ووجه لي اللورد الحديث قائلا: إنه استمع إلى عبارتي بكل عناية، ويود لو يستطيع أن يفهم مني - وقد تضمن قرار الهيئة المصرية التمسك بمذكرة أول أغسطس، وما صاحبها من صيغ للمواد - ما هو الحال بالنسبة لمسألة الجلاء التي لم يرد عنها نص من الجانب المصري ... فقلت له: «نعم لم يتضمن ما أرسل لكم صيغة لمدة الجلاء، ولكننا قلنا في المذكرة: إننا نرى أن مدة الجلاء يجب ألا تزيد على سنة ...» فقال: «إنكم قلتم لي أول أمس حيث قابلتكم: إن مشروع المستر بيفن في مادته الثانية يتضمن أخطاء، فهل لي أن أفهم أين هذه الأخطاء؟»
فقلت: «هذا واضح؛ لأن المادة الثانية التي صيغت أخيرا لم يرد فيها ذكر إنجلترا، بينما كنا على اتفاق من قبل على أن الدفاع المصري عن البلاد المتاخمة يكون حيث تشتبك إنجلترا في حرب بها، وقد أهمل ذلك في الصيغة الجديدة، وأنتم تعرفون أن مصر لا علاقة لها من الوجهة السياسية في هذه المعاهدة إلا بإنجلترا، وهي لا تستطيع التدخل إلا حيث تهاجم حليفتها، فالتعبير الجديد يخالف القواعد المرعية، فأنا لا أدافع عن فلسطين مثلا؛ إلا لأن حليفتي قد اشتبكت في حرب دفاعية، وقد سبق لكم أن أقررتم هذا المبدأ، بل هناك صيغ منكم تتضمنه.»
فلم يبد اعتراض من اللورد، ولا من السفير على هذه الملاحظة.
ثم انتقل اللورد إلى الفقرة الثانية من المادة الثانية، وقال: «ولكن أليس للفقرة الثانية من المادة الثانية محلها؟» فقلت: «إن الفقرة الثانية تتعلق بخطر الحرب على البلاد المجاورة، وخطر الحرب هذا ليس محله المادة الثانية التي تركز فيها الغرض الأساسي للمحالفة في حالة الحرب، والفقرة الجديدة أولى بها أن تكون في المادة الثالثة، التي تكلمت عن اللجنة المشتركة واختصاصاتها، وتكلمت أيضا عن تتبع أحوال الشرق، ومراقبة هذه الأحوال عن كثب، ومن أخطار الحرب المحتملة وما يتخذ بشأنها من مشاورات قد يعقبها إجراءات ... وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لأن يجيء ذكر خطر الحرب في مكانين من المعاهدة مختلفين، ويلاحظ أن المادة الثالثة المذكورة قد أعدت لأمر البحوث والاستعدادات، وليس لذكر أغراض المعاهدة، فالفقرة الثانية التي تقترحون إضافتها للمادة الثانية يغني عنها ما هو وارد فعلا في المادة الثالثة.»
فسألني اللورد: «وماذا يضيركم من تكرار ذكر الخطر في مادتين مختلفتين كل منهما لها غرضها، وأنتم تعرفون شدة حرصنا على أن نكون محتاطين للطوارئ، ساهرين على القيام بالتزاماتنا؟ وإذا كانت المادة الثانية هي مركز المعاهدة، فإنه تبدو لكم أهمية النص على هذا الخطر في تلك المادة ...» فقلت: «هو هذا التركيز الذي يخلق عندنا القلق والهواجس، التي لمستها في كل الدوائر، فإن اهتمامكم بخطر الحرب قد يؤدي إلى متاعب لمصر، نعم إن هناك مشاورة، ولكن المشاورة بين القوي والضعيف تثير عند المصري دائما فكرة استعمال الضغط من جانبكم، أضف إلى ذلك أن الالتزامات الناتجة من حرب فعلية من السهل الإشارة إليها؛ لأن الحرب عمل واقعي واضح الأثر، أما خطر الحرب فقد يكون وليد الوهم، وقد يستعمل للضغط، وقد يستعمل في كل وقت ... إنك قد تقول مثلا بناء على مقال متحمس في جريدة «برافدا»، وإذاعة متطرفة من راديو موسكو: إن الخطر قائم، فندخل في مناقشات لا نهاية لها، ويلتمس رجالكم كل الأسباب للتدليل على أن هناك ما يدعو لاتخاذ إجراءات، وهذا ما يخشاه جميع المصريين كل الخشية.»
