27 أغسطس انترلاكن 1910
أنني لا أخشى الفقر فذلك أهون ما أتوقع، وإنما أخاف شيئا واحدا أن يضيع - أخاف عليه أكثر من حياتي - ذلك هو الصحة.
لقد طعمت من صنوف الحياة ضروبا، ومن السرور والحزن والشقاء والسعادة وجنات الأحلام ومخاوف الحقائق كثيرا، فما رأيت بينها فرقا هالني، ولكني الذي يؤلمني وينغص علي عيشي ... الذي يجعل أمامي كل شيء أسود مخوفا. الذي أفضل عليه الموت ... ذلك هو المرض.
نمت تحت السقوف والتحفت السماء، تدثرت فوق سرير ناعم، ناعم بنعم الدثر، واتخذت مهادي الحلفاء الناشفة وغطائي الصوف الخشن، فما عرفت بينهما من الفرق ما أفرق منه، كلا بل إني لتراجعني ذكرى تلك الليالي المستوحشة وأنا في أنعم حالي، ولأحن إليها وأنا في عيش ناعم أحرى به الناعمات ... هناك أرى الفضاء الحر العظيم أنا ساربه، ويلعب النسيم العطر بشعري وأنا في خيالاتي تائه سعيد.
هناك يناجيني القمر وأناجيه: هناك تخاطبني الطبيعة الصامتة وأفهمها، هناك تتجلى أمامي الآفاق تخبر عما وراءها من السر الخفي في حين بين حوائط أربع أنا فريسة الأفكار الفظيعة والخيالات المخيفة والأحلام المقلقة.
إذن ليس من الفقر خوفي، كل شيء قدير أن يحويني لو كنت فقيرا، ولكني أخشى أن يتغير علي الزمان فيأخذ مني أكبر ما أنا ممتع به اليوم، تلك الصحة الطيبة أشكر الوجود عليها على نفس خالصة، إذ بها حريتي ومتاعي.
اليوم الذي تألمت فيه حقيقة هو حين مرضت أو ضويقت في حريتي.
29 أغسطس 1910
بين برينز وانترلاكن سماء صافية إلا من بعض سحب خفيفة بيضاء هنا وهناك، بعثت شمس أغسطس بالنور العظيم على الموجودات، في تلك الساعة أخذت عربة الأتوبيس من أنترلاكن حتى بحيرة برنيز، وانتظرت هناك ولا غاية لي أقصدها، فلما رأيت القارب وصل المينا نزلت فيه قاصدا أن أجيء على هاته البحيرة من طرفها إلى طرفها؛ لأرى أي شيء تكن من الجمال حتى لتفضل على ليمان، فلم تك إلا لحظة بعد أن تحرك القارب حتى إذ أنا تحوطنا الجبال من كل جانب وقد ارتفعت عالية حتى تلامس السحاب ثم تنزل دفعة واحدة إلى البحيرة، وقد غطى ذلك السد الهائل من الصخر نبات وأشجار خضراء نامية تكسوه، وتكاثرت الجبال حتى لكنا ننفذ من بين مضيق منها، وأمام العين ثماني قمم شاهقة محددة تخرق الجو الساكن لا حراك به، وكلما رسونا على بلد رأيت محطته صغيرة مختفية وسط الشواهق مما حولها، يهبط إليها الناس ثم يتخذون طريقهم صعدا، وسرعان ما يختفون عن العين وسط الغابات المحيطة بهم، وإلى الجانب الثاني تقوم الجبال كذلك، ولكنها أقسى أشكالا وأقل شجرا، وما بين الجبلين تنصقل صحيفة الماء وهي أكثر من كل ما حولها سكونا واستسلاما.
وسط هذا الصمت الهائل من كل الطبيعة المحيطة بنا يموج جوف المركب بالسائحين، وقد ملأوا بيتهم السائر ضوضاء لا يتميز فيها شيء لكثرة المتكلمين، وتعدد اللغات التي يتكلمون بها؛ فبينا ترى عن يمينك جماعة الألمان بجسومهم الضخمة وأشكالهم الكبيرة، إذا أمامك الإنجليز والأمريكيون، وعن يسارك طليانيون، وهناك عند مقدمة المركب جماعة يتكلمون العربية ويظهر عليهم أنهم من الشوام المتمصرين.
Неизвестная страница