٤٢ هـ).
٥ - أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عثمان الذَّهبي (ت ٧٤٨ هـ).
أشهرُ تلاميذِه والآخذين عنه:
أخذ عن الحافظ ابن عبد الهادي ﵀ كثير من العلماء الذين لا يمكن حصرهم؛ لأنه تولَّى مشيخة العديد من المدارس.
_________
(^١) المعجم المختص (ص ٢١٦)، وتذكرة الحفاظ (٤/ ٢٠٢).
(^٢) الدرر الكامنة (٥/ ٦١).
1 / 16
قال ابن رافع السلامي ﵀: «وَتَوَلَّى مشيخة الحَدِيث بالضِّيائيَّة بالصَّالحيَّة، وبدمشق بالصَّدريَّة» (^١).
وقال الحسيني ﵀: «وولي مشيخة الحديث بالضِّيائيَّة، والغياثيَّة، ودرَّس بالمدرسة المنصوريَّة وغيرها» (^٢).
غير أنه لم يصل إلينا سوى بعض أسماء من أخذ عنه أو استفاد منه؛ فمن أشهرِهم:
١ - السّروجي، قال الحسينيُّ ﵀: «وروى شيخنا الذَّهبيُّ عن المِزّي، عن السروجي، عنه» (^٣).
٢ - الحافظ الذَّهبيُّ، حيث صرَّح بالسَّماع منه في كتابه «تذكرة الحفَّاظ» فقال: «وسمعت من الإمام الأوحد الحافظ ذي الفنون شمس الدِّين محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي» (^٤).
٣ - صلاح الدِّين خليل بن أيبك الصفدي، وقد صرَّح بالأخذ عنه فقال: «واجتمعت به غير مرةٍ، وكنت أسأله أسئلة أدبيَّة وأسئلة عربيَّة، فأجده فيها سيلًا يتحدر، ولو عاش كان عجبًا» (^٥).
_________
(^١) الوفيات (١/ ٤٥٩).
(^٢) ذيل تذكرة الحفاظ (ص ٣٢).
(^٣) ذيل تذكرة الحفاظ (ص ٣٢).
(^٤) تذكرة الحفاظ (٤/ ٢٠١).
(^٥) أعيان العصر (٤/ ٢٧٥)، وانظر: الوافي بالوافيات (٢/ ١١٤).
1 / 17
ثناءُ العلماء عليه:
قال المِزِّيّ ﵀: «ما التقيت به إلَّا واستفدت منه» (^١).
وقال ابن ناصر الدِّين الدمشقي ﵀: «الشَّيْخ الإمام العلامة الحَافِظ النَّاقد، ذُو الفُنُون، عُمدة المُحدِّثين، مُتقن المُحرِّرين» (^٢).
وقال الذَّهبيُّ ﵀: «الإمام الأوحد الحافظ، ذي الفنون، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي … اعتنى بالرِّجال والعلل، وبرع وجمع، وتصدَّى للإفادة والاشتغال في القراءات، والحديث، والفقه، والأصول، والنحو، وله توسُّعٌ في العلوم وذهن سيَّال» (^٣).
وقال الصَّفدي ﵀: «الشيخ الإمام الفاضل المفنن الذّكيّ … كان ذهنه صافيًا، وفِكْرُهُ بالمعضلات وافيًا، جيد المباحث، أطْرَب في نقله من المثاني والمثالث، صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد، قد أتقن العربية، وغاص في لُجَّتها على فوائدها ونكتها الأدبية، وتبحَّر في معرفة أسماء الرِّجال، وضَيَّق على المِزِّيّ فيها المجال» (^٤).
وقال الحافظ ابن كثير ﵀: «لم يبلغ الأربعين، وحصَّل من العلومِ ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنَّن في الحديث، والنَّحو، والتَّصريف، والفقه، والتَّفسير، والأصلين، والتَّاريخ، والقراءات، وله
_________
(^١) الدرر الكامنة (٥/ ٦٢).
(^٢) الرد الوافر (ص ٢٩).
(^٣) تذكرة الحُفَّاظ (٤/ ٢٠١).
