المقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهدية القويم، وسار على سنته إلى يوم الدين..
وبعد! فنقدم إلى القراء الأعزاء (كتاب مفيد العلوم ومبيد الهموم) تأليف الشيخ الامام العلامة جمال الدين أبي بكر الخوارزمي، رحمه الله تعالى..
وعند ما نختار كتابا لنقدمه إلى طلبة العلم تكون لنا فيه نظرة تمعن، فإما أن يكون الكتاب في التاريخ الاسلامي وإما أن يكون في الشريعة، واما أن يكون في علوم العربية وآدابها..
وكتابنا هذا الذي نقدمه إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها حوى كل هذه الفنون مجتمعة، ففي التاريخ حوي
1 / 5
فرائد عجيبة يكاد يختص بها في السيرة النبوية الشريفة، وأحكام النبوة ومعجزات النبي، وغزواته، ودار الحرب، وأصناف الكفار، والعهود ... الخ.
كما حوى الكتاب العجائب عن البلاد، وما اختصت به كل بلدة من عجائب فريدة من نوعها بين مثيلاتها.
ثم تعرض المؤلف ﵀ في أبواب شتى إلى علم النفس مما يجعل له باعا طويلا في هذا الميدان، عند ما تكلم عن أنواع العلاج، فهناك باب لمعالجة الذنوب وآخر لعلاج الكذب، وثالث لعلاج الغضب.. الخ..
بل إنه عدد كل أنواع الاضطرابات النفسية والحسية وسماها بمسميات علمية وذكر لكل نوع ما يراه من علاج ناجع لها..
ثم هناك كتاب شرح السنة، وقسمه إلى تسعة أبواب حوت أبواب الستة المختلفة.
أما عن العربية وآدابها، وصلاتها بهذا السفر القيم الذي نقدمه إلى القراء، فإننا بكل فخر نقول: إنه تحفة فريد ودرة غالية بما حوي من آداب، وشعر، ويكفي أن نقدم نموذجا من هذا السفر..
«هذا وقد شهد سلطان العقل وقضى به حاكم الشرع
1 / 6
ان العالم من العرش إلى الثرى مرآة مجلوة للناظرين ...
وذوات العالم تنادي أنفسها وذواتها، شهد شهادة لا شك فيها بأن الله تعالى ليس له شريك، أشهد، لو نظر واستبصر أهل التلحيد، لوصلوا إلى حقيقة التوحيد، فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية: تدل على أنه واحد.
بهذا الأسلوب الهاديء، السهل الممتنع، وبهذا القلم المتميز بالرصانة والاتزان، سارت جميع أبواب الكتاب وفصوله، فغدا تحفة فريدة لراغبي العلم والمعرفة في كل الفنون، وصار رفيقا طيبا للمتزودين من العلم، خصوصا إذا كان هذا العلم يحض على التقوى، (وخير الزاد التقوى) .
لكل هذه الأسباب أقدمنا على طباعة هذه التحفة النادرة، لتكون هدية من ادارة الشؤون الدينية بدولة قطر إلى جميع الناطقين بالضاد ليروا ماذا كان أسلافهم يكتبون، وكيف كانوا يقدمون العلم لطالبيه، وهيئة هذا العلم الذي أسس لهم حضارة سجلها التاريخ بمداد من ذهب..
فهل لنا أن نعتبر؟؟
وهل آن الأوان لنا لكي ننهل من هذا النبع الصافي؟؟
1 / 7
وهل نحن على خطاهم سائرون لنمكن لديننا في الأرض؟؟
أرجو ذلك.
والله من وراء القصد، وهو ولينا ونعم النصير وهو أيضا حسبنا ونعم الوكيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
١٧ شعبان ١٤٠٠ هـ ١٨/٦/١٩٨٠ م عبد الله بن ابراهيم الانصاري.
