بأن سن قانونا للبلد كل مواده متشربة بالرغبة في فتح عصر جديد للأمة؛ عصر تكون المساواة تامة فيه بين الأفراد، ويكون الفرد آمنا على حريته الشخصية من كل عبث ما دام لا يرتكب جرما، ولا يأتي أمرا تؤاخذ عليه الشرائع، ولئن لم ينفذ ذلك القانون في أيامه تنفيذا مرضيا، واستمر الأقوياء يعبثون بالضعفاء، لئن أقدم مختار بك - أول ناظر للمعارف العمومية المصرية - على قتل غلام له تحت العصا، لأنه أبى أن يفرط له في عرضه، وأقدم سليم باشا - للسبب عينه، أو لسبب يماثله في سماجته وقبحه - على إلقاء أحد مماليكه في النيل، وأقدم محو باشا على قتل أحد أتباعه تحت العصا أيضا لهفوة ارتكبها، ولم يعاقب أحد منهم بأكثر من الحكم عليه بدفع دية ضئيلة، فإنه لا يجب أن يغيب عن الأذهان ما في قول مونتسكييه من حقيقة عميقة: «إن الناس ينشئون في الأول النظامات، ثم لا تلبث النظامات أن تنشئ الناس!»
سابعا:
بأن فتح أذهان المصريين إلى أمرين، لم يكونوا ليفكروا فيهما البتة لولاه: الأول: أن مصر والسودان قطران توأمان، أبوهما النيل، فإما أن يدوما ملتصقين كما ولدا، وإما أن يكونا متحالفين أبدا، وإلا فللقوي منهما أن يجبر الثاني على إحدى هاتين الخلتين، كما أجبرت ولايات الشمال الأميريكية ولايات الجنوب على البقاء متحدة معها، بحرب الانفصال بين سنة 1861 وسنة 1865. والثاني: أن لمصر قومية شخصية منفصلة تمام الانفصال عن قوميات الشعوب الأخرى القاطنة في الأقاليم المتكونة منها القومية العثمانية في ذلك العصر، وإنما فتح أذهان المصريين إلى هذين الأمرين بالحربين اللتين قام بهما في مجاهل السودان، وفي سوريا والأناضول.
أما حرب السودان، فإن الباشا العظيم صمم عليها؛ أولا: ليقضي على البقية الباقية من المماليك، وكانوا مقيمين في جهة دنقلا. ثانيا: ليتخلص مما تبقى من فيالق الجيش غير النظامي التي لم تهلك في حرب الوهابيين، وعادت إلى مصر. ثالثا: لاعتقاده بوجود مناجم ذهب وماس في السودان، ولا سيما في سنار. رابعا وأخيرا: لأن فتح السودان كان من شأنه أن يضع بين يديه أمما وشعوبا عديدة وقوية، يستخدمها إما في تعمير الجهات المصرية التي قللت الكوارث عدد السكان فيها، وإما في تكوين صفوف الجيش النظامي المرغوب في إنشائه.
فسير جنوده تحت قيادة إسماعيل باشا ثالث أولاده، فدوخت الأقطار الجنوبية تدويخا، ولم تلاق لصد غزواتها قوة في استطاعتها الثبات أمام مدافعها، فاستولى إسماعيل باشا على السنار، وبلغ إلى فازوغلو، ولما لم يجد فيها ذهبا ولا ماسا ، ورأى أن أحمد بك الدفتردار - صهره - وافاه بمدد، ترك له جيشه ونزل إلى شندي، وقال للملك نمر مليكها: «إني أريد أن تملأ مركبي هذه ذهبا، وتقدم لي ألفي رجل لجيشي في ظرف خمسة أيام!» فطلب نمر مد المهلة، فزجره إسماعيل، وضربه بشبكه، وهدده بالخازوق، إذا تأخر عن القيام بما أمره به، فما كان من الملك النوبي إلا أنه دبر مكيدة لإسماعيل، فأغراه بسكنى بيت في شندي، وكدس حول ذلك البيت أكواما من الحطب والقش بحجة الرغبة في إطعام خيل الباشا، ثم أبدى إلى قومه علامة، فوثبوا على حرس إسماعيل وأدخلوهم البيت عنوة، وأشعلوا النار في الوقود المكدس حولها، فحاول إسماعيل ومن معه من رجاله أن يفتحوا لأنفسهم ممرا في وسط الأتون المتقد حولهم، ولكن حراب نوبيي الملك نمر ما فتئت تدفعهم في وسط النيران حتى احترقوا وماتوا عن آخرهم.
فلما نمى خبر ذلك إلى الدفتردار أقسم بقتل عشرين ألف شخص؛ ثأرا لموت نسيبه، وزحف في الحال بجنده إلى شندي، فلم يبق ولم يذر، وزاد عدد من قتل على عدد من أقسم بقتلهم.
ولما تم الفتح واستتب الأمر عين محمد علي ضابطا كبيرا يقال له رستم بك مديرا عاما على السودان، وأرسله على رأس جنود نظاميين ليحل محل الدفتردار، واستمر السودان تابعا لمصر منذ ذلك الحين إلى أن فصلته عنه ثورة محمد أحمد المهدي. •••
وأما الحرب في سوريا والأناضول، فسببها أن عبد الله باشا - والي عكاء - كان يحبب إلى فلاحي مصر المهاجرة من القطر إلى البلاد الخاضعة لحكمه، ولما آخذه محمد علي على ذلك أجابه أن المصريين رعايا الباب العالي، لا عبيد محمد علي، فلما أعيت هذا المطالبة الودية عزم على تفهيم عبد الله باشا أن المصريين مصريون قبل كل شيء، وأن بلادهم أحق بجهودهم من كل بلد آخر، فأرسل إلى عبد الله باشا كتابا قال له فيه: «إني سأقدم لأستعيد الثمانية عشر ألف مصري الذين أغريتهم فحملتهم على الذهاب إليك، وسأعود بهم وبواحد فوقهم إلى مصر!» وعنى محمد علي بذلك الواحد عبد الله باشا نفسه.
وفي الحال سير إبراهيم ابنه إلى فلسطين على رأس جيش مؤلف من 24 ألف مقاتل، ومعه ثمانون مدفعا، وعلى رأس عمارته الزاهرة التي أقلته - هو وأركان حربه - إلى يافا.
فاستولى إبراهيم على جميع مدن الساحل الفلسطيني، وأتى وحاصر عكا، فهب والي حلب إلى إنجادها، على رأس أربعة آلاف مقاتل، فترك إبراهيم باشا معظم جيشه أمام أسوار المدينة المحاصرة، وذهب بزهرة جنوده لمقاتلة ذلك الباشا، وكان قد انضم إليه واليان عثمانيان آخران، فبدد جموعهم في معركة دموية، وعاد إلى تشديد الحصار على عكاء برا وبحرا، وبعد أن قضى أمامها ستة شهور في قتال كاد يكون مستمرا، استولى عليها عنوة في 27 مايو سنة 1832، وأرسل عبد الله باشا واليها أسيرا إلى أبيه في الإسكندرية.
Неизвестная страница