ثمن الكتابة
مذكرات طبيبة
ثمن الكتابة
مذكرات طبيبة
مذكرات طبيبة
مذكرات طبيبة
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
Неизвестная страница
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير ، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
Неизвестная страница
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
مذكرات طبيبة
Неизвестная страница
1
بدأ الصراع بيني وبين أنوثتي مبكرا جدا، قبل أن تنبت أنوثتي وقبل أن أعرف شيئا عن نفسي وجنسي وأصلي، بل قبل أن أعرف أي تجويف كان يحتويني قبل أن ألفظ إلى هذا العالم الواسع.
كل ما كنت أعرفه في ذلك الوقت أنني بنت كما أسمع من أمي. بنت!
ولم يكن لكلمة بنت في نظري سوى معنى واحد؛ هو أنني لست ولدا، لست مثل أخي!
أخي يقص شعره ويتركه حرا لا يمشطه، وأنا شعري يطول ويطول، وتمشطه أمي في اليوم مرتين، وتقيده في ضفائر، وتحبس أطرافه بأشرطة.
أخي يصحو من نومه ويترك سريره كما هو، وأنا علي أن أرتب سريري وسريره أيضا.
أخي يخرج إلى الشارع ليلعب بلا إذن من أمي أو أبي ويعود في أي وقت، وأنا لا أخرج إلا بإذن.
أخي يأخذ قطعة من اللحم أكبر من قطعتي، ويأكل بسرعة، ويشرب الحساء بصوت مسموع، وأمي لا تقول له شيئا.
أما أنا، أنا بنت! علي أن أراقب حركاتي وسكناتي. علي أن أخفي شهيتي للأكل فآكل ببطء وأشرب الحساء بلا صوت.
أخي يلعب، يقفز، يتشقلب. وأنا إذا ما جلست وانحسر الرداء عن سنتيمتر من فخذي، فإن أمي ترشقني بنظرة مخلبية حادة فأخفي عورتي.
Неизвестная страница
عورة!
كل شيء في عورة وأنا طفلة في التاسعة من عمري!
حزنت على نفسي.
أغلقت باب غرفتي علي، وجلست أبكي وحدي.
لم تكن دموعي الأولى في حياتي لأني فشلت في مدرستي، أو لأني كسرت شيئا غاليا، ولكن لأني بنت!
بكيت على أنوثتي قبل أن أعرفها.
فتحت عيني على الحياة وبيني وبين طبيعتي عداء. •••
قفزت درجات السلم ثلاثا ثلاثا لأهبط إلى الشارع قبل أن أفرغ من عد عشرة.
إن أخي ورفاقه من أولاد وبنات الجيران ينتظرونني لنلعب عساكر وحرامية، ولقد أخذت إذنا من أمي بالخروج. أحب اللعب! أحب الجري بأقصى سرعة، أشعر بسعادة طاغية وأنا أحرك رأسي وذراعي وساقي في الهواء، وأنطلق في قفزات عالية لا يحد منها إلا ثقل جسمي تشده إليها الأرض.
لماذا لم يخلقني الله طائرا أطير في الهواء مثل هذه الحمامة وخلقني بنتا؟ خيل إلي أن الله يفضل الطيور على البنات!
Неизвестная страница
ولكن أخي لا يطير!
واستني هذه الحقيقة بعض الشيء، أحسست أن الولد بالرغم من حريته الواسعة فهو عاجز مثلي عن الطير. وأصبحت أفتش دائما عن مواطن العجز في الرجل لتعزيني عن ذلك العجز الذي تفرضه علي أنوثتي.
لا أدري ماذا حدث لي وأنا أقفز؛ أحسست برجفة عنيفة تسري في جسدي ودوار في رأسي، ورأيت شيئا أحمر اللون!
ما هذا؟
انخلع قلبي من الهلع وانسحبت من اللعب، وصعدت إلى البيت وأغلقت على نفسي باب الحمام لأبحث في الخفاء سر هذا الحادث الخطير.
