أزمة المفتش العام
ولا بد لي من أن أقول كلمة عن أزمة المفتش العام لعلاقتها بثروت باشا، وبتصريح 28 فبراير الذي كان لي شرف الاشتراك فيه، فقد حدث أن لجنة الحربية في مجلس النواب اقترحت عند نظرها لميزانية الجيش إلغاء منصب السردار سبنكس باشا؛ لتنافيه مع مسئولية الوزير أمام البرلمان، وتحسين أسلحة الجيش وأدواته، وترقية التعليم في المدرسة الحربية، واقترح بعض أعضائها تعديل قانون مجلس الجيش، بحيث لا يكون سبنكس باشا عضوا فيه على مثال مجلس الجيش الإنجليزي، فاتصل نبأ هذه الاقتراحات بدار المندوب السامي، وكان وقتئذ اللورد جورج لويد، فاعتبر ذلك تحديا لسلطة بريطانيا الحربية في مصر، وحظي بمقابلة جلالة الملك فؤاد، وتبودلت بينه وبين ثروت باشا المقابلات، ثم قدم مذكرة إلى الحكومة المصرية يشرح فيها وجهة النظر البريطانية، وتتلخص هذه المذكرة في أن أحد تحفظات تصريح 28 فبراير، الذي منع تدخل أية دولة أجنبية في شئون مصر يجعل لإنجلترا حق الإشراف على الجيش المصري، ورد ثروت باشا بأنه كان من الذين اشتغلوا في جميع أدوار تصريح 28 فبراير، ولم ترد مسألة الجيش البتة في أي نص منه، ولا في أية مفاوضة من مفاوضاته؛ ولهذا السبب ترى الحكومة المصرية أن هذه المسألة من المسائل الخاصة بها. فلم ترتح بريطانيا إلى هذا الرد، ولم يتزحزح ثروت باشا عن موقفه، فأرسلت بريطانيا ثلاث بوارج إلى المياه المصرية بقصد التهديد، والحقيقة أن هذه المظاهرة البحرية لم تكن تنطوي على شيء من الكياسة السياسية!
وقد ألقى السير أوستن تشمبرلن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم تصريحا عن مسألة الجيش المصري في ذلك الحين، فرأيت من واجبي أن أوجه إلى رئيس الحكومة المصرية سؤالا في هذا الشأن، وفي شأن البوارج الإنجليزية، ولا أفشي سرا إذا ما قلت الآن إنه سؤال متفق عليه مع ثروت باشا، وقد قلت فيه: «... إني أشعر بأن الشعب المصري - وقد أظهر بلسان ممثليه المرة بعد المرة شدة رغبته في دوام حسن التفاهم مع الدولة الإنجليزية - يتولاه الألم كله؛ إذ يرى أن حرصه على ذلك التفاهم قد قوبل من الحكومة البريطانية بذلك الإجراء، الذي لم تجر العادة به إلا بين المتخاصمين.
وأما بيان وزير الخارجية البريطانية، فلا يخفف من وقعه غير الشعور بأنه لم تصل إليه بعد كل الحقائق، التي يمكن أن يبني عليها حكم صحيح ... والذي زاد من ألم كل مصري في الآونة الحاضرة، ما جاء في بيان وزير الخارجية من أن إرسال البوارج الحربية قد بني على ما اعتقدوه من أن هناك مجهودات، ومساع تبذل لإثارة اضطراب سياسي، يعرض أرواح الأجانب ومصالحهم لأكبر الخطر ...
وإذا كان في هذه المأساة - كما هو الشأن في أكثر النوازل - ما يبعث على بعض التسلية، فقد يكون فيما صرح به وزير الخارجية البريطانية من الرغبة في أن تسوى المشكلة الحاضرة بطريقة ودية، تصون مصالح الحكومتين ... وإني إذا وجهت اليوم سؤالي إلى دولة رئيس الوزراء بشأن ما تنويه الحكومة تلقاء الحوادث الحاضرة، فإني لا أشك لحظة في أن الموقف الذي ستتخذه حكومتنا الدستورية، سيكون كما عودتنا موقف حزم وحكمة يتجلى فيه التصميم الأكيد على المحافظة على مصالح البلاد.»
وقد رد ثروت باشا على ذلك ردا سياسيا حكيما، ثم أعقبت هذه الأزمة زيارة جلالة الملك لإنجلترا، فكان من شأن هذه الزيارة أن تبددت السحب، التي ظهرت في جو العلاقات المصرية الإنجليزية، وساعدت ثروت باشا على الدخول في محادثات شخصية مع السير أوستن تشمبرلن للوصول إلى اتفاق يصلح أساسا لمفاوضات رسمية؛ لتسوية المسألة المصرية من جميع الوجوه، وقد أدت هذه المحادثات إلى ما سمي «مشروع ثروت-تشمبرلن»، وكان رأيي فيه وقتئذ أنه خطوة إلى الأمام بعد تصريح 28 فبراير، وكانت السيطرة الإنجليزية ما زالت مهيمنة على البلاد، والإنجليز هم أصحاب الحل والعقد، ولم تكن المسألة المصرية - في هذا الوضع - بالتي تحل طفرة واحدة، بل بتفاهم يتلوه تفاهم ...
وكانت سياسة ثروت باشا ستؤدي إلى أفول نجم اللورد جورج لويد - وقد كان نجمه ساطعا - ولكن مع الأسف فقد كانت السياسة الحزبية له بالمرصاد!
كيف توليت الوزارة سنة 1930؟
وقفت بكم في الكلمة السابقة عند استقالة المرحوم عبد الخالق ثروت باشا؛ بسبب فشل مشروع ثروت-تشمبرلن، وقد كان من أهم أسباب هذا الفشل موقف أصدقائه الأحرار الدستوريين منه وخذلانهم له، حتى لقد عقدوا في ذلك مؤتمرهم الإداري كما هي العادة، وقد خلفه في الوزارة الائتلافية مصطفى النحاس باشا، ولكن وزارته لم تعمر غير أربعة أشهر وتسعة أيام، وأقيلت في أزمة قانون محاكمة الوزراء.
صدقي لا محمد محمود
Неизвестная страница