فركبنا السيارة إلى الباب العالي، فقالوا إنه خرج إلى داره، فيممنا داره ولحقناه في طريقه بعد أن اجتاز الجسر، ووصلنا منزله قبله؛ فأخذنا إلى بهو الاستقبال، ولم يكن هناك أحد، فقال لي طاهر أفندي: أرجوك أن تبلغ سيادة الأمير ألا يتأخر في مصر، إن هو عزل، كما فعل الشريف علي باشا. فقلت: دون عزل الأمير خرط القتاد. فقال لي: اسكت، إن للجدار أسماعا. فقلت: لا أخفي ما أقول.
وإذا بالصدر قد وصل، فلما دخل هش متضاحكا وقال: مرحبا مرحبا، أبطأت علينا بمصر، ونحن في حاجة إليك. فقلت: ها أنا ذا حضرت، وما كنت أحسب أن لكم في حضوري أي رغبة شديدة. فجلس وقال لي: كيف، وقد بعثت إليك ببرقية مع إسماعيل حقي بك بعد الخبر الأول، قلت فيها إنني أنتظر قدوم الأمير عبد الله، وأرغب تبليغكم إياه؛ وإن الإشاعات التي راجت عن شخص سمو الأمير بمكة لا أصل لها من الحقيقة، وإن رضا الخليفة الأعظم عن سموه لا يتزلزل؟ ... فقلت: هذه البرقية هي التي أخرتني. قال: ولم؟ قلت: لأنني ذكرت بها برقية محمود شوكت باشا لوالدي قبل خلع السلطان عبد الحميد بيومين، التي يقول فيها إن جيش الحركة قد توجه إلى إسطنبول ونيته الإصلاح وإن الحوادث عن الذات الملكية لا أصل لها من الحقيقة. فضحك بصوت عال وقال: لا لا لا ... هذا التفكير غير موافق للحقيقة، وإني آسف لأنه أقلقك. فقلت: إنني مازح، وهذا أنا الآن جئت؛ وإن أبي يقرئك السلام، ويقول إنه لا ينتظر أن يدافع عن حقوق الشرافة وعن مقام آبائه وأجداده في عهد صدارة سعيد حليم باشا، حفيد محمد علي باشا الكبير، صديق البيت. قال: ولم؟ إن كل الأمور سويت، وقد رضي الأمير عما عرضناه عليه، وأنا أرجو أن تراني غدا في الباب العالي، في الساعة الرابعة بعد الظهر، بعد أن تقابل وزير الداخلية طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا قبل الظهر. فقلت: أنا لا أذهب إليهما، وأنا مبعوث مكة، ولا علاقة لي بهما، لأنني لست بالموظف؛ وإن كانت هنالك أي رغبة سامية منكم، فأنا أنتظر الدعوة منهما بعد تعيين الوقت، وقد عرفتهما في أنهما لا يقابلان من يزورهما بدافع من نفسه. فقال: ستأتيك الدعوة. فخرجت.
فلما أصبحت، أبلغت أن طلعت باشا - وزير الداخلية حين ذاك - ينتظرني في الساعة التاسعة بالباب العالي، وأن أنور باشا ينتظرني في الساعة العاشرة والنصف.