ولم أفهم شيئا، وظننت أن في الأمر مرضا مفاجئا ألم بي، وذهبت إلى أمي أسألها في ذعر.
ورأيت أمي تضحك في سعادة! وتعجبت كيف تقابل أمي هذا المرض الفظيع بتلك الابتسامة العريضة؟!
ورأت أمي دهشتي وحيرتي، فأخذتني من يدي إلى غرفتي حيث قصت علي قصة النساء الدامية. •••
لزمت غرفتي أربعة أيام متتالية لا أملك الشجاعة على أن أواجه أخي أو أبي أو حتى الخادم الصغير.
لا بد أنهم اطلعوا جميعا على عورتي، ولا شك أن أمي فضحت سري الجديد. وأغلقت الباب علي أفسر بيني وبين نفسي هذه الظاهرة الغريبة؛ ألم تكن هناك طريقة أخرى تنضج بها البنات غير هذه الطريقة الملوثة؟ أيمكن لإنسان أن يعيش أياما تحت سيطرة عضلاته اللاإرادية الغاشمة؟ لا بد أن الله يكره البنات فوصمهن جميعا بهذا العار.
Неизвестная страница
وشعرت أن الله قد تحيز للصبيان في كل شيء.
ونهضت من فراشي أجر كياني الثقيل ونظرت في المرآة. ما هذا؟ نتوءان صغيران نبتا على صدري؟
آه، ليتني أموت!
ما هذا الجسم الغريب الذي يفاجئني كل يوم بعار جديد يزيد ضعفي وانكماشي؟!
ترى أي شيء آخر سينبت في الغد على جسدي؟ أو ترى أي ظاهرة أخرى جديدة تتفجر عنها أنوثتي الغاشمة؟! •••
كرهت أنوثتي.
أحسست أنها قيود؛ قيود من دمي أنا تربطني بالسرير فلا أستطيع أن أجري وأقفز، قيود من خلايا جسمي أنا، تسلسلني بسلاسل من الخزي والعار فأنطوي على نفسي أخفي كياني الكثيف. لم أعد أجري، ولم أعد ألعب.
هذان النتوءان على صدري يكبران ويهتزان كلما مشيت.
وقفت حزينة بقامتي الطويلة الفارعة أخفي صدري بذراعي، وأنظر في حسرة إلى أخي وزملائه وهم يلعبون.
كبرت، كبرت عن أخي مع أنه أكبر مني سنا! كبرت عن أمثالي من الأطفال فانسحبت من وسطهم وجلست وحدي أفكر.
Неизвестная страница
انتهت طفولتي، طفولة قصيرة سريعة لاهثة. لم أكد أحس بها حتى أدبرت وخلفت لي جسد امرأة ناضجة، يحمل في حناياه طفلة في العاشرة من عمرها. •••
رأيت عيني البواب وأسنانه تلمع وسط وجهه الأسود سواد الفحم، واقترب مني وأنا أجلس وحدي على دكته الخشبية أتابع بعيني أخي ورفاقه وهم يجرون ويقفزون.
وأحسست بطرف جلبابه الخشن يلمس ساقي وشممت رائحة ملابسه الغريبة، فابتعدت في اشمئزاز، لكنه اقترب مني مرة أخرى، وحاولت أن أخفي عنه خوفي بمراقبة أخي وزملائه وهم يلعبون، لكني أحسست أصابعه الغليظة الخشنة تتحسس ساقي وتتسلقهما من تحت ملابسي!
ووقفت مذعورة واندفعت أجري بعيدا عنه.
هذا الرجل الأسود الكريه أيضا يتطلع إلى أنوثتي؟!
وأخذت أجري حتى دخلت البيت، وسألتني أمي عن سبب انزعاجي، ولم أستطع أن أقول لها شيئا. لعلي شعرت بالخوف أو الخزي، أو كليهما، أو لعلي ظننت أنها ستعنفني وأنه لن يكون بيننا ذلك الود الذي يجعلني أحكي لها أسراري. •••
لم أعد أخرج إلى الشارع، ولم أعد أجلس على الدكة الخشبية.
