وإذا علم تفضيل النسب والحسب في باب النبوءة فهم في غيرها كذلك كالعلم والصلاح والهداية والزهد والورع والملك والنجدة والجود وغير ذلك من كل ما يحتسب به ويصير به من عرف به عينًا من أعيان عشيرته أو قبيلته أو عمارته أو بلده أو جيله ويشرف به من انتسب إليه، ولم يخل الله تعالى قومًا من سيد " كما لم يخل هجمة من فحل، وبسادة الناس " تنتظم أمورهم، فهم خلفاء الله في عباده بالحكم التصريفي، ولذلك إذا فقدوا أو فقدت الأهلية منهم اختل الأمر كما قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سِراة إذا جهالهم سادوا
الثالث: الإنسان قد يفتخر بنسبه على ما مرّ، وقد يفتخر بنفسه أي بالخصال التي اتصف بها والدرجات التي نالها من الدين والدنيا، والأول هو الفخر " العظامي لأنه افتخار بالعظام والرفات، والثاني هو الفخر " العصامي. وهو مأخوذ من عصام صاحب النعمان، وكان يقول:
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكرّ والإقداما
فكل ما جاءه السؤدد من تلقاء نفسه فهو مثل عصام هذا، ففخره عصامي.
والناس لم يزالوا مختلفين في هذا المنحى فقوم يعتنون في افتخارهم أو ثنائهم بذكر الآباء كقوله:
أنا ابن مزيقيا عمرو وجدي ... أبوه منذر ماء السماء
وقول النابغة: وهو قائلها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني، والبيتان فسرهما ابن السكيت فقال: " يقول: لئن كان عمرو ابن هذين الرجلين المقبورين في هذين الموضعين ليمضي أمره وليمسن من حاربه بشر، وليلتمسه حيثما كان ".
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عنده حارب
وللحارث الجفني سيد قومه ... ليبتغين بالجيش دار المحارب
وقول حسان ﵁:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
وقول العرجي العثماني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسِدادِ ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو
وقال الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
وقال النابغة لحسان ﵁ حين أنشد:
لنا الجفنات الغُرّ يلمعنَ بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدّةٍ دمما
ولدنا بني العنقاء وابن محرق ... فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابْنَما
إنك شاعر لولا أنك قلت: الجفنات فقللت العدد، ولو قلت: الجفان كان أبلغ، وقلت: يلمعن بالضحى ولو قلت: يشرقن بالدجى كان أبلغ، وقلت: يقطرن من نجدة ولو قلت: يجرين كان أبلغ، ثم افتخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، فهذا مذهب العرب وهو الافتخار بالآباء، ولذا نبه عليه النبي ﷺ وكرهه كما مرّ.
وقوم يفتخرون بأنفسهم، وهذا الوجه كثير أيضًا جدًا، لأنه طبع الآدمي لا يكاد يسلم منه ولا يحصى ما فيه من كلام الناس نظمًا ونثرًا ولا حاجة إلى التطويل.
ومن أفصح ما ورد في هذا النحو قول السموأل في لاميته المشهورة منها:
إذا المرء لم يدنَس من اللؤم عرضُه ... فكل رداء يرتديهِ جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضر من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول
تسيل على حد الظبّات نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل
وإنا لقوم ما نرى القتل سُبّة ... إذا ما رأته عامر وسَلول
إلى أن قال:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول
فإن بيني الديّان قُطْبٌ لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول
ومثل هذا النمط من الكلام فيه افتخار بالنفس وبالآباء أيضًا لأن المقصود أنهم على هذا الوصف كابرًا عن كابر وقول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وغير ذلك. ثم كثير من الناس لا يلتفتون إلى النسب ولا يقيمون للمفتخر به وزنًا كما قال الحريري:
لعمرك ما الإنسان إلاّ ابن يومه ... على ما بدا من حاله لا ابن أمسه
1 / 14