(^٤) أعيان العصر وأعوان النصر (٤/ ٢٧٣ - ٢٧٤).
1 / 18
مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظًا جيدًا لأسماء الرِّجال وطرق الحديث، عارفًا بالجرح والتَّعديل، بصيرًا بعلل الحديث، حَسَنَ الفهم له، جيِّد المذاكرة، صحيح الذِّهن، مستقيمًا على طريقة السَّلف واتِّباع الكتاب والسُّنَّة، مثابرًا على فعل الخيرات» (^١).
أشهرُ مؤلَّفاته:
١ - المُحرَّر في أحاديثِ الأحكام، وهو كتابنا هذا.
٢ - الصَّارم المنكي في الرَّدِّ على السّبكي.
٣ - العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيميَّة.
٤ - تنقيح التَّحقيق في أحاديث التَّعليق.
٥ - اختيارات شيخ الإسلام ابن تيميَّة.
وغيرها من المُصنَّفات (^٢).
وفاتُه:
أصيب الحافظ ابن عبد الهادي ﵀ قريبًا من ثلاثة أشهر بقرحة وحُمَّى سُلٍّ، ثم تفاقم أمره، وأفرط به إسهال، وتزايد ضعفه إلى أن توفِّي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى، قبل أذان العصر سنة (٧٤٤ هـ)، وكان آخر كلامه أن قال: «أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، اللَّهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المُتطهِّرين».
_________
(^١) البداية والنهاية (١٨/ ٤٦٧).
(^٢) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (٥/ ١١٧).
1 / 19
وصُلِّيَ عليه صبيحة يوم الخميس بالجامع المُظَفَّرِيِّ، وحضر جنازته قضاة البلد وأعيان النَّاس من العلماء، والأمراء، والتجار، والعامة، وكانت جنازته حافلة مليحة، عليها ضوء ونور، ودفن في دمشق بالروضة إلى جانب قبر السيف بن المجد، فرحمه اللَّه وغفر له، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (^١).
* * *
_________
(^١) انظر: البداية والنهاية (١٨/ ٤٦٨).
1 / 20
اسم الكتاب
اختلفت النُّسخ الخطِّيَّة في ذكر اسم الكتاب، وقد اعتمدتُ تسميته بأشهر أسمائه وهو «المُحرَّر»، مع ما يبين موضوعه وهو أحاديث الأحكام، مستأنِسًا في ذلك بما ورد في بعض النُّسخ، ومُستفيدًا من كلام المُصنِّف نفسه في مقدِّمته.
وبيَّنتُ هنا أَوجُهَ ورود اسم الكتاب في النُّسخ الخطِّيَّة التي اعتمدتُها، وما وقفتُ عليه في كتب التراجم، والفهارس، ونحوها من مظانِّ معرفة اسم الكتاب، مع التَّنبُّه إلى أنَّ بعض التَّسميات التي وردت في كتب التَّراجم؛ إنما قُصِد بها حكايةُ اسم الكتاب، وليس النصّ على لفظ اسم الكتاب كما وضعه مُصنِّفه.
أوَّلًا: اسم الكتاب كما ورد في النُّسخ الخطِّيَّة:
١ - في (د): «كتاب المُحرَّر في الأحكام».
٢ - في (هـ)، (و): «كتاب المُحرَّر في الحديث».
٣ - في (ز): «كتاب المُحرَّر في أحاديث الأحكام الشَّرعيَّة».
وأما النُّسخ الأهم وهي (أ، ب، ج) فقد سقط منها ذكر اسم الكتاب بسبب وقوع خرم في أول نسختي (ب، ج)، وخلوّ نسخة (أ) من صفحة العنوان.
1 / 21
ثانيًا: اسم الكتاب كما ورد في بعض كتب التَّراجم:
أ - ما ورد في ترجمة المُصنِّف:
١ - المُحرَّر في الأحكام (^١).
٢ - المُحرَّر في الحديث (^٢).
٣ - المُحرَّر في اختصار الإلمام (^٣).
٤ - المُحرَّر (^٤).