هربت من تلك المخلوقات الغريبة ذات الأصوات الغليظة والشوارب التي يسمونها رجالا، وخلقت لنفسي عالما خاصا من صنع خيالي؛ جعلت من نفسي فيه إلهه، وجعلت من الرجال مخلوقات عاجزة غبية تقوم على خدمتي.
وجلست في عالمي على عرشي الرفيع أرتب العرائس فوق الكراسي، وأضع الصبيان على الأرض، وأحكي لنفسي القصص والحكايات.
ولم يكن ينغص علي حياتي في وحدتي مع خيالي وعرائسي سوى أمي، بأوامرها الكثيرة التي لا تنتهي، أعمال البيت والمطبخ؛ دنيا النساء المحدودة القبيحة التي تفوح منها رائحة الثوم والبصل.
Неизвестная страница
لم أكن أهرب إلى عالمي الصغير حتى تجرجرني أمي إلى المطبخ وهي تقول: مصيرك إلى الزواج. يجب أن تتعلمي الطبخ. مصيرك إلى الزواج. الزواج! الزواج!
تلك الكلمة البغيضة التي كانت ترددها أمي كل يوم حتى كرهتها، ولم أكن أسمعها حتى أتمثل أمامي رجلا له بطن كبير في داخله مائدة طعام.
ارتبطت في ذهني رائحة المطبخ برائحة الزوج.
وكرهت اسم الزوج، وكرهت رائحة الأكل. •••
سكتت جدتي العجوز عن الثرثرة ونظرت إلى صدري، ورأيت عينيها المتآكلتين تتأملان البرعمين الجديدين البارزين وتزنهما. ثم رأيتها تهمس لأمي بشيء.
وسمعت أمي تقول لي: ارتدي الفستان اللبني لتدخلي وتسلمي على الضيف الذي مع أبيك في الصالون.
وشممت رائحة مؤامرة في الجو.
وكنت أقابل معظم أصدقاء أبي وأقدم لهم القهوة، وأحيانا أجلس معهم وأسمع أبي وهو يحدثهم عن تفوقي في المدرسة، فأشعر بالفرحة وأحس أن أبي باعترافه بذكائي ينتشلني من دنيا النساء الكئيبة التي تفوح منها رائحة البصل والزواج.
ولكن لماذا الفستان اللبني؟ ذلك الفستان الجديد الذي أكرهه. في صدره كشكشة غريبة تستقر على نهدي وتزيد من بروزهما.
ونظرت إلي أمي تتفحصني، وقالت: أين الفستان اللبني؟
Неизвестная страница
ورددت في غضب: لن ألبسه! ولمحت بوادر التمرد في عيني، فنظرت إلي في أسى وقالت: ساوي حاجبيك إذن.
ولم أنظر إليها، وقبل أن أفتح باب الصالون لأدخل، عبثت بأصابعي في شعر حاجبي فنكشتهما.
وسلمت على صديق أبي وجلست، ورأيت وجها غريبا مخيفا، له نظرة مدققة فاحصة تشبه نظرة جدتي.
وقال أبي: إنها أولى فرقتها هذا العام في الابتدائية.
ولم أر في عيني الرجل أي تعبير عن إعجاب بهذا الكلام، ورأيت نظراته الفاحصة تحوم حول جسدي وتستقر في النهاية على صدري، فوقفت مذعورة وخرجت من الحجرة أجري كأنما عفريت يطاردني.
وتلقتني أمي وجدتي على الباب بلهفة وشوق، وقالتا في نفس واحد: هيه، ماذا فعلت؟
وصرخت في وجهيهما صرخة واحدة، وجريت إلى غرفتي وأغلقت الباب علي، وذهبت إلى مرآتي أنظر إلى صدري.
كرهتهما! هذان البروزان! تلكما القطعتان الصغيرتان من اللحم اللتان تحددان مستقبلي! وددت لو أجتثهما من فوق صدري بسكين حاد!
