محمد حسين هيكل
القسم الأول: مذكراتي في أوربا
1 - السفر
2 - باريس وضواحيها
3 - في الرفييرا
4 - في باريس من جديد
5 - في إنكلترا
6 - في سويسرا
7 - في لوسرن
8 - في إيطاليا
9 - في مصر
القسم الثاني: ما بعد المذكرات
1 - أدب اللغة الفرنساوية
2 - تطور فكرة المسؤولية في العصور المختلفة
3 - كتاب مفتوح إلى لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية
4 - الاقتصاد السياسي وقواعد الأخلاق
القسم الثالث: ما بعد المذكرات
وأخيرا
محمد حسين هيكل
القسم الأول: مذكراتي في أوربا
1 - السفر
2 - باريس وضواحيها
3 - في الرفييرا
4 - في باريس من جديد
5 - في إنكلترا
6 - في سويسرا
7 - في لوسرن
8 - في إيطاليا
9 - في مصر
القسم الثاني: ما بعد المذكرات
1 - أدب اللغة الفرنساوية
2 - تطور فكرة المسؤولية في العصور المختلفة
3 - كتاب مفتوح إلى لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية
4 - الاقتصاد السياسي وقواعد الأخلاق
القسم الثالث: ما بعد المذكرات
وأخيرا
مذكرات الشباب
مذكرات الشباب
تأليف
محمد حسين هيكل
محمد حسين هيكل
القسم الأول
مذكراتي في أوربا
في الطريق
الفصل الأول
السفر
7 يوليو 1909
هذه أول مرة في حياتي أضع فيها قدمي على غير أرض مصر.
لم نكد نصعد فوق سطح الباخرة حتى كنا وسط لجة لا حد لها من المسافرين والمودعين لا تميز العين بينهم هؤلاء من أولئك، كلهم رجال وشبان على وجه الأكثرين منهم أثر الجد والاهتمام، في حين تقرأ في عيون الآخرين حزنا عميقا ويمسحونها بمناديلهم من وقت لآخر، ومن الشبان من يضحكون غير مبالين، وفي كل لحظة ترى إلى جانبك اثنين يتقابلان ويتصافحان، ويقبل عليك الوقت بعد الوقت صديق لم تره من أيام أو من سنين، فيهز يدك هزة قوية ويسألك إن كنت مسافرا أو مقيما، ومتى علم أنك مسافر جعل يشجعك ويظهر من ثقته بك وبقوة عزيمتك، فتبسم أنت لأنك لا تعلم ما تجيبه به.
عن جانبنا شاب وقف معه من جاء يودعه، عشرة أشخاص أو أكثر، ومن بين هؤلاء رجل ظاهر الجزع لا يستطيع رغم شعوره المبيضة أن يحجز دمعته على أن تسيل على خده الناشف الشديد السمرة، تدل حمرة جفونه على أنه كان يبكي من قبل، ويكفي منظره ليستدر القلب رحمة به ويسعى من حوله لتعزيته، فلا ينفع معه شيء ولا يتعزى، كأنه يرى في الخضم الهائل أمامه مختبئا ملك الموت ينتظر العزيز الذي يفارقه ... والناس يسيرون في كل جانب من جوانب المركب وإلى كل الجهات ينظرون في كل الوجوه يريدون أن يقولوا كلمة وداع لمن يعرفون، والكلام والضحك والبكاء ووصايا الآباء والإخوان وضجة الحمالين وأصوات الصائحين ورج الآلات الرافعة جوف المركب، كل ذلك مخلوط بعضه ببعض يترك الحواس والقلب والنفس في حيرة واندهاش، فإذا قلبت عينيك فيما حولك أزددت حيرة لا ينجيك منها إلا محدث ممن معك يقف إلى جانبك، فإما كان رجلا فألقى إليك بنصائح، وإما شابا من أصدقائك صامتا يحدق بك كأنما يريد أن يملأ عينيه من صورتك التي تتغيب عنه الزمان الطويل ...
ارتفع في الجو صفير الباخرة تعلن المودعين ليذروها، في تلك الساعة هاج الناس وماجوا وجعل كل يقول لصاحبه الكلمات الأخيرة.
سلم علي إخواني الشبان ثم وقفوا جانبا، وجعل أهلي وإخواني يقبلونني قبلة الوداع ويقولون لي «مع السلامة وإن شاء الله نسمع عنك كل خير»، ولكن رجلا من بينهم طالما عرفني لم يستطع أن ينطق بكلمة إلا دمعة ذرفها وقبلة وضعها على صدغي ثم هز يدي وسار.
جعلت الباخرة تخلو من المودعين قليلا قليلا، وسلمها الخشبي الضيق مزدحم بهم يقذفهم للشاطئ وهم يتتابعون فوقه، وأخيرا أصبح السلم هو الآخر خلاء ورفعوه إلى الباخرة.
اصطف المودعون على الشاطئ وجع لكل منهم يبعث لمن يعرف نظرة أو ابتسامة، ثم تحركت المركب بحركة بطيئة وأخرج الناس من جيوبهم مناديلهم يشيرون بها في الهواء ويتنادون: «مع السلامة»، ثم ابتدأ الشاطئ يغادره من عليه حتى إذا لم يبق لنظرة أو لابتسامة سبيل لم يبق إلا الآباء ومن معهم ممن جعلوا يقتربون جهة الباخرة كأنما تجرهم إليها.
ابتعدت الباخرة في سيرها غير المحسوس ولم يبق على الشاطئ إنسان.
وذهبنا إلى الجهة الثانية فإذا أحجار المينا تقترب منا وهي قائمة بين الماء الهادئ الذي تسري فوقه والخضم الهائل الذي ينتظرنا، ثم سمعت الأذن صريف أمواجه المتكسرة على الأحجار.
عبرنا عباب المرفأ وتجلى أمامنا البحر ممتدا إلى الأفق، وجلست فوق تلك المدينة السائرة أتحادث وأصدقائي، وزادت سرعة الباخرة فجعلت الإسكندرية تنطوي أمام الناظر شيئا فشيئا، ومد من شاء من المسافرين بصرة يودع هذه الديار العزيزة الغالية، والشمس يغمر نورها الجو وينطرح على مهاد الأمواج شعاعها قد ابتدأت تهبط إلى مغيبها.
على هذا البعد الشاسع بيننا وبينها ظهرت المدينة مستكينة صاغرة وأحيت أمام الذاكرة الإسكندرية القديمة حين الناس في مدينتهم الأولى، وكلما زاد بعدنا عنها طحنها الأفق وأخفى من معالمها وزادها استكانة وخفوتا، ونحن ننظر لها وللجة الهائلة تفصلنا عنها والعين أعلق ما تكونت بما بقي منها والقلب يود لو يطير إلى هاته الأراضي كمن فيه حبها طول حياته، وها هو يستعر أن يراها تبتلعها السماوات والبحار.
ثم ارتميت إلى مقعدي أن طمس الأفق على الخيال الأخير الذي كنت أرى، وأحسست كأن حزنا يثقل فؤادي وينوء به صدري، وراحت خيالاتي في تيهاء لا أدرك فيها شيئا.
لم يطل بي المقام على هذا الحال إذ اعتراني الدوار واضطرني أن أهبط إلى غرفتي.
10 يوليو
لنا الآن يومان على البحر تحيط بنا دائرة الأفق فوقنا وأسفل منا زرقة السماء وزرقة الماء ... نحن في وحدتنا تتهادى بنا الباخرة فوق الامواج ولا تسمع الأذن سوى كلام المسافرين الهادئ الساكن ورغاء الماء يشق عبابه حيزوم قاربنا الهائل، وتطلع الشمس والناس في مراقدهم ثم ترتفع ويتلقف الموج شعاعها ويتقاذفه حتى يفنيه وسط اللجة العظيمة، وتغرب وهم يتجهزون لطعامهم فلا يعنى بمغربها منهم جائع، ثم ندخل بكلنا تحت غطاء الليل ينفرد على الوجود وتتلألأ فيه النجوم.
ذلك ما نرى من يومين طويلين حتى اعتادت العين المنظر والسمع هذا الوش الدائم، ولم يبق أمام الحواس ما يستدعي الالتفات أو يشغل الضمير، نعيش في هدأة كاملة، أكبر ما يهمنا أن نقوم للطعام وأقصى أمانينا أن نفرد مقعدنا في مكان ظليل، فنمد فوقه سيقاننا ونسند إليه رأسنا وننظر بعين نصف مغمضة إلى الفضاء الذي أمامنا، ونترك أنفسنا خالدة إلى سكونها ناعمة في ذلك التخدر اللذيذ الذي يجيئها به نسيم البحر.
ما أحلى هذه الحياة الفارغة من كل الهموم وما أطيبها! يمر علينا الوقت في مقعدنا هذا أو جالسين إلى جانب أصدقاء يحكون لنا عما سنرى ولا نحس بمره ... نمسك أحيانا كتابا فلا يجذبنا شيء مما فيه لأنه مهما كان لذيذا لا يساوي عيش السكون الذي يغمرنا.
نجاهد أحيانا أن نغير هذا العيش ونبدله ببعض النشاط فندور فوق القارب من جانب لجانب، ولكن ما أسرع ما نرجع إليه إذ لا شيء يعوضنا عنه.
اليوم عينه منتصف الليل
أسمع ضجة في الخارج ... ترى ماذا عساها تكون؟ ...
ها مينا نابولي تختفي عن الأنظار ويبتلعها الليل في جوفه العظيم، تركت صالون الباخرة ساعة سمعت الضجة وأسرعت أرى سببها فإذا الناس ينظرون إلى بعيد ويتساءلون: «شايف ... شايف»، فوقفت على أطراف أصابعي فلم أتبين شيئا لأن الواقف أمامي أكثر مني طولا وأعرض أكتافا، وكلما حولت رأسي إلى جهة مال هو الآخر برأسه نحوها، وأخيرا علمت أنها باخرة عند خط السماء، فغيرت من ذلك المنظر المتشابه الذي اعتدناه من ساعة غابت الإسكندرية عنا وأدخلت إلى الجو العظيم الصامت شيئا من معنى الحياة والحركة.
ازدادت الضجة ارتفاعا حينما لمعت عند الأفق بشائر الأرض، وجعل كل يقص على بعض ما يعرف عن نابلي، ولم يك إلا قليل حتى رأينا قارب صياد يتلاعب به الموج وصاحبه فيه ساع يريد أن يكسب من بين مخالب الموت قوته، فلما اقتربنا منه ودفعت الباخرة عن جانبيها تضاعف الموج قوة وفظاعة فجعل القارب يختفي ويظهر بين طيات الماء، والصياد في جوفه مطمئن اطمئنان المترف في رياشه، ناظر إلينا وإلى مختلف ما نلبس بعين هادئة اعتادت هاته الأشكال حتى صارت مبتذلة عندها، وكأنه يقول لنا وقد اجتمعنا نحدق به إنما العيش عادة تصبنا في قالبها الأيام، فلا نعبأ بما فيه مهما كان شديدا إذ قد طال ما ألفناه.
في الفترة التي أخذها الصياد تجلت المدينة تحت الشمس الساطعة، وهبطت حركة الباخرة حين دخلت المينا، ثم إذا إنسان يصيح كأنه غريق يستغيث، فما أسرع أن جاء راكب ممن معنا فوقف إلى جانبي وأخرج من جيبه قطعة من النقود قذفها بعيدا عن الرجل كما يقذف الإنسان إلى الكلب لقمة العيش أو قطعة السكر، وكالكلب أسرع هذا العاري فالتقط القطعة بفمه، ووجدت أنا من السرور لنفسي أن أعمل ما عمل صاحبي فألقيت قطعة سقطت في الماء فسقط وراءها وخرج بها بين أسنانه وجعل يصيح من جديد، والتف الركاب يتلهى الإنسان بالضحك من أخيه الإنسان.
وكان هذا الرجل واحدا من كثير من أمثاله ليس عندهم من الهمة ما له، فانتظروا قريبا من الشاطئ وهجموا جميعا على الباخرة دفعة واحد، ومن بينهم فتيان صغار وفتيات عليهن أثر الجمال استلفتن إليهن المسافرين وأخذن منهم ما جادوا به.
ألقت الباخرة رواسيها ونزلنا المدينة مع دليل يعرف العربية ساقته الصدفة، فبعد أن طردنا شرذمة من الأولاد الذين أحاطوا بنا يطلبون إحسانا باسم المكرونة، اخترنا عربتين من بين كثير مصطفة على جانبي الطريق، عربات متسعة لا تضيق الواحدة منها بخمسة أشخاص أو ستة، لكنها قديمة بالية مقطوع جوخها قذر داخلها وخارجها، فلما كنا عندها اتجهت إلينا أنظار الحوذية وهم جميعا وقوف إلى جانب خيولهم المشتغل بعضها بطعامه والآخر بدفع الطير عن جسده، بعد مداولة قصيرة أخذنا عربتين من بينها، كان معي في العربة صديقي ب. وآخرون، وقد اشتغلت عنهم بالنظر عن يميني ويساري إلى المباني الفادحة الارتفاع وإلى الشوارع الجميلة التنسيق.
وصلنا إلى شوارع متسعة تدل حالها وعلائم السكون البادية عليها أن الناس بها أرقى حالا، وجعلت تتكرر أمامنا فيها وفي كل ميدان وعلى باب كل بناء عظيم التماثيل المختلفة لا نعرف عنها شيئا فلا نفهم لها معنى، ولما كان الدليل في العربة الثانية مع أصحابنا استفسرنا حوذينا فابتدأ بذلك فصل مضحك: حوذي يرطن بالتليانية يريد أن يفهم شبانا لا يفهمون من كلامه كلمة.
زرنا الجالريا والأكواريم، الأولى متحف التماثيل والأخرى مجتمع أغرب الأسماك مما لا يخطر في البال إن لونا أو شكلا أو حركة
1
ورجعنا بعد ذلك إلى سوق المدينة بقينا به حتى تناولنا عشاءنا فأخذنا من (الأسباجتي) ما ضاقت دونه بطوننا ثم قمنا إلى المركب فوصلناها قبل موعد سفرها بنصف ساعة.
أبحرت الباخرة الساعة العاشرة مساء فتجلت ميناء نابولي تأخذ بالأبصار القلوب، قامت صفوف الأنوار في نصف دائرة بعضها فوق بعض تطوق بحر المرفأ وتطرح على الماء الهادئ اللابس كساء الليل خيوط النور والذهب تبعث إليه الحياة والجمال وتبين صاعدة من أعماقه مرتقية تتدرج إلى أعالي المدينة وتلاقي هناك عند مرمى النظر نجوم السماء.
وكلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها حتى صارت عقد جيد الأفق، ثم أخذت الباخرة طريقا آخر وابتلع الليل المرفأ في دجنته.
يقول الإيطاليون: «زر نابلي ثم مت.» أصحيح ما يقولون؟
12 يولية
ما أجمل الهدوء والسكون وما أحبهما للنفس. الساعة السادسة صباحا والباخرة لا صوت فيها، وصاحبي في الغرفة قد ذهب ليأخذ حمامه، وبقيت وحدي في هذا الوكر الضيق مطمئنا فوق المدينة السائرة.
بالأمس مررنا من مضيق بونفسيو ورأينا على الجانبين جزيرتي كورسكا وساردينيا، الأولى جدبة صخرية صفراء باقية على عهدها أيام ولد نابليون وعلى عهدها من قبله أيام قيصر والسالفين، والثانية أبعد عن القارب وأبعد عن الذهن لا يلتفت إليها أحد لأن الكل مأخوذ بصاحبتها.
فوق هذه الجزيرة الجرداء نما نابليون، بين هاته الصخور شب الإمبراطور، تلك الأرض الصغيرة أنبتت الرجل الكبير لينشر علمه على الارض وليذيع ذكرها في الخافقين، كذلك أنت يا كورسكا مسؤولة عن الدماء التي أراقها هذا الجلاد العظيم.
دق الباب ودخل صاحبي هاته اللحظة من حمامه فقطع علي سلسلة كتابتي.
صاحبي رجل طيب واسمه ع. ف. لا يلبث أن يرجع من حمامه حتى يفرد عباءته ويصلي، في حين أبقى أغلب الأحيان في سريري أو على الكنبة إلى جانبه حتى يناديني الخادم إلى دوري في الحمام ... ودوري من آخر الأدوار إن لم يكن آخرها.
أحسبنا اليوم ننزل مرسيليا؛ إذن ... الخادم يناديني للحمام، كيف ذلك؟ ... لأن كثيرين مشغولين بترتيب ما معهم فتركوا دورهم ...
ها نحن وصلنا.
13يولية
نزلنا مرسيليا صباح أمس بعد أن تركنا متاعنا لرجل من شركة توبن، خلصه حتى أنزله معنا في قطار المساء، وتمكن من أن يهرب لنا خمسمائة سيكارة بالاتفاق مع عامل الجمرك، ولقد تناول جماعة أصحابي من سمك (البويابس) في طعام غذائهم حتى لا تفوتهم أكلة مرسيليا الخاصة بها، ثم أخذنا عربة طفنا بها أنحاء المدينة وأزارتنا أماكنها الجميلة، دخلنا البرادو أكبر بستان في مرسيليا وجعلت العربة تسير بنا في جوانبه وتمر بنا من تحت أقبيته الخضراء كونتها الأشجار الكبيرة الفروع حتى تتقابل وتتداخل، ويتقن فيها البستاني فيصل إلى أعظم درجات الإبداع.
أما المينا نفسها فيما حول الكورنيش فيقف دونها الوصف، بيوت صغيرة منعزلة قائمة وسط زرقة البحر تصعد متدرجة فوق الربى وتحيط بها من كل جانب أشجار ونباتات تجعلها في وحدتها فريدة لا يداني جمالها جمال، وأمامها زرقة المتوسط وسماؤه الصافية، ومن حولها يأخذ بالعين الجو العظيم تظهر فيه عن بعد بيوت أخرى وهضاب وأشجار
وأخذنا القطار آخر النهار فلما تحرك واستقر بنا المجلس جئنا بطعامنا فتناولناه، ثم بقينا بعد ذلك سكوتا همودا.
التفت إلى يساري علي أرى من النافذة شيئا، فإذا ما حولي سواد الليل الأدهم، ونظرت إلى صاحبي أريد أن أفاتحه القول فإذا هو مسند رأسه إلى ما وراءه محدق ببصره إلى سقف الغرفة تائه بكله في تلك الأحلام المبهمة التي تجيئنا عقب الطعام حين يصيب أعضاءنا خمول يتركها خادرة، ونحس كأن فكرنا منهوك تاعب فهو لا يستطيع أن يفهم شيئا، والآخرون إلى جانبه وحالهم كحاله.
ثم أفاقوا جميعا مرة واحدة حين علت ضجة القطار داخلا النفق، وأسرع أحدهم فأقفل نافذة كانت مفتوحة خيفة أن يمتلئ المكان دخانا، وأحسسنا حين أحاطت بنا الأرض من فوقنا ومن أسفل منا كأن صدى تلك الضجة يرن في قلوبنا فلم يقطع أحدنا السكوت الذي كنا فيه حتى خرج القطار من جديد إلى الهواء الحر، حينذاك قال عبد الله بك: يالله نلعب ورق.
قضينا في لعب الورق حتى منتصف الليل.
ولما وصل القطار إلى ليون نزل منه خلق كثير تركت أنا أصحابي إلى الغرفة المجاورة آملين أن ننال بعد سهرنا هذا ساعة يرد لنا النوم فيها من الراحة ما يعوضنا عظيم تعبنا.
لكني لم أبق طويلا حتى دخلت إلى هذه الغرفة فتاة وضعت شنطتها على الرف وجلست إزائي فجعلت أدير نظري ساعة إلى جهة النافذة وأخرى ألقى به الأرض وثالثة أغمض عيني خيفة أن تقع عليها، واستولاني خجل لا أفهمه، فلما تحرك القطار انتهزت فرصة اشتغالها ببعض أمرها وانسحبت خارجا أريد أن أرجع إلى حيث كنت فوجدت أصحابي قد أقفلوا الباب وطمسوا على النور ...
وقفت في الممر حائرا أسأل نفسي أليس ممكنا أن يكون المحل الذي جلست فيه محجوزا «للستات»؟ ولكن بابه لا يدل على شيء من ذلك ... أليس ممكنا كذلك أن تكون هاته الفتاة وجدتني مفردا فمالت عندي تريد أن تغريني؟ استحوذت هاته الفكرة علي تهيج في نفسي أحيانا من السرور وأخرى من التخوف ... ثم عقدت حواجبي وهزرت رأسي قلت ... «وسألعب أنا الآخر معها دوري».
دخلت إلى مكاني من جديد فوجدتها خلعت قبعتها وتقفل في ستار النافذة المقابلة لها، لكني أحسست لأول ما رأيتها بهزة عرتني، فتناسيت واشتغلت عنها بإقفال ستار باقي النوافذ حتى إذا انتهت جلست مكاني صامتا لا أتحرك وإن استرقت إليها النظرات أحيانا، أما هي فبعد أن أتمت كل الذي عملت كأن لم أكن موجودا نظرت إلي وقالت: تسمح يا سيدي أن تحجب النور؟
فلم أتمالك نفسي حين سمعتها تتكلم أن ظهرت علي الدهشة والاستغراب: فتاة لا أعرفها تكون وحيدة معي ثم تكلمني بسكون ومن غير خجل كما يكلمني أي رجل آخر، وتطلب أن تحجب النور ليمسي المكان الذي نحن فيه مظلما ... ثم ماذا يكون بعد ذلك؟
تولاني خجل لم أقدر معه أن أجيبها بحلوة ولا بمرة، بل قمت ساكنا فأرخيت ستاري المصباح وجلست منزويا في الركن حيث كنت، فلم تمهلني بعد ذلك أن شكرتني ثم هيأت لنفسها مضجعا اتكأت فيه وقالت (ولست أدري إن كانت تكلم نفسها أو تكلمني): آمل لا يصعد إلى القطار في جرنبل من يفسد علينا نومنا. تمطيت أنا في الجهة المقابلة ولم أقل كلمة واحدة كأني منها خائف وجل، وبقيت أغمض عيني وأفتحها وكلي الحذر ولا أفكر في شيء مطلقا، بقيت كالطفل الذي أمرته أمه أن ينام وهو لا يريد، وفي الوقت عينه لا يدري ماذا يفعل.
أمسينا بعد ذلك في ظلمة مخيفة، فما لبثت لحظة حتى سمعت أنفاسها تتردد في صدرها علامة النوم الهادئ المطمئن، حينذاك سكن روعي ورحت في أفكار متناوبة حملتني معها أنا كذلك إلى عالم السكون.
قضيت بقية ليلي بين النوم واليقظة أغيب عن نفسي أحيانا كأني نائم حقا ثم أرجع إليها وهي خادرة عمل فيها هواء تلك الغرفة الممتلئ كسلا وخمولا.
ثم تبنيت من خلال الستار كأنما تبددت ظلمة الجور وما كدت أرفعه حتى صدق النهار الوليد ظني، وتبدت أمامي الحقول تذهب منخفضة مرتفعة وتضيع دون الأفق، وتهبط الأرض أحيانا فأحدق من الهضاب التي يرمح القطار فوقها ثم إذ الأرض ارتفعت ودخلنا بين جبلين نسير بينهما مستكينين مستسلمين حتى يقذفا بنا في ظلمة النفق.
أخذت هاته المناظر البديعة بعيني وجلست معجبا بها لا أستطيع أن أتحول عن النافذة، جلست بشعري المنكوش وعيوني المتعبة وأنا تائه أريد أن آخذ هذا الجمال لصدري وأملأ منه ناظري فيحول دون ما أريد القطار الطائر إلى غايته، وأرسلت بأحلامي في الجو الفسيح أمامي وهو لا يزال في رداء من الشك مملوء بأحلام الليل وآمال النهار.
ثم التفت فإذا صاحبتي هي الأخرى منكوشة الشعر وإن تكن عيناها الزرقاوان الضاحكتان أكثر يقظة وانتعاشا من عيني، فلما تقابلت نظراتنا ابتسمت عن شفاه رقاق وأسنان ناصعة بديعة الترتيب ثم قالت: آمل أن تكون نمت نوما طيبا يا سيدي.
وبالرغم من قلة معرفتي للفرنساوية فقد استطعنا أن نتفاهم، وسألتني إن كنت رأيت باريس من قبل، واستمر الكلام بيننا حتى تركتني وذهبت ترتب نفسها.
2
فلما جاءت رحت أنا الآخر، وعند رجوعي وجدت أصحابي أيقاظا يتكلمون وينكتون ويضحكون، فلما وصل القطار وخرجنا من الحجرات ودعتني السيدة التي كانت معي بابتسامه وحنيت لها رأسي ثم خرجنا جميعا إلى جوف باريس.
الفصل الثاني
باريس وضواحيها
باريس ... كم حكى لنا عنها الحاكون حتى تصورت بيوتها بلورا أو ذهبا، وأهلها لا يسير واحد منهم على قدميه، وشوارعها مع السكوت الأخرس مزدحمة لا يستطاع السير فيها، وتتخطر النسوة في كل مكان، وينظرون لكل إنسان يردن أن يبتلعنه بأعينهن ... وها أنا لا أرى من ذلك شيئا؛ ها بيوت مبنية بالحجر كبيوتنا، وناس كالذين نرى عندنا، وشوارع تجري بمن فيها، ونسوة يسرن ظاهرات الجد ... عن أي باريس إذن كانوا يحكون؟
1 ...
15 يولية
سأترك هذا الفندق الذي نزلنا فيه أول الأمس لأنزل في بيت عائلة (بانسيون) أكون فيه بعيدا عن أصدقائي الذين جاءوا معي من مصر، وهم يرون أن هذه أحسن طريقة وأقربها لتعلم اللغة الفرنساوية، سأتركه الساعة رغما عما خلفته الليلة الماضية عندي من اللغوب، لو أن كل الأيام كيوم 14يولية وكل الليالي كليلته لما عرف الهم إلى نفوس الناس سبيلا، فمع أني بباريس لأمسي فقط فقد انتقل إلي من السرور العام ما جعلني لا أحس بمر ذلك النهار.
رأينا في الصباح قوس النصر، ورأينا عنده بعض الفرق الراجعة من الاستعراض، وبعد الظهر ذهبنا إلى الحي اللاتيني، حي المدارس، وجلسنا في قهوة فاشيت ملتقى المصريين، وقابلت بعضهم هناك وتعارفنا.
لست أدري ماذا أسمي هذا الذي يصنع أولئك الفرنسيون السكارى بنشوة الطرب، أمن أجل ما يسمونه عيد الحرية يخلعون عذار الوقار إلى هذه الدرجة فيرقصون في الأماكن العامة ويضحكون ويشربون ويعملون ما لا يعمل.
لا شك أنهم حقيقة تلك الأمة الممتلئة سرورا وجذلا، لا تكاد تسير خطوة إلا ويدهشك القوم بسرورهم المفرط حتى لا تستطيع مهما كان من رأيك فيهم أن تمنع نفسك عن مشاركتهم بقلبك في هذا السرور.
ذهبنا في المساء إلى ميدان الباستيل حيث يقوم تمثال الحرية عاليا يطل على المدينة الزاخرة، ولقد وجدنا نصبا في اختطاط طريقنا بين الجموع المزدحمة الناسية نفسها المأخوذ عقلها المستسلمة إلى فرح يبلغ حد الهوس، لم نكد نبلغ غايتنا حتى قابلتنا الأنوار الزاهية وتبينت العين الغادة التي تمثل فرنسا حين دكت قواعد سجن الباستيل مستودع الظلامات ومقام الأحرار الذين خسف بهم الاستبداد، ومن لحظة لأخرى ينتشر النور مختلفة ألوانه يضيء التمثال وعماده وقاعدته والناس سكارى بعيدهم وبالضوضاء المحيطة بهم وبتلك الأضواء الزاهية الزاهرة يمرحون في الميدان العظيم.
وبعد منتصف الليل رجعت إلى اللوكاندة وقد هدني التعب، لكني لم أنم طويلا إذ ما لبث الصبح أن تنفس حتى قمت أرتب عزالي لأقوم إلى مسكني الجديد.
دخلت نفسي بعد ذلك عالم الوحشة وأحسست أني صرت محتاجا لذراعي أنا ومساعدة نفسي، ولكن ما أشأم عدم معرفة اللغة تضطر الإنسان لطلب المساعدة من غيره، وإني وإن كنت سعيدا حيث كان مساعدي عبد الحميد سعيد من الرجال الذين لا ترفض مساعدتهم، إلا أني كنت دائم الإحساس بشيء من الوحشة والحاجة لنفسي دائما، ولقد كان من أسباب وحشتي بالطبيعة أني حديث العهد بباريس ومعيشتها وأماكن النزهة فيها.
16 يولية
ما أسأم الوحدة الحزينة بين المجاميع الضاحكة
بمقدار ما كان الأمس فرحا فاليوم قطوب عابس.
انتقلت بالأمس إلى هنا وها أنا بين عشرين أو ثلاثين شخصا أشعر بذلك الانفراد المطلق الذي وقعت فيه، ليس من عين تنظر لي إلا عين مستغربة ما يظهر على وجهي من علائم الدهشة والألم ثم سرعان ما تنساني، وهؤلاء الذين أعيش بينهم ليسوا أكثر إحساسا معي من أي إنسان في الطريق.
جارتي على المائدة غادة روسية خلع عليها الشباب أبهى حلله، ولا تظهر إلا باسمه لكنها مشغولة عن كل إنسان بجارة لها روسية هي الأخرى، وهي لا تتقن الكلام بالفرنساوية.
