فنزل الانكشاريون المنحدر أولا، ثم تبعهم المماليك على بعد قليل، حتى إذا خرج آخر انكشاري من الباب، كان الأربعمائة والسبعون أميرا مملوكا يشغلون بجيادهم المنحدر كله من أسفله إلى أعلاه.
حينئذ حدث أمران: الأول: أن باب العزب أقفل حالا بعد خروج آخر انكشاري منه . والثاني : أن صالح أغا أق قوش أصدر أمره إلى ألبانييه، فانسلوا من وراء المماليك، وتسلقوا الصخور المحيطة بالمنحدر، وأسرعوا فكمنوا وراءها من الجهتين، ومن أسفل إلى فوق، وفي الحال تقدم الفيلق الذي يقوده الكتخدا وانتشر على الأسوار.
حينئذ دوت طلقة مدفع، فما شعر المماليك إلا والرصاص يتناولهم من كل جانب، وهم لا يستطيعون عن أنفسهم دفاعا، وما هي إلا لحظة وتكدست في الممر الضيق جثث الرجال والخيل، بعضها فوق بعض، وجعلت الحركات متعذرة أكثر مما كانت.
أما المماليك الذين وصلوا إلى باب العزب ورأوه مقفلا، فإنهم لووا أعنة جيادهم، وقصدوا الرجوع، ولكن حركتهم هذه زادت الذعر ذعرا والخبل خبلا، وأما المماليك الذين كانوا على رأس المنحدر، فما دوى حولهم الرصاص إلا ولووا هم أيضا أعنة جيادهم، وقصدوا البلوغ إلى داخل القلعة، ولكن فيلق البيادة المنتشر على الأسوار أصلاهم نارا حامية، أردتهم بالعشرات.
فكبر الهول واشتد البلاء.
ورأى المماليك التعساء - وموت غير منظور يحصد صفوفهم حصدا - أن لا فائدة لهم من جيادهم، فترجلوا، وتعروا بسرعة من ملابسهم الثمينة الفاخرة، التي لم يكن من شأنها إلا أن تعيق حركات أيديهم وأرجلهم في ذلك الموقف الرهيب، وأقبلوا يجرون، وسيوفهم مشهرة في يد، وطبنجاتهم في الأخرى، يبغون لقاء عدو يثأرون بقتله للكارثة التي حلت بهم.
كلوت بك يلقح نفسه بالطاعون.
ولكنهم لم يجدوا أحدا، واستمر الرصاص الخفي الممطر من كل صوب يحصدهم حصدا، فسقط جاهين بك أمام عتبة قصر صلاح الدين، وبلغ سليمان بك البواب - والدم يسيل من كل أعضاء جسمه - باب السراي، فانطرح على عتبته، وصاح: «في عرض الحريم!» - وكانت استغاثة مقدسة في ذلك العهد - ولكن السيف تناول رقبته فقطعها، وجرت جثته مهينة إلى مكان بعيد، وتمكن سبعة أو ثمانية من الأمراء من الوصول إلى المكان الذي كان طوسن باشا مقيما فيه، فتراموا على قدميه وسألوه الأمان، ولكن الشاب لم يجسر على مخالفة أوامر أبيه، وتخلى عنهم، فقتلوا صبرا بين يديه.
وما انفك الرصاص يدوي ويتساقط كالمطر والمماليك يقتلون، حتى فنوا عن آخرهم ، ولم ينج منهم إلا واحد فقط اسمه أمين بك، كان قد تخلف، في الصباح لمهم، ولم يأت القلعة إلا وأول الموكب هال من بابها، فوقف ينتظر ريثما يخرج إخوانه، لينضم إليهم، ولكنه لما رأى الباب يقفل، وسمع دوي البنادق، أدرك أن هناك غدرا، فلوى عنان جواده، وفر إلى البساتين، ومنها إلى سوريا.
على أن هذا ليس ما تناقلته الألسن عن كيفية نجاته، والرواية التي قرت في الأذهان هي: أنه لما دوى نذير الموت وثب بحصانه إلى داخل القلعة، يبحث عن منفذ، فلم يجد في كل جهاتها سوى سور ارتفاعه ستون قدما، فلم يتردد، وفضل نوع موت فيه بصيص أمل بالنجاة على نوع موت لا أمل فيه، فأجرى حصانه، وقفز به من فوق السور، فقتل الجواد ونجا الفارس، ولا يزالون حتى يومنا هذا يشيرون إلى المكان الذي قفز منه، ويدعونه محل وثبة المملوك! •••
Неизвестная страница