ولكني لم أستطع. استطعت فقط أن أخفيهما، أن أضغط عليهما بمشد سميك ليبطهما. •••
هذا الشعر الطويل الثقيل، الذي أحمله فوق رأسي في كل مكان، يعطلني كل صباح، ويرهقني في الحمام، ويلهب رقبتي في الصيف.
Неизвестная страница
لماذا لا يكون قصيرا حرا كشعر أخي؟ لا يحمله فوق رأسه، ولا يعطله، ولا يرهقه؟
ولكن أمي تتحكم في حياتي ومستقبلي وجسدي حتى خصلات شعري.
لماذا؟
لأنها ولدتني؟ ولكن أي فضل لها في أنها ولدتني؟ كانت تمارس في حياتها الطبيعية كأي امرأة، ثم جئت أنا بغير إرادتها في لحظة من لحظاتها السعيدة. جئت دون أن تعرفني، ودون أن تختارني، ودون أن أختارها.
لقد فرضت عليها ابنة، وهي فرضت علي أما.
أيمكن لإنسان أن يحب مخلوقا فرض عليه؟ وإذا كانت أمي تحبني رغما عنها بغريزتها، فأي فضل لها في هذا الحب؟ وهل هي ترتفع كثيرا عن القطة التي تحب أولادها حينا وتأكلهم حينا آخر؟
أليست هذه القسوة التي تعاملني بها أمي أكثر إيلاما لي مما لو أنها أكلتني؟!
وإذا كانت أمي تحبني حبا حقيقيا هدفه سعادتي وليس سعادتها، فلماذا تكون كل أوامرها ورغباتها تتعارض مع راحتي وسعادتي؟!
أيمكن أن تحبني وهي تضع السلاسل كل يوم في قدمي، وفي يدي، وحول رقبتي؟! •••
خرجت لأول مرة في حياتي من البيت دون أن آخذ إذنا من أمي.
Неизвестная страница
مشيت في الشارع وقد منحني التحدي نوعا من القوة، ولكن قلبي كان يخفق من الخوف.
ولمحت لافتة كتب عليها: حلاق للسيدات.
ترددت لحظة ثم دخلت.
نظرت إلى خصلات شعري وهي تتلوى بين فكي المقص الحاد، ثم تهوي إلى الأرض.
أهذه الخصلات هي التي تقول عنها أمي إنها تاج المرأة وعرشها؟ أيخر تاج المرأة هكذا صريعا في لحظة إصرار واحدة؟ وشعرت باستخفاف شديد نحو النساء؛ رأيت بعيني رأسي أنهن يؤمن بأشياء تافهة لا تساوي شيئا، ومنحني هذا الاستخفاف بهن قوة جديدة جعلتني أعود إلى البيت وأنا أسير على قدمين ثابتتين، واستطعت أن أشد قامتي، وأن أقف أمام أمي بشعري القصير.
صرخت أمي صرخة عالية وناولتني صفعة حادة على وجهي، ثم تلتها صفعات وصفعات، وأنا أقف كما أنا.
كأنما تجمدت، كأنما جعل مني التحدي قوة لا يهزها شيء، كأنما جعل مني انتصاري على أمي جسما صلبا لا يحس بالصفعات.
كانت يد أمي ترتطم بوجهي ثم ترتد عنه كأنما هي ترتطم بصخرة من الجرانيت.
كيف لم أبك؟ أنا التي كانت تبكيني «الشخطة» الواحدة أو الصفعة الخفيفة!
لكن دموعي لم تسقط. عيناي مفتوحتان تنظران في عيني أمي في جرأة وقوة.
Неизвестная страница
ظلت أمي تصفعني، ثم تهاوت على الأريكة جالسة وهي تردد في ذهول: لقد جنت!
أشفقت عليها حين رأيت ملامحها ترتخي في انهزام وضعف، وشعرت برغبة قوية في أن أعانقها وأقبلها وأبكي بين ذراعيها، وأقول لها: ليس العقل هو أن أطيعك دائما.