ما أحسن ذوقها في اللبس؛ تميل إلى الألوان الباسمة من غير ضحك، ويساعدها قوامها الدقيق على أن تتأنق مقدار ما تشاء.
وتجاهي هندي جميل التقاطيع عرفت أنه انتهى من دراسته في كامبردج.
أما جاره هو ففرنساوي من قرابة صاحب (البانسيون)، ورغما عن أنه فرنسي فهو سمج، كلمني بالإنجليزية في بعض مسائل تتعلق بالبانسيون، وسألني في أمور أخرى، فلم يكن خفيفا على نفسي حديثه، وشكله هو كاف ليزعج الكثيرين.
أراحني عجزي في اللغة عن أن آخذ في الحديث بنصيب، ومن الشيء الذي كنت أفهم أراهم أكثروا من الكلام عن الملابس والأزياء وسمعت كلمات (
Tailleur
و
robe : ثوب وترزي) تتردد على ألسنتهم.
17 منه
ثلاثة أيام في عالم الوحدة والوحشة والأحزان طوال.
أرى كل يوم مصريين فأتعزى بهم بعض الشيء عن ألمي وأجد فيهم ذكر بلادي البعيدة النائية، ولكن هيهات القلب الذي يحس معي أو يألم لما أنا فيه ...
إذا كان ذلك، أفليس ضياعا أن يترك الإنسان نفسه يتسلبها الهم؟ ضياع وحمق، أنا لا أنكر. ولكني إنسان والإنسان مهما اختلفت نزعاته وميوله لا يستغني عن عزاء يرتكن إليه ساعات الضعف، ولو أن لي في هذا البلد الضيق أمام عيني ما أهتم له من إنسان أو شيء لكفاني ذلك عزاء، ولكني وحيد مهموم.
خرجت بالأمس طرفا من الليل فقابلني بعض من عرفت من قبل، واقتادني معه حتى انتهى بي إلى قهوة دخلناها فإذا هو لا يجد لنفسه مكانا إلا رغما، ويحيط به من كل جانب جماعة من النساء لا تستقر عيونهن ... فلم أرتح للجلوس وخرجت لا ألوي على شيء.
الشارع هادئ يسير فيه جماعة من الرجال والنساء وعلى الجميع مظهر التأدب والوقار.
أيام الوحدة اليوم عينه، الساعة العاشرة مساء
بقيت في البيت هذا الصباح أرتب من شأني وأصف كتبي في قمطرها حتى ميعاد الغداء، فلما كنا بعد الظهر نزلت أريد أن أرى الناس آملا أن أجد في ذلك ما يخفف من الوحدة التي وقعت فيها بعد إذ تركت أصحابي، وسرت في شارع المدارس (Rue des ecoles)
وهو في تلك الآونة هادئ ساكن، فلما بلغت قهوة فاشت لم أجد بها أحدا، وجعلت أجيل عيني علها تقع على مخلوق أعرفه أو آنس به فإذا كل شيء وكل إنسان مشتغل بنفسه أو واحد من معارفه بما يسلي به وقته، وأنا في هذا المكان غريب منقطع.
كم بيني وبين أهلي في هذه الساعة؟ هم هناك هناك بعيدون وقد يكونون مهمومين لأمري وأنا جالس منفرد يقطعني الهم ويتمشى اليأس إلى نفسي وما عرف إليها من قبل سبيلا.
تولاني القلق وأخذ بخناقي ضيق شديد لم أتمكن معه إلا أن أهجر مكاني وأقوم من جديد إلى الدار، وجاهدت حين وصلت أن أطلع في رواية كنت قرأت الصفحتين الأوليين منها وأنا فوق البحر، ولكني وجدتها على نفسي كدرس التلميذ الكاره لدرسه، فقمت من جديد إلى القهوة وبقيت بها رغما عن قلقي وضيقي.
ابتدأت الحياة والحركة تدخل إلى ما حولي حين فاتت الساعة الرابعة، وجاء بعد ذلك أحد إخواننا المصريين ممن قابلت بالأمس فسلم وجلس إلى جانبي وبقينا بعد التحية سكونا، ثم جاء آخر وثالث وجلسا معنا وابتدأوا جميعا حديثا طويلا في السياسة.
لست من أنصار السياسة وكثرة الكلام فيها، ولقد بقيت عنها بمعزل طول أيامي بمصر؛ ذلك لأني أرى الذين يتكلمون عنها يسرع إليهم التحمس، ويخرجهم عن حد الهدوء الذي تستطاع معه المناقشة المعقولة، كما أنهم دائما متعصبون لحزب، مكرسون أنفسهم لنصرته والطعن على غيره، مقدسون لرؤسائه والأشخاص العاملين فيه، ومهما يكن قليلا ما قرأت من كتابة هؤلاء الرؤساء والعاملين فإنه كاف ليعلمني أنهم شيء ضئيل إلى جانب الكتاب والمفكرين من أهل الأمم الغربية ومن العرب السالفين أنفسهم؛ إذن فالتعصب لهم إلى الحد الذي أراه من إخواني ظاهر البطلان عندي، ولا أستطيع مهما جاهدت أن أترك نفسي تأخذ بنصيب فيما أعتقده ظاهر البطلان؛ لأن عيشة الوحدة التي قضيت فيها كل أيامي علمتني أن شيئا واحدا يمكن أن أحترمه، ذلك هو ما ارتاحت له النفس ورضيت عنه.
لم أكن بين صحبتي الجديدة بأحسن حظا مما كنت من قبل، وبقيت في صمتي الأول حتى أنقذني منه حضور السيد خالد.
السيد خالد رجل عرفته هو الآخر بالأمس فقط، ولكني أجد فيه من المعنى ما لا أجده في غيره، كأنه قضى هو الآخر حياته في الوحدة؛ فتبين عليه آثار السكينة وتنم عيونه عن تفكير طويل، أحسبه ليس من المغرمين بالتحمس والهياج كلما سمع كلمة تقال عن مصر أو تمس السياسة.
جلس بجانبي عن اليسار، فلما وجدني صامتا سألني كيف أجد باريس ... كيف أجد باريس؟ ... أنا لم أر منها شيئا بعد أستطيع معه أن أحكم إن كانت طيبة ولماذا؟
ولقد أنست بالسيد خالد كثيرا، ولعلي أجد منه فيما بعد ما يعوضني عن إخواني الذين خلفت في مصر.
قهوة فاشت ملتقى المصريين في حي الطلبة، ولقد علمت اليوم أن هناك قهوة أخرى يلتقون بها تلك هي قهوة (دي لاپي)
De La Paix
ولقد ذهبنا إليها السيد خالد وأحد أصحابه وأنا، ووجدت هناك صديقي سعيد مع آخرين، ومن بينهم كثيرون ممن كانوا معنا في الباخرة، أشخاص ذوو وجاهة في مصر ومن قضاة ومحامين وأطباء وأعيان ومن لا أعرفهم.
من أثقل ما يضايق في هذا البلد كثرة المطر ونزوله على غير ميعاد، فبينما نرى الشمس زاهية والسماء صافية والنور يملأ الجو إذا السحب انتشرت وعبس الكون وهمت السماء وفرد الناس مظلاتهم (أو مطرياتهم كما يسمونها) وحل محل النور والسرور قطوب تضيق له النفس؛ ذلك شأنها من يوم نزلنا، وهو على ما يقولون شأنها دائما.
قمنا من القهوة ورجعت إلى الدار وأخذت طعامي وأنا صامت لا أدري ماذا أقول لأكون مع هذا الجمع الطويل العريض الذي يحكي عما رأى وعن المخازن وما فيها والأقمشة والأثواب وكل ما لا أفهم من شأنه لا قليلا ولا كثيرا ... ثم انتقلت إلى غرفتي وإلى الوحدة المطلقة حيث لا يعلم أحد أحد بالزفرات التي أصعد ولا يهتم إنسان بآلامي، حيث أنا الآن مفرد ليس لي على الأرض التي أسكن أهل ولا صديق.
18 منه
اتفقت عصر اليوم مع الأستاذ والبك لنذهب لسان كلو.
الأستاذ شخص ربعة جميل التقاطيع كبير الأنف دقيق النظرات، أرسل ذقنه نصف قبضة وهي لا تخلو من بعض التجعد، حلو الحديث جذاب، والبك رجل طيب عظيم الخلقة، وكلاهما من أعيان المصريين.
أخذنا القارب من عند اللوفر، فسار يشق ظهر النهر المنحدر يخرق البلد ومبانيها الهائلة حتى صرنا في الضواحي وقامت عند الشواطئ الأشجار والغياض، والسماء فوقنا تسبح فيها سحب بيضاء فتزيد الأزرق منها زرقة، والشمس طرحت ضوءها على بساط الماء ولفت الخليقة في نورها.
وصلنا سان كلو وتدرجنا مرتفعين حتى وصلنا بستانها، فجعل صديقنا البك يرينا من جمالها رائعا، ويدلنا منها على أبدع ما نسقت يد الإنسان.
دخلناها فإذا هي الطبيعة في أجمل مظاهرها والخليقة في أبهج جمالها تصعد إلى أعاليها، وعن يمينك الخضرة الناضرة وعن يسارك الأشجار الباسقة، فكأنما قد اجتمعت في ذلك المكان مظاهر السعادة وآياتها، ولا يسع القلب ساعة ترى العين كل هذا الجمال إلا أن يخشع اعترافا للخالق بقدرته وعظمته، ولعل ما عملته يد الإنسان في هذا الغاب مما يزيده جمالا وبهاء ويكسوه من ثوب النظام حسنا وإن كان تنسيق الطبيعة جميلا في ذاته. ظللنا زمنا لم يكن مع الأسف طويلا نعلوا حزنا ونهبط بطنا بين جنان بالغة الزهر بديعة الشكل يطلعك الحزن على ما حواه السهل حتى موقف النظر، ويريك المنخفض بها المرتفع وجمال تدرجه في الارتفاع، أضف إلى ذلك البهاء والجمال الصمت المهيب إلا من أغاريد الطير تصبها من جوها بين أوراق الشجر وأغصانه في أذن الخليقة فتهيج شجوها وتزيدها طربا.
ليس ذلك كل ما في سان كلو، بل إن فيها غير هذا شيء كثير يضيف إلى الجمال جمالا حتى ليسجد له المتمتع به ولتأخذه نفسه من الإعجاب بهذا الجمال النادر ما لا قبل لي بوصفه، وإن القلم مهما أعطيته من القوة فهو ضعيف عن أن يظهر على وجه القرطاس كل ما في نفسي من أثر ذلك الجمال، فيها من البرك يجري في مائها السمك بمختلف ألوانه والشلالات لينحدر منها الماء وما علمته يد الإنسان من نحو هذا، وإن القوم ليصفون من بهاء سان كلو في يوم الأحد ما يشوقني لها ولا بد لها من عودة إن شاء الله.
وكتبت إلى لطفي بك خطابا لعنوانه بإنكلترا، كما كتبت لوالدي خطابا أيضا، وإن تلك الساعة التي كنت أكتبه فيها لهي من أشد الساعات التي أخذ التأثر من نفسي فيها وعمل الشوق في صدري، وكنت ولا أزال كلما كتبت خطابا وذكرت والدتي وتلك الساعة التي رأيتها فيها تنهمل الدمعة على خدها تخنقني العبرة وإن كانت قوتي لتمنعني عن الاسترسال في شجني، هذا الإحساس أحس به الساعة وسأحس به ما بقيت.
25 منه
برج إيفل ...
ذهبت في الصباح لموعد إخوان متفقين معي على أن نذهب جميعا إلى برج إيفل، والبك هو اليوم أيضا دليلنا، بالله ما أطيب هذا الرجل
أخذنا طريقنا إلى جانب النهر على الضفة المقابلة لضفة قصر اللوفر حتى كان البرج على مقربة منا يستدعي البصر أعلاه قبل أن يأخذ بأسفله، وقد صعد في الجو كأنما شاده أهله ليوحي للمدينة بأخبار السماء، وفوق قمته الدقيقة تلعب الريح بالعلم المثلث اللون علم الجمهورية الفرنساوية.
يرتفع البرج إلى ثلاثمائة متر تحيط بقاعدته الحشائش الخضراء وينساب النهر إلى جانبه هادئا، وقد سرنا تحته حتى وصلنا إلى غرفة التذاكر ثم جعلنا نتشاور أنصعد على الأقدام أم نأخذ المرفع (اللفت)، وأخيرا اتفقنا جميعا على الصعود إلى الدور الأول على أقدامنا وبقينا نتسلل فوق درجه الضيق واحدا بعد واحد حتى وصلنا مكدودين، هناك ارتمينا على المقاعد وجعلنا نجيل نظرنا فيما حولنا في البرج الرفيع.
استرحنا ثم قمنا ندور في جوانبه وننظر إلى الأرض البعيدة عنا وإلى النهر المستكين وإلى بيوت باريس أو بالأحرى إلى سقوفها، إلى تلك الظهور السوداء والحمراء المحدبة اتقاء المطر، وظهرت أمامنا باريس بشوارعها كأنها خريطة تلهو بها العين كما تشاء.
في جوانب ذلك الدور من البرج صناديق ألاعيب وفيه صندوق للخطابات، ولقد تسابقنا جميعا لكتابة الكرت بوستال إلى أصدقائنا من مكاننا العالي، وبقينا حتى إذا كنا الظهر ملنا إلى المطعم هناك أيضا فتناولنا غذاءنا، وانتظرنا حتى استقر في جوفنا الطعام ثم صعدنا في المرفع إلى الدور الثاني.
المدينة من جديد على مقياس أصغر، والنهر أكثر استكانة وخضوعا، والناس يسيرون على الأرض هناك فنطل عليهم من علياء ونجدهم صغارا، وإخواني وغيرهم فرحون بذلك، كأنما حسبوا أنهم حقيقة أعظم ممن تركوا من بضع ساعات!! على كل حال ساعة من الحياة خلقت لهم خيال سرور فمن الجنون أن لا يسكبوها.
في المرفع من جديد إلى الدور الثالث، المدينة والناس والنهر وكل شيء صغير خاضع أمام نظرنا الذي يحوم في كل هذه المتسعات مما أمامه فلا يجد مانعا فيشعر في نفسه بالرضى وينبعث إلى النفس إذ ذاك من دواعي القنوع بعظمتها ما تسر به أكبر السرور ...
ثم ها نحن نزلنا إلى الأرض، هنا نظرنا محدود وخيالاتنا في الهواء ورؤوسنا رد إليها صوابها فعرفت أننا من الأرض وإلى الأرض نرجع، وأن ليست العظمة إلا نظرة في ذلك الفضاء نتوه بها عن الواقع ثم إذانا رددنا كما كنا وإذا آفاقنا أضيق من كل ما نتصور - إذانا لا شيء - إذانا تراب.
في صنع البرج من الإتقان والدقة ما يشهد بأكبر المهارة، وفيه من مظاهر العلم ومن ذكرى المعرض العام ما يخلد للمدينة المسالمة العاملة أحسن الأثر.
27 منه
اليوم وقعنا على معلم للغة الفرنساوية هو المسيو أ.ل. وأخذنا عليه الدرس الأول كما اتفقنا أن نأخذ معه تسعة دروس في الأسبوع. وقد أخره ذلك عن الذهاب إلى مصيفه بعد أن كان قد صمم نهائيا على مغادرة باريس.
الرجل غليظ الجسم جدا، وله تحت ذقنه أخريان، أصلع الرأس، خفيف الشارب، بارد النظرات، عظيم البطن، قابلنا مرتديا سترة سوداء وحذاء أسود لماعا، وسألنا في أي شيء نريد أن نشتغل.
نحن ثلاثة، أنا أشدنا جهلا باللغة، وصاحباي ليسا منها على كثير؛ لذلك وقفنا أمام هذا التخيير من جانب الرجل حيارى، أخيرا دلنا على الكتب اللازمة.
لا أستطيع أن أنظر لهذا الرجل الضخم من غير أن يثير عندي شهوة الضحك، ولكني منعت نفسي اليوم واستطعت أن أتغلب عليها.
2
28 منه
كل شيء أرى يستطيع أن يجد فيه قلمي مجاله إلا قصر اللوفر، أقف خاضعا خاشعا مقرا بالعجز، أمام ذلك الجمال العظيم يكفيني أن أقدس وأعبد.
وما بالك بقصر اللوفر، بالقصر العظيم تعاقب الملوك في تشييده فأهدوا باريس عظمه وجمالا وجلالا ، تمتد أجنحته فتحلق وسطها على حدائق التويلري البديعة، وتضم إلى أحضانها ما في الجنة من زروع ناضرة وتماثيل غاية في الدقة، وأطفال يلعبون ويمرحون هم ملائكها المقربون، فإذا وقفت في صحنه الواسع وأجلت بصرك في بناء القصر الفخيم ارتد إليك طرفك وقد امتلأ وجودك هيبة وإجلالا، وإن أنت رميت ببصرك إلى الجهة المقابلة راح إلى أقصى أبعاده يستجلي من بين أشجار الحدائق التماثيل، وتقوم أمامه بعيدة في ميدان الكونكورد المسلة المصرية ثم قوس النصر أبعد منها وعلى مرمى العين.
دخلنا القصر العظيم وليس بيدنا دليل ولا يصحبنا مرشد إلا صديق ما عهدته يهتم بالجمال ولا يعبأ به، وجعلنا نطوف بأركانه عن غير مهل، وإلى جانبنا شبان وفتيات قد أخذ كل في يده دليله يريد أن يقف على دقيق معنى ما يرى ويحرص على اكتناه سر الشيء الذي أمامه.
بالرغم من ذلك فقد أخذت بالعين أشياء تركت في النفس أثرا باقيا، إما لغرابتها وإما لمبلغها من الإتقان، من ذلك تمثال قديم يمثل الملك وقد قطب حاجبه وهو في جسمه أضعاف من حوله، يحمل في يده خنجرا كأنه يتبرم بالوزراء القائمين عن يمينه، أما الجند فقد قاموا خلفه وعليهم أثر اليقظة والرهبة معا.
كذلك تمثال ناسكة قد رفعت رأسها للسماء، ولبس جسمها النصف عار شكل الخشوع والخضوع، وعليها مهابة الصلاح، وتقرأ في وجهها آي الأسف والإخلاص، وهي من تماثيل جالي (عن العبادة).
أما زهرة ميلو
Venus de Milo
فهي حقا إلهة المجال، هذا الأنف اليوناني البديع وتلك العيون الناطقة بما يكنه الشباب من غرام وهوى، وقدماها المكتنزان وصدرها وخصرها وقوامها، هذا التمثال الصامت الناطق، هذا الكل البالغ منتهى الإبداع هو لا شك إله الجمال ومعبود محبيه.
لم نر من الطبقة الثانية كثيرا؛ لأن موعد الطعام حل وأصحابي جميعا جياع، وكل ما أذكر منها صورة لتسيانو هي (لورا دديانتي) ذات الصدر المصقول والذراع الخصب والفم الملائكي، وكأنها تصغي لرجل يدل ما أراده الرسام من عدم وضوح صورته على معنى ما بينهما من الصلة، والصورة معروفة كأنها (تسيانو ورفيقته ).
جاء موعد الطعام فأراد أصحابي الإسراع في مسيرهم، وفعلا تركنا الصور وما فيها والسقوف وجمالها، ولم يك شيء ليلهينا عن سيرنا، هنالك ذكرت حكاية قاسم أمين حين كان مع جماعة من أصحابه في قصر اللوفر، وجعلوا يتسللون منه واحدا بعد الآخر، وهنالك أسفت وتعزيت في وقت واحد.
30 منه
كنا، شرذمة من البكوات وأنا، في حديقة الأكليماتاسيون، فلما انتهينا من التفرج على الحيوانات المختلفة التي بها دخلنا بيوت القصار، وهم الأعجوبة التي أهدت الحديقة للنظر العام الباريسي هذه السنة.
تقع الحديقة في أحد أركان غابة بولونيا، ويقصدها الناس أولا كما يقصدون حديقة الحيوانات عندنا، وثانيا مجذوبين بما سيرونه من عجيب نادر من أمثالهم من بني آدم، والتناهي في الطول والتناهي في القصر أعجوبة؛ لذلك استدعى قصار من الناس معنى العجب.
وجدناهم في دورهم أو بالأحرى في أوكارهم إلا من خرج منهم إلى فسحة المكان، ومن بينهم ضاحك السن باش الوجه والعباس المقطب والحزين الكئيب ... والجميل المدل بجماله والقبيح يجمل نفسه فيظهر قبيحا ... على العموم وجدناهم من بني آدم وحادثنا بعضهم فإذا في رأسه الصغير من الرزانة ما لا يخفى معه كبر سنه، ومن بين هؤلاء هندي في الخامسة والعشرين لا تزيد قامته على الثمانين سنتي مترا أو متر بالأكثر وتقرأ على وجهه أثر التفكير العميق ويحييك بكل تعقل وسكينة.
بين هؤلاء القصار أشخاص ذوو صناعات مختلفة، فواحدهم حلاق وجماعة منهم شرطة، وآخرون موكلون بعربات الفسحة، ومن بينهم جماعة ذوو ألقاب، لهم ملهى يمثلون فيه، فهم يكونون مملكة صغيرة قصيرة.
ثم درنا بين الأقزام وخرجنا إلى قهوة نستريح فيها، فما هي إلا لحظة حتى خرج القوم للنزهة ومنهم من يسير الهوينا وآخرون يركبون العربات، وجماعة امتطوا دراجاتهم وقادوها كخير ما تكون القيادة، ومن بين هؤلاء مر ذلك الهندي القزم الذي تقدم ذكره.
1 أغسطس
كنت مع ل. بك على طعام العشاء، وكانت معنا مدام ت. صديقته، وهذه هي المرة الأولى التي عرفتها فيها وحادثتها ... دار الحديث بيننا باللغة الإنجليزية تلك اللغة التي كنت أعتقدها كما يعتقدها كثيرون غيري مثال التنافر، وها أنا أسمعها من فم محادثتي ترن كأنها نغمات الموسيقى، بالرغم من شعورها المبيضة ووجهها الذي تبين فيه بعض خطوط التجعد.
كان من ملاحظاتها لي أن الشرقيين ممن رأت تظهر في عيونهم آثار الحزن أكثر مما يوحي به سنهم، وعللت ذلك معها بأنه نتيجة طبيعية للطقس، حيث إنك كلما ذهبت شمالا وجدت الوجوه فرحة والناس أميل للطرب، وعندي أن للأمر سببا يرجع إلى تاريخ الشرق وحال الشرقيين الاجتماعية الحاضرة أكثر مما يتعلق بالطقس والموقع الجغرافي؛ ذلك أنهم محكومون بالاستبداد القرون الطوال، فدخلت إلى نفوسهم آثار الحزن وغادرها معنى الفرح الصحيح الخالص، فصار يطربها النغم الشجي المحزن أكثر مما تأخذ بها الرقة الضاحكة المفرحة، ويسرها الصوت الممتد الهادئ أكثر من الأصوات المرتفعة التي ترج الأعصاب والفؤاد والقلب، أدخلهم ذلك التاريخ الأليم الذي مد جناحه فوقهم إلى الاستسلام من غير رضى، وأرغمهم القسر الذي عاشوا ويعيشون فيه على وجود صاغر مستكين، دخل إلى نفوسهم حب الخفاء في كل شيء وظهر في عيونهم - والعين مرآة النفس - أثر ذلك الحزن العميق والتحرز الشديد.
بعد العشاء قام ل. بك لتجهيز معدات سفره، وودعناه على المحطة قائما بقطار الساعة العاشرة إلى مصيفه، فودعنا منه رجلا عاقلا ورأسا مفكرا وصدرا رحبا.
2 أغسطس
معلمنا يفيض سرورا، ولا يستطيع بطنه الضخم ولا رأسه الكبير أن يحوي سروره، أحسبني أحسست برجليه تدقان في الأرض، وبكل جسمه يتحرك وبشفاهه تلعب من غير كلام وبخدوده تهتز وبرأسه الأصلع يميل، وكله ثمل طرب لأنه يحكي لنا أن بلريو عبر المناش فوق منطاده.
لم أتمالك نفسي من الضحك أمام هذا المنظر، فحسبني الرجل أضحك ساخرا منه وحدد نحوي عيونه وقد ابتدأ يلعب بها الحنق، فزاد منظره إضحاكا حين جمع في لحظة بين السرور والتغيظ، ولكني تمالكت نفسي وجاهدت حتى توصلت بالقليل من اللغة الذي أعرف لأسأله. وماذا إن عبر بلريو المانش - أيه يعني. - وكيف! أوما ترى أن ذلك ينفعنا إذا نشبت حرب بيننا وبين إنكلترا ونستطيع في تلك الساعة أن ننزل جنودنا إلى شواطئها آمنين.
يا سلام يا مسيو، أتظن أن عبور المانش سيبقى احتكارا إلى الأبد لبلريو أو أن بلريو لا يموت؟ ولكن المسيو أ.ل. وكل فرنساوي مثله معذور، هم يذكرون أيام نابليون، ويذكرون بحسرة عجزهم عن عبور المانش على ظهر البواخر، فلم يكد يبدو لهم هذا الأمل الجديد حتى طفحت بالسرور نفوسهم، وحتى حجبهم جذلهم به عن أن يروا قيد شبر بعده.
وبقي طول مدة الدرس على هذا الحال من الجذل، ولو لا أن ضحكي كان يثير سخطه من حين لآخر لما كان بعيدا أن يقوم فيرقص من شدة الطرب، وحتى يرضي شهوة رجليه التي بقيتا لا تهدآن كل مدة وجودنا، والتي دفعته ثلاث مرات لأن يقوم فيرسم لنا على تختة سوداء شكل الطيارة ويجتهد للتفريق بين (المنوبلان) و(البيلان) مما نحن لا شك في غنى عنه؛ لأنا لا نعرف أهم ما في الطيارة حتى تهمنا معرفة أجنحتها.
4 أغسطس
على رأي شكسبير «ما دام الختام حسنا فالكل حسن» ... كذلك كان يومنا هذا كله حسن وأحسن ما فيه ختامه، فقد كان معنا في القطار راجعات من فرساي أم وثلاث بنات لها، أما كبراهن فجميلة ولكنها ليست بارعة، وأما الصغريان فأبدع خلق السماء في أصفى ساعاتها، عيون زرقاء تسيل رقة وتفور كأنما صورها (تسيانو) أو هي أبدع، ونظرات تسبق إلى القلب، وجسم يكاد يجري من القميص من النعمة لولا القميص يمسكه.
ويتكلمن الألمانية فتتساقط ألفاظهن والأذن تعجز دون التقاطها، ولكنها تبعث إلى النفس أعظم السرور ... يقف القلم حائرا كما يحتار اللب وتحار الروح، كيف وأنى تجد المكان منها الذي تحل فيه هذا الجمال، وقد ملأها كلها وكل جارحة من الجوارح.
كانت هذه خاتمة اليوم بعد أن رأينا قصر فرساي، قصر لويس الرابع عشر، قصر الملك الذي قال: «أنا الحكومة والحكومة أنا»، وها جاءت الأيام فغيرت معالمه، فهل تجيء الأيام أيضا فتغير من هاتيك الملائكة اللائي صحبننا في سفرنا القصير؟
والقصر قائم بين جنات وحدائق وغابات وغياض يتوه فيها الخيال، قائم بعظمته يطل على المتسعات الخضراء أمامه، وقد قام في صحنه تمثال لويس ممتطيا جواده غارقا في لجة الشمس الناصعة هذا النهار.
فإذا ما دخلته قابلك فيه بدل الملك وحاشيته والأشراف واتباعهم تماثيل العظماء والكتاب وصور الوقائع وأكابر الرجال، وبدل الجمع الكبير الدائر حول الملك شيخ الطغاة والكل يسعى للزلفى إليه والقربى عنده بأنواع الصغار وقد ملئت نفسهم بالأحقاد واللؤم - جمع كبير حافل جاء يتفرج على هذه الآثار من أيام العظمة الملوكية بنيت على أساس من دماء الفقراء والعمال، ثم ولت عروشها ورجعت لتكون موضع سرور الفقراء والعمال وكل إنسان يريد أن يراها.
وأكثر التماثيل أخذا بالعين تماثيل مشايخ كتاب القرن السابع عشر: راسين وملييرو كورني، وتمتد على جدران الغرف الفسيحة الصور الكثيرة لما حاربت فيه الأمة الفرنساوية، وإحداها موقعة من مواقع نابليون جرح فيها قدمه فضمد جرحه وهو يريد أن يمتطي صهوة جواده، وليس على وجهه لذلك من ألم، بل هو الوجه الحاد الآمر لم يتغير حماسه ولم يخرج عن حلمه. وأخرى صورة الإمبراطورة أوجيني زان التاج منها وجها ملكيا جميلا.
أما السقوف وما عليها من نقش فهي كل الجمال.
من الصور التي أطلنا النظر إليها ما تعلق بالشرق بنوع عام وما تعلق بمصر بنوع خاص، على أن الإتقان المرسومة به هذه الصور كاف وحده لياخذ النظر إليها، ما بالك لو أن فيها ما يثير الإحساس ويستعيد ذكرى القديم أو ذكر مصر، وقد كانت أشكال بعض الرجال كالشيخ البكري والسادات والمهدي تجتذب النظر للتحديق بها مهما بلغت من الارتفاع.
دخلنا غرفة نوم لويس وفيها سريره الفخيم، وقد اجتمع الناس من حوله على أشكالهم المختلفة وفي صورهم المتباينة، وكلهم فرح مستبشر ليس عليهم أثر الوجل أن دخلوا غرفة الملك، ولا يرتعدون خيفة أن يحكم عليهم بالإعدام أو السجن، ولكنهم يقفون على بساط المساواة والحرية، وقد أرق آباؤهم من أجلها دماء شريفة غالية.