1 / 8
[ديباجة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي ما للعالم سواه خالق وصانع ولا له عما يريد مانع ودافع وكل عزيز على بابه بالذل خاشع وكل سلطان لسلطنته خاضع متواضع لا وضيع الا وهو له واضع ولا رفيع الا وهو له رافع ولا متبوع الا وهو في حكمه تابع وما سواه للبلاء عن الخلق دافع ولا شريك له ولا منازع الخير والشر بتقديره لا بتدبير الطوالع والنفع والضر بقضائه لا باقتضاء الطبائع الجماد والحيوان له مطيع وسامع والسلطان والرعية له ساجد وراكع وهو للكل بالموت قامع ثم ليوم الحشر حاشر وجامع وحقا ثم حقا ان ما توعدون لصادق وان الدين لواقع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سراجه لامع وسيفه قاطع ودينه جامع وهو لأمته شافع فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أبي بكر الطائع وعمر القانع وعثمان الساجد والراكع وعلي الذي بيده باب خيبر قالع وسلم تسليما كثيرا (هذا) وقد شهد سلطان العقل وقضى به حاكم الشرع أن
1 / 9
العالم من العرش الى الثرى مرآة مجلوة للناظرين وآية كاشفة للمتبصرين وكل من ينظر فيها يرى أن الصانع رب العالمين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فجواهر العالم تناجي وأجسامه تنادي بلسان الحال فهو أفصح من لسان المقال هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه فجوهر يقول هل من خالق غير الله وجوهر ينادي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ولقد أصاب لعمر الله صاحبنا المطلبي في المعنى ﵁ حيث قرأ صبغة وجوهر ينطق ويقول رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وذوات العالم تنادي أنفسها وذواتها شهدت شهادة لا شك فيها بأن الله تعالى ليس له شريك أشهد لو نظر واستبصر أهل التلحيد لوصلوا الى حقيقة التوحيد.
فيا عجبا كيف يعصي الال ... هـ أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فالدلائل الصامتة والناطقة شاهدة بوحدانيته ولكن الارادة الأزلية فرقت بين المؤمنين والكافرين أنعمت على قوم بالمعرفة والايمان وخصصت قوما بالخذلان والحرمان وأخبر القرآن القديم فقال: «فريق في الجنة وفريق في السعير» .
1 / 10
أتاك المرجفون برجم غيب ... على دهش وجئتك باليقين
ولقد وفق الله أهل الحق من بين البرية وخصهم بهذه الهدية وأكرمهم وعظمهم بالاسلام والسنة والتوفيق والعصمة فعرفوه وعظموه وقالوا جهلوك فجحدوك ولو عرفوك لعبدوك فنادوا هلموا فلله الحجة البالغة حجة العقل فانظروا في وجود الحوادث أولا ثم انظروا في حدوثها ثانيا واستدلوا بحدوثها على قدم محدثها ثالثا واذكروا من الدلائل قليلا كفى بذلك جملة وتفصيلا استدلوا بالتغيرات على المغير وبالحركة والسكون على حدوث العالم واعلموا أن لنا ربّا قوام الأشباح بنعمته وبقاء الأرواح والأجسام برحمته ونحن حيرى في كنه عظمته فأصبحوا وغايتهم العجز والاذعان وجهرهم الأمان الامان يا مزيل الدول والزمان يا من كل يوم هو في شان يا مقلب القلوب والابصار احفظ علينا نعمة الايمان واعصمنا من البدع والكفر والطغيان فاعتقادنا ومكنون فؤادنا هذه الكلمة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
1 / 11
غيره أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
يا هذا عميت عين لا تفوز بالنظر الى صنع الله وخاس عقل لم يحتط من حكمة الله وخذل عبد لم ينظر في صنع الله وخاب امرؤ لم يتذكر بأيام الله وخاب الكافرون وخسر المبطلون وضل المتفلسفون وهلك الملحدون فبأي حديث بعده يؤمنون. فالأرواح نوازع والنفوس جوازع والأسرار ضوائع فبم التعلل وحتام التمهل وما هذه الدعوى وعند الصباح يحمد القوم السرى فطوبى لعبد جعل التوحيد سمير فكره ونجّي قلبه ومطية سيره الى ربه فان قدر الآدمي بالدين القويم والهدي المستقيم والنجاة في التوحيد لمن يعتقده وقيمة كل امرىء ما يحسنه ومن ألبس سربال الاسلام فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا أولو الألباب فيا لها نعمة على جسد فهو ملك أعطى النعمة الكبرى والفضيلة العظمى فله عز في عز ودولة في دولة فالأمر أمره ولله دره فما أعظم قدره تذكر.
هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم ... وللمفلس المسكين ما يتجرع
1 / 12
ومن سلب ثوب ايمانه واتهم في نبيّ زمانه فحق له البكاء فقد بطل وجوده ورب السماء فيعيش بين الورى كما قال تعالى لا يموت فيها ولا يحيا فالنعمة نعمة الدين والدولة للمسلمين والعاقبة للمتقين قال مالك بن برهة بن نهشل المجاشعي سيد وفد بني تميم: يا رسول الله ألست أشرف قومي فقال ان كان لك عقل فلك فضل وان كان لك خلق فلك مروءة وان كان لك دين فلك شرف وان كان لك مال فلك حسب والا فأنت والحمار سواء فالمعاصي في جنب التوحيد تتلاشى وكل الصيد في جوف الفرا هذا وقد علم كل عاقل منصف وفاضل متصف ان الدنيا دار قلعة والحال حال خدعة والعمر كما ترى مار بسرعة فالدنيا حلم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت ونحن في أضغاث أحلام فما هي لعمر الله الا أنفاس معدودة وآجال محدودة وآمال ممدودة فكل نفس خطوة وكل خطوة ميل وكل شهر منزلة فرسخ وكل سنة منزلة فاذا بلغ الأجل فقد بلغ المنزل فاذا خطيب ينادي:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالاياب المسافر
فالعاقل يأخذ من نفسه لنفسه ويقيس يومه بأمسه فان مدة العمر قليلة وصحة الجسم مستحيلة والدهر خائن والمرء لا
1 / 13
محالة حائن وكل ما هو آت فكائن وكل يوم يسوق الى غده وكل امرىء مأخوذ بجناية لسانه ويده مسكين ابن آدم انقطعت أسرته يوم قطعت سرته فؤاده طالب وهو مطلوب وجميع ما له مسلوب شبابه الى هرم وسلطانه الى اتضاع وماله الى ذهاب وصحته الى سقم وحياته الى ممات متصل ذلك بعضه الى بعض اتصال الليل والنهار والشتاء والصيف أحسن بامرىء غرته الدنيا هل يبلغن مغرور منها الا خرقة وكسرة ان كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن إخوته فجمع لزوج امرأته أو زوج ابنته أو امرأة ابنه أو لعدو خارق ان في ذلك لآيات فهل من مدكر وهل من عاقل معتبر ينظر الى حوادث الزمان وعواقب السلطان قالعقل يدعو الى الاعتبار والحكمة تحث على الاستبصار الساعات تهدم الأعمار ومنادي الشرع ينادي الاعتبار الاعتبار فاعتبروا يا أولي الأبصار.
نسير الى الآجال في كل ساعة ... وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقا كأنه ... اذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شامل
1 / 14
ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل
ونقل أن بعض الملوك نظر الى ملكه فأعجبه ذلك فقال انه الملك لولا انه هالك وأنه لسرور لولا أنه غرور وأنه ليوم لو كان يوثق بغده فأبلغ العظات النظر الى محل الأموات فعواقب الأمور فوات وكلنا يا صدر الرؤساء أسراء العبر والممات والمنزل الذي يستوي فيه العبيد والسادات انظروا يمنة ثم اعطفوا يسرة هل ترون أحدا من الرجال والنساء أخذ قبالة البقاء بخطوط مسابح السماء.