ولكني أبعدت عيني عن عينيها حتى لا تعرف أنني شهدت هزيمتها، وجريت إلى حجرتي.
ونظرت في المرآة وابتسمت لشعري القصير، ولبريق الانتصار في عيني.
عرفت لأول مرة في حياتي كيف يكون الانتصار، الخوف لا يفعل شيئا إلا الهزيمة، والانتصار لا يكون إلا بالشجاعة.
زال مني الخوف الذي كنت أشعر به نحو أمي، سقطت عنها تلك الهالة الكبيرة التي كانت تجعلني أرهبها. أحسست أنها امرأة عادية، وصفعاتها التي هي أقوى ما فيها لم أعد أخشاها؛ لأنها لم تعد تؤلمني. •••
كرهت البيت ما عدا حجرة مكتبي، وأحببت المدرسة ما عدا حصة التدبير المنزلي، وأحببت أيام الأسبوع ما عدا يوم الجمعة.
واشتركت في كل نشاط المدرسة؛ دخلت جمعية التمثيل، وجمعية الخطابة، وجمعية الرياضة، وجمعية الموسيقى، وجمعية الرسم. ولم يكفني ذلك، بل اجتمعت ببعض زميلاتي وكونت جمعية أطلق عليها اسم جمعية الأنس. لماذا اخترت كلمة الأنس؟ لم أدر! ولكنني شعرت أن في أعماقي رغبة شديدة إلى الأنس؛ إلى أنس ضخم كبير لا يؤنسه شيء، إلى مجاميع هائلة من الناس تؤنسني وتحدثني وتستمع إلي وتنطلق معي إلى السماء.
خلت أن أي ارتفاع لن يكفيني، لن يطفئ تلك الشعلة المتأججة في نفسي. وكرهت الدروس المتكررة المتشابهة. كنت أقرأ الموضوع مرة واحدة، واحدة فقط؛ أحسست أن التكرار يخنقني، يقتلني. كنت أريد شيئا جديدا ... جديدا ... دائما. •••
لم أشعر به حين دخل إلى حجرتي ووقف إلى جواري وأنا أجلس إلى كتابي، إلا حين قال: ألا ترغبين في الترويح عن نفسك قليلا.
Неизвестная страница
وكنت قد قرأت طويلا وشعرت بالتعب، فابتسمت قائلة: أريد أن أتمشى في الخلاء. - البسي معطفك وهيا بنا.
أدخلت نفسي في المعطف بسرعة وجريت إليه. كنت على وشك أن أضع يدي في يده وننطلق، نجري معا كما كنا نفعل ونحن أطفال، لكن عيني تعلقتا بعينيه فتذكرت فجأة السنين الطويلة التي لم ألعب فيها، ونسيت خلالها قدماي الجري، وتعودتا السير البطيء كالكبار، فوضعت يدي في معطفي وسرت إلى جواره في بطء.
وسمعته يقول: لقد كبرت. - وأنت أيضا. - هل تذكرين أيام كنا نلعب معا؟ - كنت تسبقني في الجري دائما. - وكنت تكسبين دائما في «البلي».
وضحكنا طويلا، ودخل هواء كثير إلى صدري فأنعشني وجعلني أحس أنني أسترجع بعض طفولتي المدبرة.
وقال: أريد أن أسابقك في الجري.
قلت في ثقة: سأسبقك.
قال: لنر!
ورسمنا خطا على الأرض، ووقفنا متجاورين، وصاح قائلا: واحد ... اثنين ... ثلاثة. فانطلقنا نجري الشوط.
كنت على وشك أن أصل إلى النهاية قبله، لكنه أمسكني من ملابسي من الخلف، فتعثرت قدمي ووقعت على الأرض ووقع إلى جواري. ورفعت عيني إليه وأنا ألهث، فرأيته ينظر إلي نظرة غريبة جعلت الدماء تصعد إلى وجهي، ورأيت ذراعه تمتد ناحية خصري، وهمس في أذني بصوت غليظ: سأقبلك.