5 أغسطس
جدال حاد عن المرأة:
البك :
لا ضرورة للنزاع في هذا الموضوع، وما دام ديننا قد أمرنا فكل مناقشة عقيمة وصاحبها خارج عن الجماعة.
الأستاذ :
أما أن ديننا أمرنا في هذه المسألة بأشياء معينة فذلك ما لا شك فيه، ولكني أحسب هذه الأوامر تقوم من جهة إن العلم فرض على كل مسلم ومسلمة، ومن الأخرى يقول تعالى:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف .
البك :
وهل تستطيعون تفسير القرآن وأومر الدين بخير مما فسره الأئمة.
محمد :
ليس هذا موضع البحث ساعة، كما أن الإمام الشافعي قرر أن واجبا أن يكون لكل زمن مجتهد يشرح له أحكام دينه، فإذا كان أهل زمننا رأوا خطأ في التفسير القديم - وليس الخطأ بمستحيل على ابن آدم - أو رأوا فيه ما يناقض المصلحة، وأن ممكنا التوفيق بين المصلحة والدين فمن الحمق الأكبر أن نقف متبلدين أمام أقوال الزمن القديم ... والواقع أن الذي يحول بيننا وبين العدل في مسألة المرأة وفي غيرها مهما كان فاسدا به، ولكنه الاستبداد الذي تخلل نفوسنا وأفسد ملكاتنا وتوصل شره إلى الدخول في دمنا، فلم يبق في الإمكان أن نتخلى نحن عن الظلم بل تدفعنا نفوسنا فلا نكتفي بظلم أقراننا وبظلم النساء حتى نظلم الدين هو الأخر في حين أن الدين لا ذنب له.
الأستاذ :
أوما أوصى صاحب الشريعة مرارا وتكرارا بالمرأة؟ ولكني يا أخي لا أعرف السبب الذي من أجله حرفت هذه الوصايا، أحسب ذلك جاء إلى الأفكار والكتب نتيجة أنه كان موجودا في العمل بما أدخله اختلاط الأعجام بالعرب الفاتحين من الترف وحجب النساء والاستمتاع عيانا بيانا بالقيان، وطبيعي أن الترف يجر وراءه الرق ما دام غير مبني على أساس من العلم الصحيح.
والواقع أن الحال النازلة بالمرأة اليوم لا شأن للدين فيها، ولكنها نتيجة لازمة من نتائج التاريخ الذي حكم الأمة العربية قرونا طوالا.
حسن :
ولم كل هذا التمحك بالدين من غير معنى؟ أنا أرى أن أمامنا مصلحة يجب أن نسعى إليها وأن نضحي من أجلها كل شيء، وما صرنا في الحقيقة سوى الخيالات والأوهام التي نتمسك بها من غير عقل ولا تبصر ، ولو لم يبلغ بنا الجهل أن نهمل التعقل جانبا لنعيش في عالم من المزاعم العتيقة لما كنا رجالا ونساء في هذا الموقف المحزن المخجل الذي نحن فيه ... ألا يكفينا أن نعيش في أوربا لنرى بعيوننا سقوط الخرافات التي تفتك حتى بأرقى الطبقات عندنا؟ أنا أعتقد أنه لم تعم الحرية بلدنا ويتمتع بها النساء والرجال على السواء فإنا سنبقي في ذلنا الذي نحن فيه إلى الأبد، وتاريخنا نحن وتاريخ الغرب شاهد عدل على ما أقول.
محمد :
هون عليك يا صاح، العالم يسير رغم أنف كل إنسان، ومهما يكن سيرنا إلى الأمام بطيئا فإن التقدم لا ينسانا، وكما أصبح العامل الذي كان بالأمس العبد الذليل في أوربا حرا عزيزا ذا بأس وسلطة، فإن الزمان من غير شك يضمر لنا ذلك، وسيأتي به يوما أردناه أو لم نرده، وإذا كانت غفلتنا الحاضرة تسوقنا لاستعباد المرأة واعتبارها كمجرد متاع فإني أخشى جدا أن يكون في ضمير الغد القريب سلطانا لها ننوء به نحن، ويكون يومئذ يوم القصاص.
حسن :
ما أجمل أحلامك يا أخي، أنا لا أستطيع أمام الحال المحزنة التي عندنا دون اليأس من كل خير؛ أوما ترى معي أن كل شيء عندنا دخلت فيه مصلحة من مصالح المرأة أو تعلق به أمر من أمورها هو ناقص نقصا جوهريا؟ أوما ترى أن المرأة عنوان النقص في كل ما يختص بها؟ فمتى عساه يكون غدك القريب الذي ترجو إن لم يكن حلما من الأحلام؟
الأستاذ :
أما أنا فلا أرى مطلقا مانعا من الوجهة الدينية يحول دون رقي المرأة، بل بالعكس من ذلك لقد دلتني كل قراءاتي في هاته السنين الطويلة التي قضيت في درس علوم الدين على أن الدين يساعد المرأة ويساعد التقدم ويساعد المدنية.
حسن :
ثم من ذا من الشبان يعقل يستطيع أن يقترن بامرأة لا يعرف أو بامرأة جاهلة؟ لا شك أن الجهل والحجاب سيكونان على الأمة ضربة قاضية ويكون ما تمناه محمد أفندي هو بوار النساء، فثورتهن على العادات التي طحنتهن فنجاحهن بعد ذلك بالعلم والشعور ومخالطة الرجال.
البك :
يا شيخ! بلا كلام فارغ، والله لن يخرب البلد إلا أنتم.
6 أغسطس
وا أسفاه: اليوم آخر أيامنا مع معلمنا اللطيف مسيو أ.ل.
أحد صديقي يريد أن ينفصل عنا فلم يك بد من ترتيب جديد، وتسعة دروس لنا كثير، خصوصا وقد وقعنا على معلم جديد هو المسيو ه.ج. فلما أعلمنا المسيو أ.ل. بعزمنا ظهر على وجهه أثر الغيظ، وجعل ذلك يزداد حتى احتقن وجهه واحمرت عيناه، وكم كان جهاده عنيفا ليبقى معنا طول هذا الدرس حافظا صوابه.
وكل قليل تبدو له بارقه أمل فيسألنا من جديد إن كنا لا نزال على رأينا، ونرد عليه أنا متأسفين لذلك، فتسقط آماله ويرجع له ما كان به من الغيظ، حتى رأسه الأصلع هو الآخر يزداد احمرارا.
أخيرا انتهت الساعة وقام معنا، فلما كنا عند الباب أراد أن يحادثنا من جديد، ودل على ما عنده من الأمل أنه ابتدأ يحرك رجليه، ولكنه ما لبث أن عرف أن هذه هي اللحظة الأخيرة، حتى رد وداعنا بأن دفع الباب وراءنا بكل قوته، ونزلنا نحن على السلم ضاحكين، وهكذا انتهى وقتنا الجميل مع المسيو أ.ل. فوا أسفاه
10 أغسطس
في كل ناحية من نواحي باريس متاحف وآثار جميلة عظيمة، أكبر هذه الآثار قيمة في الحي اللاتيني: البانتيون.
وهو بناء شامخ ترتفع قبته في السماء تسعون مترا وتقوم على قواعد عظيمة ضخمة، وتحت هذه القبة وقواعدها وتحت الأرض القائم فوقها البناء ينام جماعة من عظماء الرجال.
لأول ما تدخل المكان تحس بهيبة تقابلك ثم تأخذ ببصرك نقوش الجدران، وإنك لترى من النقوش حيث كنت في باريس، في المتاحف والمعابد والكنائس والمنازل الخاصة وحيث تريد، وتحس لذلك إحساسا صحيحا أن باريس وطن الفنون الجميلة.
لقد أحسست هنا إحساسا لم يكن عندي بشيء من هذه القوة لا في قصر اللوفر ولا في قصر فرساي، استعدت أمام مخيلتي من الصور التي رأيت في القصرين ووضعتها إلى جانب ما في البانتيون فعرتني القشعريرة لمبلغ قسوة بني الإنسان ووحشيتهم، وحقرهم عندي ما في طبيعتهم من الشدة المتناهية من جانب من الخضوع الأعمى للقوة من جانب آخر، أثار عندي ذلك الإحساس صور الوقائع الحربية حيث الأشلاء ملقاة تدوسها البهم والهامات طائرة عن أعناقها والدم القاني يسيل من تلك الكلوم النافرة، وأمام كل هذا لا ترى على وجه من الوجوه أثر رحمة أو شفقة، بل عيون تقدح الشرر ووجوه صورتها بصورتها قلوبهم الحجرية فظهرت قاتمة عابسة، تلك الصور هي تاريخ الإنسانية الحي وآثارها الصارخة بما جنى الناس ويجنون من الفظائع.
فوق بعض تلك الصور رسوم ملائكة توفرت بأجنحتها فوق هذه المجاميع المتحاربة، وترقب من سمائها الإخاء الحب هاته الطوائف المتباغضة المتحاسدة، يسفك الإنسان دم الإنسان ليرضي شهوة من شهوات ملكه الشره الطامع في أن يقال عنه سيد المشارق والمغارب مهما طارت من أجل ذلك رؤوس وأريقت دماء.
وفي مغاور البانتيون في جوف الأرض ينام العظماء نومهم الهادئ الطويل، ينام روسو
3
وفلتير
4
وهوجو
5
وميرابو،
6
ينام هؤلاء الكتاب والمتكلمون وهم أشد صمتا من الأحجار التي حولهم.
13 أغسطس
دعانا صديقنا البك للغداء عنده، قد أسف أن يكون سفر الأستاذ بالأمس مما ينقص من سرورنا، بالرغم من أنا سنكون سبعة أشخاص على المائدة، ودا رحديث طويل:
خليل :
ما السبب في وضع الطلاق في يد الرجل دون المرأة؟ ثم كيف تطلق له الحرية إلى أقصى درجاتها بهذا الشكل الذي نرى؟ أفليس ذلك من الظلم؟ وهلا يتحتم تحديد قوة الزوج في القدرة على الطلاق حتى تصبح تلك العلاقة محترمة بالقانون وفي العمل.
حسن :
المشاهد الذي لا ينكر أن مرض الجهل أشد فتكا بالعقول من التشريع نفسه.
خليل :
وهل يعقل إذا تعلمت المرأة أن تبقى القوة على قطع الصلة بينه وبين زوجته متروكة لحرية تصرف الرجل؟!
حسن :
إنا نرى أن طائفة المتعلمين لا يطلقون نساءهم لأنهم بأنفسهم يحترمون هذه الصلة، فإذا تعلمت المرأة وتعلم الرجل لم يبق من حاجة لتحوير التشريع.
محمد :
أما تحوير التشريع فضروري كل الضرورة، وإذا كان خليل يرى أن من الظلم بقاء صلة الزوجية متروكة لاختيار الرجل إذا تساوى هو وزوجته في العلم فالنظرية تصدق لا شك إذا كانا على مستوى واحد من الجهل؛ إذن فالفلاح الجاهل وامرأته والعامل الجاهل وامرأته في حاجة مطلقة لإصلاح التشريع، ولا يجب أن ننسى أن القانون يعمل من أجل هاته الطوائف أكثر مما يعمل من أجل غيرها.
علي :
عندك حق. خصوصا ...
حسن :
ليس هذا الذي أنكر، ولكن خليل يقول إن من احتقار المرأة بقاء حق الطلاق في يد الرجل في حين أنها متعلمة مثله كما قدمت، لا يستعمل الرجل المتعلم هذا الحق، وإذن فكأنه غير موجود بالنسبة له.
محمد :
إذن أنت معنا في وجوب الإصلاح، ولكن الذي يدعو للحيرة حقيقة هو كيفية الإصلاح، أنعمل برأي خليل ونرجع إلى ما قررته الشرائع الغربية أو نبيح الطلاق للمرأة كما هو مباح للرجل والشر من طبعه يداوي الشر؟ أنزيد في تداخل القانون ونجعله هو الذي يحدد حرية الأفراد من هذه الجهة مهما كان في ذلك من الاستحالة، عملا لما ظهر في فرنسا وفي غيرها من أن خرق القانون سهل جدا، أو نحن نضع ثقلا في كفة المرأة يوازن الثقل الموضوع في كفة الرجل من قبل؟ وأراني أميل لهذه الجهة لأني أعتقدها تتمشى مع شرف الإنسان أكثر وتضمن له السعادة الصحيحة إلى حد أكبر، أما فساد التشريع الحاضر فأمر ظاهر ومفروغ منه.
البك :
يعني إيه أمر ظاهر؟ أوما حدد الدين هذه القوانين حتى تريدون أن تعبثوا بها هي الأخرى؟
محمد :
الله رحيم لم يجعل علينا في الدين من حرج، وأظن من أكبر الحرج أن تطلق امرأة زيد لأن عمرا لم يرض بتناول فنجال قهوة عنده. ومن أكبر الحرج أن يصبح أطفال في مركز اليتامى لأن أباهم طلق امرأته ثلاثا في غضبة ثم ندم على ما فعل، من أكبر الحرج أن تبقى امرأة في عصمة زوجها الذي يسومها الخسف وسوء العذاب ... فأي شيء يناقض الدين: العمل لإعلاء مبدئه الذي هو سعادة الناس في الدنيا والآخرة، أو الجمود دون إخراجهم من شقائهم، وربهم أرحم من أن يريد لهم شقاء؟
خليل :
ولكن ما هذه الفكرة الغريبة من إطلاق الحرية للمرأة وللرجل في الطلاق؟ وأين إذن تكون الرابطة؟ بل ألا تندك العائلة من أساسها ويصبح موتها محتما.
حسن :
وإني أنكر مع خليل هذه الفكرة لأقول ما قال أرسطو: «ان جماعة الاشتراكيين الذين يريدون هدم العائلة هم كالرجل الذي يضيف الماء على ما عنده من العسل فيفسد طعمه؛ إذ إن ما يجعل كلمات الأب والأخ عزيزة هي هاته الصلة القريبة بينهم، بل لأخشى أن يكون الماء الذي يضيفه الاشتراكيون كثيرا فيتلف طعم كل ما عندهم».
محمد :
يجب أن نتفاهم حتى يمكننا أن نتناقش، فرق بين ما أطلب وبين ما يريد الاشتراكيون من إعدام صلة الزوجية كلا؛ لأنهم يريدون أن يكون لكل امرأة ولكل رجل حرية الاجتماع في كل وقت، وأريد أنا أن تبقى بينهما صلة الزوجية مبنية على الاتفاق والرضى لا على الإكراه من جانب والخضوع من آخر، وأعتقد طلبي ليس معقولا فقط بل هو طبيعي أيضا؛ فإنا نرى الطيور والحيوانات الحرة تعيش أزواجا راضية متحابة، فهلا نتخذ منها لنا مثلا.
حسن :
إذا كنت تبحث عن الطبيعي فقد أخطأ قياسك؛ لأن الإنسان حيوان اجتماعي، والحيوانات الاجتماعية بطبعها لا تعرف مثل هذه الصلة، بل ترى القطعان تسير على مثل النظام الذي يطلبه الاشتراكيون للإنسانية.
يولد الصغير وتعنى به أمه ويتعهده المجموع بحمايته، وعلى هذا فهم منطقيون مع أنفسهم أكثر ممن يريد، وهو حيوان اجتماعي، أن يعيش عيشة الحيوانات المنفردة.
محمد :
وما قولك في أسراب الحمام تطير جماعات ثم إذا رجعت لكنها رجع كل ذكر وأنثاه إلى بيتهما، أفلا يجعل ذلك نظريتي التي أطلب منطقية مع نفسها؟ يجب كذلك أن أقول إن حرية الصلة من شأنها أن تزيد كلمات.
14 أغسطس
لا بدع أن أنبتت هذه البلاد الكتاب والشعراء ممن يقيمون صروح الحرية، اليوم مررنا بحديقة (بارك منسو) مرا، كيف لا يكون الرجل الذي يعيش هنا بين أبدع الحدائق، بين اللكسمبور والتويلري وبارك منسو وغابة بولونيا وسان كلو وفرساي، بين هذه الجنان الناضرة والزروع الخضراء والأشجار الباسقة والزهور ومياهها وغدارنها، كيف لا يكون شاعرا مبدعا وكاتبا تخضع له الأفهام.
16 أغسطس
سبقت الليلة في النزول إلى العشاء، وجاءت جارتي فأهدتني تحية المساء، وفي انتظار جارتها ومجيء الطعام سألتني: كيف تجد باريس؟ أظنك مسرورا بها. - باريس جميلة جدا لكن وحدتي تضايقني أحيانا.
هنا ابتسمت وأفهمتني أن هذه الوحشة تزول لا شك متى فهمت البلد.
وكم كانت لطيفة ساعتئذ وهي تشرح لي حالها هي الأخرى أول ما جاءت، وكيف شعرت بالوحدة بالرغم من الكثيرين من الأصدقاء الذين وجدت.
قالت: ... وكم تؤثر علينا الأشياء التي كانت محيطة بنا وفارقناها وكأنها تحوي روحا تتبعنا دائما، وتثير عندنا ذكرى ما تركنا، ذكرى المنازل والناس والأشياء، وتصبح الأمور الحقيرة التي كانت لا قيمة لها ذات قيمة لأنها دخلت عالم الذكرى.
وهكذا قضينا مدة العشاء في هذا الحديث، وشاركتنا جارتها بعض الشيء فيه.
17 أغسطس
صممنا اليوم على الذهاب إلى الأنفاليد لنرى قبر نابليون، فأخذنا الترام حتى نزلنا عند كبري إسكندر أعظم كباري باريس وأجملها، وعلى جوانبه الأربعة قامت أربعة نسور لا تكل أجنحتها، فأخذنا الطريق حتى وصلنا إلى الأنفاليد ومنها إلى كنيسة القبر.
وما هو إلا أن وصلنا بابها حتى قابلنا عليه أمر الدخول بالسكون والاحترام. وهل ترى في المكان إلا رؤوسا ذاهلة وأصواتا خافتة تهمس كأنها في حضرة الملك الكبير، والمكان فخيم عظيم تدخله فيقابلك شيء من الظلام المهيب فيكسوك مهابة لا تستطيع أن تخاطب صاحبك إلا وعلى صوتك أثر الخشوع والخضوع ... ليس المكان مكان الحشر ولا مرسح الظلامات ولا مغاور الجن، ولكنه مكان رفات نابليون، مكان قبر التاج من هامة الأمة الفرنساوية، مكان الإمبراطور الأكبر صاحب باريس وموسكو ما بينهما.
عن يمينك وعن يسارك صورتان: إحداهما العذراء تحمل ولدها والأخرى صورة المسيح بمفرده، صورة يتنزل عليها من البهاء والجمال ما يأخذ بالقلوب والأبصار، والمنبر بين ذلك قائم وكأنه ولا أحد فوقه ينطق للناس وحده، وهل هاته الموجودات مما حوله إلا آثار ناطقة، هل هي إلا نابليون دوخ الارض ثم نام في حفرته إلى الأبد، هل هي إلا أمة الفرنسيس خاشعة صامتة كل كلامها خافت خامد، وأم توحي في أذن ولدها بآي الجلال فتزرع في نفسه، ولم يخرج إلى عالم المادة الخسيس شيئا من إعظام الروح الكبيرة، هل هناك كذلك إلا البناء الشامخ الرفيع تدوي فيه الأصوات المنخفضة كأنها تنزل من عالم الملائكة كل هذا المعنى يوجد في هذا الجانب من قبر نابليون.
فإذا أخذت طريقك إليه من بابه الثاني ووصل بك سعيك رأيت القبر المهيب، رأيته قائما في حفرته من الرخام الأحمر، وقد نقشت حوله أسماء وقائع الإمبراطور الكبيرة أوسترلتز
7
ويينا وغيرها.
إيه ياقبر نابليون، إيه يارفات الإمبراطور، إيه يا حفرة الرجل العظيم تأخذ بك العين في لمحة وما كانت لتحيط بآمال مقبورك خيالات الواهمين، ويحني الرجل قوسه للنظر إليك وكانت تنحني أمام صاحبك رؤوس العالم أجمعين، إيه أيها العالم الموهوم تحث الإنسان على سفك دم الإنسان ثم تورده منك أضيق بقاعك، كان نابليون يرسل بإخوته ملوكا لملكه، وإذا بك تراهم جميعا في غرفة بين جدران أربعة، وبينا القلوب كانت تهتز منهم وجلا إذا هي مصدوعة عبرى أسى عليهم، ألا أيتها الطبيعة من أجل ماذا هاته الآمال تبعثينها في رأس ابن آدم ثم تقضين عليه هذا القضاء القاسي، أغدر منك أو غرور من هذا المخلوق المملوء بالخيال والأمل الكبير وهو على يقين من حتفه.
أمامك مقابل الباب أعمدة من الرخام المجزع ينعكس عليها نور النوافذ ذات الزجاج الأصفر فلا تخالها إلا ذهبا، ويهبط من جانبها درج يؤدي بك إلى الباب البرنزي المصنوع من مدافع أوسترلتز، وهو باب القبر وقد كتب فوقه ما معناه (ألا فلتوضع رفاتي على شاطئ السين بين أمه الفرنسيس التي أحببت حبا جما)، كلمة قالها نابليون في منفاه. كلمة قالها من كان ينظر إلى القارة فلا يجد إلا تاج نصره وعلمه الخفاق فوقها، هبطت تلك الآمال من سماء الخيال فوقعت على الحقيقة القاسية، ورجعت من مسرح الوهم إلى وكرها ساكتون فأين تذهب أفكارهم، أين تطير الساعة وقد رأت الرأس وقع في فخ الطبيعة المنصوب ولا ينجو منه مخلوق؟ لا أدري.
فلأخفف عن نفسي إذن هموم عالم المادة، هي النفس الكبيرة تخلد على الدهر وفي طياته وليست أوهام الحياة وآمالها إلا ذاهبة مع الريح.
انتقلنا بعد إلى غرفة من غرف المعروضات فيها أعلام كسبتها فرنسا، فيها تمثال نابليون يوما وعلى وجهه أثر الشحوب والنحول، تمثال يدل على حمى التفكير التي تفتك برأسه هو أقرب شيء إلى صورته في مرضه الأخير، كل فكره في الموت وكل آماله أن توضع رفاته على نهر السين بين أمة الفرنسيس.
ولقد عملت الأمة الفرنساوية لأبنائها هنا كثيرا، علمتهم الطريق إلى إجلال العظيم.
بعد ذلك خرجنا والنفس كأنها وجلة خائفة، والقلب كأنه في وهدة عميقة، والوجه ينم عما حوته الروح من آثار الإجلال والإعظام، وخرجنا بذلك من عالم الحقيقة إلى عالم الأوهام والمادة، عالم النقص والفساد.
18 أغسطس
عنده قمطرين ممتلأين، ويظهر أن كل ما فيهما هو من كتب الأدب، وهو مستخدم في دار الكتب الأهلية
La Bibliothéque National
لذلك رتب وقته معنا بعد الساعة الرابعة دائما أي بعد موعد خروجه، وإني آسف أنه لم يستطع أن يعطينا أكثر من أربعة دروس في الأسبوع؛ لأنه يسافر كل أربعاء إلى حيث زوجته في مصيفها على شاطئ البحر، على أنه وعدنا أن يعطينا ستة دروس ابتداء من سبتمبر.
في رجوعنا من عنده هذا المساء صحبنا في الطريق من بيته في بلفار مون بارناس حتى حديقة اللكسمبور، ولقد كان أكثر الحديث المتبادل بينه وبين ب. لأني لا أستطيع أن أستمر طويلا في حديث بالفرنسية إلى اليوم.
19 أغسطس
كنت أسير مع ب. على رصيف محطة اللكسمبور بعد أن تناولنا طعام العشاء عاملين بقول مثل بلدنا: «اتعشوا واتمشوا»، فجعلنا نذهب ونجيء مسرورين ببعدنا عن ضجة البلفار وأنواره وقهاويه الغاصة بمن فيها من بنات الرصيف.
لكن في كل واد أثر من ثعلبه، وهاتيك الفتيات يطلبن صيدهن حيث يقع لهن، بل لكأنهن يجدن في الظلمة مأمنا فلا تطلع العين على مبلغ قبحهن أو تقبل وجوههن من الدهن، غير أن صيادتنا لم تكن حسنة الحظ في اختيارها كما أن الظلمة نفسها كانت أشد فتنة عليها من النور وأكثر إظهارا لحقيقة أمرها.
هذه أول مرة تبين لي فيها مبلغ بؤس هاتيك الفتيات وتعسهن، تلك العيون الميتة من كثرة السهر وذلك الوجه الباهت لا لون له، والخدود الغائرة والفم تطوقه ابتسامه تنم عن مبلغ ما تكن نفس صاحبته من الألم، وذلك الشكل الجامع بين الاستعطاف الجائع المسكين وبين الحنق على الإنسانية والحقد على بني آدم.
بقيت هاته الفتاة تروح وتجيء إزاءنا ونحن ننظر لها بعين باردة ونتعمد إساءتها من غير أن يتحرك لذلك ضميرنا، ومن غير أن نشعر أنا نسيء لنفس إنسانية أوقعها البؤس وحكم الجمعية التي تعيش فيها إلى الحضيض الذي تئن من أعماقه فلا يسمع لأنينها إنسان.
وفي آخر لحظة حين أردنا مفارقتها ابتسمنا لها باستهزاء وإصغار، لكن كل الظروف أرادت أن تعطينا درسا، فلما وصلنا شارعنا فضلنا الجلوس على قهوة في أوله ريثما يتأخر الوقت ويجيء موعد النوم، وجاء مجلسنا إلى جانب فتاة صغيرة الجسم نحيفة القوام ترتدي رداء واسعا من الصفوف بالرغم من أنا لا نزال في أغسطس؛ ذلك أن ليس عندها غيره فليس في وسعها أن تتبدل به آخر، وما كدنا نجلس حتى فاتحتنا الحديث، وما كدنا نجيبها حتى طلبت من كل منا فرنكا لتسدد بالفرنكين فتاة جالسة إلى جانبها اقترضتهما منها لطعام الغداء والعشاء لهذا اليوم.
استمر الكلام فيما بيننا وقامت جارتها لحالها، فسألها ب. لم تستمر في حرفتها هذه وأي شيء ألجأها إليها؟ هنالك ظهرت على وجهها علامات ألم ولا أدري لم، ثم تبدد ذلك كله سريعا وبدأت تقص حكايتها حين كانت تشتغل في معمل تطريز ثم استغني عنها أيام الصيف، وكيف وقعت حينئذ على إنكليزي رافقها مدة رأت فيها من العز والدلال ما لم يبق في حلمها اليوم أن تنال، ثم سافر وتركها بعد أن مضت أوليات الشتاء وبعد أن أصبح من الصعب أن تجد ما تحترف به، ثم هي في الوقت عينه ترى أن ما تسير فيه اليوم حرفة كغيرها لا أكثر ولا أقل.
أما حكمها الأخير فيقبل النظر، إذ مهما وجب علينا أن ننظر إليها بعين الإشفاق ومهما جعلتنا الظروف التي أحاطت بها نتساهل في معاملتها، فليس من السهل الاقتناع بأن حرفتها كباقي الحرف، صحيح أنها نتيجة احتياج لها موجود في البلد، ولولا ذلك لحق عليها البوار ولكن نتائجها تنافي الفضيلة، وكل ما يمكن أن يدافع به عنها أنها تسد حاجة، وكل ما سد حاجة في العالم يعد طبيعيا والطبيعي عذره في جوده.
21 أغسطس
ألا ما أشد تعلق هؤلاء الذين عرفت من الغربيين بالمادة وما أكبر انكبابهم عليها، هم ينسون أمامها كل خلق وكل فضيلة، فيتزلفون أو يشتدون، يحاسنون أو يسيئون على حسب الظرف الذي هم فيه والوسيلة التي تسهل عليهم الكسب المادي، لم أجد واحدا ممن عرفت إلى اليوم - وإن كانوا قليلين - شذ عن هذا المبدأ.
في البنسيون جاءني صاحبه يحادثني بالفرنساوية، حادثني طويلا وفي مواضيع مختلفة ولكن ليصل منها كلها إلى معرفة المدة التي سأقيم عنده والحساب الذي يجب أن أدفع اليوم، في غير البنسيون كل شيء يسير على هذا النسق أيضا، وأحسب أن المدينة التي عندهم لا تدعو للتقشف والزهد؛ فإن الطبقة التي تقابل عندنا طبقة صغار الموظفين والقليلى اليسار تيعش في ترف أكثر من ترف جماعة أغنيائنا، ولقد دلتني المنازل التي رأيت: منزل المسيو أ.ل. والمسيو ه.ج. ومنازل كثيرة أخرى مررنا بها في بحثنا عن سكن جديد ومنازلنا نحن التي نسكن الآن على مبلغ ما تطالب به من نفقات في التنظيم والعناية، كما أن ما يظهر من تنوع حاجات الإنسان المتمدن إلى أقصى الحدود واضطراره لقضائها جميعا، كل ذلك من شأنه أن يجعلهم ينكبون على المادة هذا الانكباب الفظيع.
