وإذا ما أخذت قاربا على النهر رأيت الأرض ترتفع مع بصرك حتى تضيع بما لبسته من حلة خضراء قريبا من السحاب، وعلى الجانب الثاني تقوم أشجار عالية تطوق جيد النهر الساكن المستسلم ترسل عليه الشمس النازلة أشعتها وينطرح في ظل الأشجار فوقه وهو على ما هو عليه، وكما كان من لا نهايات الزمان القديم ذاهب في طريقه ليضيع في البحر القريب، وفي وسطه وواصلا للشاطئ مكان يسمونه الجزيرة يحيط به من الزلط الصغير ما يسمح لكثيرين أن يتركوا قواربهم وينزلوا فوقه ليشاهدوا من مكانهم وهم وقوف الرصيف الرفيع إلى الجهة الثانية من النهر، ويمتعوا النظر بمرأى عدة أشياء جميلة متتابعة، الماء ثم الشاطئ الضيق ثم المنحدر الأخضر وما به من زهر ثم الرصيف تتوجه أشجار، وليروا عن شمالهم القنطرة التي تعبر النهر والقوارب تمر من تحتها ومن فيها حذرون يسيرون متمهلين ترقبهم عيون من على الشاطئ أو الجلوس في محلات الشاي الممتدة إلى جانب النهر.
20 يولية
أقمت بلندرة أربعين يوما لأحبها وآسف على تركها، وما من بلد كبير إلا له من الجمال والهيبة ما يجذب النفس ويأخذ بالفؤاد، ما بالك بذلك البلد لا تعرف له أول ولا آخر، هو العالم تتوه فيه ولا تحلم بالخروج منه، أنت في الضواحي وفي لحظة إذ بك تشعر برهبة المدينة الهائلة حولك، وتنظر إلى ما يحيط بك فتراك أبعد ما يكون عن أن تتصور آخرها، هي بحر لا شاطئ له يتوه فيه الإنسان المسكين.
مع تلك العظمة تحوي لندرة بها ورواء ومهابه وجلالا، وأي شيء أبهى وأبدع من منتزهاتها الكبيرة لا عدد لها أو أجمل من دور الآثار العديدة تحوي أدق ما أبدعت رأس الإنسان، وما أنس لا أنس آخر أيامي بها وأنا في متحف الهند وأعمالهم في العاج ونقشهم عليه يأخذ النفس إلى أرقى مواطن الإعجاب، وإني لأشهد أن ذلك أجمل ما رأيت إلى اليوم من مثله، ثم المدينة كذلك مهد علم وعمل وحركة كبيرة، مهد الجامعات العظيمة والكليات الهائلة، ومهد تلك المصانع الكثيرة والمعامل والمخازن، ولا أظن شيئا مما في الوجود ينقص هاته البلاد إلا ما استحال عليها أن تضمه بين جدرانها.
متى يكون لنا في الشرق مدينة كلندرة أو كباريس؟ ... متى بلغنا من هاته المدنية الحاضرة القليلة الطعم ما بلغ القوم، وإني لأدعو كل محب لبلاده أن يعمل لإبلاغها أكثر ما يقدر من مدنية القوم لا حبا فيها، ولكن لأنها الوسيلة الوحيدة والأمل الضئيل الباقي لنا جماعة الشرقيين في العظمة والحرية، ليصبغوا المدنية بصبغة شرقية ثم لينقلوها إلى الشرق ينتفع بها أهلهم ومواطنوهم ويكونون لم يخسروا شيئا وأفادوا أممهم أكبر الفائدة.
بريتين 21 يولية
الساعة العاشرة ونصف مساء، ساعة من الليل أحرى بالهدأة والهدوء والنوم، ساعة لا يتحرك معها في الجو الأسود بالظلام شيء، لكن البحر الهائج عالي الصوت يزأر كأنه الأسد الحبيس، نحن في بريتن، وأطل من النافذة على الجو يذهب مع البصر إلى أفق كان كل مدة هذا النهار ملفوفا في رداء من الضباب حتى لم يتميز لحظة واحدة، فلما جاء الليل تسربت إليه رسله من شياطين العبيد ، ونكشت شعرها فاسود الهواء ولم يك إلا حين، فإذا الكهرباء هي التي تدمي ذلك الجسد الهائل صاحب الخوار العظيم، نحن في برتين، هواء طلق ومناظر بديعة، نزهة لمن حملت نفسه بهموم المدن، فضاء واسع لمن حدق نظره حيطان لندرة وأمواج تتهادى اليوم كما كانت تتهادى أيام نوح وقبل التاريخ، وكما كانت حين كان العالم ماء لا أرض فيه، وستبقى كذلك إلى الأبد، هي بنت الطبيعة ولا حكم للإنسان عليها، يستخدمها لغاياته إن شاء ولكنه لا يصرف حركاتها على هواه.
الساعة العاشرة ونصف مساء، موعد نوم المكدود من أسفاره، وموعد نومي أنا الآخر، والوقت يجري إلى الغد ولا ينتظرني حتى أتم كلماتي وأذهب إلى سريري حينذاك يتحرك هو لا ينتظر أحدا، هو يجري فيمتع به النائم المستريح أو اللاهي عنه بمسراته، ويحمله عله المتضايق المهموم، لست أنا من أي من هؤلاء، ولكني في دقائق سأكون في سريري.
بريتن 1 أغسطس
بعد العشاء نزلت وقد ولت موليات النهار، وانسدل على البحر الهائل ظلمات جعلته أكثر هيبة ومخافة، والناس ليسوا كثيرين على الرصيف (terrace)
Неизвестная страница