وأما التراب فهو مهاد الإنسان وفراشه حيًّا، وكِفاتُهُ مَيتًا، ثم هو منبع الماء الذي به الحياة، ومنبت الزرع وجميع الأقوات للإنسان وغيره من الحيوانات، ومنبت العقاقير التي بها الاستشفاء، والمعادن التي بها قوام العيش، والتي بها التعامل، فمنافعه لا تحصى، وليس فيه من المفاسد والمضار إلاّ ما هو تافه يضمحل في جنب المصالح والمنافع، فهذا هو الشرف والفضل، وقد ظهر ما في كل منهما في فرعه، فانظر إلى فرع التراب الذي هو الرحمة والمنفعة وهو الإنسان كيف ظهر فيه العلم والدين والرحمة، قال تعالى في نبيه ﷺ:) وكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحيمًا (، وانظر إلى فرع النار التي هي النقمة والمضرة وهو إبليس كيف ظهر فيه الإفساد والإغواء والاستفزاز، والأمر بيد الله على أن الإنسان مخلوق من الاسطقسات الأربعة: التراب والماء والنار والهواء، قال تعالى:) ... منْ تُرَابٍ ... (وقال أيضًا:) ... مِنْ طينٍ ... (كما مرَّ، وهو التراب والماء، وقال تعالى أيضًا:) ... منْ صَلْصَالٍ ... (وهو الطين اليابس لما فيه من نارية، وقال أيضًا:) ... منْ حَمَإٍ مَسْنُون ... (وهو المتغير الرائحة بما تخلله من الهواء فقد استولى الإنسان في تركيبه ما في النار، وزاد ما في غيره، فافتخار صاحب النار على صاحب النار والماء والتراب والريح حمق عظيم.
وهذا المحل يسع من الكلام أكثر من هذا بكثير ولكنه ليس من غرضنا فلنرجع إلى ما نحن فيه فنقول: إن ابن آدم متى افتخر قيل له: إن كان افتخارك بأصلك فلا فخر لك بل كما يقال: ضعيف عاد بقرملة.
ثم لا فخر لك به على غيرك لأنكما سيّان، وإن كان بمزية فهاتها، فمن ثبت له أو لأبيه ثبت فخره بنفسه أو بنسبه وإلاّ فلا.
الثاني - اعلم أن ما أشرنا إليه من المزايا التي يتشرف بها الإنسان حتى يشرف بشرفه من انتسب إليه كثيرة، منها دينية كالنبوءة وهي أجلها، وكالعلم والصلاح ومكارم الأخلاق وغير ذلك، ودنيوية كالملك، وهو أعظمها، وكالنجدة والكرم والقوة وكثرة العدد وكثرة المال والجمال ونحو ذلك وكثير منها يصلح أن يكون دينيًا ودنيويًا كالقوة والعز والكرم وسائر مكارم الأخلاق، وبعضها ديني ودنيوي معًا كالنبوءة والخلافة والعلم، وبعض ذلك حسي، وبعضه معنوي، وبعضه وجودي، وبعضه، وشرح ذلك يطول فلنقتصر القول مع تمثيل وتمهيد: أما التمثيل فهو أنه لو اعتبر رجلان متساويان في الخلق والخلق والنسب وسائر الأحوال فلا مزيّة لأحدهما على الآخر، وفي مثلهما قال علقمة بن علاثة للمتنافرين: صرتما كركبتي البعير الآدم، ولو اختص أحدهما بالفقه فهذه مزية وجودية يفضل بها الآخر، ولو اختص أحدهما بكونه ظلومًا فهذه مزية مذمومة عند أهل الشرع، وقد سلم منها الآخر، فله الفضل بمزية هي عدمية، وعند الجاهلية بعكس هذا، ولذا تأتى لشاعرهم أن يهجو بقوله:
قُبَيَّلَةً لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حَبّة خردل
فقد فهمت المزية في الجملة.
وأما التمهيد فاعلم أن الأجرام الترابية وما توالد منها متشابهة في الأصل، وكانت المزية للناميات الثلاثة، وهي المعدن والنبات والحيوان، أما المعدن فله الفضل على سائر الأجرام الترابية بالنمو والنفاسة والانتفاع، وأما النبات فله الفضل على ما قبله بالنمو والإثمار والانتفاع الخاص وجود النفس النباتية، حتى أن المعدن جزؤه ككله، فينتفع بما يقطع منه، فهو في ذلك كغير النامي بخلاف الشجرة لو اقتطعت منها قطعة لم ينتفع بها الانتفاع المراد منها كالإثمار، فأشبهت الحيوان، وربما تموت بقطع رأسها كالنخلة، كما يموت الحيوان. وقد ادعى بعض المتكلمين أن للنبات حياة، وزعموا أن النخلة يتعشق بعضها ببعض فيميل إليه، وأما ميل عروقها إلى الماء فمشاهد، وزعموا أنه إلى هذا المعنى الإشارة بالحديث: " أكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ النَّخْلَةَ " وهو حديث غريب، والذي في الصحيح أنها مثل المسلم، واختلف المحدثون في وجه الشبه على أقوال معروفة. وأما الحيوان فله الفضل بما ذكر مع زيادة الحياة والإحساس والإلهام، ويختص الإنسان عن جملته بزيادة العقل الذي هو محط إدراك الكليات والرأي والتصرف، فللإنسان الفضل على الجميع.
1 / 11