ولا يخطر بالبال مقارنة حالهم بما عندنا؛ لأنا نحن قوم زهد نحتقر عرض الدنيا الفاني ولا يهمنا الأيام القليلة التي نبقاها على الأرض ولا بأي شكل قضيناها، يحتل منا ذلك الشعور أعماق النفس فإذا أراد أحدنا أن يخرج عليه كان الشاب الذي ينفق ماله باليمين وباليسار في محال اللهو من غير أي فائدة تعود عليه من ورائه، وأما هم فقوم دنيا لا يعرفون سوى الحياة ولا يثقون بما بعدها، لذلك يريدون كسبها بحذافيرها وأن يأخذوا منها كل تستطيع أن تعطي، من أجل هذا ترى في كل ما يحيط بك، في كثرة الحدائق وما فيها من التماثيل، في المتاحف وبديع ما تحوي، في التياترات الكثيرة نملأ بأسمائها إحدى الجرائد (كومديا) صفحة كاملة من صحائفها وأحيانا أكثر، في كل المظاهر التي حولك والتي تلمس أنت بيدك، في ملابس السيدات والمبالغة في حسن اختيارها، في الاستسلام للسرور (الذي يظهر على الناس كافة في عيد 14 يوليو والذي يظهر على الكثيرين في كل يوم) في الصحف وغريب الأخبار التي تحتوي، ترى في كل ذلك من الحركة والاهتمام بالدنيا والمنافسة في استغلالها وشديد الحرص على استثمار كل ما يمكن استثماره منها ما يدهش اللب.
22 أغسطس
قضينا سحابة النهار في سان كلو، وككل الضواحي في أيام الأحد كانت ملأى بالناس ممن لا تدل حالهم على اليسار وإن كانوا نظافا، وقد خرجنا في مسيرنا من بستانها البديع النظام لندخل الغاب المستوحش الجميل.
جلسنا على العشب مع الجالسين، ثم قمنا من مكاننا يجذبنا صوت موسيقى، فلما كنا إلى جانب الطريق جلسنا من جديد ننتظرها، في حين جعل الآخرون الذين جاءوا من كل حدب لمقابلتها يرقصون ويصيحون وقد فاض عنهم الطرب، ولما أن جاءت عندنا إذا القوم قاموا فأداروا مرقصا عاما فيما بينهم، ظلوا يرقصون بعد أن ارتحلت الموسيقى وموسيقاروها مكتفين بأن تردد لهم الأشجار العالية هاته الأصوات التي جعلت تبتعد تبتعد حتى اندثرت.
لكن الموسيقى لم تكن موسيقانا الشرقية ذات النغمات الحزينة المتشابهة التي تذهب بالقلب إلى عوالم أحلامه يستعرض امامه شجون الماضي والأيام الفائتة، ويذهب يتبع النغمة تاركا نفسه مسحورا بها، بل هي موسيقى عسكرية قوية الصوت ترج القلب وتحرك الحواس وتهيج في النفس من قوة الطرب ما لا تستطيع معه أن تبقى مخلدة إلى سكونها بل هي تندفع مهتاجة مبتهجة إلى الرقص والغناء والصياح وتفيض كلها تريد أن تظهر إلى الخارج.
آخر النهار أردنا أن نرجع، لكنا لم نرض أن نترك الغابة قبل أن نأخذ بعض الكرت بوستال من مناظرها، فعرجنا على فتاة هناك جعل ب. يقلب يريد أن يختار مما عندها من الكرت، وكلما تم له اختيار واحدة أعطاها إياها فتأخذها منه برقة ولطف وتبتسم ابتسامه جميلة، ويزيد ابتسامتها جمالا أنها خفيفة الروح جذابة اللون دقيقة التقاطيع ضاحكة النظرات، هذه الابتسامه أكبر شفيع لها، كما أن خفة الروح أحلى تيجان الجمال.
هذا اللطف في المعاملة هو الأمر السائد هنا، فصديقك والتاجر الذي يبيعك سلعته وخادم غرفتك وكل من تقابل دائم الابتسام حتى لكأن هذا الخلق أصبح طبيعيا فيهم، يحيونك بابتسام ويعوضون حاجاتك بابتسام ويشكرونك بابتسام، وهم بذلك يسرون القلب ويعوضون الإنسان عن قتوم السماء وعبوس مناظر المنازل الترابية اللون الحزينة المنظر.
25 أغسطس
في الأوليمبيا ومعي صديقان من المصريين.
الأولمبيا وما على شاكلتها من أماكن السرور هي ما يسميه الفرنساويون والإنجليز معا
Music Halls .
مكان فسيح جدا ويكاد يغص بالناس، ويظهر على وجوه الكثيرين أنهم أجانب، وبالرغم من أننا في الدور الأول أي بعيدين عن ضجة الواقفين في الممشى، ومن أن المرسح ممتلئ بالفتيات لبسن ثيابهن البيضاء القصيرة، ويتداخلن بشكل جميل كأنهن عصافير الجنة، ومن أن الموسيقى تسري بنغماتها الشجية المتباطئة فيتملئ بها الجو الممتلئ بالدخان والزفير، بالرغم من ذلك كله ومن تحديق الناس عيونهم إلى جهة الراقصات يرقبن حركات أرجلهن الغريبة وأيديهن المشيرة كل لحظة في ناحية، وإلى مجموعهن يموج به المرسح في حركة منتظمة لذيذة، فلم ين صاحباي عن التغامز والضحك من غير سبب أعرفه.
أخيرا سألاني حين انتهى الفصل ونزل الستار: هل سترجع إلى الدار وحدك؟ - لماذا؟ وهلا سنرجع جميعا معا كما جئنا معا - كأنك لا تفهمنا، فليس هذا ما نقصد. - أما أنا فراجع وحدي وقد يحزنني أن لا أكون معكما. - ربما لا يحزنك أن لا تكون معنا وحدنا، ولنا أمل أن ننال السرور بأن تكون في جمعيتنا.
كنا في هذه اللحظة نتدرك السلم إلى صحن المكان، ولم نكد نسير خطوتين حتى قابلنا مجيء الناس وذهابهم في كل جهة وإلى كل ناحية، فوقفنا نحن ووضع أحد صديقي يديه في جيبي ردائه، وجعلنا ندير بصرنا ويبدي كل محلوظاته، وشغلني عن الحديث منظر جماعة من الشبان ومعهم ثلاث فتيات وهم يضحكون جميعا ضحك الجنون، فلما رجعت طرفي إذا صاحباي يبتسمان وإذا على مقربة منا فتاتان واقفتان تتغامزان، ثم لتجرا حديثا بيننا وبينهما، قالت إحداهما لصاحبتها: أي لغة يتكلم هؤلاء ... أليست غريبة بل مضحكة؟
فابتسم لها صديقي الذي لم يضع يديه في جيوبه وأجاب: قد أفهم يا ستي أنها غريبة، ولكن ما سبب أنها مضحكة؟ وبهذا اتصل حديث طويل باهت.
هاته التي سألت تبلغ ما بين خمس وثلاثين وأربعين سنة، وهي طويلة عريضة تشغل حيزا عظيما من الفراغ، وثوبها (الدكلتية) ينم عن صدر ضخم وعن أصلي ثدييها البائن انهدالهما، بالرغم من أن حزامها العالي يرفعهما لشديد ارتفاعهما كأنهما هضبة من اللحم - البارد لا شك - كذلك ينم أسفل ثوبها كله عن كتلة قليلة النظام، ولكن خديها الممتلئين المتقن دهانهما وعينيها الزرقاوين يداريان بقية شكلها بعض الشيء.
وبعد قليل ابتدأت الموسيقى من جديد، تصدح هذه المرة بدقات قوية تهز القلب والجوانح، فتسلل الناس مسرعين إلى أماكنهم ورفعت الستار عن أحد قصور الجنان، قصر فخيم تحيط به النعمة من كل جانب.
كانوا يمثلون حياة سلطانة شرقية في ديوانها، وقد قام من حولها الجواري لابسات أقمصة سائبة من الحرير الأبيض، وهن جميعا يحكين في حركاتهن المتباطئة تلك الحياة المكسال التي يتصور الغربي عن الشرقي، وما أسرع ما انقلبت دقات الموسيقى من جديد فأخذت هي الأخرى تترنم في نغمات ساكنة متشابهة تلائم حركات الجواري الجميلات وتكاسهلن.
واجتمع حول السلطانة من دواعي الترف الخامل ما لا يحرص على أقل حركة، ومن حين لحين تبدو عليها علائم التناؤم.
انتهى هذا الفصل وما بعده وأحسنت الصدفة أن جعلتني أرجع وصاحباي معا كما أتينا معا.
29 أغسطس
قضيت النهار مع ب. في فانسن، وهي ضاحية تقع على بعد خمسين دقيقة في الترام من باريس، وقد أخذنا ترامنا من عند اللوفر.
نزلناها ونحن أجهل ما يكون بها، وبعد شيء من التردد فيما نريد أن نعمل سألنا بعض أهلها عن غريب ما فيها، فأوحى إلينا بأن ندخل إلى كنيستها، لكنا لم نكد نعبر بابا كبيرا يبين منه ميدان فسيح حتى سألنا الحارس عما لو كان عندنا تصريح بالدخول. تصريح بالدخول! لا.
فدلنا بلطف على غرفة رئيسه الذي أعطانا إذن المرور بعد أن أخذ أسماءنا وعنواننا على أوراقه، خرجنا من عنده فذهبنا إلى «الدنجن». «الدنجن» هو الحصن الذي كان يسجن فيه المجرمون السياسيون في عصر الملوك، بناء شامخ عالي البناء، دخلناه وارتقينا جوفه درجا حلزونيا عنيفا في الصعود عليه، وما زلنا به حتى وصلنا إلى الدور الثالث من الحصن، هنا قابلنا عاملا تفرجنا معه على ما في هذا الدور، أبنية معشقة أحجارها متين صنعها غاية في الإحكام وغرف ضيقة تشعر بالرهبة والمهابة، فإذا نطق محدث بكلمة سمعت دويها في المكان ورنين صداها بين جدرانه وكأنك تلمسها خارجة من نوافذه الضيقة التي تطل على ما حولها من الأبنية، وفي بعض تلك الغرف من البنادق شيء كثير.
صعدنا بعد ذلك حتى وصلنا أعلى البناء ونظرنا إلى ما حولنا فإذا البيوت بسقوفها المحدبة قد خضعت كلها صاغرة إلى جانب ذلك الحصن الرهيب، وكأنها في صمتها أمام الناظر من علويته هامدة ساكنة بالرغم مما في جوفها من الحركة الدائمة، والأشجار بورقها الأخضر توحي للناظر إليها وتهزها الريح قليلا بعض الأحيان، ويلمع عليها شعاع الشمس المحروقة في تلك الساعة من النهار، فإذا أنت مددت النظر إلى ما بعد ذلك راقتك المناظر المختلطة المختلفة المتعددة، فضاء من الأرض مسطوح وسقف عال آخر خاضع إلى جانبه على مرمى النظر، وقد التف في ثوب من الضباب، وصعد يطلب في الجو عنان السماء، ترى برج أيفل وكأنه يحدث الأباعد والأقربين بما يتناجى به سكان السماوات في عليين ... هو دائما حاضر هذا البرج الهائل، فحيث تكون تلمحه على الأبعاد الشاسعة يناديك ها أنا ذا أقامتني يد الإنسان لأكون موضع الجلال أمام عين الإنسان، وعلى مقربة منه تظهر قمة قبر نابليون وكأنها تنم عما تحتها من رفات ذات الرجل.
أخيرا هبطنا من ذلك المرتفع ووصلنا الأرض ولما نكد.
ثم أردنا أن نذهب إلى الكنيسة فصحبتنا خادمة الباب بمفاتيحها وأدخلتنا المعبد الصغير وجعلت تشرح لنا عما فيه، معبد جميل أقيم في القرن الخامس عشر بعد أن أقيمت الدنجن في القرن الثالث عشر، أجمل ما فيه مدخله والزجاج الملون الذي في نوافذه.
انتقلنا بعد ذلك من بين الحصن والمعبد والأبنية المختلفة الأخرى إلى غابة فانسن، وسرنا بين أشجارها الباسقة تظلنا أوراق الكثيرة التي لم تدع للشمس إلا قدر ما تنفذ أشعتها مجزأة لا تخافها العين ولا يخشاها محرور، وعلى العشب الناضر يجلس الكثيرون ممن يستعيضون اليوم راحة عن كد الأسبوع، وقل أن نجد إلا رجلا وامرأة أو جماعة من الجنسين معا، وكأنهم يرون أن رجوعهم إلى الغابات حيث الطبيعة لا تزال كما هى سليمة لم تمسها يد يدعوهم إلى أن يستكمل كل رجل نفسه بالمرأة التي أعدت الطبيعة لتقوم بهذه الوظيفة.
جلسنا في هذه الجنة اليانعة حتى تبدت الشمس هناك عند المغرب وتوجت هامات الشجر البعيد بنورها، ثم قمنا نتسلل بين هذه الجذوع القائمة فوق بساط العشب ونترك وراءنا رويدا رويدا الطبيعة البكر وبعض المتخلفين من الأزواج (couples)
الذين يعشقون أخريات النهار ومبادئ الليل حين يختفي القرص وتظلل الفروع والأوراق ينساب من بينها ريح هائم تلف المحبين في عبيرها، وأخيرا ودعنا الغابة وفي النفس أكبر الشوق لها.
27-31 أغسطس
هذه الأيام الأخيرة من شهر أغسطس كان فيها هنا سعد باشا زغلول وعاطف وحسن صبري، وكان مشغولا بهم جدا بهي الدين فساعدني هذا على قراءة كتاب هول كين (النبي الأبيض) الذي كتبه عن أحوال مصر، واليوم وقد فرغت منه أرى أن أسطر إحساسي والتأثيرات التي أخذت بنفسي من قراءة هذا الكتاب باعتباري ذلك المصري العليم إلى حد ما بأخلاق قومي وعاداتهم.
يمثل الرجل في كتابه حكم الإنكليزي أيام قنصلية اللورد كرومر وقد حكى التاريخ حكاية هي الواقع والحقيقة في الصحائف الأولى من الرواية، ثم لما مشى ببطل روايته إسماعيل الأمير فيما أراد أن يسلك به، تراه وقد مثل جماعة المصريين بما يسميه
Allah intoxicated people
مجاذيب لا يمس الواحد منهم صاحبه إلا ويصيح مناديا الله الله، أو لا تحدث حادثة مهما دق أمرها وصغر قدرها إلا ويتمثل في نفوسهم ذلك التعصب الديني الإسلامي في أفظع أشكاله، ولقد رام هول كين في روايته هذه أن يرمي طيرين بحجر، فيرضي المصريين والإنجليز معا، وأحسبه إلى حد معين قد وصل إلى ما أراد من غايته، ولا شيء أدل على هذا من سرور طائفة كبيرة من المصريين بهذا الكاتب وكتابه مع أنه يمثلهم فيه تمثيلا فظيعا، أمة متأخرة إذا نعق بينها ناعق باسم الدين تبعته بين الصحاري تحتمل أشعة الشمس المحرقة وشظف العيش الأيام الطوال وتصدق أن كل ما يجيء به ذلك الناعق الديني معجزة من الله لذلك المخلوق الذي يريها لهذا المجموع، ليت هذا كان كل الأمر، بل أنه رمى الخديوي أيضا في روايته بأنه في نفسه تأليف خلافه عربية إسلامية يكون مقرها القاهرة، ويساعده في هذا جماعة العلماء الذي وصف الكثيرين منهم بالضعف والنفاق، لم تسلم طائفة من الطوائف التي تقوم في بنيان الأمة من النقص، كبراء منافقون وخديوي متعصب وأمة عمياء سكرى بخمرة الدين.
ليته وقف عند هذا، بل أن الذي يرجع بأغراضه إلى وقائعها لا بد يجد ما وجدته من التعريض بالنبي في ذاته، كأنه يريد أن يري الناس طريق المعجزات التي كان يجيء بها وتلك الإشاعات المشوشة التي جاءت بعده في التاريخ كانت ما ينادي به بطله الذي سماه
Black Zogal
بالنسبة لإسماعيل الأمير، وإنني لأرى الرجل سيئ الظن بالأمة المصرية إلى حد ليس صغيرا.
فوق هذا كله فمع ما رمى به كثيرين من المصريين من النفاق والضعف والتعصب إلى آخر ما رماهم به، لم يقل عن إنكليزي في مصر إلا كل الخير أكثر من أنه أنحى على لوردنتهام في روايته ولورد كرومر في الواقع، حيث أظهر أن من رأيه أن أخريات أيام اللورد كرومر كانت ستثير الأهالي، وبذلك قد تحدث خطرا على الأمة البريطانية في مصر، إنكليزي هو الآخر يعزز بقاء إنكلترا في مصر، يزيد دليلنا هذا قوة أن الشخص الذي كان موضع إكبار المصريين وحبهم واحترامهم (جوردن) كان من هذا الرأي أيضا وإن كان من رأي آخر في سياسة الأمة.
هذا شيء من رأيي في كتاب هول كين سطرته على صفحات مذكراتي، مع الاعتراف بأن الكتاب متقن اللغة جدا ويشهد لصاحبه بالمقدرة العظيمة، مقدرة هائلة ليس من السهل مسابقته فيها، وقلم بليغ عزيز الوجود يسحب الروح معه ويأخذ بمجامع النفس ويغري المطلع على الاستمرار ولا يمل أبدا، كتاب بديع من الكتب النادرة التي يصح أن يحلي به الإنسان مكتبته.
1 سبتمبر
في منزل معلمنا المسيو ه.ج. الذي لم يحضر بعد من عمله.
بقينا نردد بعض دروسنا حتى جاء، وقد فضل أن يحادثنا اليوم على أن نقرأ في كتاب، وما أدري غرضه تماما من ذلك، على أني أرى أن أثبت بعض أقواله التي يظهر أنها سائدة في أنحاء باريس وأنها رأي أكثرية عظيمة في فرنسا، قال: ... من قرون مضت دخلت حرية الفكر إلى أوربا بفضل كبار العلماء والمفكرين من كتابها، فلم تكد تنته حركة لوثر
8
وكلفن
9
القائمين باسم الدين لإصلاح الدين، حتى خرجت إلى الوجود كلمة رابليه
10
المشهورة التي كتبها على باب ديره «اعمل ما شئت»
Fais ce que tu voudras
ثم انتقل الناس إلى القرن السابع عشر حين جاء الفيلسوف الكبير ديكارت
11
ووضع كلمته «تفكيري دليل وجودي»
je pense donc je suis
وخلفهم من بعهد ذلك كتاب القرن الثامن عشر روسو وفولتير ومونتسكيو، وجاء رنان فبنى للناس حرية الفكر على قاعدة ثابتة، أصبح أقل من القليل من يستطيع أن يسمح لنفسه أمام نفسه أن يعتقد أن الديانات وحي سماوي من عند الله، أو أن الأنبياء يوحى لهم من السماء، إنما النبي رجل توحي له نفسه وكل ما أوحت به النفس فهو مقدس ...
هنا لاحظ الرجل السكوت الذي علانا وما ظهر على ب. من الاستغراب كأنه أحس بأنه كان سريعا في تقدمه أكثر مما يجب حيث رجع فقال:
لأول ما نفكر في النبوة وفي إمكانها باعتبار مجيئها من السماء، تقف أمام عقولنا عوائق كثيرة من العادة والعقيدة، وفي الواقع ليس من السهل التخلص من شيء دخل إلى قلوبنا وتغذت به نفوسنا من يوم أن جئنا على الأرض، كما أن قيام بعض الناس يرفضون النبوات بشكل غير مؤدب حيث يلقبون الأنبياء بالكذابين والمجانين يجعلنا نزداد عطفا على هؤلاء العظماء الخالدي الذكر، وإن من أكبر الحمق اعتقاد أن عدم التدين يقضي برفض ما جاء به الدين؛ إذ ممكن جدا رفض قاعدة أو أكثر والأخذ بالباقي، وما علمت واحدا من العلماء جعل هؤلاء المرشدين سخرية أو لم يقل أن ما جاءوا به مقدس لأنه وحي أنفسهم.
فإذا دخل الواحد منا إلى سكونه وخلا بنفسه وتجرد من كل عصبية لحظة من الزمان رأى أن المذاهب الدينية هي في الواقع مذاهب أخلاقية واجتماعية وضعها أصحابها لمصلحة الأمة التي قاموا بينها، وقد أثبت البحث العلمي أن كل دين يستمد أصوله من السوط الذي عاش فيه.
وبما أن الحقيقة كانت وستبقى إلى الأبد موضع البحث من غير أن يصل إليها أحد، فقد قام جامعة الأنبياء بدورهم كعظماء حقيقية، وغاية ما في الأمر أن منهم أو من أتباعهم من رأى مبلغ شقاء الإنسان المفكر وقلة وجوده خصوصا في ذلك الزمان القديم، فرأوا من مصلحة المجموع ومن دواعي سعادته أن يبقى متمسكا بالعقائد التي وضعوها هم له، لكنهم في ذلك أحبوا الإنسانية حبا جما، وطلبوا إليها أكثر مما تستطيع أن تعطي، وإن تعاقبهم هم واختلاف نظرهم في بعض المسائل وقيام كل بالدعوة لعقيدته حتى الموت ليكفي دليلا على استحالة بقاء العالم في المركز السعيد الذي أرادوا له، وعلى أن العالم سيبقى إلى الأبد مرسحا متنازعا في أيدي الكتاب والفلاسفة والمفكرين.
فسأله ب. لم كل الناس إذن متدينين؟ ولم ابتدأ التدين من أول الخليقة؟ ... إن كنت تريد بالتدين الاعتقاد فلا شك أن الناس كانوا ولن يزالوا أصحاب اعتقاد؛ ذلك لأنه كما أن للإنسان عوائد في نظامه الجسمي جاءته نتيجة تأثير العالم الخارجي عليه كذلك، فله عوائد في نظامه العقلي جاءته أيضا نتيجة تأثير العالم الخارجي عليه، وانسبكت هذه الآثار بالنسبة لأمة معينة في قالب واحد، وصارت عوائد الأمة العقلية التي يسميها الناس بالعقائد، وهي كعوائدهم الأخرى فيما يختص بالنظام الجسمي أو المادي إن شئت، وأما إن كنت تريد بالأديان ما يراد بها عادة مما جاء به الأنبياء عن طريق السماء؛ فإن ما وصل إليه البحث التاريخي لا يمكن أن يهدينا إلى شيء أكثر من أن الفكر والتدين صنوان توأمان، ولا أحسبك تستشهد علي بما جاء في الكتب السماوية لأنها هي موضع البحث ولا يمكن أن يقوم الشيء المتنازع فيه دليلا للاقتناع بصحة ذاته.
2 سبتمبر
من عطية
عزيزي محمد:
ما أعز أخبارك يا أخي! أنسيتنا ونسيت قريتنا؟ أنسيت مزارعنا الواسعة وغدرانها الصغيرة الجميلة وشمس بلدنا، إن كنت نسيتها فإن هذه الأشياء لا تزال تذكرك، ولا أزال كلما جلست إلى جانب سريرك أو مكتبك أو مكتبتك أحس بها مكتئبة لغيابك.
عمتي ر. تنوي السفر إلى الحجاز هذا العام، وبالرغم من أن الوقت لا يزال طويلا فهي تعد معدات هجرتها، وقد كلفتني حين علمت أني سأكتب إليك أن أسألك إن كنت تستطيع أن تشتري لها «زمزمية» من باريس وألحت في ذلك، ولا أفهم سببا لهذه الفكرة الغريبة.
ويصحبها في سفرها أبويا خليل وعمي الشيخ ف. وقافلة تبلغ العشرين من بلدنا ومجاوراتها، وقد أقوم معهم حتى السويس إن لم يمنع مانع يومئذ.
أختي تهديك السلام وقد سرها ما بعثت لها به من الكرت بوستال، وأهل البلد يذكرونك بخير ويسلمون عليك، واقبل تحياتي.
عطية
3 سبتمبر
لقد ظل كلام المسيو ه.ج. يردد نفسه في أذني مذ سمعته، وأعاد أمام ذاكرتي ما قرأته في كتب كارليل (الأبطال) حين وصف الأدوار التي مرت بها الإنسانية في اعتبارها العظماء حيث كانت تجلهم كآلهة أولا ثم كأنبياء وكشعراء وملوكا وكتابا، وفكرت في ذلك كثيرا ولحقني ألم حين رأيت معنى الوحل الجميل على ما كنت أتصوره في هبوط ملك ذي أجنحة بيضاء عظيمة تغطي الكون وهي نورانية فتزيده نورا، يتقلص ليحل محله معنى آخر هو النتيجة اللازمة لأقوالهم ولطول التفكير وللإحساس ساعات الوحدة العميقة بخلوص النفس من الجسم المادي الذي يثقلها ووصولها مجردة تجتلي الحقيقة تطلع على هذا العالم وما حواه وما أحاط به، وهذا المعنى هو الوحي، وصول النفس الكبيرة وقد تجردت عن المادة إلى ما يستكن في جوف العالم الحاضر بجميع أجزائه من الحقائق مما يبعد عليها أن تراه وهي لابسة جسمها محاطة بضجة الكون وعوامل النقص، ومن هنا يدخل إليها أحيانا اعتقاد جازم أن هذا الذي وصلت إليه جاءها من قوة فوقية كبيرة مصرفة للعالم وما فيه، أي جاءها من الله.
لكن هناك مسألة عرضت أمامي جعلتني أتردد أمام فكرتي، تلك هي أنه لو فرضنا صحة ما تقدم فهل من مصلحة الإنسانية إذاعته؟ وهلا يحسن إبقاء الناس في سكونهم النفسي والسكينة أساس السعادة! أم أنا نخرجهم إلى تيهاء الحيرة التي يضرب فيها الأكثرون ممن يذرون العقيدة الدينية جانبا، وما دامت الحقيقة المجردة غير ممكنة في العالم والوصول إليها مستحيل، فالحالة الموجودة خير من غيرها، وترك الناس كما هم أفضل ما يمكننا عمله لهم.
غير أن ذلك يخالف الطبيعة البشرية من الميل إلى الحركة، وقديما قام العظماء نبيا بعد نبي وعالما بعد عالم وفيلسوفا بعد فيلسوف، ولكل آراؤه، ويعتقد أنها أقدر على إيجاد أكبر حظ من الخير على الأرض، ولما انقضى عصر النبوات لم ين المفسرون عن الاختلاف وإظهار آراء شخصية لهم، وإذن فمحال أمام سير العالم الدائم أن نبقى وقوفا، فواجب علينا إذن أن نسدد خطى السائرين ما أمكن ونرشدهم إلى أقوم سبيل وأقربه إلى المصلحة.
وما هو هذا السبيل إذن في الوقت الحاضر ، ذلك هو السؤال الذي يجيء أمامي والذي يسبب الحيرة عندي، وأراني أميل لرأي القائلين بوجوب الإصلاح فيما عندنا خصوصا أمام هذه المدنية الأوربية المادية التي تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه، ولكنى لا أستطيع إلى الآن أن أرسم بشكل أعده طيبا الطريق الذي يجب أن نسلك للوصول إلى هذا الإصلاح.
5 سبتمبر
جمعتني صدفة لم أكن أتوقعها بصديقي ع. واتفقنا على أن نمضي النهار في روبنصن، ولقد قابلنا ب. في الطريق ونحن ذاهبان إلى محطة اللكسمبور ولكن أشغالا خاصة عنده منعته عن أن يجيء معنا.
أخذنا القطار الذي كان خاليا إلا من قليل، وما كاد يخرج بنا من سردابه بين أراضي باريس حتى تميزت السماء الصافية وبعثت الشمس بنورها من النوافذ، وكلما تقدمنا في الطريق زادت المحيطات بنا تميزا وقامت أشجار قليلة الارتفاع وحشائش وشجيرات ذات أزهار تحيط بالطريق المرتفع وعن الجانبين منخفضات، وهنا تمتد المزارع الواسعة تغطيها أنواع الغلال.
عمدنا من محطة روبنصن إلى مطعم أخذنا فيه غذاءنا، ثم قمنا فاستأجرنا عربة وخرجنا بها، فلما خلالنا الجو واعتدلنا على الطريق رحنا بها عدوا تخترق بنا منا بين الاشجار والغابات مرة ثم بين الغيطان أخرى، وأحسسنا بأننا قد ابتعدنا وأن قد ضاع من زماننا أكثره فقفلنا مسرعين نكاد نطير، وفيما نحن كذلك لحقنا سيدة وفتاة على دراجاتهما فلما بصرتا بنا أسرعت الفتاة أمامنا وتخلفت السيدة عنا فلم نزد إلا إسراعا، وكلما ألهبنا جوادنا بذلت الفتاة من جهدها حتى لا نلحقها، وبقينا في مطاردتنا هذه حتى أحسسنا بالسيدة تنفذ هي الأخرى كالسهم وتنضم للفتاة وتنجوان في طريق ضيق لا قبل لعربتنا به، ثم يشيران لنا برأسيهما تحية الوداع.
ظللنا بعد ذلك في سيرنا والطريق ينحدر أمامنا حتى إذا كان في منتهى انحداره تجلت لنا روبنصن تتدرج مرتفعة قليلا كأنها سفح أخضر من سفوح الفردوس، ويقابلنا ما بين آونة وأخرى فتيات من الريفيات سكان البلد وقد أعطتهن الطبيعة إزاء ما حرمتهن منه من اجتماع المدن ولذائذها صحة ونشاطا.
بعد أن فرغنا من العربة أخذنا حصانين على عزم أن نستبق، ولكن لم نبتعد حتى نزل مطر شديد احتمينا منه تحت الأشجار ورجعنا لأول ارتفاعه أدراجنا وقبعاتنا وملابسنا تتصبب، وصعدنا إلى قهوة أقيم فيها مرقص آملين أن نجد فيها موئلا حتى يزول ولو بعض الشيء أثر الماء الذي بللنا، والموسيقى تصدح بنغمات قوية فتقوم الأوانس ويخلعن أرديتهن ويدرن راقصات فيعطين المكان سرورا يعوضه عن قتوم السماء وعبوس الجو.
