كل شيء أرى يستطيع أن يجد فيه قلمي مجاله إلا قصر اللوفر، أقف خاضعا خاشعا مقرا بالعجز، أمام ذلك الجمال العظيم يكفيني أن أقدس وأعبد.
وما بالك بقصر اللوفر، بالقصر العظيم تعاقب الملوك في تشييده فأهدوا باريس عظمه وجمالا وجلالا ، تمتد أجنحته فتحلق وسطها على حدائق التويلري البديعة، وتضم إلى أحضانها ما في الجنة من زروع ناضرة وتماثيل غاية في الدقة، وأطفال يلعبون ويمرحون هم ملائكها المقربون، فإذا وقفت في صحنه الواسع وأجلت بصرك في بناء القصر الفخيم ارتد إليك طرفك وقد امتلأ وجودك هيبة وإجلالا، وإن أنت رميت ببصرك إلى الجهة المقابلة راح إلى أقصى أبعاده يستجلي من بين أشجار الحدائق التماثيل، وتقوم أمامه بعيدة في ميدان الكونكورد المسلة المصرية ثم قوس النصر أبعد منها وعلى مرمى العين.
دخلنا القصر العظيم وليس بيدنا دليل ولا يصحبنا مرشد إلا صديق ما عهدته يهتم بالجمال ولا يعبأ به، وجعلنا نطوف بأركانه عن غير مهل، وإلى جانبنا شبان وفتيات قد أخذ كل في يده دليله يريد أن يقف على دقيق معنى ما يرى ويحرص على اكتناه سر الشيء الذي أمامه.
بالرغم من ذلك فقد أخذت بالعين أشياء تركت في النفس أثرا باقيا، إما لغرابتها وإما لمبلغها من الإتقان، من ذلك تمثال قديم يمثل الملك وقد قطب حاجبه وهو في جسمه أضعاف من حوله، يحمل في يده خنجرا كأنه يتبرم بالوزراء القائمين عن يمينه، أما الجند فقد قاموا خلفه وعليهم أثر اليقظة والرهبة معا.
كذلك تمثال ناسكة قد رفعت رأسها للسماء، ولبس جسمها النصف عار شكل الخشوع والخضوع، وعليها مهابة الصلاح، وتقرأ في وجهها آي الأسف والإخلاص، وهي من تماثيل جالي (عن العبادة).
أما زهرة ميلو
Venus de Milo
فهي حقا إلهة المجال، هذا الأنف اليوناني البديع وتلك العيون الناطقة بما يكنه الشباب من غرام وهوى، وقدماها المكتنزان وصدرها وخصرها وقوامها، هذا التمثال الصامت الناطق، هذا الكل البالغ منتهى الإبداع هو لا شك إله الجمال ومعبود محبيه.
لم نر من الطبقة الثانية كثيرا؛ لأن موعد الطعام حل وأصحابي جميعا جياع، وكل ما أذكر منها صورة لتسيانو هي (لورا دديانتي) ذات الصدر المصقول والذراع الخصب والفم الملائكي، وكأنها تصغي لرجل يدل ما أراده الرسام من عدم وضوح صورته على معنى ما بينهما من الصلة، والصورة معروفة كأنها (تسيانو ورفيقته ).
جاء موعد الطعام فأراد أصحابي الإسراع في مسيرهم، وفعلا تركنا الصور وما فيها والسقوف وجمالها، ولم يك شيء ليلهينا عن سيرنا، هنالك ذكرت حكاية قاسم أمين حين كان مع جماعة من أصحابه في قصر اللوفر، وجعلوا يتسللون منه واحدا بعد الآخر، وهنالك أسفت وتعزيت في وقت واحد.
Неизвестная страница