فذهبت في الوقت المحدد. وبينما أنا أصعد الدرج إلى دائرة الداخلية، وإذا برجل يضع يده على كتفي ويقول: نحن نبحث عنك بمصر وإذا بك هنا. فإذا هو طلعت باشا، فأخذ بيدي وصعد الدرج اثنتين اثنتين، ودخل غرفته ثم جلس وأجلسني أمامه. وبعد المجاملات قال لي: انحلت الأزمة بالحجاز، فأعلمني ماذا جرى؟ قلت: لا علم لي بما جرى لأنني كنت بمصر، والتفصيلات هي عندكم. ولكن الذي أعلمه إجمالا، هو أن ما حدث ليس إلا نتيجة طبيعية لسياستكم، أنتم الاتحاد والترقي، وسياسة الشريف. قال: كيف؟ قلت:
أنتم تريدون إخراج الحجاز من صبغته الخاصة، إلى ولاية عثمانية، يجري فيها ما يجري في سواها. وسياسة الشريف سياسة محافظة تريد إبقاء كل شيء على ما كان عليه. ويظن هو أن غاية ما ترجوه الدولة هو استتباب الأمن وسلامة المواصلات وأمن الحجاج. وأنتم مع إرادتكم لهذه الأشياء تريدون كما قلت آنفا جعل الحجاز خاضعا لقانون الولايات، ولو جعلتم الشرافة تخدم الدولة في الحجاز، وعلى تأسيس روابط الأخوة الإسلامية الحقيقية بين العالم الإسلامي وبين دولة الخلافة، لعلمتم أن مكة هي القلب النابض لهذه السياسة وأن الشريف هو المنظم لهذا القلب وشرايينه، وأن فائدة الدولة من مظاهرة الحجاز لها أكثر بكثير مما ترجونه من تطبيق قانون الولايات عليه.
فقال لي: ولم يمانع والدك في بناء الخط الحديدي؟ قلت:
لم يمانع والدي في ذلك ولكن نسيتم أن الأسباب الموجبة التي دعت السلطان عبد الحميد إلى بناء هذا الخط، كانت ترمي إلى غير ما تبنون أنتم عليه سياستكم. هو كان يظن أن في تجربة كهذه دعاية عظيمة لشخصه، وكان يود كما تعلمون أن يومي إيماءة خفيفة إلى روسيا بأن الخطوط الحديدية العسكرية هي الإشارة إلى نواحي الخطر العدائي، وأن في بناء هذا الخط إلى الجنوب مع خط بغداد - الذي أعطي امتيازه إلى الألمان - الإشارة إلى أن الخطر متوجه على الدولة العثمانية من الناحية الإنكليزية لا من ناحية روسيا، وأن إغفال مد السكك الحديدية إلى شرقي الأناضول هو الاستخذاء للروس وعدم الرغبة في تهييج عواطفه. والذي يهم الشريف اليوم يجب أن يهمكم أنتم أيضا، ألا وهو بناء سياسة إسلامية مركزها الحجاز والأمين عليها الشريف. وإتمام هذا الخط يعني إيجاد أشغال تدعو إليها الذين يحيون اليوم بممارسة صناعة النقل على الجمل في الحجاز وتعليم الحجاج الطواف وكيفية زيارة المصطفى
صلى الله عليه وسلم . وليست هذه الوسائل معدومة هناك. هذا ما عجز الشريف عن تفهيمكم إياه وعجزتم عن فهمه.
فرأيت التأمل يبدو على وجهه، وقال لي: نجتمع غدا في حضرة الصدر، في بيته في الساعة الحادية عشرة، وإنني أشكرك على إيضاحاتك.
وذهبت في الوقت المحدد إلى أنور باشا. ولما وصلت إلى الباب في مركز السر عسكر، وإذا بالجند يطلبون وثيقة أو بطاقة زيارة، فقلت: لا أملك هذه ولا تلك، ولكن وثيقتي عمامتي، وقد جئت بطلب. فتنحوا وتقدمت. وفي الباب الداخلي أيضا، أخذت إلى غرفة بها أكثر من عشرة أشخاص يكتبون، فلما رأوني على الباب، ظهر لي أنهم استثقلوا الجبة والعمامة، فقالوا: لعلك غلطت، ليس هذا بالمكان الذي تريده. فقلت: نعم ليس هذا بالمكان الذي أريده، ولم أغلط، ولكني هديت إلى هذه الغرفة؛ وأنا فلان بن فلان ، جئت على وعد من وزير الحربية في هذا الوقت، فكيف الوصول إليه؟ فقاموا بأجمعهم معتذرين، ثم كلم الضابط المدير لهم، مرافق الوزير، بالهاتف، فجاء الرد وأخذني إليه، فصعدت وأدخلت إلى بهو الانتظار.
Неизвестная страница