انتظرنا مدة وقوفا على الباب نرقب الراقصين والراقصات، ومن بينهن نحيفة القوام يونانية الأنف زرقاوية العينين متوردة الخد هي زهرة الجمع، وكأن قد كبر عليها أن تراقص أي شاب، فأمسكت بيديها فتاة صغيرة وأخذت ترقص معها، وإلى جانب الحيطان قد وضعت طاولات يبقى أكثرها خاليا مدة الرقص ثم يرجع إليها أصحابها آخر كل دور، وأنصاص البيرة موزعة عليها جميعا وكثيرة منها ما كان يحمل نصين وثلاثة.
أخيرا تسنى لنا أن نجلس، وجاء الجرسون يسألنا عما نريد، ولم يكن أمام ما ابتدأنا نشعر به من البرد الذي وصل إلى أعضائنا محل للاختيار.
فطلبنا شايان من غير تردد والتهمناهما قبل تمام الدور الذي كانوا فيه. فلما انتهى وأخذ الكل مجالسهم جلس إلى مقابلنا فتاتان لم تنتظرا حتى كلمتانا وعلمت من خلال الحديث أن اسم إحداهما ل. واسم الأخرى ل. أيضا، وإذا صدق ظني فهن من الكثيرات اللائي يردن من أي شاب صديقا.
أطالت صغراهما الحديث معي، هي حمراء الوجه ذهبية الشعر متقدة النظرات، تلبس فستانا فستقيا تنم دنتلة الصدر منه عن عنقها وجسمها الأحمر اللون هو الآخر، وزادت حركة الرقص دورة دمها فزاد احمرار وجهها وارتعدت شفتاها حتى لكادتا تحاكيان في حركاتهما الشفاه الشهوانية المولعة، فلما دقت الموسيقى من جدير تركتنا وأختها وقمنا نحن راجعين إلى باريس، وقد أحببنا من ذلك اليوم كل شيء حتى مطره الذي كاد يجيء على قبعاتنا من غير أن يسأل عن الثمن الغالي الذي دفعناه فيها.
7 سبتمبر
في الكوميدي فرنسير (التياترو الفرنساوي) لحضور تمثيل رواية (اندروماك)
12
واندروماك هي زوجة (هكتور) قد أخذها (بيروس) أسيرة هي وولدها في حرب (التروا)
13
بعد أن قتل زوجها، فلما حلت عنده أحبها بالرغم من وجد (هرميون) الموعودة بزواجه التي تحبه من كل قلبها، ويحب هرميون (أورست) سفير الأثينيين إلى ملكهم بيروس، وقد جاهد هذا الأخير ليصل إلى قلب أندروماك بالتزلف مرة وبالتهديد أخرى، وهي صلدة أمامه ترى في خيانة ذكرى هكتور المقتول ما يهيج ضد محبها كل عاطفة في قلبها، ولكنها تقع في أشد الحيرة حين يخبرها بأنه سيقتل ابنها ويرضي الأثينيين ما دامت هي مصرة على عنادها، وتبكي وتستنجد قوات السماء أمام هذه المصائب النازلة بها، أخيرا تصمم على أن تقبل يد بيروس حتى تأخذ من الأمان لولدها لتقتل نفسها بعد ذلك فتنجو هي من الخيانة وينجو ابنها من الموت. ولكن أورست لا يكاد يسمع بهذه الحادثة حتى يجري لمحبوبته ليرى حالها، فتطلب منه أن يقتل بيروس، ولا يكاد ينتهي عقد زواج بيروس حتى يقتله أورست فتقتل هرميون وتبقى اندروماك ويبقى ولدها على رأس الأثينيين.
وجدت قدرة راسين في هذه الحوادث البسيطة مجالها، ووجد المؤلف من الممثلين نعم المفسرين، وقد استعبرت مرارا أمام جزع اندروماك التي قامت بتمثيل دورها مدام سلفن، هي أرملة وأسيرة وأم سيقتل ولدها إن لم تخن عهد زوجها، كل ذلك في آن واحد، تريد أن تبقى على عهد زوجها فيروعها أن تتصور ابنها يساق للقتل ويهزها إشفاق الأم وحنانها، وهكذا تتقلب تحت مؤثرات عواطفها وتبكي أمام الملك القاسي فتستبكي الحاضرين.
هذا الصنف من الروايات التي ظهرت في القرن السابع عشر قرن راسين ومليير وكورني هي ما يسمى (بالكلاسيك)، وتصف إحساسات النفس بلغة دقيقة سهلة مكتوبة في شعر رقيق، ولم يأت فيها بعد وصف الطبيعة، ولا الإحساسات المختلطة التي تجيء مع المدنية المختلطة مما قام به الدرام، والرومانتيك ولا شك في أن سبق شكسبير لهذه المعاني ولتلك الأنواع ما يشهد بعظمته.
16 سبتمبر
زرت متحف اللكسمبور هذا الصباح وهو على صغره خفيف الروح، وقد حوى من الصور والتماثيل أبدعها وأكثرها إتقانا، وكل ما فيه من ذلك حديث وأكثره من عمل الفرنساويين، هنا حقيقة يحس الإنسان أنه محوط بالأحجار الصامتة كأنه بين عالم ناطق بليغ اللسان، وهذا الرخام الأبيض قد حوى فيه خيال المثال الذي نحته وصورة تتلألأ على سطحه كل المعاني التي أراد، فإذا ما سرت بينها خيل لك أن كلا منها يرمقك بنظرة أرادها صانعه أو هو لاه عنك بمحبوبه الذي يحدق به أو بأحلامه التائه في لذاتها الخالدة لا يلفته عنها أكبر ما في الكون ولا أقواه.
وما أنسى لا أنسى صورة للعذراء في يدها زهرة هي قائمة، وتنم ثيابها الرومانية عن أثداء شابة ناهدة وعن قوام دقيق جميل، عيونها المسبلة الجفون ناعسة عن العالم وما فيه، وكلها مثال الجمال التقي الخالد، وصورة سلامبو التف حول جسمها العاري ثعبان تنظر إليه بعيونها الرخامية الخالية كل نظرتها العشق الهوى، وذراعها ملفوفان يحكيان عن خصب ونعمة، وصدرها المزدان بثدييها الناهدين ينساب دقيقا إلى خصرها ثم يسلم نفسه إلى أردافها البارزة من غير مبالغة ليرتد ثانيا مع فخذيها، ولينسحب ساقاها جميلين حتى ينتهيا عند القاعدة بأصابع هي الأخرى مثال الجمال والدقة ... أمام هذا التمثال الناطق من الرخام الأخرس وقفت مأخوذا به تائه بالفكر فيه غير ذاكر شيئا عن سلامبو التي يمثلها، وأعجبت بتركيب جسم الفتاة وهذا الانحناء الدقيق بين صدرها وردفها إلى حد جعلني حين نظرت عن يميني وبصرت بتمثال أخر يحكي غير هذا النوع من الجمال أن أرد الطرف وأرجع لتقديس سلامبو البديعة القوام الساحرة النظرات. ... وأخيرا التفت إلى اليسار، فإذ تمثال آخر يسترعي النظر قد نقشه المصور ليمثل به السحر، والفتاة الشابة ترفع بيديها غطاءها وتنظر بعيون وسنى من تحته، إنها هي الأخرى لتحوي من الجمال في جسمها ومن الدقة في قوامها ومن الإتقان في صنعها ما يأخذ باللب، ولو أني لأذكر كل ما في المتحف وسعني الوقت، ولكني لا أقدر على نسيان تمثال (كرو) عن الشباب والحب، ولا تلك النظرات العاشقة التي تنظر بها بنت العشرين (لكيوبد) ملاك الحب، كذلك لست أنسى طهارة هذا الصغير في نظراته ومقابلته ابتسامه الفتاة التي تكن كل معنى سنها وكل ما يدور في مخيلتها وكأنه لا يفهم ما تريد ... لا ولا صورة أبن الطريق البائس قد وضع يده على كتف ولده وسار الأعمى والصغير يطلبان الإحسان، وعلى صدر الأب مكتوب فيه «رحمة بي» ... ووجه الولد ينم حقيقة عن بؤس وألم شديد.
هذا في التمثيل، أما في التصوير فلا أنسى صورة (جيوفروا) عن عيادة المريض في المستشفى وقد جلس أب إلى جانب سرير ابنه يحدثه، والابن شاحب والأب مكتئب، وعلى مقربة منهما سرير آخر يودع فيه شخصان بعضهما ويقبل الواحد صاحبه، صورة تجسم فيها الأسى والحزن والحنان والحب.
صور غير هذه متقنة للغاية تدل على مهارة القوم في الفن، وتشهد بأن الغرب ابن اليوم كما تدل آثار الشرق على هرمه ومشيبه، صور وتماثيل لم تترك حالة من حالات الإنسان النفسية إلا مثلتها، ولا علامة من علامات جماله الجسمي إلا أظهرتها كما أخذ الخيال فيها دوره هو الآخر، وتدل هذه الصور بتنوعها وإطلاق اليد والحرية فيها على تحلل الغربيين من قيود كثيرة لا تزال مقيدة بها النفس الشرقية، مما يأخذ اسم الفضيلة والحياء، وكأن هؤلاء الناس يريدون أن يستغلوا كل ذرة مادية نفسية وأخلاقية من ذرات الوجود وما يدخل فيه من إنسان وحيوان وأشياء وأرض ونبت وشجر وماء وسماء، وكل ما يمكن أن يجول بالخاطر أو يسرح إليه الخيال.
ويظهر أن على مثال هذه الحرية في الفن ينسج الغرب في كل شيء، والنفس المحاطة من كل جانب مظاهر الحرية تنشأ وتحيا وتموت حرة، والنفس الحرة قديرة على كل شيء، قديرة على المعجزات.
17 سبتمبر
صديقي عطية:
لا أجد عذرا أقدمه عن تأخري عن الكتابة إليك إلا أن أقول إني كنت أبحث عن زمزمية لعمتك ر. وللأسف قد قصر باع باريس دون طلبي، بالرغم من أنه قد عود الناس أن لا يقصر دون طلب.
ابتدأ الجو تداخله البرودة، وصرنا وها نحن على باب الخريف نمتع من غروب الشمس بأبهج منظر ، ولقد كنت في اللكسمبور من ساعة مضت أرقب القرص الأحمر القاني وقد انسابت أشعته مستسلمة تنطرح فوق هام الشجر الذابل وتتوج منه مشيبه، وتلك الفروع تغادرها أوراقها لتسلمها جرداء إلى قسوة الشتاء تفتح أذرعها لوداع الشمس ولوداع النهار.
وأحاطت بالقرص سحب تطوقت منه بطوق من الذهب وانبعث على السماء الشديدة الزرقة سكون مهيب يشع بما دخل نفس الموجودات حين أحست أنها ستستقبل الليل، وبقي النهار يسقط رويدا رويدا مع الشمس وراء الشجر وانعكس على الشرق من النور ما ذكر بالصباح، وأخيرا أفل ذلك كله وأعلن الليل حكمه وسلطانه.
هذا ما عندنا، أما أنتم فمن غير شك لا تزالون تحت سماء صافية لا تشوب زرقتها سحابة وتأتيكم ساعات الغروب بنسيمها العذب.
بالرغم من إني أحسدكم على هذا فأني راض بما عندي قانع بما يحيط بي، ولعلكم أنتم جميعا على ما تحبون.
محمد
حاشية: صديقي ب. يهديك السلام ويطلب إليك متى ذهبت إلى القاهرة أن تهدي السلام إلى جميع إخوانه ممن معك.
18 سبتمبر
لست أستطيع أن أصف تماما حال المسيو ه.ج. النفسية، وإن اختلاف مظاهرها وتلك الحيرة الدائمة التي هي فيها والانتقال من التسليم بشيء إلى الشك فيه إلى التسليم بضده بسرعة غريبة ليدعو للدهشة، ويحس الإنسان حين محادثته أن نفسه في سياحة مستمرة، وتقع من حين لآخر على رأي من آراء العلماء أو الكتاب، وتحسب أنها سكنت إليه ثم لا تلبث أن يعتريها الشك من جديد، وتظل كالنحلة تنتقل من زهرة لتقع على زهرة، وأغرب من هذا شديد تعلقه بالنظر فيما يخص المسائل الدينية وبالبحث عن مقدار ما تقدم من السعادة للعالم، وبالرغم من شديد اقتناعه بأن الديانات كلها إنما هي من وضع الأنبياء، فإن الإنسان ليقرأ في عيونه التائهة النظرات وعلى جبهته الهادئة من معنى السروح شيئا كثيرا.
كان يحدثنا اليوم في هذا الموضوع، ولقد عزا الديانات إلى أصل قديم هو ما ركب في النفس الإنسانية من الضعف وحاجتها أن تلجأ ساعات الشدة لسند ولو موهوم يعزيها عن حالها ، قال:
وأي منا في هاته الساعات حين يرى العالم تخلى عنه والصدف جاءت على عكس مقصوده، وجلس هو مهموما يريد مناجاة ما أمامه، فإذا وجه الوجود عابس، وإذا الحوادث كلها مقطبة الجبين، أي منا في هاته الساعات لا يحس بالضعف المركب في نفسه يريد أن يستولي عليه ويخرجه من طوقه ويسوق إلى أعماق قلبه اليأس في من الحياة يأسا قاتلا، فليجأ إلى صدر حنون يوجده ولو من مجرد خياله، ويسميه بالاسم الذي يحلو له ويروق في عينه، يسميه الطبيعة إن كان من عشاقها، ويسميه نجمه إن كان من عشاق النجوم، ويسميه شيطانه إن كان من الشعراء، ويسميه إلهه إن كان من المتدينين أو من عامة الناس. فإذا ما التجأ إليه وجد منه ما يبعث إلى قلبه قوة ويقينا يعوضانه عن الضعف ويعزيانه عن المصائب التي وقع فيها ويعطيانه أملا طويلا عريضا في هذه الحياة، بل وفي حياة أخرى يصورها لنفسه خالدة بعد موته هذا الخيال العزيز المحبوب، هذا الإله الذي يمد في آمالنا ويخفف من الآمنا. هذا الموجود الذي وضعناه نحن على ما أردنا، والذي أعطيناه من الصفات ما يكفي لسد عظيم أطماعنا إنما يستمد أصله من ضعفنا وصغرنا أمام الطبيعة العظيمة الهائلة.
إني لأحسب الناس قد نجحوا كثيرا في عملهم هذا، وقدموا حقيقة عزاء ذا قيمة للنفوس البسيطة والممتلئة باليقين، ولست أشك لحظة في أن كثيرين من الذين يعانون شقاء العيش وبؤس الحياة إنما يخفف عنهم هذا الويل القاتل ما يعزيهم به الدين عن آلامهم وما يسوقهم إليه الطمع الإنساني من الاعتقاد بحياة أخرى، وإن امرأتي الشديدة اليقين في عقيدتها الواثقة تمام الثقة من إيمانها لتحمل في صورها قوة لا تجدها كثيرات بل ويضعف دونها رجال كثيرون، ولقد شاهدتها مرارا ساهرة إلى جانب ابنتنا الصغيرة في بعض أيام مرضها وهي أقل مني جزعا لأنها أكبر مني يقينا.
لكن، أسائل نفسي دائما: هل يحسن بالناس أن يجعلوا عزاءهم في أوهام وأضاليل؟ وألا يكفي للقيام بمأمورية الدين الذي يجعلنا نطمع بالخلود أن يهزأ الناس بحياتهم القصيرة، ثم أرجع عن هذا حين أرى أن الحياة أوهام وأضاليل، فليس حمقا أن نتعزى عنها بأوهام وأضاليل ...
وفي مثل هذا القول استمر المسيو ه.ج. وخرج أخيرا بنتيجته المعتادة، أي بأن لا نتيجة، وأن هذه الحيرة التي تخالط نفسه لتجعله محببا وخفيف الروح مهما كان في قوله مما يصادم أرسخ العقائد، وقد علمت أن حاله هذه سبب مستمر لمناقشات طويلة ذات ذيول تحدث بينه بين زوجته التي ربيت بين آباء من القسيسين ونشأت نشأة دينية، ومن غير أن أسمع هذه المناقشات فإني شديد الاعتقاد بأن المسيو ه.ج. المحبوب من زوجته يسلم لها أحيانا كثيرة - ربما أغلب الأحيان - لكنه يترك دائما وفي آخر لحظة كلمة شك تثير نفس مدام ه.ج. وتترك له مجالا ليستعيد المناقشة من جديد لأقل سبب.
على كل حال فإن كلامه وحيرته مملوءان بالمعنى، ويستدعيان تفكيرا عميقا بالرغم من شديد معارضتنا له أحيانا في نظرياته.
19 سبتمبر
أسفر النهار عن شمس جميلة تملأ بنورها الجو الصافي وتبعث إلى الطقس الباريسي الحزين ابتسامة تنعشه، وأسفر أيضا عن الكثيرين الذي سيتركون باريس ممن امتلأت بهم عربات الأمنيبوس التي كنت أرقبها من شباكي تمر محملة قاصدة محطات سكك حديد الضواحي، وأسفر عني أنا جالسا في مقعدي أتثاءب من حين لآخر، وأحول نظراتي التي بقي بها أثر النوم ساعة من الزمان جهة الشارع القليل الحركة والذهاب والجيئة إلا ساعات مرور عربات الأمنيبوس.
أخيرا طلبت طعام الإفطار، وفيما أنا أتناوله دق الباب ودخل ب. يدل شكله ونظراته والاستغراب الذي علاه حين رآني في مقعدي على أنه ينوي بنا أن نمضي الأحد بعيدين عن المدينة، وأجبت أنا على كل هذا النشاط من صديقي بتثاؤب طويل ثم رجعت إلى طعامي من غير أن نتبادل أثناء ذلك كله كلمة، وأخيرا قال: أما أمرك غريب! أتريد أن تقضي نهارك كله في غرفتك والشمس أشد ما تكون إغراء على النشاط والحركة. - نهارك سعيد، ماذا أعددت لنا؟ - وأنا عارف.
واتفقنا بعد مناقشة قصيرة على أن نذهب إلى انجان لي بن (انجان الحمامات).
نزلنا متأخرين طبعا - لأنا لم ننزل إلا بعد أن لبست أنا هدومي - وكنا في انجان بعد منتصف النهار بقليل، فأخذنا سمتنا من المحطة نريد أن نبحث عن مطعم نتناول فيه غذاءنا، فقابلتنا البلد لأول ما نزلنا بشوارعها المتسعة تقوم الأشجار الباسقة عن جانبيها وقد فرشت أرضها ببساط ذهبي من أوراق الخريف التي ابتدأت تتساقط بالرغم من بقاء الأشجار بخضرتها القائمة بعض الشيء، يصفر الريح في ورقها من حين لآخر منذرا بفصل الموت القريب أجله، وامتدت عن يميننا بحيرة أنجان تتلاعب أمواجها الخفيفة بنور الشمس تقلبه على وجوهه، وبعض المنازل تعلق بحديد أسوارها شجر العليق وامتدت على جدرانها ست الحسن فكستها خضرة عابسة، يشتمل ذلك كله سكون خافت لا يقطعه أحيانا إلا دوي الريح أو صدى عصفور ينط فوق قمة الشجر.
سرنا جنبا لجنب ونحن سكوت مأخوذان بهذه المناظر البديعة المتنوعة إلا عن كلمة إعجاب ينطق بها الواحد منا حين لا تستطيع نفسه إلا أن تفيض بذلك الإحساس الذي ملأها، وما أسرع ما تجد من صاحبتها ما يردد صداها! صدى يضيع تحت قباب الأشجار ووسط الهواء العظيم.
ثم وصلنا إلى مطعم فندق دخلناه وأخذنا فيه طعامنا، ثم ملنا إلى صالون الفندق حيث أخذنا قهوتنا وحيث بقينا حتى الساعة الثالثة من بعد الظهر.
خرجنا والشمس لا تزال تحكم البسيطة بنورها وتتوج هامات الأشجار بشعاعها، وينطرح ضوؤها على صفحة البحيرة، فأخذنا قاربا وأمسك كل منا مجدافين وسرنا حتى بعدنا عن الشاطئ.
ب. يريد أن يذهب يمينا وأريد أنا أن نذهب يسارا، هنا احتدم جدال وكل الفصل فيه لقوة الأذرع وجعل كل يجر إلى الناحية التي يريد بعزم ما معه، والقارب المسكين يرقص فوق الماء مرة يمينا وأخرى شمالا ولا يتقدم خطوة إلى الأمام، ثم تركت مجدافي مرة واحدة فإذا القارب يدور حول نفسه، ثم يشرد بنا إلى الشاطئ، وكم لزمنا معا من الجهد - القليل طبعا لأنا كنا نضحك - لنرد هذا الشارد إلى طريقه، وبهذه الحركة التي جاءها القارب بعد أن أخذ بخناقه الضيق من وقوفه انفكت عقدة عنادنا وسرنا إلى الأمام ودخلنا مع جماعة المجدفين.
وفيما نحن في حديثنا تسرب القارب عن غير علم منا بأمره إلى جهة الشاطئ ... ومرة واحدة ... إذا هو ممسوك في سنار ألقاه صاحبه ليصيد به سمكا فلم يجد أضخم من هذا السائر على غير هدى، ولولا أنا قطعنا الخيوط ونفذنا لدفعنا غرامة خمس فرنكات وربما أكثر ثمن السنار الذي أتلفنا.
ثم لم نكد نتوسط البحيرة من جديد حتى إذا سحاب يموج به الجو ويحجب الشمس، ومطر رفيع يناغش سطح الماء ويناغش رؤوسنا العارية، وإذانا من غير مطريات يلفنا الماء من فوقنا ومن أسفل منا وسقتنا السماء من نعمتها ما ابتلت له هدومنا.
وأسرعنا بالقارب إلى منزله ولكنا لم نبلغه حيت اخترق الماء ثيابنا وارتعدت لبرده عظامنا، واضطررنا لأن نكن هناك في الكازينو ونأخذ من الشاي ما يرد عنا قسوة البرد.
ولولا هذا المطر الذي عاكسنا اليوم كما عاكسنا يوم روبنصون لما خرجت بالقارب قبل المغيب، لكن!
22 سبتمبر
تحيط بي أشياء كثيرة تحوي الجمال والنضارة وتتمتع بها كل حواسي ويصل صداها للنفس فيهزها طربا، فأشجار البساتين وحفيف أوراقها وما يحيط بها من الزهر الحسن التنسيق وما تظلل من الحشائش الخضراء ومن الأزواج المتحابة، وما حول ذلك كله من الحركة الدائمة التي تذهل النفس عن كثير مما يقع إلى جانبها، لكن هناك شيئا يصل صداه للنفس بلا واسطة ويقع عليها فيترك فيها أثرا شديدا، ذلك هو بؤس الإنسانية.
حيث تسير ترى وجوها تنم عما يقع بها من الظلم، عمالا وعاملات لا يجدن ما يكفيهم ضروريات الحياة، مصابين بتلك الوخزات التي لا تهدأ يد الحوادث عن إيصالها لبني الإنسان، مشردين لا يجدون مأوى وينتظرون من حين لآخر أن يقعوا في يد العادلة القاسية، مرضى وعجزة يدعو بؤسهم لشديد الألم من أجلهم، فتيات تاه عنهن طريق الكد وأوقعهن سوء التدبير فأرقن عرضهن وجعلنه متجرا، كثيرون غير هؤلاء سقطوا في سعيهم وخابت آمالهم فيهب عليهم من نسيم البؤس ما تعبس له وجوههم وتتقطب جباههم وتندى عيونهم فتهون عليهم العبرة وقد خنقتهم زمنا ليس بالقصير.
هل يستطاع تخفيف ذلك الشقاء عن الناس؟ هل يمكن أن يطرد البؤس من الأرض؟ هذا ما جاهد له كثيرون ولم يبلغوا كثيرا مما أرادوا، وأحسب أنه ما دامت المدنية الحاضرة مدنية الطمع والشره للمال حاكمة فوق الأرض فمحال إخراج الناس من بؤسهم وعبث مطاردة الشقاء فإنه كامن في تركيب هذه المدنية ولا يفارقها.
25 سبتمبر
كنا نتناول طعام الغذاء في المطعم وكانت معي «الجريدة» فأمسكت بها الخادمة التي اعتدنا أن نأكل عندها وجالت بصرها فيها وقالت إنها لا تعرف كتابتها، فقلت مازحا: تلك كتابة الإله الرحيم. (Le Bon Dieu) .
أجابت: أنا لا أعرفه ولذلك لا أعرف كتابته ... ثم قالت متهكمة: إنني ما رأيته قط، ولقد أردت فأوصدت في وجهي أبواب، أفرأيته أنت؟ - نعم رأيته. - إذن فهل تتكرم بأن تحدث معرفة بيني وبينه ... إلخ.
ليست هذه الحكاية بذات الأهمية في نفسها، ولكنها جاءت عقب حكايات أخرى من مثلها وتدل على روح عامة في البلد، كان المسيو ك. وهو شاب في الثانية أو الثالثة والعشرين ليسانسييه في الحقوق يقول حين سألته عن دينه: «لقد ولدت لا أعرف إلها»، وإن أباه وأمه على هذا، وإنهم يعتقدون أن حبائل الكنيسة كلها شراك ممدوة للكسب، ولعله يبالغ في ذلك خصوصا بعد الذي علمته من الأعمال الطيبة التي يقوم بها رجال الدين على ما أخبرتني مدام ه.ج.
مسألة أخرى من هذا النوع، أنا كنا أول الأمس في قهوة فجلست إلى جانبنا امرأة وحادثتنا، وما أسرع ما وقع الحديث على الدين وسألها أحد الحاضرين عن الإله
Le Bon Dieu
فقالت إنها لا تعرفه، وسألت سؤال خادمة المطعم: هل رأيته؟. ثم قالت: «تعرف ما هو مكتوب على إطار القطعة ذات الخمس فرنكات؟» أجابها صاحبنا: نعم «يحفظ الله الجمهورية الفرنساوية»، فقالت: هاته القطعة هي الله الذي يطلب منه أن يحفظ الجمهورية وكل فرد من الأفراد، أترى لو أنك لا درهم معك وذهبت إلى الأوتيل هل أنت إلا ملاق من يطردك.
الأكثرون غير هؤلاء ينطقون بهذا المعنى، تلقن لهم هذه العقيدة المادية كما يلقن الدين عندنا للعامة، ويبقى مغروسا في نفوسهم محتلا لها محال زحزحتها عنه.
أسائل نفسي: ولم لا يتركون هذه الفكرة على الإطلاق ولا يتعبون بها أنفسهم وقواهم على غير جدوى ولا طائل؟ لم هذا التعلق بعقيدة إلى حد إجهاد النفس من أجل إثباتها وإقامتها مع أنها لا تصل إلى نتيجة عملية مطلقا؟ إن وجدت الإله كما يقول الدينيون أو لم يوجد كما يقول الملحدون فما هي نتيجة وجوده أو عدم وجوده في عالمنا الحاضر المحكوم بالقوانين والذي لا يعتدي فيه الواحد على الآخر لا طيبة منا وإحسانا، ولكن حتى ينال من الآخر أن لا يعتدي عليه في نفسه وملكه.
أحسب أن لذلك سببا؛ ذلك أن النفس الإنسانية التي ترى أمامها خيالا من الماضي والمستقبل يرجع بها إلى تصور لا نهايات الأزل والأبد تحس كأنها في الساعة الحاضرة على سفينة في بحر لا حدود له، وتحس أنها هالكة لا محالة إذا هي لم تتبع خط سير تعتقده يصل بها إلى غاية معينة ذات حدود هي الخلود الذي ترجو بعد الموت والجزاء الذي تنتظر عما قدمت، هذا البقاء المتضامن من الأزل إلى الأبد وهذا الخلود الدائم تمثله النفس الإنسانية بصورة هي ما يسميه المتدينون «الله»، ومتى وجد إثباته على هذا الشكل لم يكن من محيص أن يقوم على الجانب الآخر جماعة ينفون هذه الصورة، إما لقصر في خيالهم وإما لأنهم أكثر إحساسا بالواقع ويفضلون العيش في الحاضر والمتاع به على هذا الخلود المأمول.
هذا هو السبب في انتقال الإنسانية من جيل لجيل تتسلل فيها مرة فكرة الإله القديم الخالدة، وأخرى بقاء الروح بقاء أبديا، وفي الوقت عينه في قيام ملحدين على أشكال وأنواع هم الآخرين، ومن هؤلاء ومن أولئك صورت الأفكار التي دخلت مع الإنسانية في تركيبها العام، وأصبح ضروريا في النفس الإنسانية أن تكون ذات اعتقاد ولو في لا شيء، ومهما كان من الناس من يقول لا أدري فإنه يعتقد بلا أدريته اعتقاد المؤمن بإيمانه ويمرح من هذه اللا أدرية في خيال ليس أقل امتدادا من الخيال الذي يمرح فيه المتدين وإن كان من نوع آخر.
28 سبتمبر
في عالم القبور ...
دخلنا البانتيون مقبرة العظماء مرة أخرى، وهبطنا من سطحه إلى بطن الأرض حيث القبور تضم رفات الأموات، مكان مظلم يقابلك لأول ما تدخله ريح رطبة وهدأة المكان وضيق مساربه فتشعر كأن شيئا يضغطك وكأنك انتقلت إلى العالم الآخر حقيقة، وأول ما يقابلك من القبور قبر جان جاك روسو أبي الحرية وصاحب قرآن الثورة الفرنساوية، وعن يمينه قبر فولتير شيخ كتاب القرن الثامن عشر، ثم تأتي بعد ذلك قبور فكتور هيجو والآخرين، وعند نهايتها تصعد من هذا العالم الآخر على درج ضيق يخرجك إلى حيث حركة الوجود الدائمة.