انتفض كياني انتفاضة عنيفة غريبة، وتمنيت في لحظة ومضت في أحاسيسي كالبرق أن تمتد ذراعه أكثر وتضمني بقوة ... بقوة، ولكن رغبتي العجيبة الخفية تحولت حين خرجت من أعماقي إلى غضب شديد.
Неизвестная страница
وزاده غضبي إصرارا، فأمسكني بيد من حديد. ولم أدر من أين واتتني هذه القوة التي جعلتني أقذف بذراعه في الهواء بعيدا عني، وأرفع يدي إلى فوق، ثم أهوي بها على وجهه في صفعة عنيفة! •••
تقلبت في فراشي حائرة؛ مشاعر غريبة تجتاح كياني، وخيالات كثيرة تمر أمامي، لكن خيالا واحدا يستقر أمام عيني.
ابن عمي وهو راقد على الأرض إلى جواري، وذراعه تكاد تلتف حول خصري، ونظراته الغريبة تخترق رأسي.
وأغمضت عيني لأسبح مع خيالي الذي راح يحرك ذراعه حتى التفت حول خصري بقوة، وحرك شفتيه حتى لامستا شفتي وضغطتا عليهما بعنف.
ودسست رأسي تحت الغطاء.
أيمكن أن أصدق؟! يدي هذه التي ارتفعت وصفعته، هي نفسها يدي التي ترتجف في يده الموهومة؟!
وأحكمت الغطاء حول رأسي لأحول بينه وبين هذا الوهم الغريب، لكنه تسرب من تحت الغطاء إلي، فوضعت الوسادة على رأسي وضغطت عليه بكل قوتي لأخنق فيه ذلك الشبح العنيد، وظللت أضغط على رأسي حتى خنقني النوم. •••
فتحت عيني في الصباح حين بدد نور الشمس الظلام بكل ما يجوس فيه من أشباح.
وفتحت النافذة، ودخل الهواء المنعش إلى صدري، فقضى على الآثار العالقة بخيالي من أوهام الليل.
ابتسمت في سخرية من نفسي؛ هذه النفس الجبانة التي ترتعد خوفا مني وأنا يقظة، ثم تتسلل إلى فراشي في الظلام، فتملأ السرير في حولي خيالات وأوهاما! •••
Неизвестная страница
انتهيت من دراستي الثانوية وكنت أولى فرقتي، وجلست أفكر ماذا أفعل؟
ماذا يمكن لي أن أفعل وأنا أكره أنوثتي، وأنقم على طبيعتي، وأتبرأ من جسدي؟!
لا شيء سوى الإنكار ... التحدي ... المقاومة!
سأنكر أنوثتي، سأتحدى طبيعتي، سأقاوم كل رغبات جسدي.
سأثبت لأمي وجدتي أنني لست امرأة مثلهما، أنني لن أعيش حياتي في المطبخ أقشر البصل وأفصص الثوم، أنني لن أقضي عمري من أجل زوج يأكل ويأكل.
سأثبت لأمي أنني أكثر ذكاء من أخي، ومن الرجل، ومن كل الرجال، وأنني أستطيع أن أفعل كل ما يفعله أبي، وأكثر، وأكثر.
2
كلية الطب ؟! نعم الطب.
للكلمة وقع رهيب في نفسي، يذكرني بنظارة بيضاء لامعة، من تحتها عينان نافذتان تتحركان بسرعة مذهلة، وأصابع قوية مدببة تمسك بإبرة طويلة حادة مخيفة.
أول طبيب رأيته في حياتي.
Неизвестная страница
كانت أمي ترتجف من الخوف وتتطلع إليه في ضراعة وخشوع، وكان أخي ينتفض من الهلع، وكان أبي راقدا في الفراش ينظر إليه في استجداء واسترحام.
الطب شيء رهيب، رهيب جدا. تنظر إليه أمي وأخي وأبي نظرة احترام وتقديس.
سأكون طبيبة إذن، سأتعلم الطب، وسأضع على وجهي نظارة بيضاء لامعة، وسأجعل عيني من تحتها نافذتين تتحركان بسرعة مذهلة، وسأجعل أصابعي قوية مدببة أمسك بها إبرة طويلة حادة مخيفة.
