وبعد أرشدني الله وإياك فإني لما رأيت العلوم فنونا وحديث المعارف شجونا وسلكت فإذا هي أودية وفي كل للسلف مقامات حسان وأندية رأيت أن الوجه لمن تشزن للتحصيل وعزم على الوصول أن يأخذ من كل علم طرفا خيارا ولن يذوق النوم مع ذلك إلا غرارا ولن يرتقي هذا النجد ويبلغ هذا المجد حتى ينضي مطايا الاجتهاد ويصل التأويب بالإسئاد ويطعم الصبر ويكتحل بالسهاد فجريت في هذا المضمار صدر العمر طلقا وأدمنت حتى تفسخت أينا وتصببت عرقا إلى أن انتهج بفضل الله عملي وحزت من ذلك ما قسم لي ثم رأيت أن من الواجب على من احتبى وتخير من العلوم واجتبى أن يعتمد على علم من علوم الشرع يستنفد فيه غاية الوسع يجوب آفاقه ويتتبع أعماقه ويضبط أصوله ويحكم فصوله ويلخص ما هو منه أو يؤول إليه ويعنى بدفع الاعتراضات عليه حتى يكون لأهل ذلك العلم كالحصن المشيد والذخر العتيد يستندون فيه إلى أقواله ويحتذون على مثاله
فلما أردت أن أختار لنفسي وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي سبرتها بالتنويع والتقسيم وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالا وأرسخها جبالا وأجملها آثارا وأسطعها أنوارا علم كتاب الله جلت قدرته وتقدست أسماؤه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي استقل بالسنة والفرض ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض هو العلم الذي جعل للشرع قواما واستعمل سائر المعارف خداما منه تأخذ مبادئها وبه تعتبر نواشئها فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع فهو عنصرها النمير وسراجها الوهاج وقمرها المنير
وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى وتخليصا للنيات ونهيا عن الباطل وحضا على الصالحات إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيدا ويمشي في التلطف لها رويدا
ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه ولسانا مرن على آياته ومثانيه ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه وجالت سومها في ميادينه ومغانيه فثنيت إليه عنان النظر وأقطعته جانب الفكر وجعلته فائدة العمر وما ونيت علم الله إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب ويمس من لغوب أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف
فلما سلكت سبله بفضل الله ذللا وبلغت من اطراد الفهم فيه أملا رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح وأنها قد أخذت بحظها من الثقل فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل
قال تعالى ^ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ^ المزمل 5
قال المفسرون أي علم معانيه والعمل بها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( قيدوا العلم بالكتاب ) ففزعت إلى تعليق ما يتخيل لي في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا محررا لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح رضوان الله عليهم كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز وأهل القول بعلم الباطن وغيرهم فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين نبهت عليه وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم أو نحو أو لغة أو معنى أو قراءة وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر كما في كثير من كتب المفسرين ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي رحمه الله مفرق للنظر مشعب للفكر وقصدت إيراد جميع القراءات مستعملها وشاذها واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول
Страница 34