الأحد الماضى - أول الأمس - كنا في ضاحية سان دنيس ودخلنا مقبرتها، سرنا في طريق تحيط به قبور العائلات وكتب على بعضها: هنا دفن فلان فلندع الله له، وقد كان يدخل المقبرة من حين لحين رجال ونساء يحملون باقات الزهر ليضعوها فوق القبور، بين هؤلاء الداخلين شباب وفتيات حملتهم الذكرى إلى هذا المكان الخالي الهادئ يريدون أن يناجوا تلك الأرواح التي سعدوا بقربها زمنا ليس بالقصير، يستعيدون خيال تلك الساعات اللذيذة فيحزنون لفنائها وتظهر على وجوههم أمارات الألم لما لعزرائيل من السلطان الجائز القاسي في التفريق بينهم وبين من يحبون، ومن بينهم عجائز لا يدرون متى يلحقون بأهل ذلك المكان، وهم يهرولون إليه أو يكادون وكأنهم ضجروا ذلك الانتظار الطويل بين ضجة العالم وضوضائه، فهم يطلبون المقابر ويستعجلون إليها السبيل.
كم بين أولئك العظماء سكان البانتيون وهؤلاء المقبورين في مقبرة سان دنيس من الفرق، كلهم يرقدون في هدأتهم على بساط مساواة، وإنما خلف الأولون من الذكر ما يظل رنينه في أذن الدهر ما كانت له أذن واعية ومن الأثر ما يحيط بالعالم كله فالعالم كله يزورهم، وخلف الآخرون وراءهم قلوبا من أهلهم وأصدقائهم تحزن عليهم ما بقيت حتى تشاركهم مصيرهم .
29 سبتمبر
لو أن كل الليالي تمضي كما مضت ليلتنا هذه لما شعرنا بالحياة من شدة السرور ... كلا، لا أستطيع أن أعبر عما أريد، وحسبي أن أقول إنه يزيد على كل ما يمكن تصويره به، هذا المكان المملوء بالدخان وبالموسيقى وبالضحك وبالناس وبالمشروبات والذي يطفح سرورا، هؤلاء الجالسين أزواجا وجماعات من الشبان والبنات وكلهم يضحكون، وهاتيك الراقصات رقصا غير مرتب ولا منتظم، هذه الضجة التي أنستنا كل شيء وأنستنا وجوه البنات العكرة وأشكالهن البائسة.
هذا كله كان في تافرن البانتيون.
بعد أن تناولنا طعام العشاء ذهبنا إلى قهوة البانتيون لنأخذ قهوتنا، وجلسنا أربعا على مقاعد قريبة من محل الموسيقى، وقضينا في مكاننا نتحدث ونسمع وننظر لما حولنا حتى الساعة الحادية عشرة، ولقد كان بجوارنا رجل وامرأته تبين لنا من حديثهما أنهما أغراب من بولونيا، وأنهما قضيا في باريس أسبوعين سرا بهما كل السرور، وأمامنا صف من البنات وقد جلسن كأنهن التماثيل لا يتحركن إلا أن يمر بهن شاب ينظر نحوهن ويبسم إليهن فتطوق شافهن الحمراء بالرغم منها ابتسامة معناها «تفضل يا سيدي»، فإذا مالت به نفسه إلى ناحيتهن واختصته واحدة منهن رجع إلى الباقيات شكلهن القديم في حين تجاهد هذه لتحادث صاحبها، وفي الغالب يضحك هو منها ويضطرها سكوته لأن تسكت وتكاد تكون كصاحباتها، ووراء هذا الصف من البنات قامت أعمدة تقوست فوقها أقبية تحمل رسوما، ولون الكل يبين عليه القدم ويزيده انتشار الدخان قدما.
لما جاءت الساعة عشرة نزلنا إلى التافرن.
مكان ضيق ومزدحم، أول ما تدخل تقابلك صالة يشغل أكثر من ثلاثة أرباعها منضدة طويلة عليها رخامة وقد وقفت وراءها عمال المكان ووقف أمامها الشبان والبنات بأشكال مختلفة، فعاري الرأس وعابسة الجبين والضاحكة بأعلى صوتها والهامس في أذن صاحبته كأن يناجي ملاك الحب والمطوق خصر الثانية يجذبها إليه والضاحك في ذقن ثالثة، وأمام ذلك مناضد صغيرة يجلس عليها أحيانا أشخاص أكثر أمرهم أن يظهروا بشيء من الجد والسكينة، فإذا انعطفت عن يمينك وجدت ذراعا آخر من ذراعي المكان وقد قامت المناضد أمام جميع نواحي جدرانه، وهو ممتلئ شبانا أمامهم مشروبات مختلفة، ومع كثيرين منهم بنات يشربن هن الآخريات ولكنهن قليلات الكلام، وفي وسط هؤلاء جميعا يرقص بعض البنات على نغمات موسيقى يقوم باللعب عليها أشخاص في أردية حمراء وهم يلعبون أدوارا جهنمية مزعجة، أما الرقص فأكثرهم البنات منه استثاره الرغبة في نفوس الشبان، ولكن التعيسات الحظ قل أن يفلحن من رقصهن بشيء.
غير أن هذه الضجة العظيمة التي تثيرها في المكان الموسيقى والضحك والصريخ وجري واحد وراء الآخر، ومنظر هذه الكؤوس المختلفة الأحجام والمحتويات، كل ذلك يبعث للنفس سرورا غير مرتب ولا منتظم هو الآخر، فيحس الإنسان بهزة غريبة لا يقدر أن يحبس نفسه عن المشاركة ولو بقليل في الفرخ العام المحيط بها، ويروح مأخوذا بنشوة الطرب وبهذه المناظر المتعددة مما أمامه ويمر الوقت وهو غير محس به.
بقينا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهنا خبت حركة المكان وغادره كثيرون ولم يبق معنا إلا ثلاثة شبان أخذوا منضدة وحدهم وبعض بنات بقين مشتتات في التافرن، وأخيرا «عزل» القوم ولم يبق لنا إلا أن نخرج بعد أن قضينا ليلة بين دخان السجاير وضجة الشباب فرحين بها أكبر الفرح.
5 أكتوبر
وصلتني أول الأمس دعوة من صديقي المسيو أ.ك. لأتناول الشاي معه اليوم، ولقد كانت جماعتنا مؤلفة من اثنين من الفرنساويين غير مسيوا أ.ك. ومصري أخر معي هو صديقي ع. ف. فلما تم جمعنا سألني مسيو ر.د. عما لو كنت اقتنعت في مسألته فأجبته أني لا أزال على رأيي الأول وأعتقده الحقيقة، فقال: هذا ممكن ولكني أظن أن ما أقول أنا أيضا هو الحقيقة. إما أن يكون الحق معك أو معي ...
هنا قطع الميسو أ.ك. كلامي قائلا: ممكن أن يكون الحق بيدكما معا.
فأجبته: كلا إذ ما دام الحق واحدا فهو إما معه أو معي.
هنا دارت مناقشة خرجت بنا عن موضوعنا الأول أساسها ما لو كان الحق واحدا أو متعددا، وقد آثرت أن أنقل منها ما يأتي:
ع. ف :
لا شك في أن الحق واحد، ولا يعقل مطلقا أن يكون متعددا خصوصا متى تعلق هذا التعدد برأيين متضادين، بل هو دائما وفي كل مسألة الكلمة العليا الخالدة ابتدأت من الأزل وتنتهي في الأبد.
أ.ك :
هذا الكلام جميل وبقي مصدقا عصورا طويلة من الزمان، ولكن هذه العصور نفسها هي التي أظهرت لنا أن الحق يتغير من جيل لجيل ويظهر كل وقت في ثوب جديد، واختلاف الأمكنة أيضا يبرهن على ما أقول بمقدار ما يبرهن عليه تعاقب الأزمنة، أنتم مصريون مسلمون ونحن فرنساويون مسيحيون، هذا الاختلاف بيننا في المكان والجنس جعلنا نختلف في حقائق وقائع تاريخية محسوسة كمسألة صلب المسيح، كما أن بعض الأعمال الحسنة عندنا تستهجن عندكم لآخر درجة، فهل هي حقيقة تستحق الاستهجان أو الاستحسان، وفي بلدنا قوم أصحاب مذاهب متضادة وهم لا شك يقيمون مذاهبهم على أسس علمية معقولة، أفتقدر أن تحكم حتما بأن أحدهم مخطئ وأن الآخر مصيب. ... لكل منا نظر للحوادث مخصوص، فهو يتأثر بإحدى جهاتها أكثر مما يتأثر بجهة أخرى في حين يقوم دليل الثاني على إثر تأثر مختلف في جهاته، كما أن كثيرا من الحوادث غير المحددة تماما يدخل في تقدير ما نسميه نحن بالحقائق، ويجيء من ذلك من غير شك الاختلاف في النتيجة في حين أن الواحد من الشخصين نظر للوقائع بعينه كما نظر لها الثاني بعينه، وإذن فغاية ما يمكن أن نقوله أن الصواب المحض والخطأ المحض مستحيلان على الأراضي. ... ممكن أن تكون هناك حقيقة كبيرة أزلية خالدة، ولكن هذه هي ما لم يصل إليه بنو آدم وما لن يصلوا إليه فيما أعتقد؛ لأنها إن كانت فهي ناتجة عن ملاحظة كل ما في الكون من عوالم وحوادث وقوى ظاهرة وكامنة وعن كل ذرة من الذرات التي وجدت، والموجودة في العالم أيا كان شكلها وماهيتها، ولقد صرف الناس همهم من أول التاريخ إلى يومنا هذا يريدون الوصول إلى هذه الحقيقة العظيمة، وظنوا، ويظنون أنهم وصلوا إليها، ولكنهم لا يكادون يقيمون على ما حسبوه الحقيقة يوما حتى يأتيهم الغد بشكوك فيها تقيمهم من جديد على قدم، ومهما نكن قد اكتشفنا من الوقائع ومهما ظهر لنا من ملاحظة الحوادث فإنا لا نستطيع أن نجزم بأنا اقتربنا من هذه الحقيقة الكبرى؛ إذ كثيرا ما يضلك الطريق فيبعدك عن غايتك وأنت تحسب في كل لحظة أنك تقترب منها، وكهذه الحقيقة الكبرى كل حقيقة دونها؛ لأنها جميعا نتيجة لأسباب شتى، يكفي الاختلاف في التقدير لقيمة أقل واحد من مكوناتها للاختلاف في ماهيتها هي، ومن المستحيل الوصول إلى تقدير يكون هو التقدير الذي لا يشك في أنه المكون؛ لأن ذلك التقدير هو حقيقة بذاته ويحتمل أجزاء شتى وخطأ في كلها أو بعضها. ... هذا كله إذا كانت هناك حقيقة كبرى أو حقائق صغرى، وأنا شخصيا أميل للظن بأن هذه التي نسميها حقائق ليست إلا خيالات للواقع بالشكل الذي يعكسه به خيال كل جيل أو كل طائفة من الناس، فباختلاف تقدير هذا الجيل أو تلك الطائفة في النظر لوقائع معينة يكون اختلافهم في النتيجة التي تجيء عن مجموعها أي في الحقيقة التي تنتج عنها.
أمام هذه الأفكار الغريبة والواضحة معا والتي بقيت محدقا مبهوتا ساعة سماعها لم أستطع إلا أن أتلفت لأرى مبلغ أثرها على ع. ف. فإذا به هو الآخر مبهوت يكاد يذهل عن نفسه، لكنه استجمع قواه بعد لحظة وقال: - كل هذا ممكن أن يكون صحيحا، ولكني أرى حقيقة اخترقت العصور وتسللت مع الزمان إلى يومنا هذا، تلك هي اعتراف الناس بخالق لهذا الكون ... وحول هذه الحقيقة الكبرى دارت كل الأبحاث وكانت دائما لجميع الباحثين المرجع والمآب، ومهما يكن منهم من أراد أن يخرج عنها فإنه يرجع في معنى قوله إليها، فسواء سموه الخالق أو الإله أو الطبيعة أو ما شاءوا من الأسماء فهم دائما من بحثهم عن هاته النتيجة، والغريب أنهم لهذا الاختلاف في التسمية يقيمون بينهم خلافات بل وعدوات ويؤلفون مذاهب وأحزابا، والواقع أن الحقيقة قريبة منهم جميعا وهم جميعا يرونها ، ولكن كأنهم حسبوا أن حياتهم لا يمكن أن تقوم إلا على الخلاف والجدال فوجدوا من الاختلاف في التسمية وسيلة لإقامة خلافات اعتبروها عميقة مع أنها غير موجودة على الإطلاق وكهذه الحقيقة الكبيرة الحقائق الصغرى ...
هنا دخل المسيو ر.د. قاطعا حديث المتكلم قائلا: أستسمحك! إذا تجاوزنا عن هذه التي تسمونها الحقيقة الكبرى لأنها كانت وستبقى دائما موضع الشكوك والأوهام، فلا أقدر أن أستطرد معك لاعتبار الحقائق الصغرى على هذا المثال؛ لأننا أنت وأنا لا نستطيع أن نتفق على حقيقة تاريخية كصلب المسيح أو عدم صلبه، وإذا سلمنا هنا بان لهذه الواقعة حقيقة لأنها واقعة أي أن التاريخ يعرف إن كانت حصلت أو لم تحصل فإن الخلاف في المسائل النظرية كمسألة تقدير الجمال ومسألة مسؤولية الجاني ومسائل كثيرة جدا سوى هذه لا شك في وجودها، ولا شك في أن محالا أن نجد الحكم العدل الذي يستطيع أن يأخذ على ضميره مسؤولية الحكم على إحدى النظريتين بأنها حق وبأن الأخرى باطل.
ثم إن نظريات كثيرة كانت فوق الشك في بعض العصور وصارت موضع شك كبير، وأعطيك العائلة مثلا، فقد كانت فكرتها موضع القداسة مدة من الزمان ولم يكن يجرؤ أحد ولو أمام نفسه على القول بعدمها، ثم جاء عصرنا وجاء مع كثيرون يرون في معنى العائلة شرورا كثيرة، ويرون فيه أكبر منم للأنانية والطمع وحب الظلم. ... وكل هذه النظريات نتائج لازمة لملاحظة الوقائع ملاحظة مخصوصة، وإنا لنزداد كل يوم توسعا في معرفة الأشياء والحوادث والوقائع لذلك فإنا لا شك نزداد سعة نظر فيما يتعلق بالنتائج، وبهذا كان سير العالم وتقدمه من قبل التاريخ إلى اليوم. ... وإذا صح لى أن أرجع للحقيقة التي سميناها الحقيقة الكبرى، والتي أخذت تفكير العالم من أول وجوده، وهي باقية لا تبلى جدتها، فأحسبنا نتفق في أنه كلما تقدم العالم كلما زادت هذه النظرية تعقيدا في حلها؛ لأن العقل الساذج قريب التسليم قريب الإيمان قوي اليقين، فهو يذعن لأول ما نقول له أن الوجود يدل على الموجود وأن من صفات هذا الموجد كذا وكذا، ولكن الواحد كلما دق نظره وأحاط بمسائل شتى واتسعت دائرة ملاحظاته، خامره الشك فيما كان قد سلم به من قبل، ويصل أخيرا إلى القول مع فلاسفة العصر الحاضر بأن إله الزمن القديم إنما هو خيال خلقه رجل يومئذ على صورته وأعطاه صفاته. ... ولست أدري كيف يستطيع صديقنا المسيو ع. ف. أن يقول بأن اختلاف المذاهب فيما يتعلق بهذه الحقيقة الكبرى ليس إلا اختلافا في التسمية، وهل يقدر على التوفيق بين المعترف بوجود هذا الخالق وبين المنكر له، بين عيسى أو محمد وملحدي العصر الحاضر، وهل يصح أن نقول إن الذين يعزون الخلق إلى كلمة أمر من الخالق ليس بينهم وبين الذين يقولون بالتسلسل إلا خلاف لفظي ...
إني أظن هناك حقيقة واحدة لا يزال الناس إلى يومنا متفقين عليها، هي أن في العالم المحيط بهم كثير يغيب علمه عنهم، هناك الغيب العجيب الذي تقصر دون أفهامهم وخيالاتهم، هناك ما يستكن في جوف الأرض وتحت موج البحر وفي أعالي الجو، ولكني لست على يقين من أن هذه الحقيقة تبقى دائما، بل إنه لا يستحيل أن يأتي يوم يظن فيه ولو بعض الناس أنهم وصلوا إلى الغيب ولم يبق في العالم ذرة إلا ولهم بها علم.
هذا الغيب، غير المعروف هذا هو كل ما يمكن أن أؤمن أنا به.
في هذه المدة التي تكلم فيها (ع. ف.) و(ر.د.) كان المسيو أ.ك. في شيء من شبه الذهول تائه عما يدور حوله، فلما سكت ر.د. ولم يجد أحد ما يقوله إلا الصمت المهيب، أمام فكرة هذا الغيب غير المعروف الذي نشره أمامنا صديقنا، ابتدأ هو يتكلم من جديد، ولكنه بقي تائه النظرات صافي الجبين على وجهه معنى السكينة، قال: من المناظر التي كانت تأخذ بعيني منظر الأفق على سطح البحر، ماذا بعده؟ هناك السماء والماء، والبحر والجو، ماذا فوق السماء وماذا تحت الماء؟ باخرة آتية من بعيد أو أسماك يأكل بعضها بعضا أو أمواج تتلاطم ؟ عالم خفي عني علمه على قربه مني وعلى سهولة كشفه، إذا أخذت أنا قاربا واقتربت منه، ومع ذلك فأجده عجيبا مهوبا، ولو صرت عنده لزال عجبي ولم تبق له هيبته، كذلك الحقائق، كل ما غاب عنا ولم تصل إليه معرفتنا ظهر مهوبا في حين يظهر غيره مما نصل إليه بسيطا بل مبتذلا، والحقيقة الكبرى كغيرها، لو أمكن اقترابنا منها وإخضاعها لحواسنا لما سميناها كبرى، ولكن ذلك الغطاء الذي كان ولا يزال عليها والذي ربما انكشف ظاهرا وربما بقي خالدا هو الذي يعطيها هاته العظمة ويلبسها جلالها، ولعمري ما أدري سبب تعلق الناس بها وجريهم وراءها على قلة ما تعطي وعدم استفادتهم من ذلك إلا ضئيلا.
ذكرت أنا حين قال ذلك ما قاله المسيو ه.ج. مرة من أن الأديان تستند في وجودها للضعف الإنساني، وذكرت مثله عن زوجته وما يعطيه لها إيمانها من القوة والجلد، فتداخلت معترضا وقلت: هذه الحقيقة الكبرى لا أصل لها، وإنها مجرد وهم وخيال على ما قلت أنت في حديثك الأول، وهي من أجل ذلك ستبقى تحت غطاء خالد يعطيها الجلال، وهب التفكير فيها عديم النتيجة على الإطلاق، إذا فرضنا ذلك كله فأحسب من المجازفة أن تقول إنها لم تفد العالم إلا ضئيلا، فإنا نرى السواد الأعظم من الناس يعيش ويعمل ويجاهد ويجتاز وعث الحياة بقلب ثابت ويقدم الخير لإخوانه بنفس طيبة، وهذه الفكرة وحدها سنده في عمله والباعث له على فعل الخير، وهي كذلك المانع الوحيد لكثيرين جدا من الفقراء وحياتهم سلسلة ألم متصلة عن العبث بحرية الآخرين والاعتداء عليهم، ولا يعد مبالغا من يقول إنها هي التي تعطي القانون الموضوع قوته من هذه الجهة، ففكرة عظيمة كهذه تخدم العالم من الأزل إلى يومنا هذا أكبر وأجل خدمة تستحق المهابة والتقديس، كما أن محالا أن يسير العالم هذا السير العجيب على باطل، فهي من غير شك حقيقة ثابتة.
لم أكد أنتهي من كلامي هذا حتى رأيت أ.ك. قطب حاجبه وعاود تنبهه الأول واندفع يقول : غريب جدا تعليلك هذا، ألأن الناس ظلوا حتى زمن جاليلي يعتقدون أن الأرض ساكنة تكون هذه حقيقة ثابتة؟ ألأن الناس اعتقدوا أجيالا طويلة أن العائلة لازمة تكون هذه حقيقة لا نزاع فيها؟ وهل الخرافات التي بقيت تحيط بالإنسانية العصور الطوال والتي تساقطت بملامسة العلم كانت هي الأخرى حقائق ثابتة؟ إني أكرر ما قدمت من أن هذه الأجيال السابقة كانت ترى الوقائع بعين غير التي نراها بها، فيعكس خيالهم من شكلها ما كانوا يسمونه حقيقة، وما نضحك نحن من اليوم هازئين يعكس إلها على شكل الإنسان وله كل صفات الإنسان، يعكس جنونا وهزأ أمام النظر النقاد الحديث.
وأما أنها أفادت العالم فذلك موضع مناقشة يحتمل الشك، الأفكار الدينية قد احتلت العالم زمنا طويلا، وكانت قاعدة تفكير الناس قرونا من الزمان: هذه حقيقة تاريخية لا ريب فيها، ولكن أنها هي التي رتبت أعمالهم فذلك ما لا أصل إلى تصديقه؛ لأن الواحد منا تستثير نفسه المناظر المؤلمة ويدعوه شكل الرجل الفقير المريض في أطماره البالية إلى الإحسان عليه، ولا يفكر في ثواب الإله له إلا بعد أن يكون قد انتهى من عمله، كما أن المجرم يفكر حين ارتكابه جريمته في أن لا يراه أحد أي في أن لا يقع تحت طائلة القانون، ثم إذا أتم عمله وراجعه حساب ضميره فربما افتكر في حساب الله له، وبالجملة فإن الناس جميعا يسيرون في أعمالهم مدفوعين بداعي المصلحة أو بدافع الإحساس، في حين يجيء حب إرضاء الله أو الخوف من سخطه في درجة متأخرة، وعندي أن تقوية إحساس الفرد بشخصيته والعمل لإحياء ضميره وحفيظته وجعله يشعر شعورا دائما بوجود مستقل لذاته أحسن بكثير وأدعى لتنمية الفضيلة الاجتماعية في نفسه من فكرة الرقابة الدائمة عليه من قوة متسلطة لا يحس بسلطانها ولا يمسه شيء من آثارها.
فوق هذا فإن تلك الفكرة بنفسها كانت مثار حروب وحشية وسببا في وقوف الفكرة الإنسانية وجمود أصحابها وتعصبهم إلى حد فظيع، ولا حاجة بي لأن أضرب الأمثال، فكلنا يعلم عن ديانته ما يكفيه مؤونة البحث عما أثارت الديانات الأخرى من المذابح والفظائع، كما أن الحروب الصليبية لم تكن مما تفرح له الإنسانية التي تريد يوما ما أخوة عامة.
وإن أكبر ما أرجو أن يصل الناس للتسليم بأن الحقيقة على ما نعرفها به غير موجودة، ويسرني جدا أن أي هذه الفكرة متسعة الانتشار في طبقات كثيرة من طبقات الجمعية، وإن أول آثارها أن يحتمل الناس بعضهم بعضا وتقل من بينهم البغضاء والأحقاد التي يثيرها التعصب الفكري ضد فكرة أخرى.
كان الوقت قد أمسى وحان أن نقوم، وكأن إخواننا جميعا صاروا من رأي المسيو أ.ك. أو أنهم تعبوا من المناقشة، فقمنا وما كدنا نصل باب المكان حتى تهادينا السلام وتركتهم إلى بيتي خيفة أن يفوتني وقت الطعام.
7 أكتوبر
الجمال النادر ...
كلمتان اقترنت الواحدة بالأخرى يقولهما القائل كلما جاء أمامه معنى من معاني الجمال، وتسمعها الأذن كل يوم حتى لم يبق لهما في النفس من أثر معين محدود، كم جاء أمامي هذا التركيب فلم يكن ليثير مني اهتماما خاصا، بل كم كتبته غير مبال بما يحويه من معنى دقيق؛ ذلك لأني كنت أعتقد أن المحيطات بنا تحوي من الجمال النادر كثيرا وأنه لو أتيح لي أن أي جماعة من النساء لحارت عيني بينهن ولأخذ بلبي جمالهن، بل ولكان لكثيرات منهن تقدير كبير في نفسي، وكنت أعزو قلة من أرى من الجميلات لضيق دائرة من أعرف من النساء، وآسف أني لست حسن الحظ في معرفتي، لكن هذا الخيال عندي لم يكن له موضع بل ولا خيال من الحقيقة.
ذهبت اليوم بعد الظهر إلى التياترو الفرنساوي أحضر تمثيل رواية بايزيد، وخرجت فيما بين الفصلين حين ترك الحضور مقاعدهم في أوكار الألواج الضيقة، وفضلت على الخروج إلى هواء المدينة أن أبقى في صالون التياترو، كان الصالون مزدحما جدا بالرغم من سعته، والرجال فيه يكادون يعدون، وسائر الحضور سيدات، ويظهر أنهن من طبقات البلد الناعمة الممتعة بما يحفظ عليها الصحة والجمال، فأجلت عيني في كل الأنحاء وتصفحت إلا قليلا كل الوجوه، وكلما وقع نظري على قوام ينم عن الشباب والنضرة انتظرت وجها حسنا، فإذا استقبلتني صاحبته قضي على أملي وإن كنت لا أعدم في ثوبها ومشيتها وترتيبها العام جمالا، وكم كان يسعدنى أن أرى بوارق ما أملت يتحقق، ولكني على كل حال خرجت مقتنعا بأن كلمتي الجمال النادر لهما في الواقع قيمة حقيقية وإنما قالهما خبير بعد بحث جدي.
22 أكتوبر
في هذه الأيام الأخيرة رأيت شيئا جديدا في اللكسمبور، غير ذلك التاج الذهبي الذي جاءها به الخريف وتلك الأوراق الكثيرة التي تسقط إلى الارض بعد ذبولها، رأيت ما استلفتني من كثرة الوافدين إليها والأطفال الذين يمرحون في طرقاتها ويلعبون ويجرون ويصيحون ... هذه الحركة الجديدة أراها في باريس بأجمعها بعد أن هجرتها الضوضاء مدة الصيف ... وكأن الباريسيون كانوا ينتظرون هاته الأيام ذات الطقس الجميل من أكتوبر ليعطوا لأنفسهم ولأولادهم أوفر حظ من الرياضة.
في حدائق التويلري ترى هذا المنظر الذي يقابلك في اللكسمبور، كذلك ترى في غابة بولونيا وفي الطريق الكبيرة الموصلة إليها خلقا كثيرين يطلبون النزهة، ويريدون التمتع بهذه المناظر الخارجية قبل أن يدهمهم فصل الشتاء.
هؤلاء الناس الذين يجيئون إلى هاته الحدائق أو الذين يبعثون بأطفالهم إليها، ويثيرون بذلك في النفس الاعتقاد أنهم ذوو يسار ليسوا في الغالب كذلك؛ فإن هاته الحدائق العامة المفتوحة لكل إنسان من غير تمييز لواحد على آخر تدعو إليها المتوسطين أكثر مما تدعو الاغنياء الذين يأنفون معاشرة غيرهم من الطبقات والذين يرون في هذه المساواة اعتداء على ميزتهم.
أما الأغنياء فالمدى أمامهم فسيح خصوصا في هذه البلاد التي خلقت من دواعي النعيم والترف ما يقصر دونه الذهن.
وفي هاته الحدائق العامة يجد سكان باريس متاعا حسنا، يجدون الراحة حين يثقلهم العمل ويجدون السعة التي تمكنهم من ترويض حواسهم وجسمهم ... وكثيرا ما ترى في نواحي اللكسمبور المختلفة مراسح ألعاب متعددة للأشخاص في كل أدوار حياتهم وعلى أشكال مختلفة، ولا شك في وجوب مثل هاته الرياضات سواء للأطفال أو الشبان أو الكبار، لتساعد على نمو الأولين وتعطيهم الصحة، ولتزيل هم الآخرين وتسري عنهم تعبهم ولتعزي العجائز عن الوقت وتمضيته.
25 أكتوبر
كنت أخبرت المسيو ه.ج. عن حيرتي فيما يتعلق بمسألة المسكن، وشديد حاجتي للوجود في وسط فرنساوي أتمكن معه من معاشرة الفرنساويين، ولقد عرضت أمامي مرارا فكرة البحث عن عائلة أقيم معها، وبحثت مرارا عن ذلك ولكني لم أكن لأعثر على شيء يفي تماما بغرضي، فكنت أحيانا أقع على عائلة مؤلفة من عجوز وامرأته يريدان معهما ثالثا يسليهما عن تشابه أيام الحياة، وأخرى على عائلة عديدة ولكن لا تتوفر فيها الرفاهة اللازمة، ومرة ثالثة على كل ما أريد ولكنهم يطالبون بأجر فاحش ... وبعد أن رجعت مرارا على غير نتيجة من بحثي سألت المسيو ه.ج.آملا أن يدلني هو على شيء حسن.
أخبرني هو أن مدام ل.ج. سيدة طيبة وتقبل عندها قليلين من السكان، وطلبت إليه بعد ذلك أن يكون واسطة بيني وبينها، وقبل أن ننتهي على شيء دعتنا أمس لنمضي المساء عندها.