سأجعل أمي ترتجف من الخوف وتتطلع إلي في ضراعة وخشوع، وسأجعل أخي ينتفض أمامي من الهلع، وسأجعل أبي ينظر إلي في استجداء واسترحام.
سأثبت للطبيعة أنها بالرغم من ذلك الجسد الضعيف الذي ألبستني إياه، وبالرغم مما في داخله وخارجه من عورات، فسوف أتغلب عليه، وسوف أضعه في زنزانة من حديد عقلي وذكائي، ولن أمنحه فرصة واحدة ليشدني إلى صفوف النساء العجماوات. •••
وقفت في فناء كلية الطب أتلفت حولي؛ مئات العيون تصوب إلي نظرات فاحصة لاذعة.
رفعت رأسي ورددت عليهم بمثل سهامهم.
لماذا ينظر إلي الطلبة فأغض طرفي؟! لماذا يرفعون رءوسهم وأطرق رأسي؟! لماذا يدبون على الأرض في كبرياء وثقة وأنا أتعثر في خطاي؟! أنا مثلهم، وسأكون مثلهم، بل سأتفوق عليهم.
فردت قامتي الطويلة عن آخرها. نسيت النهدين وتلاشى ثقلهما من فوق صدري. شعرت أنني خفيفة، وأنني أستطيع أن أتحرك بسهولة كما أشاء.
لقد رسمت لنفسي طريق حياتي، طريق العقل، ونفذت قرار الإعدام على جسدي، فلم أعد أشعر له بوجود. •••
Неизвестная страница
وقفت على باب المشرحة.
رائحة نفاذة عجيبة؛ جثث آدمية عارية، فوق مناضد رخامية بيضاء. حملتني قدماي إلى الداخل في وجل، واقتربت من إحدى الجثث العارية ووقفت إلى جوارها. جثة رجل عارية تماما.
الطلبة من حولي ينظرون إلي ويبتسمون في مكر، وينظرون ماذا أفعل.
كدت أشيح بوجهي عن الجسد العاري وأجري خارجة من المشرحة . ولكن لا، لن أفعل ذلك.
ونظرت إلى جانبي ورأيت جثة امرأة عارية، وإلى جوارها بعض الطلبة وينظرون إليها في جرأة وقوة.
سلطت نظراتي على جثة الرجل في جرأة وقوة، وأمسكت المشرط في يدي. •••
كان هذا هو أول لقاء سافر لي بالرجل والرجولة؛ فيه فقد الرجل هيبته وجلاله وعظمته الموهومة، نزل الرجل من فوق عرشه وارتمى على منضدة التشريح بجوار المرأة.
لماذا كانت أمي تضع هذه الفروق الهائلة بيني وبين أخي، وتصنع من الرجل إلها، علي أن أقضي عمري كله أطبخ له طعامه؟
لماذا يحاول المجتمع دائما أن يقنعني بأن الرجولة امتياز وشرف، وأن الأنوثة مهانة وضعف؟
هل يمكن لأمي أن تصدق أنني أقف وأمامي رجل عار، وفي يدي مشرط أفتح به بطنه ورأسه؟
Неизвестная страница
هل يمكن للمجتمع أن يصدق أنني أتأمل جسد الرجل وأشرحه وأمزقه دون أن أشعر أنه رجل؟
ومن هو المجتمع؟ أليس هو رجالا مثل أخي ربته أمه منذ طفولته على أنه إله؟ أليس هو نساء مثل أمي ضعيفات عاطلات؟
كيف يمكن لهؤلاء أن يصدقوا أن هناك امرأة لا تعرف عن الرجل شيئا سوى أنه عضلات وشرايين وأعصاب وعظام؟
جسد الرجل! ذلك الشيء الرهيب الذي تخيف به الأمهات البنات الصغار، فيحترقن بنار المطبخ لأجل إشباعه، ويحلمن بشبحه الليل والنهار! ها هو الرجل ملقى أمامي عاريا قبيحا ممزقا.