فقال لورد ستانسجيت: «نعم إني أدرك هذا الوضع وأفهم أن الصياغة الحالية ربما تدعوكم إلى شيء من الحيطة، ولكني أود أن تفهموا موقف مستر بيفن، ومستر بيفن لا يقف من المسألة المصرية إلا موقف العطف وسلامة النية ...» ثم انتقل إلى مسألة الجلاء قائلا: «وهل تقفون أنتم مثل هذا الموقف في أمر مدة الجلاء، وظاهر من قرار الهيئة أنها تطالب بسنة فقط؟» فقلت: «أظنك تذكر أننا بعد معاودة البحث في أمر المدة اللازمة للجلاء كنت قد قلت لك، وقلت للسفير: إنني أعتقد أن الجانب المصري لا يعارض في أن تكون المدة سنتين.» وقال السفير: «بل إني أذكر أنك ذهبت إلى سنتين ونصف»، فقلت: «لا، لم أقل هذا، وربما اختلط عليك الأمر، على أني أظن أن طلب المستر بيفن بشأن مدة الجلاء، لا يثير مثل باقي مطالبه اعتراضا في قوة اعتراضنا على المطلبين الآخرين.»
عن مسألة السودان
وهنا قال لورد ستانسجيت: «هل تسمح أن نتكلم عن السودان؟ وهل اطلعت هيئة المفاوضة على النص الذي قدمته إليكم؟» فقلت: «لقد اطلعت هيئة المفاوضة على النص، ووصفته بأنه كتب بمهارة، على أننا لم نناقش المادة في مشتملاتها إذ اصطدمنا برفضها لمطلب السيادة، وهذا في نظرنا من أقدس المطالب.»
فقال اللورد وأيده السفير: «إن موقف إنجلترا موقف مبني على الحرص على مصالح السودانيين وحقوقهم، وليس من حقنا أن نقبل مقدما ما يمكن أن يصطدم بمطالبهم.» فقلت: «أشك أولا في أن مسألة السيادة المصرية ستثير اعتراضا جديا عند فريق ذي شأن من السودانيين، بل إني أعتقد بالعكس أن الفريق المثقف من السودانيين يرغب في أن يكون السودانيون من رعايا ملك مصر ... وأريد أن تفهما أن هذا المطلب المصري هو تقريبا جل ما نحرص عليه من حق في السودان، وهو حق معنوي قومي، وما عدا ذلك فليس لنا من المطالب في السودان إلا تلك الأغراض التي يتطلبها الجوار وجريان النيل وسط أراضي البلدين، وبعض الشئون الاقتصادية والثقافية والجنسية.
نحن لا نريد من السودانيين كسبا ماديا، لا نطمع في أن يكون لنا موظفون مصريون بالسودان، بل نود أن نرى قريبا اليوم الذي يتولى فيه السودانيون أمر أنفسهم ... فإذا ما ناقشتم أمر هذه السيادة الممثلة في التاج، فماذا بقي لنا من هذا السودان؟ وإذا ما اعترضتم على السيادة، فكأنكم اعترضتم على كل شيء بما فيه هذا الوضع الذي يترجم عن وحدة وادي النيل ... فإذا ما فكرتم مليا في هذا أنتظر أن تكون نتيجة التفكير التسليم بما نطلب، وهو أيضا في مصلحة السودانيين الذين لا يمكن أن يتمنى لهم صديق أن يكونوا بلا وطن، وأنا أعرف أنهم يغتبطون بانتسابهم للوطن المصري مع الاحتفاظ بكيانهم الخاص، وبكامل حقوقهم في إدارة شئونهم .»
Неизвестная страница