كان مدعوا معنا مسيو ه.ج. وزوجته وأخته وسيدة لم أرها قبل، فلما جلسنا قامت سيدة الدار إلى البيانو بعد رجاء من الحاضرين الذين يعرفونها وقامت هاته السيد الأخرى، وبالرغم من استحسان الجميع لغنائها فلم يك ليثير من نفسي، ولا شك أن سبب ذلك أني لم أعتد أن أسمع هذا الغناء من قبل.
تناولنا الشاي بعد ذلك، وبقينا نتكلم في مسائل وفي أخرى إلى الساعة الحادية عشرة مساء، وما كان الحديث ليحتاج عناء ولا تفكيرا، بل حديث سهل بسيط أدعى لأن يريح الذهن وتبتهج له النفس، وأحسب هذه الطريقة في تمضية المساء أوفق ما يكون ليقوم الإنسان إلى نومه مستريح البال، ثم ليقوم في الصباح وقد أخذ أكمل حظ من سكون النفس والجسم، فاستعد بذلك لعمل النهار. هي من أجل ذلك أفضل بكثير من طريقتنا الشرقية حين نقتل سهراتنا إما على القهوة وإما في مناقشات متعبة لا طائل تحتها.
29 أكتوبر
اليوم ودعنا ب. مسافرا إلى جنوب فرنسا ليمضي أيامه هناك.
ودعته بعد أن بقينا معا ثلاثة أشهر لا نكاد نفترق، ودعت منه صديقا أغناني عن كل صديق ونسيت إلى جانبه ما كان يجيئني به الاغتراب من الهم.
كنا خمسا لوداعه، فلما سار القطار إذ أني بين الجماعتين وحيد، وكأني وأنا أعرفهم جميعا لا أعرف منهم أحدا! هل تستطيع الصداقة أن تصل من النفس الإنسانية لهذا الحد؟
أمضينا ثلاثة أشهر معا وكأن قد انطبقت صحيفة نفس كل منا على صحيفة نفس صاحبه، وإني لأعجب لنفسي كيف وأنا أحب الناس للوحدة يبلغ مني الأسف لفراق صديق هذا المبلغ! الآن انكماشي عن الناس يجعلني لا أجد خلا، فلما وقعت على واحد من بينهم وأعطيته كل ثقتي وكل حبي عز علي بعد ذلك أن أرجع إلى وحدتي الأولى؟
كم كنت أجد من السرور ساعة أقابله في الصباح، وكم كانت تهز نفسي هزة كل واحد منا يد صاحبة ساعة نريد أن نفترق لوقت قليل، وها نحن نفترق لأجل من ذا يدري أجله.
في باريس، في هذه المدينة الهائلة كثيرة الضجة وحيث أنت محاط بالجلبة من كل جانب وعزيز أن تجد ركنا هادئا إلا إذا أخرجت عنها أنت أشد الناس احتياجا لصاحب يعزيك عما يلقيك فيه انفرادك من الوحدة القابضة للنفس، وجدت هذا الصديق في ب. من أوائل أيام وجودي بها إلى اليوم فلم أكن لأحس بعد الأيام الأولى بمثل هذه الوحدة المخيفة، وها هو اليوم مسافر وها أصبح من الغد فلا أجده، أصبح وحيدا لا صاحب لي في باريس.
وإذا كنت الآن ولم يمض على سفره إلا ساعات معدودة أشعر بهذة الوحدة فماذا عساه يكون حالي إذا تطاول أجلها؟ من يدري؟
1 نوفمبر
في تياترو الأوديون...
أمضينا مساء الأمس نحضر تمثيل رواية (الميزانتروب)
14
من قلم موليير.
يقع تياترو الأوديون في الحي اللاتيني حي الطلبة، وعلى مقربة من كل المدارس؛ لذلك ترى حول جدرانه مكتبة كبيرة (لفلامريون)، وهو أقل بكثير في العظمة من التياترو الفرنساوي، فبدل أن تقابلك أول ما تدخل الصالة الفخيمة قامت في جوانبها تماثيل الكتاب والشعراء، وعن يمينك يصعد سلم يشعر بالعظمة والأبهة، ترى صالة صغيرة رشيقة يحتل قسما منها شبابيك التذاكر وعن اليمين تصعد سلالم متسعة، ولكن من غير عظمة ولا أبهة، ونفس المكان من الداخل أكثر تواضعا في كل شيء، في سقفه وفي ستار المرسح وفي منظر ألواجه وكراسيه، يبين ذلك أيضا في قاصديه ومظهرهم.
رفعت الستار ومثلث الرواية، وقد أظهر فيها مليير شخصين صديقين يمثل كل خلقا معينا، فواجدهما (فيلنت) يداري الناس ويلاطفهم ويلوم صاحبه (ألسست) على تشدده معهم وحبه أن لا يقول لهم إلا ما في نفسه، وأظهر الكاتب هذا الأخير في مراكز حرجة ما كان أحوجه فيها لأن يأخذ الناس كما هم لا كما يريدهم هو أن يكونوا، وقاسى من جزاء شدته هذه أن انقطع عنه أصدقاؤه وقاطع محبوبته.
في كل المدة التي كانت تمثل فيها الرواية كان يسود على الناس سكون عام يقطعه التصفيق آخر الفصل أو في بعض مواضع معينة، سكون تتمكن معه النفس من أن تتذوق طعم ما أمامها من غير أن تضايقها حركات الجار الكثير الحديث أو السريع التأثر تتوتر أعصابه لغير سبب فيتشدق من وقت لآخر يريد أن يظهر للناس إحساسه.
أما عن الرواية وتمثيلها فقد أعجباني كثيرا خصوصا ما ظهر به الممثلون من إتقان أدوارهم بإرسالها على طبيعتها وعدم التكلف فيها.
4 نوفمبر
من يوم سافر ب. وأنا أحس بالوحدة تفيض عني، أدخل غرفتي وأجلس على الكنبة، ثم أجيل طرفي في المكان فأرى من آثار صديقي العزيز ما جعل فراقه أشد مضاضة وأقسى على نفسي، كم من مرة كنا نجلس معا في هذه الغرفة ونتحادث حتى بعد منتصف الليل من غير أن نحس بالوقت يمر سريعا، وكم من مرة كنت أجلس كما أنا الآن وحيدا ثم إذا هو دق على الباب ودخل باسم الثغر طلق المحيا، والآن لا أمل في مثل تلك اللحظة الحلوة التي كانت تمر ولا أشعر بها.
أقضي معظم وقتي في القراءة، وقد قرأت في هذه المدة شيئا غير قليل ، ولكني كثيرا ما أذهل عما بيدي وأتوه عن نفسي ويسرح خاطري بعيدا في تيهاء لا تميز فيها شيئا، وأضطر إذ ذاك أن أعيد قراءة صحفية وأحيانا صحيفتين ليتصل المعنى، ثم لا أكاد آتي على أخرهما حتى يراجعني هذا الذهول، وتستمر هذه الحال أحيانا ساعة متواصلة، وأحس في أحيان أخرى بحدة في خاطري وتنبه في أعصابي فأقرأ وأقرأ وأقرأ وكأني ألتهم ما يقع تحت نظري، فلا أشعر إلا وقد جئت على مبلغ عظيم في وقت غير طويل، فإذا ما مللت الكتاب وملت أستريح وذكرى الماضي راجعني الحزن وأخذ بخناقي الهم.
ابتدأت اليوم أقرأ في اعترافات جان جاك روسو وجئت إلى الآن على عشرين صحيفة منها، وهو يحكي حياته يوما بيوم ويقص تاريخه وتاريخ عائلته، يشعر الإنسان أمام جمال هذا الأسلوب وترتيبه وتوازيه بهزة سرور غريبة، فكأن نفسه تسري مع موجات موسيقى الكاتب ويحس من لحظة لأخرى بحاجة تدفعه لأن يقرأ بصوت عال حتى تتلذذ أذنه بالنغمات المرتلة التي تسمع، وتراه حينذاك يندفع في قراءته أو هو يتوانى ويتباطأ مجبورا على ذلك بظروف الحادثة التي يشاهد تحت نظره، وبترتيب الأسلوب ومواضع الكلمات، فكأن الكاتب ممسك بزمامك يصرفك على هواه، وأنت مسرور أن تجد نفسك مطيعا سائرا من غير انقطاع.
لكن الشيء الذي يستوقفك دائما عظيم فخر الكاتب بنفسه، فمن أول سطور الكتاب تراه يقول ما معناه: هذا اعترافي أكتبه مستعدا لأن أقدمه أمام الخلق يوم الحساب، وما أظن مخلوقا يجرؤ أن يجيء يوما فيقول: «إني عملت ما عمل هذا الرجل»، وسوى ذلك من هذا النوع كثير، والواقع أن جان جاك الذي ولد فقيرا أو قضى شبابه في شبه التشرد لا يمكنه أن يرى نفسه وقد وصل بمجهوداته إلى الدرجة التي وصل إليها من غير أن يأخذه الإحساس بتفوقه على الناس وبأنه أحسن منهم.
6 نوفمبر
انتقلت بالأمس إلى هذه اللوكاندة، وبعد أن انتهيت من ترتيب المكان استمررت أقرأ روسو، ولا أستطيع حقيقة أن أتصور كيف تنتج شبيبته مثل هذا الكاتب والمفكر الذي قلب كثيرا من العوائد السارية في أيامه، بل إني أتساءل كيف لم تكن نتيجتها مجرما سفاكا أو لصا أو متشردا من أي نوع كان، فتى مهمل ملقى حبله على غاربه تتقاذفه الصدفة وتتلاعب به الأيام، لا يقر له قرار ولا يعرف كيف يثبت على حال، حيث حل لم يقم وكلما وجد في مكان تركه بعد مسألة أو حادثة، ويكتب هو كل ذلك بنفسه يسجله على نفس، لا بدع بعد ذلك أن يكون على حق القائلون بجنونه، ولا بدع أن يكون العظماء من بين المجانين.
وظاهر ولع الكاتب بالطبيعة إلى حد الهيام، ولم يكف جان جاك أن ينقل حوادث حياته في اعترافاته بل هو يستمد من ذكر الماضي خيالات يصف بها الطبيعة التي كانت محيطة به مدة شبيبته وقسما كبيرا من أيام رجولته.
ويصل الكاتب في بعض الأماكن إلى منتهى حدود الإبداع في الوصف، وهو دائما الشاعر الذي يهيم بكل ما يصوره له خياله من الزمان والمكان، وكأن الماضي وما في الطبع الإنساني من الحنين إليه يثير حولنا رياضا وجنات، ويجعلنا نتخيل ألوانه كأزهى ما تكون، وروائحه كأعطر ما شممنا، ويصل إلى آذاننا تغريد عصافيره وأطياره كأنها أبدع الموسيقى وأتقنها، فإذا كان ذلك شأن الماضي إذا لامس خيال أفراد الناس، فماذا يكون من شأنه إذا لامس خيالا ملتهبا كخيال جان جاك.
12 نوفمبر
البرد شديد والضباب يملأ الجو والشارع مهجور أو يكاد، وقد أوقدت النار في مدفئتي وبقيت إلى جانبها أقرأ في اعترافات روسو إلى ما قبيل الظهر، ثم مر بي ج.ا. فذهبنا وتناولنا طعام الغذاء معا، ثم اتفقنا على أن نذهب فنسمع أسطوانات عربية على الفونوغراف، وركبنا (الأومنوبيس) من ميدان سان ميشيل، وبعد أن نزلنا منه وسرنا مدة على أقدامنا دخلنا دكان (فونوتيك) وسمعنا أسطوانات من سلامة حجازي وعبد الحي وغيرها، وكم كان لهذه النغمات المصرية من أثر على قلوبنا المصرية في هذا الوسط الباريسي، كم كان لها وهي تخرج من أعماق الدكان وسط أنبوبات لتخص السامع دون غيره بلذتها، ولا يتمتع بها ولا أقرب جيرانه إليه ما يجعل الواحد وهو ممسك بيديه سماعتي الفونوغراف (وهو من الجنس القديم الحريص على ما فيه من الأصوات فلا يسمعه إلا من وضع السماعة على أذنه) ما يجعله يخيل نفسه بعيدا بعيدا عن ضجة المدينة الهائلة، في هذه اللحظات ينسى الإنسان نفسه والمحيطات به ويعيش في مصر بمقدار ما تسمح له آذانه.
4 ديسمبر
عرضت اليوم في مدرسة العلوم الاجتماعية صورا من ريشة رفائيل، وقد كان أكثر الحديث والتفسير الذي قام المعلم به فيها متعلقا بالصورة التي تمثل العذراء والطفل (مريم وابنها)، وذكر في شرحه تاريخ هذه الصورة حين رسمها رفائيل وتحت أي أثر كان عمله فيها، والفرق بينه وبين أساتذته في النظر في ما يختص بها ومواضع الدقة منها، ولقد كانت الصالة التي فيها السامعون مزدحمة على تناهي سعتها، والعجيب أن قد كان أمامي ومن خلفي وعن يميني وعن يساري فتيات وسيدات وكلهن يسمعن منصتات، والسيدات على العموم يشغلن على الأقل نصف مقاعد المكان، وليس هذا التهافت من جانبهن بغريب في دروس الفنون الجميلة.
وحوالي آخر الدرس أجلت نظري في المكان جولات وتركت لخيالي أن يسرح كما يشاء، بعد أن كد فكرى طول الإنصات، ورجعت البصر وتخيلت إلى جانب هاتيك السامعات نساءنا وفتياتنا المصريات.
ثم ذكرت أني كنت من ساعات معدودة أسمع في السوربون درس المسيو لانسون عن الروح الفلسفية في أدب القرن الثامن عشر، ليتدرج من ذلك للكلام على مونتسكييه، وإني رأيت كذلك الفتيات والسيدات لا يحصى لهن عدد وهن مصغيات بكلهن أو منكبات على كراساتهن يكتبن بأسرع ما يستطعن كل ما يمكنهن كتابته من كلمات المعلم.
عرتني لهذا النظر ولذكرى مواطناتي حسرة بلغ ألمها أعماق النفس، أليس في هاتيك اللاتي رأيت اليوم من تضارع في جهتها الخلقية نساءنا وفتياتنا! لا شك أن الكثيرات جدا منهن أحسن وأرقى بكثير من نسائنا لأن لهن فضائل خاصة بهن في حين كل فضائل نسائنا سلبية وإنهن في الأغلب يسرن على قاعدة أن من العفة أن لا تجد.
هاتيك الفتيات اللائي رأيت اليوم يخرجن من دور العلم وقد سمعن من طيباته ويخالطن الناس، فيستفدن بذلك حنكة وتجربة، فإذا حادثت إحداهن حدثت إنسانا يعقل ويفهم، بل لقد رأيت منهن كثيرات يخجل الكثيرون من شبابنا إذا أجلسوا إلى جانبهن، اللهم إلا أن يمنعهم ما في نفسهم من الانتفاخ الكاذب عن أن يروا حقيقة قيمتهم، تحادث هاته الفتاة فتجدها واسعة العقل تكلمك بما يدل على قوة حكم ونفاذ بصيرة لا يمثل ذلك التعصب والضيق العقلي الذي يصل أحيانا إلى حد الحماقة مما نشاهده عند بعض إخواننا.
لذلك كان أسفي عن المصريات أشد، وإني أعتقد أنهن لو خرجن إلى الوجود الحي واختلطن بالرجال وخبرن بذلك كل ما في الحياة لوصلن لخلق شخصية لأنفسهن، وفي الوقت عينه هذبن الشبان وبعثن إلى قلوبهم إحساسا بمعنى الحياة الإنسانية التي تحوي غير الشهوات الضيقة التي لا يفهم شبابنا غيرها.
8 ديسمبر
كان عندنا الليلة خمسة من أصدقاء ربة البيت دعتهم للعشاء، ثلاث سيدات وسيدان، ولقد جاءوا جميعا قبيل الموعد المضروب للطعام إلا واحدا منهم تأخر عنه عشرة دقائق، فلما دخل اعتذر وقمنا بذلك لغرفة الأكل وأخذ كل مكانه حول المائدة.
وقد كان بجواري فتاة في العشرين من عمرها لم أعرفها من قبل، وإنما قدمت إليها ساعة حضورها، وهي وسيمة الطلعة معتدلة القوام نحيفة، لكن أجمل ما فيها إتقانها لهندامها، فنرى ما تلبس على بساطته يكسبها رونقا بديعا، فثوب سماوي اللون ينساب دقيقا من كتفها إلى قدمها، وينم في انسداله عن خطوط الجسم الذي تحته، وكماها القصيرين يظهر من تحتهما ذراعان جميلان حقيقة، وكل ما عليها بسيط وغاية في الجمال.
وجلست تحادثني عن الشرق وعن مصر، ولقد أخبرتني أنها ذهبت إلى تركيا ودخلت الحريم التركي، وجعلت كالكثيرين من ابناء جنسها تمتدح هذه السعة الشرقية وهاتيك النساء المكسالات، وكم وصفت لي ما رأت من بسط ذات قيمة وأستار وأقمشة، ثم لما جاء دور مصر سألتني ما لو كانت الحياة هناك كما في تركيا، ولكن ما أسرع ما تركنا هذا الموضوع لنتكلم عن مخلفات المصريين القدماء، عن الاهرامات وعن الكرنك وعن الموميات القديمة، وكأنا نحن المصريين لا نجد في الحاضر ما يستحق أن يذكر فيسرنا أن نبقى نتمدح بالأيام الخالية وآثارها، فتركت لنفسي العنان أذكر كل ما أعرف عن بقايا أجدادي الفراعنة وأظهر ما تحويه معلوماتي الضيقة عن عظمتهم التي كانت.
وانتهى العشاء في هذا وسواه من بعض الحديث مع بقية من على المائدة، فانتقلنا إلى الصالون، وجعلنا نتحدث ويحكي كل بعض ما يعرف، وقد انفصل عن الجمعية إلى ركن منفرد المسيو ج. ب. ومدام ه.ج. وبقيا هناك يتحدثان وحدهما، ولقد شغل ما ظهر من الروايات الجديدة القسم المهم، وأثنت ربه المنزل على كتاب (بواليف) «الفتاة الحسنة التربية»
La jeune fille bien elvée
وعطفت بكلمة على المؤلف نفسه قائلة إنها قابلته، وإنه رجل ظريف ولطيف، فلاحظ أحد الحاضرين مبتسما: لعل ظرفه ولطفه دخل في تقدير السيدة لكتابه.
ثم انتقلوا إلى الحديث على التياترات وما يمثل فيها، وأخيرا قامت إحدى السيدات إلى البيانو وعزفت عليه جملة قطع منها، وربما كانت أحسنها قطعة (سويبه) الشاعر والفلاح
ونحو الساعة العاشرة ونصف استأذن بعض الحاضرات وانصرفن، وبعد أن انتهت ضجة انصرافهن سألني المسيو ل. ب. وهو شخص لم أعرفه من قبل عن بعض ما يخص الديانة الإسلامية، ولما انتهيت من جوابي أخذ يتكلم بعدي المسيو ج. ب. فقال: ما أقرب الأديان جميعا من بعضها؛ لذلك أحسبني أتنبأ لها جميعا بمصير واحد، وهو أنها ستضطر يوما ما لأن تطأطأ أمام العلم وما يثبت من الحقائق المبنية على الملاحظة والنظر، وأحسب أن الدين قد قام إلى اليوم بأكبر ما يجب عليه فآن له أن يتنحى لما هو أصلح منه للبقاء.
فأجابه آخر من الجماعة: أظنك تغالي بعض الشيء؛ فإنه لا يزال في الإنسانية جماعة يحتاجون التعاليم الدينية ليسيروا على مقتضاها، كما أنهم يحتاجون عقائد الدين لتكون لهم عزاء عند الشدائد، أرأيت لو أن الواحد من جماعة السذج ترك الاعتقاد ألا تراه ينغمس في الشهوات ويرتكب الجرائم، وإذا أصابته مصيبة أسرع إلى الانتحار، أو أنك تريد أن تقول لي كما يقول بعضهم: وماذا لو انتحر ثم ماذا لو انغمس في شهواته؟ أظنك تقدر مبلغ ضرر ذلك على الجمعية.
المسيو ج. ب: لا لا، أنا لا أقول لك: وماذا لو انتحر ثم ماذا لو أجرم، ولكني أقول لك إن الرجل مهما تجرد عن عقيدته فإن غريزة حب الحياة المراكبة فيه تمنعه منعا مطلقا عن الانتحار، وما كفت العقيدة الدينية يوما لتصد مجرما عن إجرامه، ولكنما تصده الأنانية الطبيعية في النفس، والتي تدفع الواحد إلى الاحتفاظ بما في يده، فهو يريد أن لا يعتدي عليه غيره، ولهذا السبب هو لا يعتدي على غيره، وإنما جعلك وجعل بعض الناس والكتاب يقولون: إنها العقيدة الدينية وتعاليم المسيحية هي التي تدفع لهذه الأمانة ولتلك الشجاعة؛ لأننا ربينا جميعا من الصغر على أن نقول ذلك، ويقف عقلنا عند هذه العقيدة فلا يستطيع أن يفكر بحرية في إيجاد طريق منتج لإصلاح المجرم أو لتطهير الجمعية من الفساد.
ولقد أدخلت هذه التربية الدين في تركيب الناس بالزمان، حتى أصبح مع أنه بنيان خاص أمام البنيان العام الذي هو الأخلاق
La morale
مغتصبا لحقوق هذا البنيان العام، وصار يكفي أن يقال في بعض البلاد إن فلانا لا دين له ليحكم عليه بأنه لا أخلاق له، ولا شك في أن هذا خلط غريب؛ لأن القواعد التي يتفق فيها الدين والأخلاق هي قواعد الأخلاق، ولم يكن أمر الدين فيها إلا تقريريا، فالفضائل القديمة الموجودة قبل أن يوجد أي دين معروف هي من الأخلاق، وإنما أخذها الدين عنها؛ وإذن فتطبيقها هو من تطبيق قواعد الأخلاق، وبما أن تلك من خلق بني آدم ألجأتهم إليها ضرورة الاجتماع فيجب أن يكون لهم حرية التصرف فيها كما تقضي به مصلحتهم.
لهذا السبب أحسب أن من أصدق النظريات وأمتنها في التطبيق رأي علماء التربية الاستقلالية، القائل بأن لا يلقن الصغير من أوليات أيامه حتى الثامنة عشرة من عمره شيئا من الدين مطلقا، وأن يترك حر الفكر إلى آخر درجات الحرية ، يتصور كما يحلو له ويثبت النظريات وينقضها بما توحي له به نفسه ويشهد به أمامه الواقع، ولم أر أقتل لحرية الفكر ولا أشد إيقافا للقوى العاقلة أكثر من موانع الدين والاعتقاد، ليكن الدين حرا مهما يكون، وليسوغ للإنسان النظر والتفكير كيفما يسوغ فإن قيوده الحديدية التي توضع في رجل الإنسان من يوم ميلاده قيود ثقال ما أصعب التحلل منها وما أمره على النفس، بل إنا لنجعل غايتنا دائما حين نفكر وحين نتناقش وحين نكتب أن نصل للنتيجة التي قررها الدين من قبل لا إلى التي تنتجها العلل والأسباب التي تقع تحت حسنا، وقليل منا الرجل أو الكاتب الحر الذي يبتدئ من المقدمات ليصل إلى النتائج لا أن يضع ثم يرجع لخلق مقدماتها.
واستمر الرجل كذلك مدة كأنه قسيس حرية الفكر أو إن شئت قسيس اللادينية، والقوم أمامه كلهم آذان يستمعون وعليهم سيما التسليم والاحترام لا ينبسون، والسيدات منهم أصخن كما يصغين لواعظ في الكنيسة، أما خصمه فقد تأثر بسكينة القوم وأصبح هو الآخر منصتا سميعا.
ولما أتم كلامه كانت الخادمة قد أحضرت زيزفونا
Tilleul
قامت ربة الدار بتحضيره، وانتقل الموجودون إلى أحاديث أخرى وانتهت الليلة كأحسن ما يكون.
31 ديسمبر
الساعة الحادية عشر مساء فلم يبق من العام إلا ساعة واحدة وها أنا أسأل نفسى إلى أين يذهب العام الماضي وبم يجيء العام الجديد، وبكلمة أخرى من أجل ماذا يعيش الإنسان.
مسألة المسائل وكبرى المعضلات، هي المسألة التي حار فيها الناس جميعا ولم يجدوا لها جوابا شافيا، يجيلون بصرهم لما هم فيه فلا يجدون إلا جدا ولغوبا وقليل من ساعات السرور التي تفرض نفسها فتأخذهم الحيرة في معنى الوجود، وساعات السرور هذه هي الساعات التي ينسون فيها أنفسهم فكأنما هم أشقياء ما ذكروها، ومع ذلك هم على الحياة دائبون، فلماذا يعيشون؟
قال قوم إنما يعيشون ليعبدوا الله، أفإن كان ذلك فما كان أغنى الله عن أن يخلقهم، وقال آخرون إنما خلقوا ليسعوا في الأرض وليأكلوا من ثمرها، وربما كان هؤلاء أعقل.
وما أشبه الإنسان يحيى ويعمل ويموت ثم يخلفه غيره، ما أشبه حياته وعمله ومماته بلفة الطنبور في المعرض الزراعي، يأخذ الماء من الحوض ثم يصبه ثانية فيه وما عمل شيئا، يوم يهدم الحوض يذهب عمل الطنبور، وأغرب ما في الإنسان جنونه بالذكر الخالد، أليس هذا الذكر أشبه شيء برنة المعدن إذا دققته، والحياة بما فيها من الأعمال هي تلك الدقة، فها هو المثل المحسوس أمامنا، أي شيء تستفيد الدقة من الرنين مهما طال أمده.
9 يناير 1910
لعل أصدق ما قيل عن مصر أنها بلد العجائب، ليس ذلك فقط لأنها أرض الأهرامات القديمة، بل هي كذلك أيضا في شكلها الجديد الحاضر، ويظهر لك سواء أخذتها من جهتها الفردية أو الاجتماعية أو العلمية أو العلمية، هي عجيبة في كل أمر من أمورها، إن تبصرها بعين سطحية يأتك على الفور خيال مما فيها من المدنية والحضارة وإن تقرأ ما في بعض صحفها من النقد تظن أن بين أبنائها أحرار الفكر حقيقة، فإن أنت وصلت إلى شيء من حقائق هذه المسائل لم تجدها كما رأيتها، أما مدنية البلد فليست لأهلها بل هي للأجانب عنها كذلك ما فيها من علم وتفكير، ولو رفعت المدنية الأجنبية بجذورها من مصر وتصورت البلد وطنية لرجعت بها إلى الوراء القرون الطوال، ذلك حق عام يصدق حتى فيما يختص بالحكومة، ارفع منها الأجانب تصبح نظارا وموظفين عالين جدا وموظفين واطين، وينتج عن ذلك أن تكون حكومة استبدادية كحكومة المماليك، ارفع المعلمين الأجانب من المدارس الثانوية والعالية يبق معك الشيوخ وقليل ممن أدخلوا جديدا من بعض المدرسين، فترجع بذلك إلى عهد الجوامع القديمة وحلقات الدروس التي اندرس أثرها، ارفعهم من الأمة جميعا ترج بالبلد إلى فقر مدقع وأسفا على مصر.
فلاحها اليوم هو فلاح الفراعنة! علماؤها هم علماء جوهر الصقلي! حكامها نسخة من المماليك! وتريد مع كل هذا أن ترجع إلى الوراء فتتخذ مثل حياتها من القديم! اللهم قد جعلتنا الأعجوبة التي يتفرج عليها الناس كل هذا الزمان الطويل فهل تجعلهم يوما يحدقون بنا إجلالا وإعجابا.
10 يناير 1910
روميو وجوليت. يقدم الأوديون كل سنة من الروايات القديمة ما يحوز أكبر الثناء، وكان مما قدم في هذه السنة رواية شكسبير: روميو وجولييت، ذهبت إليها وأنا شيق لمرأى الرواية ولسماع موسيقاها، وكلي أمل أن أجد في الاوديون ما أعهد، وأن مرسحا كبيرا يديره ماهر كأنطوان ويمثل فيه جماعة من مهرة الممثلين لجدير أن ينال ثقة الزائر قبل أن يدخله، ولقد حقق هذه الثقة اليوم كما حققها مرات من قبل.
ذهبت أسمع أشخاص شكسبير يناجون الطبيعة المحيطة بهم والحب المالئ قلوبهم ويرتفعون إلى عوالم شعرية عظيمة يقصر دونها خيال جماعة بني آدم، أسمع مدموازيل فنتورا في دور جولييت تخطب لباريس، ثم ترى روميو ويعجب كل منهما بصاحبه فيتناجيا تحت ستار الليل الممتد على الوجود، ومن شرفة دارها تخاطب الصب المتيم وكل منهما يجد في تلك المحيطات العذبة والنجوم الطالعة والكواكب اللامعة بشير خير لهما، ثم يأتي الصباح ويطارد الفجر الظلمة ويفترقان ولا يلتقيان إلا بعد أن يقتل روميو ابن عم محبوبته آخذا بالثأر عن صاحبه، ويبلغ الخبر جولييت فيقيمها اليأس ويقعدها، ويزيدها يأسا أن تعلم أن روميو سينفى.