ب - مما ورد في غير ترجمة المُصنِّف (^٥):
١ - المُحرَّر في الحديث (^٦).
٢ - المُحرَّر في أحاديث الأحكام (^٧).
٣ - المُحرَّر (^٨).
_________
(^١) الرد الوافر (ص ٢٩)، وذيل طبقات الحنابلة (٥/ ١١٨)، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة (٨/ ٢٨٧).
(^٢) الدرر الكامنة (٥/ ٦٢)، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (٢/ ١٠٨)، والتاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول (ص ٤٠٣).
(^٣) طبقات الحفاظ للسيوطي (ص ٥٢٥)، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة (١/ ٣٠)، وطبقات المفسرين (٢/ ٨٤).
(^٤) الأعلام (٥/ ٣٢٦)، ودرة الحجال في أسماء الرجال (٢/ ٤٤).
(^٥) والمراد بهذا ما ورد في ترجمة بعض العلماء والنَّابِهين؛ ممن يُذكَر أنهم سمعوا «المحرر» أو حفظوه، أو نسخوه، أو شرحوه … إلخ.
(^٦) الدرر الكامنة (٣/ ٧١)، وإنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ (٣/ ٣٥٧)، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (٢/ ١٩٣)، وبهجة الناظرين إلى تراجم المتأخرين من الشافعية البارعين (ص ١١٥).
(^٧) بهجة الناظرين (ص ١٩١).
(^٨) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (٤/ ١٣)، والتحفة اللطيفة (١/ ١٢٠)، والجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (٢/ ٦٧٦)، والضوء اللامع (١/ ٢٧٠)، (٢/ ١٠)، (٤/ ٢٧٢)، (٦/ ٣٤)، (٧/ ١٤٨)، (٧/ ٢٣٤)، (١١/ ٥٦)، (١١/ ٥٧)، والجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد (١/ ١٧٧)، ونظم العقيان في أعيان الأعيان (ص ٥٤)، ومعجم المؤلفين (١/ ١٨٨)، (٣/ ٦٨).
1 / 22
ثالثًا: اسم الكتاب كما ورد في الشُّروحات:
ولم أقف سوى على أجزاء من شرح ابن الحريري المسمَّى: «تحرير المحرر في شرح حديث النبي المطهر» للحريري، وقد ذكر اسم الكتاب مختصرًا، فقال: «عدَّة الأحاديث التي في هذا الكتاب - وهو: (المُحرَّر) - من أوله إلى آخره: ألف حديث، وثلاث مئة حديث، وستة وثلاثين حديثًا - تقريبًا - بالآثار» (^١).
رابعًا: اسم الكتاب كما ورد في بعض كتب الفهارس والأدلَّة:
١ - المُحرَّر في الحديث (^٢).
٢ - المُحرَّر (^٣).
خلاصة ما تقدَّم:
اشتركت النُّسخ الخطِّيَّة، وكتب التَّراجم، والفهارس وغيرها، في تسمية الكتاب بـ «المُحرَّر»، وزِيد في كثير منها على ذلك، فسُمِّي:
«المُحرَّر في الأحكام»، و«المُحرَّر في أحاديث الأحكام»؛ وهو وصف لبيان اختصاص الكتاب بجمع الأحاديث في الأحكام الفقهيَّة.
_________
(^١) نسخة ح (لوحة ١٢/ أ).
(^٢) أبجد العلوم (ص ٦٥٠، ٦٥٦)، ومعجم المطبوعات العربية والمعربة (١/ ١٦٧).
(^٣) كشف الظنون (١/ ١٥٨).
1 / 23
وسُمِّي «المُحرَّر في اختصار الإلمام»؛ وهو قيد لبيان أصل الكتاب.
ولعلَّ الأرجح تسميته: «المُحرَّر في أحاديث الأحكام»، فقد وصف المُصنِّف كتابه في مقدِّمته فقال: «فهذا مختصرٌ يشتمل على جملة من الأحاديث النَّبويَّة في الأحكام الشَّرعيَّة»، وهذا ممَّا يستأنس به في تسمية الكتاب بالاسم الذي اخترته، واللَّه الموفق.
* * *
1 / 24