عجبا عجبت لغفلة الانسان ... قطع الحياة بغرة وتوان
فكرت في الدنيا فكانت منزلا ... عندي كبعض منازل الركبان
مجرى جميع الخلق فيها واحد ... وكثيرها وقليلها سيان
أبقي الكثير الى الكثير مضاعفا ... ولو اقتصرت على القليل كفاني
لله در الوارثين كأنني ... بأخصهم متبرم بمكان
(هذا) وقد ساقني تقدير الله الى جمع كتاب وتهذيب علم
1 / 15
وترتيب قواعد وترصيع عبارات وإيراد إشارات هو ذخيرة السلطان ويتيمة الزمان ونزهة الاخوان من قال جامع سفيان فقد صدق ومن قال نادرة الزمان فما أغرب فلا غرو وللشمس أن تشرق وللبدر أن يتألق يغازل فيه الشاميون العراقيين وينافس به العراقيين الخراسانيون وكل به متنافسون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون عمري من كان له هذا الكتاب لا يضيق صدره أبدا ويعرف به قواعد الشرع وقانون الممالك ونصرة المذهب ورد الخصم وتذكر الآخرة وقاعدة العدل وعاقبة الأمور ونذير العدو الى غير ذلك وأنفقت فيه شطرا من صالح عمري (وسميته) مفيد العلوم ومبيد الهموم ورتبته على اثنين وثلاثين كتابا وهي:
[كتاب في قواعد الدين]
(الكتاب الأول في قواعد الدين) وفيه تسعة أبواب
الباب الأول في النظر والاستدلال
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما يلزم بالنظر
إعلم أن النظر قانون الاستدلال في الأمور وحاكم العدل وقاضي الصدق ومعيار الشريعة ومحك الحق والباطل وبريد المعرفة وسلطان الحقيقة وبرهان الشريعة وترجمان الايمان وجاسوس الكلام وغارس الاسلام وحجة الأنبياء ومحجة الأولياء والسيف القاطع على الأعداء شجرة طيبة أصلها
1 / 16
ثابت وفرعها في السماء ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فالنظر رأس السعادة عند أهل الدنيا والدين فبقاء الدولة وقاعدة الأمور وأساس التدابير وصحة الاعتقاد وخلاصة التوحيد في ناصية النظر كما أن أساس الكفر والشرك في ناصية التقليد وتذكر ساعة في صنع الله وتفكر لحظة في فعل الله أفضل وأحسن من عبادة سبعمائة سنة قيام ليلها وصيام نهارها وإليه إشارة قوله ﷺ تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة لأن النظر يوصل العبد الى المعرفة فيعرف الله تعالى ومن عرف الله تعالى فقد نال العز الأبدي والسعادة الكلية يا بردها على الفؤاد والكبد فأهل الدين بالنظر يعرفون حقيقة الدين والمعارف كما أن أهل الدنيا بالنظر يحصلون مقاصد الدنيا ولا يمكن معرفة سبيل النجاة من الهلاك الا بالنظر عرفه من عرفه وجهله من جهله.
(الفصل الثاني في حده وحقيقته)
فأقول حقيقة النظر هو الفكر في حال المنظور فيه لمعرفة حكمه وقيل هو فكر القلب في شاهد يدل على غائب فان قيل أطنبت الخطبة وأحسنت السؤل فما حجتك على صحته وانه مؤد الى العلم فأقول في العالم حق وباطل والناس صنفان أهل الحق وأهل الباطل وأصحاب الصدق وأصحاب
1 / 17
الكذب ولا يتصور معرفة الحق من الباطل الا بالنظر فالآدمي خلق كامل الرأي عظيم التدبير داركا للمعاني وأعطاه الله الادراك وهو العقل فاذا استعمله على وجهه وقع عنده العلم بالمنظور فيه كما يقع العلم بالمدركات عند الادراك فعند فتح الأجفان يبصر الأشياء وعند الاستماع والاصغاء يسمع وعند الاستعمال اللسان يتكلم فعند النظر يعلم ولو كان فاسدا لم يتضمن العلم لأن الفاسد لا يحكم له بقضية صحيحة والدليل على أن النظر يوصل الى العلم وهو طريق الحقائق فزع العقلاء اليه اذا التبس عليهم حكم شيء من الغائبات كما يفزعون الى البصر والسمع في تعريف ما يخفى من أحوال المرئيات والمسموعات واذا التبس عليهم شيء من أحوال الحواس الذوق والشم واللمس رجعوا الى النظر (دليل آخر) عرفنا أن النظر دليل الى العلم ضرورة فان عقلاء العالم وجهابذة المعاني مهما نزلت بهم نازلة أو حدث لهم حادث من المشكلات المهمات فزعوا الى النظر وتفكروا وتدبروا ليعرفوا وجه الصواب من الخطأ والحق من الباطل فعرفنا بضرورة العقل أن النظر طريق العلم فها نحن معاشر المسلمين نعرف الحق من الباطل بالنظر ونعرف الكفر من الايمان بالنظر ونعرف الله ورسوله بالنظر وأن الباطنية شر خليقة الله وهم زنادقة كفار ودهرية ضلال
1 / 18
ونعرف أن التقليد باطل ولا معصوم الا رسول الله ﷺ على رغم الباطنية أعداء الله كل ذلك بالنظر وقد قيل كيف نعرف النظر أو نعرف الشيء بالشيء هذا بديع في القياس بعيد يا قاضي العدل اذا حكم عدل فأقول عن صبوح يرفعون عرفت شيئا وغابت عنك أشياء عرفت صحة النظر بما أعلم به صحته في نفسه فتصحيح الشيء بما يدعى له الصحة غير متناقض وافساد الشيء بما يدعى له الفساد متناقض لأني اذا صححت النظر بجزء من المنظور دخل ذلك الجزء من النظر أيضا في جملة ما صححته فعرفت صحته مما به صحته في نفسه.
