وشاء القدر أن يخرج محمد علي من وطنه الأول في قولة إلى ميدان خليق بالأبطال؛ إلى مصر، وأن يدخلها في ساعة هي أيضا خليقة بالبطولة.
الفصل الثاني
وكان الآذن بذلك الخروج نزول جيش فرنسي يقوده الجنرال بونابرت بأرض مصر في صيف سنة 1798، وتصميم الدولة العثمانية على إجلائهم عنها.
ولم يكن ذلك الغزو أول إغارة للفرنسيين عليها؛ فقد حاولوا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر امتلاكها، وتلاقت صفوة فرسانهم بمماليك مصر في أكثر من موقعة.
ولكن شتان ما بين مصر بيبرس ومصر مراد وإبراهيم، وشتان ما بين فرنسيي الملك القديس لويس وفرنسيي الثورة الفرنسية وبونابرت!
مصر بيبرس محور ذلك العالم العربي الذي اكتسب مقوماته وانفرد بشخصيته على أثر انهيار الخلافة العباسية، وهو اجتماع يتركب من طوائف وجماعات لها شخصيتها وقانونها وعرفها ووظيفتها، فمن أصحاب السيوف إلى أصحاب الأقلام، ومن أهل الفلاحة للأصناف (أصحاب الصناعات)، ومن أرباب السجاجيد إلى هيئات التدريس وهلم جرا، ويكتسب ذلك الاجتماع الصاخب حيويته من حكم الجماعات نفسها بنفسها، كما يكتسب لونا من التنسيق والانسجام من شخصية السلطان، يدفع الناس بعضهم ببعض ويحاول أن يخضع الأهواء والمصالح لجهود عامة في تحقيق مثل عليا تهم الناس جميعا.
ولكن كانت آفة ذلك الاجتماع ما صحبه من سرف وتبديد كان من شأنهما - على توالي الزمن - وضع أعباء على الطوائف المنتجة من أهل الفلاحة والصناعة والتجارة، أنهكت قواها الحسية والمعنوية، وكانت آفته الأخرى - من أول الأمر - انصراف الناس نحو شئونهم الخاصة بأشخاصهم وجماعاتهم وابتعادهم عن الشئون العامة واعتبارهم إياها «سياسة عليا» كما نقول الآن، هي مما ينبغي النظر فيه للسلطان والأمراء، وليست مما ينبغي للرعية، وقد وجدوا في تعليم أئمتهم ما يبرر إيثارهم العافية.
هذا حجة الإسلام نفسه «الإمام الغزالي» يقول في رده المشهود على الباطنية: «إنا لسنا نقدم إلا من قدمه الله تعالى، فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرا إلى الطاعة والموالاة، وهذا لا يقدر عليه البشر، ويدلك عليه أنه لو أجمع خلق كثير لا يحصى عددهم على أن يصرفوا وجه الخلق عن الموالاة للإمامة العباسية عموما وعن المشايعة للدولة المستظهرية - أيدها الله على الدوام - خصوصا لأفنوا أعمارهم في الحيل والوسائل وتهيئة الأسباب والوصائل ولم يحصلوا بالآخرة إلا على الخيبة والحرمان.»
وهاك في موضع آخر من الرسالة نفسها وصف الإمام لاغتصاب الترك سلطان الخلافة، قال: «قد سخر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبددوا في أقطار الدنيا - كما نشاهد ونرى»، إن ثمن الحرية - كما يقول الإنجليز - هو الكدح والدأب والمراقبة، ولما كانوا يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية؛ فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة.
وبينما كان العالم العربي على هذه الحالة، حدث تحول التجارة الكبرى إلى الطرق البحرية، كما حدث أيضا انقسام العالم الإيراني على نفسه واستيلاء الدولة العثمانية على مصر وسوريا والجزيرة العربية والعراق والمغرب، والأمران لهما أسوأ الآثار في الأقطار العربية وأهليها، فالأول: أدى إلى نقصان الموارد، وأسوأ من هذا: أدى إلى ضيق الأفق - وهو شر من ضيق ذات اليد - إلى اعتزال الغير، إلى الركود، أما الثاني: فإن أهل مصر وسائر العرب لم يجدوا في الملك العثماني ما يعوضهم عما فاتهم: السلطان المستقل والمساهمة في الحياة الاقتصادية العامة، فلم يفتح لهم هذا الملك بابا لأي جديد نظير ما أضافه الفتح العثماني من أعباء إلى أعبائهم السابقة، وإن شقاء أهل الأقطار العربية بعد ذلك الفتح لا يرجع إلى أن سلاطين الدولة وأمراءها لم يرغبوا رغبة صادقة في إحقاق الحق وفعل الخير وتثبيت العدل.
Неизвестная страница