ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت والخلط، القاعدة عندنا أن مهمة الجنود الجندية، أما عندهم فالجندية ربما كانت أقل ما شغل جنود الأوجاقات (الفرق) العثمانية، ولنخير وصف أوجاقين منها: سئل حسين أفندي عن أوجاق جاوشان وخدمتهم وأنفارهم؛ فأجاب: إنهم من أرباب الديوان العمومي، ومنهم كتخدا جاوشان وأمين الشون ومحتسب واختيارية، وخدمتهم أن يحضروا في كل ديوان لتحصيل الأموال الأميرية، وكتخدا جاوشان عوائده على طرف حكام الولايات وعلى حلوان بلاد الأموات على كل كيس مصري ألف فضة، وله عوائد على جانب الموجبات، وعوائد على طرف الباشا، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان في كل سنة وأمين الشون عوائده على غلال الميري، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان، والمحتسب عوائده على المسببين الذين لم يضبطوا الميزان، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان ... إلخ.
من هذا نفهم أن أهم ما شغل فرقة جاوشان كان تحصيل الأموال الأميرية عينا ونقدا، وأن حسبة القاهرة كانت من اختصاصه أيضا، وعلينا أن نلاحظ أيضا ما لاحظناه من قبل عن موارد إيراد كبار رجال الأوجاق وتنوعها وتعددها، فها هو كتخذا جاوشان شريك آخر للباشا في حلوان بلاد الأموات، وها هو المحتسب رزقة مما يفرضه على المطففين، وهكذا.
وسئل حسين أفندي عن أوجاق الإنكشارية وخدمته، فأجاب: «إن الأوجاق المذكور أوجاق السلطان، منهم الأغا حاكم مصر وسيفه مطلوق، ومنهم كتخدا الوقت وهو المتكلم بمصر، ومنهم سردار الحج والخزنة والكواخي الاختيارية والجوربجية واليولداشات وهم مقيمون بالقلعة وهم تحت طلب السلطان وعوائدهم مال الدواوين بعد الميري ومنهم الأوضباشية وعوائدهم على الخمامير، وعوائد الأوجاق المذكور على طرف الميري من أصل موجبات العساكر وله أيضا عوائد على الباشا وعوائد على الملاحة والسلاخانة ... إلخ»، ومنه نفهم أن بعض كبار أصحاب المناصب الإدارية كالكتخدا (وهو يلي الباشا) ينتمون لهذا الأوجاق كما نفهم أيضا أن الكثير من شئون الأمن في القاهرة ومدن الريف في أيدي رجال الأوجاق، ونلاحظ أيضا تنوع موارد الإيراد فمن رسوم الجمارك «الدواوين» إلى الرسوم على الخمامير والملاحات.
ننتقل من هذه الصورة إلى صورة أخرى تتصل بها وتوضح «العقلية» التي تمت في تلك البيئة.
ولم يكن بد من أن يكون أول ما عمل محمد علي لتجميع عناصر السلطان وجزئياته بعضها إلى بعض وإقامة السلطة العامة التي لا بد لها من أن تكون في يدها كل الموارد حتى تستطيع أن تقوم بواجبات السلطة العامة، كان لا بد من أن يكون أول ما عمل لتحقيق ذلك متسما بمظهر الاعتداء على الحقوق المكتسبة، بمظهر الطمع في أيدي الناس، بمظهر «المخرب» للبيوت العامرة، القاطع لأرزاق العباد، كان لا بد من أن يتسم العمل في أوله بهذه المظاهر، ولكنه كان في حقيقته غير ذلك، كان وسيلة الخروج من الفوضى والفقر والضعف إلى النظام واليسر والقوة.
وإذا شئنا أن نجمل وصف مراحل إنشاء السلطة العامة مستخدمين لغة ذلك العصر قلنا: إن المراحل الأولى كانت مراحل الضبط والكشف والتحقيق والتصفية وبخاصة في أمور الالتزامات وإلغاء ما لا يستند منها إلى سند شرعي أو تحول إلى منفعة أشخاص أو هيئات. وفي تلك المراحل الأولى أعيد منح بعض الالتزامات بشروط أصلح لولي الأمر، أما المراحل الثانية فكان فيها الانتقال من الالتزام إلى الحجز، ثم يأتي بعد ذلك الدور الباهر دور تحويل الحجر إلى وسيلة قوية للإنتاج الجديد، للثورة الاقتصادية المصرية، ونقتصر في موضعنا الحالي على وصف المراحل الأولى مرجئين دور الإنتاج والخلق لموضع آخر أولى به.
وكان دور الضبط والكشف والتحقيق عنيفا شاقا مؤلما، هو إجراء قاس، ولكن لا بد منه، كان قاسيا؛ لأنه أصاب «ذوي البيوت والمساتير من الناس»، ولكن كان لا بد منه؛ لأن الفساد القديم أدى إلى فقر الجميع حكاما ومحكومين، وإلى وجود نوع من الحكومة لا تملك مالا يمكنها من أن تنشئ قوة حربية مطيعة نافعة أو تطهر ترعة أو تصون جسرا.
خذ مثلا «الرزق»، وأصلها أراض مرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات ، وتؤدي ضرائب قليلة جدا، ما الذي وجد محمد علي عند الفحص؟ وجد أن تلك الرزق الإحباسية قد زادت مساحتها لدرجة أضعفت إيرادات الخزانة إضعافا، بينا كما وجد أن إنفاق غلتها فيما رصدت له كاد ينعدم تماما، بل وضع الناس أيديهم عليها واستغلوها لمنفعتهم تماما، ولننقل في هذا عن الجبرتي؛ فهو المتألم جد التألم من خطة قطع أرزاق الناس، قال: «إن الواضعين أيديهم لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتب ومقرر من الزمن الأول السابق، وهو شيء قليل، وليتهم لو دفعوه ... بل يضن ويبخل بدفع القدر اليسير لجهة وقفه ويكسر السنة على السنة ...
والذي يكون تحت يده شيء من أطيان هذا الأوقاف وورثها من بعده ذريته فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من مورثهم ولا يرون لأحد سواهم فيها حقا ولا يهون عليهم دفع شيء لأربابه ولو قل إلا قهرا، وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم، وكان معظم إدارات دوائر عظماء النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي كانت تحت أيديهم بغير استحقاق، إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك وسلب منهم ما كانوا فيه من النعمة، وتشتتوا في النواحي وتغربوا عن أوطانهم وخربت ديارهم وذهبت سيادتهم»،
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .
Неизвестная страница