(الفصل الثالث في وجوبه)
فأقول ان النظر واجب لأن معرفة الله تعالى واجبة ولآن تاركه لا يأمن العقاب وهذا معنى الواجب وبيان أن معرفة الله تعالى واجبة الآيات الدالة عليها واجماع الأمة فاما الآيات فقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فاعلموا أن الله مولاكم قل انظروا ماذا في السموات والأرض ان في خلق السموات والأرض حتى قال العلماء نزلت ثلاث مئة آية في الحث على النظر والمعرفة والاجماع منعقد على ذلك ولأن شيئا من الشرائع في الصلاة والزكاة والقرب لا يصح التقرب
1 / 19
به الى الله تعالى الا بعد معرفة الله سبحانه لأن العبادة لا يصح أداؤها الا بالنية والنية قصد القلب الى إفراد الرب بالعبادة وقصد من لا يعرف بإفراد العبادة لا يصح واعلم أن الطريق الى المعرفة هو النظر الصحيح فان معرفة الله تعالى ليست ضرورية اذ لو كانت لما تصور فيه الخلاف كمعرفة الليل والنهار ووجود الآدمي فاذا ثبت أن معرفة الله سبحانه لا تمكن الا بالنظر فالنظر واجب لأن ما لم تتأد العبادة الا به كان واجبا في نفسه كالصلاة لا تؤدى الا بالطهارة فلا جرم تكون الطهارة واجبة والأمر بالصعود الى السطح أمر بنصب السلم.
(الباب الثاني في أول ما يجب على العباد المكلفين)
إن أول ما يجب على المكلف القصد الى النظر المؤدي الى معرفة الله تعالى فان قلت انك مدع واذا آل الأمر الى الدعاوى استوى كل طائع وغاو فأقول ما أبين الصبح لذي عينين وان الرحيل أحد اليومين والدليل عليه أن معرفة الله تعالى واجبة بالآيات المتقدمة والسعادة هي اليقين والدنيا هي فتنة الدين وما سواه فضلال مبين. فماذا بعد الحق الا الضلال فأنى تصرفون واعلم أن الواجب اشتقاقه من السقوط واللزوم يقال وجب الحائط اذا سقط وحده في
1 / 20
الشرع المنقول وقضية المعقول ما يستوجب اللزوم والعقاب بتركه وحد النظر هو فكر القلب وتأمله في حال المنظور فيه وأقمت الدليل على أن قاعدة الدين هو النظر لأن المسلمين من لدن آدم ﵊ الى منقرض العالم اذا نزلت بهم نازلة يرجعون الى النظر والفكر سواء كان في أمر الدين أو الدنيا ويقول بعضهم لبعض انظروا وتفكروا ولا يقولون اسمعوا وتقلدوا خلافا لما يدعيه الباطنية الضلال والملاحدة الجهال وقال تعالى هل عندكم من علم ولم يقل من معلم وقال هاتوا برهانكم ولم يقل معصومكم وبركاتكم وقال اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ولم يقل يسمعوا وقال عربي مبين ولم يقل حبشي فعرفت أن الدين بالحجة والبرهان دون التقليد الذي هو عصا العميان والعقلاء بقضهم وقضيضهم ينظرون في أمر الدين والدنيا لمعرفة الصالح من الفاسد والسار من الضار فلولا أنه طريق واضح ومنهج لائح لما فزعوا إليه.
فالناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار احسان
فإن قيل يا ناصر الدين وفارس المتقين لقد شفيت علتي وأزحت غلتي فمن الموجب الله تعالى أو رسوله ﷺ أو
1 / 21
العقل ففي هذا مزلة الأقدام ومدحض الأقوام فأقول:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
الموجب هو الله سبحانه لأنه خالق الأعيان وموجد الخلائق فالأصل في الخطاب خطاب الله تعالى فإنه دليل بنفسه وما بعده من الخطاب فرع خطاب الله صار بخطاب الله دليلا من حيث انه خالق الأعيان له الخلق والأمر وما سواه دليل من وجه ومدلول من وجه مثلا خطاب رسول الله ﷺ فانه مدلول خطاب الله اذ بخطاب الله صار دليلا قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فلولا خطاب الله لما عرفنا خطاب رسول الله وخطاب رسول الله دليل الاجماع والاجماع مدلوله وهو دليل القياس والقياس مدلوله وهو دليل الحكم والخطاب أمر ونهي وهما سيان في حقيقة الطلب والاستدعاء فأمر رسول الله ﷺ واجب بأمر الله وطاعته معترض لأمر الله فإذا أمرنا الله بشيء ونهانا عن شيء فكأنا نسمع خطاب الله بتبليغ رسول الله وبواسطته لأنا لا نسمع من الله شفاها والرسول مبلغ ومبشر ومنذر بشير للموحدين ونذير للملحدين وكذلك أقوال الصحابة ﵃ حجة بخطاب رسول الله وأقوال
1 / 22
العلماء حجة بخطاب الرسول وطاعة الأمراء واجبة بقول الرسول وطاعة الزوج على زوجته والسيد على غلمانه واجبة بقول رسول الله فليعلم بأن هذا أصل عظيم (سؤال عظيم) اشتبه على زهاء خمسمائة فلسفي قالوا كيف نعرف النبي أنه نبي فان الله لا يخاطبه مواجهة ولو جاءه ملك احتمل أنه شيطان تصور بصورة ملك فكيف نثق بقوله؟ (الجواب) البراهمة أوتوا حين كفروا من هذه الشبهة وانها لكبيرة الا على الخاشعين فنقول نعرف النبي انه نبي بطرق الأول أن يخلق الله له علما ضروريا فنعرف أنه رسول الله.
الطريق الثاني أن يظهر الله آيات وعلامات فيضطر الرسول الى أنه من قبل الله وأن البشر يعجز عن مثله.
الثالث أن يخبره الله بما في قلبه وصدره فيضطر النبي الى معرفة كلامه لأن الغيب لا يعلمه الا الله عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا.
(الباب الثالث في التوحيد)
فان قيل ما حد التوحيد من الموحد فأقول على الخبير سقطت حد التوحيد العلم بان الله سبحانه واحد بصفاته التي
1 / 23
هو عليها من كونه حيا قادرا عالما مريدا سميعا بصيرا متكلما والموحد هو العالم بأن الله واحد حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم والتوحيد أن يعلم أن الله واحد قديم لم يزل ولا يزال كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان عالم بعلم أزلي قادر بقدرة أزلية يعلم مثاقيل الجبال وأوزانها وأوراق الأشجار وكمياتها وقطرات البحار ويعلم عدد الحيوان والدواب ومواضعها ويعلم كم المؤمن وكم الكافر وكم الذكر وكم الأنثى وكم الأحياء وكم الأموات يسمع كلام نفسه لا يدخل في الوهم منزه عن التقدير والتحديد مقدس عن خطرات الخاطر لأن كل ما يقدره الوهم يكون متلوّنا مقدرا أو مشبها بشيء والله مقدس عن جميع ذلك وكل ما يخطر بالبال فالله بخلاف ذلك الشيء وخالق ذلك الشيء فمن اعتقد هذا فمؤمن موحد حقا وجملة التوحيد في حرف واحد وهو أن يعلم العبد ان القديم لا يشبه المحدث وان الله سبحانه لا يجوز عليه الاتصال والانفصال والقرب والبعد والحلول والانتقال والطبع والغش وقال بعض العلماء خلاصة التوحيد أن يعتقد العبد أن كل ما يتقدر في الوهم ويتصور في الخاطر فالله بخلاف ذلك وخالق ذلك وأن الله تعالى غير مشبه بالذوات وذاته غير معطلة عن الصفات.
1 / 24