قيام المماليك عليه، لرغبتهم في الانتقام منه، وفي العودة إلى منصة الأحكام.
خامسا وأخيرا:
عدم التمكن من التغلب على هذه الصعاب الأربع إلا بالمال، وعدم وجود المال في خزائنه، ووجوب الحصول عليه بدون تنفير قلوب الناس منه.
أما عدم خلوص نية الباب العالي من جهة، فإنه ظهر جليا في سلوك القبطان باشا التالي لما بدا منه في تثبيت محمد علي على سدة خورشد، فإن القبطان باشا هذا لم يبرح الإسكندرية بعد انقضاء مهمته وأقام فيها كأنه - عملا بأوامر سرية - متربص للطوارئ، فكاتبه محمد بك الألفي، وعرض عليه أن يضم مماليكه إلى قوى سلحدار خورشد باشا - وكان لا يزال في الجيزة ويأبى الاعتراف بولاية محمد علي - وإلى الألفين والخمسمائة مقاتل الذين حضر بهم القبطان باشا نفسه، وأن يزحف الجميع إلى القاهرة، فيستخلصوها من يد محمد علي، ويطردوا الألبانيين من القطر، وعضد الإنجليز مقترحات صديقهم الألفي بك، ووعدوا بالمساعدة والمال، وأومضوا بريق وعيد يؤخذ منه أن بريطانيا العظمى - إذا أهمل القبطان باشا إجابة طلب الألفي - قد تنزل جيشا إلى الساحل يعمل بالاتحاد مع المماليك على التخلص من محمد علي.
ولكن الفرنساويين - لعدائهم للإنجليز - أفهموا القبطان باشا أنه إذا انصاع إلى محرضات الألفي، وعمل باقتراحاته، أساء إلى دولته إساءة كبرى، وأساء إلى مصر إساءة أكبر؛ لأن الحوادث الماضية دلت دلالة صريحة على أن محمد علي خير من يصح الاعتماد عليه في تنظيم الأمور في القطر، لما بدا من عزمه وحزمه ومتانة أخلاقه، وبلغ من التحيز الفرنساوي لبطلنا أن السفير الفرنساوي في الأستانة بتأثير كتابات القنصلين الفرنساويين في القطر المصري - ماتييه دي لسبس ودروفتي - ما فتئ يلح على رجال الديوان بوجوب عدم التعرض لمحمد علي بسوء، لا سيما وأنه محبوب من العلماء والعامة، وأنه آخذ في تجهيز مهمات حملة ضد الوهابيين، أعداء السلطنة والدين.
ولم يتوان محمد علي من جهته، ولعلمه بما للهدايا من التأثير الكبير في نفوس رجال تركيا؛ عن غمر القبطان باشا ورجال الديوان بها.
أما القبطان باشا، فإنه أمام هذه المؤثرات المختلفة، أقام مترددا مدة، فاغتنمها محمد علي للقضاء على سلحدار خورشد باشا، واضطراره إلى التسليم، والتخلي عن جنده ومهماته، واللحاق بمفرده بخورشد باشا مولاه في الإسكندرية، وأما الأستانة فإنها أصاخت سمعا إلى أقوال السفير الفرنساوي، وطابت قلبا لهدايا محمد علي مرة أخرى، فأرسلت إلى القبطان باشا تأمره بالعودة إلى مياه البوسفور بعمارته، فأقلع الرجل في 28 أكتوبر سنة 1805 وأخذ معه خورشد باشا، وقد قال بعض المؤرخين إنهم وجدوا في مذكرات هذا القبطان ورقة كتب عليها ما يأتي، مشيرا إلى محمد علي: «إني أترك خلفي رجلا سوف يصبح يوما ما أكبر متمرد على الدولة العلية، وأن سلاطيننا لم يوفقوا البتة إلى سياسي داهية كهذا، ولا إلى رجل قوي العزم والحزم مثله!»
سليمان باشا الفرنساوي.
وأما مبدأ الباب العالي في عدم إبقاء وال على مصر أكثر من سنة، فإنه تجلى في ظهور عمارة عثمانية في ميناء الإسكندرية في أول يوليو التالي، تحت قيادة أمير بحر غير السابق، وعليها ثلاثة آلاف جندي من جنود النظام الجديد وموسى باشا والي سلانيك المعين خليفة لمحمد علي، وما استقر المقام في الثغر لأمير تلك العمارة، إلا وأرسل رسولا بفرمان من الباب العالي إلى محمد علي يأمره فيه بالتخلي عن ولايته إلى موسى باشا، والذهاب لتولي ولاية سلانيك مكانه.
فأظهر محمد علي رغبته في الامتثال، وأرسل مع الكابجي رسولا إلى القبطان باشا يقول له إن جل رغبة مولاه الابتعاد عن قطر الفتن فيه معششة ومفرخة، ولكن الجنود - ولهم متأخرات يبلغ مقدارها عشرين ألف كيس - يمانعون في ارتحاله، ولكي يظهر أن قوله هذا حقيقة لا إيهام ، جعل عسكرا يرافقونه أينما يتنقل، ويطالبونه بعلوفاتهم جهارا، ثم أراد أن يتأكد من نفسية قواده، ومقدار عطفها عليه، فجمعهم وقال لهم إنه مستعد للخضوع والطاعة والسفر، فهتف جميعهم: «ولكنا لا نسمح لك بذلك البتة!» فقال محمد علي بحماسة: «أوكيف؟ أتريدون منعي من تنفيذ الأوامر التي صدرت إلي، وليس في استطاعتكم المدافعة إذا ما هوجمنا؟! فجنودكم لا تفتأ عابثة بالنظام، فاتكة بالأهالي، ملحة علي في كل حين بإعطائها أجورها، وأنتم رؤساؤهم وقوادهم، أتدرون كيف تعملون على إبقائهم في حدود الواجب؟ وألا تفضلون لذات الراحة ونعيمها على مشقات الحروب وأخطارها؟! أنتم تتمتعون بهناء بالأموال التي جمعتموها، وأنا وحدي هدف لضربات الأعداء، وأنوء وحدي بعبء الأمور الثقيل، فإذا شئتم أن أبقى معكم، رفيقا أمينا وزميلا صادقا، مثلما كنت في الماضي، فأقسموا لي على القرآن الشريف بأنكم لن تتركوني ولن تتخلوا عني، وأنكم تموتون إذا اقتضت الحال في سبيل قضية هي قضيتنا جميعا!»
Неизвестная страница