لم أتصور أن الحياة سوف تكذب لي أمي بهذه السرعة، أو تنتقم لي من الرجل على هذا النحو. ذلك الرجل الكئيب الذي نظر إلى نهدي يوما ولم ير من كياني شيئا سواهما.
ها أنا ذي أرد سهامه إلى صدره.
ها أنا ذي أنظر إلى جسده العاري وأشعر بالغثيان.
ها أنا ذي أهوي عليه بمشرطي فأمزقه إربا.
أهذا هو جسد الرجل؟!
يغطيه الشعر من الخارج ويمتلئ من الداخل بالعفونات؟ يعوم مخه في سائل أبيض لزج ويغرق قلبه في دم أحمر غليظ؟
Неизвестная страница
ما أقبح الرجل! من خارجه ومن داخله أشد قبحا! •••
تأملت المرأة الشابة التي ترقد تحت مشرطي على المنضدة الرخامية البيضاء؛ شعرها طويل ناعم مصبوغ باللون الأحمر لكنه مغسول بالفورمالين، أسنانها بيضاء لامعة وفي وسطها سنة ذهبية حمراء لكن جذورها صفراء، أظافرها طويلة مدببة مطلية باللون الأحمر لكن منابتها بيضاء، ونهداها فوق صدرها ولكنهما ضامران متهدلان.
قطعتا اللحم اللتان عذبتاني في طفولتي، اللتان تحددان مستقبل البنات وتشغلان عقول الرجال وعيونهم ...
ها هما تستقران تحت مشرطي يابستين مجعدتين كقطعتين من جلد الأحذية!
ما أضحل مستقبل البنات! وما أتفه ما يملأ عقول الرجال وعيونهم! والشعر الطويل الناعم الذي عذبتني أمي من أجله سنين طفولتي، تاج المرأة وعرش جمالها الذي تحمله فوق رأسها وتضيع نصف عمرها في تصفيفه وتنعيمه وصباغته؛ ها هو يستقر أمام عيني في جردل المشرحة إلى جوار عفونات الجسد وفتافيت الشحم المهملة! •••
أحسست بمرارة في حلقي، فقذفت بقطعة اللحم من فمي، ووضعت قطعة الخبز تحت أسناني، وحاولت أن أمضغ، لكن أسناني كانت تتحرك بصعوبة. حاولت أن أبلع، أحسست بقطعة الخبز وهي تحتك بجدار بلعومي وتسير في خشونة إلى معدتي، أحسست بمعدتي وهي تفرز أحماضها لتهضم الخبز، وأحسست بأمعائي وهي تنتفخ لتستقبل الأكل، وشعرت بشيء يجثم على صدري، وتبينته فعرفت أنه قلبي ينقبض وينبسط طاردا الدم إلى شراييني. وأحسست بالدم وهو يزحف في عروقي، وأحسست بالنبضات الخافتة التي تصنعها الشعيرات الدموية الدقيقة في أطرافي، وأحسست بالهواء وهو يدخل إلى أنفي ويجتاز حنجرتي ليملأ رئتي وينفخهما، ينفخهما كالبالونة، حتى توقف الهواء في صدري، وأحسست أنني أختنق؛ شفتاي لا تتحركان، وذراعاي لا تمتدان، وعضلات قلبي لا تنقبض، وعروقي لا تنبض بالدم!
آه، لقد مت!
وقفزت مفزوعة.
لا! لن أموت وأصبح جثة كهذه الجثث الممدودة أمامي فوق المناضد!
وألقيت المشرط من يدي وخرجت من المشرحة أعدو، ونظرت إلى الناس في دهشة وهم يسيرون في الشارع ويحركون أذرعهم وأرجلهم بلا تفكير، ويجرون وراء الأتوبيس بسهولة، ويفتحون أفواههم، ويحركون شفاههم، ويتكلمون، ويتنفسون، ويفعلون كل شيء بسهولة شديدة.
Неизвестная страница