هيه جولييت، مات ابن عمك وسيلقى إلى القضاء محبوبك، ها ظل سعادتك يتقلص، وها حياتك تأتي عليها العاديات، أيا ظلم السماء هلا لقيت لينزل عليهم غضبك إلا المحبين، وهلا فجعت غير جوليت وروميو ... ما أحر بكاء الفتاة وما أكبر يأسها، إن قلبها الشاب وصدرها لا يزالان صغيرين لتأكلهما نار الحزن ويروح بحياتها الأسى المبرح، وروميو يترامى على أقدام القسيس ويكاد يموت جزعا حتى تأخذه مربية جولييت إليها ليقابلها للوداع وليذر على ثغرها القبلة الأخيرة ذكرا لحب آخذ بالفؤاد.
وبعد الإقصاء والنفي وانفراد الوالهة حسرى جازعة، يدهمها أبواها بنبأ زواجها بباريس، ويقف أبوها وقفة العنيد قد انتزعت من قلبه كل رحمة يخيرها بين الخضوع أو أن تذره إلى حيث تشاء، تتكفف أو تختنق أو تفعل ما تريد، وأمها لا تكلمها من بعد ذلك بكلمة، ومربيتها تقول لها أن تقبل باريس زوجا لها وتصبح وحيدة كل عزائها حبها وكل أملها أن تبقى لمحبوبها أو أن تموت.
في تلك الساعة المذكورة حين يستولي على الفتاة البالغة اليأس والأسى تظهر الممثلة في أبدع ثوب، وتستدر العين رحمة، ويهتز معها القلب وتهون الدمعة أن يرى الإنسان غض الشباب الزاهر يتوجه الحب الطاهر مهدورا حتى من آبائه وأقرب الناس إليه، ولم يبق من ينجد جولييت من موقفها إلا القس مستودع أسرار السماء والمالك بيده مفاتيح العزاء.
يعطيها رجل الله مخدرا يميتها أربعين ساعة، ويعمل جهده أن يبعث لروميو من يأتي به، ولكن الخبر بلغ روميو قبل ذلك، ويصل ويقتل باريس ويشرب السم ويموت قبل أن تقوم هي، ثم يأتي الشيخ فيوقظها فترى صاحبها مبتسما فتنطرح عليه وتأخذ بيدها زجاجة السم فتجدها فارغة ولم يبق روميو لها فيها نصيبها، فتقبله عل ما على شفتيه يصل بها إلى الأبدية حيث تراه، وأخيرا تقتل نفسها بالخنجر الذي قتل هو به باريس.
وبين أحجار المقابر المخوفة وتحت غطاء الليل العظيم، انطرحت ميتة إلى جانبه وماتا هكذا شهداء الغرام.
رحمة بهاته الأرواح يا الله إن كانت ستصعد إلى سمائك، وإن كان للفناء مصيرها فما أقسى الوجود
12 يناير 1910
من أهم ما ينقصنا نحن المصريين في مصر الشعور بوجوب التجديد
L’esprit de nouveauté
ينقصنا في كل مسألة من المسائل وعند كل طبقات الجمعية، فلا ترى في البلد إلا طالب للرجوع، واتخاذ المثل من العصور القديمة، ويجاهد قدر المستطاع للتوفيق بين رغبته هذه، وما يسميه هو مصلحة البلد.
تسري تلك الروح الرجعية في نفوس طبقات الأمة المختلفة، ويجهرون بها على رؤوس الأشهاد، وينادون في الوقت عينه بأنهم يرجون التقدم إلى الأمام، تعبث بكل موجود من الموجودات، إن بالعائلة أو الحكومة أو الفرد في ذاته، كما تعبث بالتعليم والتجارة والصناعة والزراعة، تعبث بالأجسام كما تعبث بالعقول والأرواح ولا تقف عند حد رغم أنف أحسن المفكرين والكتاب المعتبرين عندنا، فإن دفعهم تفكيرهم وأظهروا للناس جديدا أنها عليهم الآخرون، وما أسرع ما ينسحب ذلك المفكر هاجرا وراءه رأيه!
كنت عند صديق من أيام، ودار الحديث حول العائلة، هو وأنا وكل مصري مقتنع بفساد نظامها الحاضر، وهو والكثيرون من أمثاله لا يجدون حين يريدون الإصلاح إلا الرجوع لبناء عائلته على نظام العائلة العربية التي كانت موجودة في صدر الإسلام، وماذا كان نظام هذه العائلة؟ هو لا يعلم والأكثرون من أمثاله لا يعلمون؛ لذلك أجد صعوبة في إقناعه بالإقلاع عن هذا الرأي وبأن الإصلاح يجب لينجح أن يكون أساسه الحاضر وما يحيط بالحاضر من مؤثرات الوسط والمدنية، والواقع أنه لو تدبر هذا الأفندي وغيره أمر العائلة القديمة العربية ونظامها النصف بدوي عند طائفة، والترف الفاسد عند طائفة أخرى لما تاقت نفوسهم لها، ولكنهم يسمعون أن بعض النساء عند العرب كن متفوقات في الشعر وبعضهن كن يواسين الجرحى في الحروب فيجيء إلى نفوسهم خيال غريب من هؤلاء النسوة، ويريدون أن تكون العائلة المصرية كالعائلة العربية، وكأن حياة العائلة يدخل في نظامها قول الشعر أو مواساة الجرحى.
غير مسألة المرأة مما تحتله الأفكار الرجعية احتلالا ظاهرا مسألة اللغة، يريد الرجعيون فوق أن تبقى قواعد النحو والصرف على ما وضعها أبو الأسود من ثلاثة عشر قرنا مضت أن يحفظوا صيغة اللغة كما كانت أيام العصر القديم، ويريدون أن تبقى قواميسنا قاصرة على ما كان في العهد الأول، وكأنهم ما علموا أن اللغة نفثة من روح الأمة تظهر فيها أفكارها وإحساساتها، ولباس من ملابسها يضيق ويتسع بمقدار ضيق أو اتساع حاجيات الأمة وكمالياتها، ويعلم الله لولا أن كلمات تدخل اللغة رغم أنف هؤلاء الرجعيين وتندمج فيها لمطلق حاجة الناس إليها لكنا أشد فقرا مما نحن اليوم، ولو أن عندنا روحا كريمة تحس بحقيقة حاجاتنا لكانت هذه الكلمات الجديدة التي نجيء بها من لغات أخرى أو التي نشتقها من لغتنا أضعاف ما هي عليه اليوم، غير مسائل اللغة والمرأة مسائل كثيرة، وما رأيت مسألة عندنا أصبحنا ندعو فيها للتقدم إلا ما أرغمنا عليها منافسة الأجنبي لنا في أمور معيشتنا، وما أظن الحياة القائمة على مثل هذا الدافع الواقفة دونه حياة تبعث للنفس الأمل أو للقلب السرور.
23 يناير 1910
تلك الأرض في كفنها أم هي الطبيعة تهيئ نفسها وتلبس لعرسها، وذلك الشيب يصيب الأشجار من قدمها إلى رأسها أم تلك الحياة الجديدة تتمشى في عروقها.
أثلجت السماء وبعثت على البسيطة وما فوقها جلبابا أبيض يغطي كل سطح من سطوحها، ولقد كنت إذ ذاك أعبر الطريق وكأن لم ترض علي بردائي الأسود أو كأنها غارت فيه من لون الشباب وقد أكهلتها القرون فعملت لصبغة بياضا، وتلك أول مرة سمح لعيني فيها أن ترى الجو ممتلئا كله بأجرام بيضاء صغيرة لو لم يكن فيها لين الملمس لقلت شهب تساقط على أرض مجرمة أو ملائك تهبط لإسعاد الأشقياء، أو كأن الشتاء في قوته لم يرض أن يكون أقحل مجدبا فجاء من الزينة بما يضاهي به جمال الربيع وإن كانت زينة مستعارة لا تلبث أن تسقط وتظهر الطبيعة ثانية جرداء كشراء كالمرأة القبيحة تجمل وجهها وما هي إلا أن تسقط عاريتها ويظهر للناس قبحها، ولكن الخير أن يجني الإنسان من كل شيء أحسنه؛ لذلك ذهبت بعد غذائي إلى حديقة اللكسمبور أرى فيها زخرف الشتاء وقد تمتعت العين فيها بزخرف الربيع.
دخلتها فكأنما دخلت معبدا أصبح بين الآثار لا نسمع فيه رنة ولا طنينا، أو مقبرة مهيبة تجددها السماء، وسلكت طريقي فوق ثلج منسوج على بساط الحديقة لين تحت القدم وتماثيل الرجال أعطتها الطبيعة من الشيب ما ضنت به يد الإنسان، وغزال نسج الثلج غرة في جبينه وأشجار الزهر وهبتها السماء من نرجسها ما ضنت به الأكمام، وبعث الله من فوق علامة المساواة على أرض فرق الناس بينها فأصبحت تراها ولا تميز فيها بين طريق دقته الأرجل ولا مفارش الحشيش، بل كلها مسطوح ناصع البياض كأنه قلب الطفل لم يدنسه عالم الناس والمادة.
وبقيت في الحديقة زمنا وأميل أحيانا فآخذ الثلج بيدي وهو في لينه كأنه القطن الأبيض فإذا ما ضغطته تجمد حتى يتحجر ثم قذفت به فروع الأشجار وهي بيضاء من جانب سوداء من آخر.
وما كان السماء العادلة لتفرد مكانا دون آخر بجودها، بل حيث قصدت من سهول المدينة وسطوحها ترى المنظر متكررا أمامك لولا ما يذيبه الملح في الشوارع وما تقضي عليه أقدام السائرين.
29 يناير 1910
أسطر اليوم حادثة من آلم الحوادث التي أصابت هذا البلد العظيم والتي لم تجد لها مثلا في التاريخ من سنة 1802، ارتفع نهر السين فجأة وعلى غير انتظار، وظل يعلو من ساعة لساعة حتى أصبحت الملاحة فيه غير ممكنة لعدم استطاعة القوارب أن تعبر من تحت القناطر، وتعطل بذلك عمال الملاحة عن العمل، وظل النهر بعد ذلك يتزايد ويرتفع ماؤه من غير هدأة ولا انقطاع.
استمر يتزايد فاتصل ماؤه أولا بالشوارع المنخفضة ومنعت البلدية الناس عن المرور فيها، ولما كان عددها قليلا بادئ الأمر لم يكن شأنها من الأهمية بحيث تقلق له النفوس أو تتهيج الخواطر، لكن السرعة المتزايدة التي كان يعلو بها النهر جعلت تزيد في عدد هذه الشوارع المسدودة يوما بعد يوم، حتى إذا هي بالأمس شيء كثير، ولقد بلغت المياه أن وصلت إلى ما فوق ركب الخيل التي كانت تسحب عربات النقل فتنقل من يريدون الخروج من منازلهم، وحبس الناس عن بيوتهم وحبس عنهم طعامهم وكأنهم وما أجرموا فريسة هاته الطبيعة الهائجة، ولاح لي رابع يوم من هياج النهر أن أسير على جوانبه فاصطحبت صديقا وخرجنا حتى وصلنا الشاطئ، هناك رأينا الجموع الحاشدة ترمق بعيون ملأى بالغيظ والاسترحام ذلك الذي أزعجها عن سكينتها.
جعلنا نسير مع الشاطئ وفي اتجاه التيار تزحمنا أكتاف الجمع ونزحمهم حتى وصلنا (الكي دورساي
Quai d’Orsay ) ومحطته، ولقد كنا في طريقنا نرى الشوارع المسدودة والطرق علا فيها الماء فيأخذنا الهول، لكن ذلك لم يكن شيئا إلى جانب هذه المحطة ارتفع فيها الماء فلم يبق ظاهرا منها سماء ولا أرض إلا سلك التلغراف يمر من فوق الماء...
وعند ذلك المنور الذي يطل منه الإنسان على الوهدة الأرضية موضع الحركة الدائمة ومسير القطارات التي تخرق أرض المدينة يقوم فنار السكة الحديد ولا يزال منيرا، وكأنه بلونه الأحمر يبكي دما على هاته الأماكن التي أغار عليها الطوفان فأخرس صوتها، وقد شاهدها هو من قبل مكان العمل وموضع ضجة النازحين والقافلين من أهل باريس وفرنسا، كم كانت تزعجه بالأمس صيحات العمال أو تستبكيه دمعات المودعين، فإذا به اليوم ينعي ذلك الصمت المطلق بعد أن خان المكان صوته واختنق بعبرته!
استمررنا في طريقنا والضجة هي الضجة والزحام هو الزحام، وعلى طول الشاطئ يرى الإنسان المستطلعين خبر النهر، ومن بينهم العمال لم يبق لهم من عمل ينظرون بحنق وأسى وغيظ وحزن وتهيج واستسلام إلى ذلك الذي ربط أيديهم عن العمل وتركهم وكأنهم كسالى، وهم ما عرفوا للكسل اسما ولا وجدوا إليه يوما طريقا، وظللنا في مسيرنا حتى وصلنا برج إيفل، ولم يكن الماء ولكن امتلاء الشارع بالماء حجزنا عن إتمام ما نريد واضطررنا لنتخذ طريقا آخر، فصعدنا سلما عاليا جدا أنهكنا، وبعد سير طويل رجعنا إلى الشاطئ ثانية.
ولقد جعلت أتردد من يوم لآخر بعد ذلك لأرى من شأن النهر، وما أحدث وجدد، ولقد ألحق بالبلد أضرارا جمة، فقضى انقطاع الشوارع بانقطاع المواصلات فبطل عمل المتروبوليتان (سكة حديد تحت الأرض) وتعطلت التراموايات والأمنوبيسات والأوتوبيسات، وعزت العربات فلا يسهل وجودها، كذلك انقطع عمل بعض التياترات بانقطاع الكهرباء عنها، وهبط عدد الزوار في التياترات العاملة، كما هبط وارد البلد من المطعومات.
30 يناير 1910
ومن أعظم الأضرار التي حدثت دخول المياه إلى (بدرونات) المخازن الكبيرة كاللوفر والبرانتن، ولقد رأينا طولمبة ترفع من مخازن اللوفر مياها غزيرة كثيرة لا شك أنها أتلفت قسما كبيرا من البضائع.
ولم تختص باريس بأذى النهر، فقد حصل في الضواحي ضرر أكبر هز من إحساس الناس، ودفع رئيس الجمهورية أن يزورها ليرى المنكوبين يرتعدون في البرد ويطلبون المعونة، فيمد إليهم يد مساعدة تعينهم على كبير نكبتهم بعد أن انهدمت بيوتهم وانتبذوا بالعراء.
هذه هي المصائب التي أصابت باريس هذا العام، مصائب تألمت لها نفوس بني الإنسان فساعدوا المنكوب وخففوا بذلك من عظيم ألمه لوقع المصاب .
10 فبراير
الحمد لله، الحمد لله ألف مرة ... ما أشنع الحال حين تكون باريس خالية من الكهرباء والغاز، حقيقة باريس مدينة النور وهي من غير النور كالحة، انقطعت الكهرباء والغاز على أثر فيضان السين فدخلت البلد - بلد الليل - في حزن ولبست الحداد، فكنت تمر أمام قهوة فترى المصابيح والشموع بلونها الأحمر الدامي كأنها تبكي على أيام العز التي ابتعلها النهر في جوفه، وكنت تذهب في الشوارع الكبيرة عند الأوبرا فيخيل لك أنك تسير في مقبرة بعد إذ كنت لا تراها خالية لحظة من الحركة، والحمد لله عادت الكهرباء وعاد الغاز وعاد إلى باريس نورها.
بالله ما أحلى آية النور! ولئن سرت في حلكة الليل نجوى الغرام وتدثرت الموجودات بدثره فإنما على موجات الضوء مسبح السرور والجمال والجلال.
وما أصدق قولهم إن للنهار عيونا! وما دام الضوء فالنهار قائم، فكم من إنسان اعتاد أن يرى بعينيه في ضوء الكهرباء ما لا مجال معه لغش أو تدليس، ثم إذا هو حلف بعد أول ليله من ليالي الشموع في باريس أن لا يدخل قهوة حتى تدخلها الكهرباء واكتفى أن غش أول ليلة.
واليوم عاد النور وعدنا نسير فيه ومعنا عيوننا فنبصر ما أمامنا.
11 فبراير
أخذت من عطية اليوم هذا الكتاب
عزيزي محمد:
رأيت اليوم الكتاب الذي أرسلته لأبيك، وإني أحمد الله الذي أنجاك من الطوفان من غير أن تلجأ إلى سفينة نوح، لو علمت كم أثارت هذه الحادثة هنا من الوساوس وكم بعثت من الأسى إلى قلوب ومن الشمات لآخرين لما استخففت بها كما استخففت في كتابك الذي أرسلت إلينا، ولكنك في شبابك وسط مدينة الشباب قد نسيت ما تحويه هذه القلوب العجوز التي تحيط بنا.
أظنك تذكر تعلق أخينا ... بقريبته وسعيه للاقتران بها، وهو الآن أشد ما يكون بها تعلقا بل جنونا، تراه يقرأ رواية من الروايات التي تظهر عندنا أو يذهب إلى التياترو فيريد أن يمثل مع (فلانة) كل الفصول التي قرأ أو رأى، ولولا أن الفتاة بعيدة عن يديه لكان قد اختطفها وهرب بها ليمثل بذلك فصلا قرأه في إحدى روايات مسامرات الشعب (على ما أظن) التي ظهرت أخيرا.
الحال السياسية هنا تتموج، والجرائد تصيح لمناسبة ما تقرر من عرض مسألة قنال السويس (فيما يختص بمد أجل الشركة) على الجمعية العمومية، وكل صحفنا إلا القليل مما تعرف تحض على رفض المشروع، ويظهر أن بعضها قد درسه درسا مدققا مسهبا، ويتكلم عن علم (شيء غير عادي في الصحف المصرية)
هذا ولعل الأمور عندك على ما تحب والسلام.
عطية
18 فبراير
عزيزي عطية:
لعل خطابي هذا يصلك بعد انفضاض الجمعية العمومية، وتكون بذلك قادرا على أن تصور لي في كلمة إحساس الناس نحوها وسلوك الأعضاء والوزارة فيما بينهم، كما أني آمل أن يكون قرار الجمعية صادرا عن بحث ودرس وتقدير لمصلحة مصر لا عن مجرد إحساس تدفعهم إليه كتابات الجرائد أو رغبة في إرضاء الحكومة طمعا في رتبها ونياشينها.
والحال عندنا في باريس فيما يتعلق بهذه المسألة غريب أيضا، فإن أخواننا المصريين هنا عقدوا اجتماعا لجمعيتهم وكلهم الحماس، ولا أنكرك أن قد سرت لي العدوى أنا الآخر، ولكن مصيبتي أني أرجع بعد كل مسألة لنفسي أسألها عن حقيقة عملها، وأخيرا جمعوا جمعية ثانية ولم أرهم أكثر حماسا في اجتماع منهم في هذا الاجتماع، ولقد قررنا إرسال تلغراف للبرنس رئيس الجمعية، أظنك قرأت خبره في الصحف.
أما عن أعمال أخينا ... فلا غرابة فيها ما دمت تذكر أطواره السابقة وأحواله، هو من جماعة الذين يريدون أن يعملوا كل ما يسمعون أن الآخرين يعملونه؛ لذلك لا أعجب إذا علمت أنه اختطف مخطوبته وطار بها في الجو بعد أن اخترعت الطيارات والبالونات.
لقد رجع إلى باريس كل بهائها وإن كانت بعض المواصلات لا تزال معطلة، وسأذهب الليلة إلى التياترو آمل أن أجد فيه رواية طيبة وممثلين كالذين نراهم دائما هناك.
وأهديك عظيم تحياتي والسلام.
محمد
21 فبراير
بينما أنا جالس اليوم على المائدة أتناول طعام الغداء إذا المسيو ج. ب. يسألني إن كنت قد علمت بمقتل رئيس الوزارة المصرية . رئيس الوزارة ؟ بطرس غالي! نعم هو، قتله شاب من المصريين الذين كانوا يتعلمون في جنيف واسمه إبراهيم ناصف الورداني ... من هذا الورداني؟ لا أعلم؟ ولماذا لم يجئ عن ذلك خبر بعد.
ترى ماذا ستعمل الحكومة إزاء هذه الحادثة؟ لا بد ستتخذ أشد الإجراءات وستظهر من رهبتها في مظهر المنتقم فتثير الأرض والسماء وتقلب البلد من أولها إلى آخرها غيظا وغضبا.
واستفسرت ربة البيت عن سبب الحادثة فلم يكن بأسرع من أن أخبرها المسيو ه.ج. إنما أثارها التعصب الديني؛ الوزير المقتول مسيحي والشاب القاتل مسلم، وإذن فليس هناك شبهه في أن الدافع للقتل هو دافع الدين، ذلك ما فسرها هو به وما فسرتها به أيضا بعض الجرائد، ولقد جاهدت كثيرا لأنزل هؤلاء الناس عن رأيهم حتى أظهروا لي أنهم مقتنعون بما أقول، وإني لأعجب جدا كيف يحسب المسيو ج. ب. وأمثاله من جماعة الذين نزلوا عن رأيهم أن لا صلة بين المسيحي والمسلم إلا صلة الدين مهما عاشا على أرض واحدة، إنهم لا شك يحسون في أعماق نفوسهم أن للدين عليهم سلطانا وأنهم ينساقون إليه في كثير من معاملتهم لغيرهم؛ لذلك هم يدعون على الغير في كل صغيرة وكبيرة دعوى التعصب.
28 فبراير
وردت الأخبار بتفصيل حادث مقتل بطرس باشا، ولم أكد أقرأ تقرير القاتل عن الأسباب التي حملته على ارتكاب جريمته، واعتباره رئيس الوزارة خائنا لوطنه حتى بادرت أبلغها لربة البيت وللمسيو ج. ب. وأعدت الكرة لأقنعهم أن في النفس الشرقية شيئا غير هذا الخيال الذي يتصوره الغربيون فظيعا مريعا آخذا بها مستوليا عليها خيال الدين الحاض على التعصب وسفك دم كل كافر كما يزعم الأفرنج، أسرعت فأخبرتهم بذلك فكان جواب المسيو ج. ب: ممكن جدا أن يكون هذا صحيحا ما دام هذا الشاب قد تعلم في أوربا ...
فقط لأن هذا الشاب تعلم في أوربا لا تكون جريمته مبنية على أساس من التعصب الديني الشنيع! والآلاف والملايين الأخرى التي تسكن الشرق ولم يساعدها حظها أن تتعلم في أوربا كلها مسوقة بهذا الدافع في معاملاتها مع الغربي! ... ذلك ما يعتقده ويقنع به عدد كبير من الأوربيين، وقد يكون في اعتقادهم شيء من الصحة؛ فإن الشرقي المسلم أو غير المسيحي الذي يرى هذا الأجنبي عنه في الوطن واللغة والعقيدة آتيا يستعبده ويبتز منه ماله ونفسه يرجع دائما لتكبير كل الفروق التي بينه وبين ظالمه، والدين أحد هذه الفروق ولا يستهان به؟ ولكن ليس معنى ذلك أن الإحساس الديني هو كل شيء في النفس الشرقية، بل معناه أنه سبب من أسباب الثورة ضد استعباد الغرب للشرق وصيحة داخلية في كل نفس حية ضد هذا الظلم الصارخ الذي ترمي به أوربا الشرقيين.
ماذا سيكون نتيجة قتل بطرس؟ وردتني كلمات في هذا المعنى مختلفة في لهجتها ومعناها، وعندي أنه رجل مات سيخلفه رجل! ما كان خيرا منه أو شرا منه، ودرجات الخير والشر لا نهاية لها.
6 مارس
كنا في عزومة كبيرة هذه الليلة، وكان على المائدة اثنا عشر شخصا: ستة من السيدات، منهن ثلاث فتيات وسيدة في الخامسة والثلاثين ونصف وعجوز، وكان معي من سني شخص آخر، والباقون بين الثلاثين والأربعين إلا واحدا فوق هذا السن، وكان قائدا في الجيوش الفرنساوية، وهو زوج السيدة النصف وأبو إحدى الفتيات، وزوجة تمتاز خلقتها بالوقار ولها نظرة ثابتة، أما ابنتهما فهي أجمل الموجودات وأعذبهن حديثا ونظرة، ولقد يأخذ الإنسان العجب كيف ينبت هذا الجندي الجاف مثل تلك الزهرة اليانعة.
ولقد أخذت هذه الفتاة مكانها بيني وبين صديقي الشاب، وجلست عن يميني السيدة النصف وأحاطت هي وإحدى الفتيات بالمسيو ج. ب. أما الجنرال فقد جلس بين ربة البيت العجوز وبين بنت الخمس والثلاثين.
أعجبني من عشاء الليلة ما دار فيه من المحادثة، وقد امتازت بكثرة وسرعة تنقلها من موضوع إلى آخر، وفي الوقت عينه بنوع من الدقة استلزمه الموقف في أحيان كثيرة، وإني الآن أجاهد لأستعيد هذا الحديث مقدار ما أستطيع:
الجنرال :
حقيقة أن الإنسان ليتمتع بالطعام الذي يطهي في بيت مدام ج.
زوجته :
ولا تتمتع بالطعام الذي يطهى في بيتنا ... يا ...
الجنرال : ... طيب! ... نسأل مارجريت.
ابنتهما :
أنا ما ليش دعوة.
مدام ج :
سيدي الجنرال لطيف للغاية، ولكني أشهد أنا لمدام لاجنرال أن ما يطهى في بيتها من أشهى ما طعمته في حياتي.
مسيو ج. ب :
هذا صحيح، ولا أنسى في عزومتنا الأخيرة طبق الحلوى الذي قدم لنا، فقد كان حقيقة مما يسيل له اللعاب.
مدام ل. (وهي السيدة ذات الخمس وثلاثين سنة) :
إنا لا نزال في الشربة فأرجوك أن لا تذكرنا بالحلوى من الآن، أو أنك من الذين يحبون أن يجمعوا بين الأول والآخر في لحظة...
مس هارتمان (وهي فتاة أيقوسية الأصل حمراء اللون لعوب) لجارها :
صحيح أنك تفضل جبال أيقوسيا على سويسرا! كم أنا مسرورة، بل سعيدة أن أعلم أن معي أجانب يحبون جمال بلادي.
مسيو ج. ب. (يشاركهما في الحديث) :
يظهر حقيقة أن إيقوسيا جميلة للغاية، فإني وإن لم أذهب إليها قد أخذت عدة كروت بوستال منها، وكلها لمناظر بديعة للغاية، وقد أخبرني أحد أصدقائي الذين كانوا هناك الصيف الماضي رأى أنه في (الهيلاندز) جمالا رائعا، ولولا أنه كان يشكو الوحدة بعض الشيء لأمضي فيها شهورا أكثر من التي أمضاها بها.
مارجريت :
أظن أن الوحدة في مثل هذه الأماكن الجميلة أشد ما يكون غضاضة على النفس؛ إذ نصف المتاع بالجمال أن نجد إلى جانبنا صديقا يشاركنا في النظر إليه والإعجاب به، وإذا صح ما يقولون من أن الوحدة تدع للإنسان الحرية ليرسل بخيالاته وأحلامه إلى عوالم السعادة؛ فإن صديقا طيبا هو أحسن ألف مرة من هذه الوحدة.
مدام لاجنرال (أمها) :
أنت تتكلمين كفيلسوف كبير ياعزيزتي.
فألقت الفتاة بنظرها إلى الصحن أمامها ولم تجب، وأخذت الكلمة عنها مدام ل. فقالت: صحيح ما تقوله مدموازل؛ فكثير ممن عرفت من الرجال والنساء يخبرني عن هذه الوحدة التي يحسون بها حين يكونون في سويسرا أو في السافوا، فإذا احتمل الواحد منهم يوما أو يومين مسرورا بالجمال المحيط به يجيئه اليوم الثالث برغبة شديدة في أن يكون إلى جواره صاحب يفضي إليه بما يفيض عن نفسه من الإحساس بالجمال الذي حوله ...
مسيو ج. ب :
والرجال دائما يحبون أن يكون هذا الصاحب سيدة رقيقة تزيد في الجمال الذي حولهم جمالا ورقة.
مدام ل :
مش كده؟!
الجنرال :
أما أنا فأسعد أوقاتي التي أمضيها منفردا حيث أكون.
مدام لاجنرال :
بالله أليس زوجي غاية في اللطف والرقة!
مسيو د. (وهو أحد الرجال أصدقاء المسيو ج. ب.) :
يظهر حقيقة أن هناك جاذبية دائمة بين الرجل والمرأة، وأن الأماكن الجميلة تزيدها قوة ونشاطا؛ فلقد كنت أحس قبل زواجي حين أجد نفسي إلى جانب البحر أو على شواطئ البحيرات شيئا ينادي دائما يريد أن يجد شخصا آخر إلى جانبي، أما الآن فقد ضعف هذا الإحساس لأني قليلا ما أكون وحدي فإذا جاءت هذه الفرصة عددتها غنيمة لا تعوض.
مدام ج :
انتهيت قريبا من قراءة (دومنيك) للمرة الثالثة، وإني لأجد فيها ما يعبر عن إحساس الشباب أحسن تعبير، حقيقة أنها رواية ظهر فيها قلم (فرومنتن) بقوته ورقته، رواية من أجمل ما يكون.
مدام ل :
آه دومنيك! كم أنا أحب هذه الرواية، وأحسبني لو قرأتها عشر مرات، بل عشرين، بل مائة مرة لا أشبع منها، وما أنسى فيها هذه المسكينة مادلين ومبلغ ما عانت، كم يعاني الإنسان في الحب.
الجنرال (وقد جاء طبق الحلوى) :
بالله هل طعمت في حياتك حلوى أحسن من هذه! وهل ما أكلناه في بيتنا المرة الأخيرة يوازي شيئا إلى جانبها.
مسيو ج. ب. (لمدام ل) :
وهلا تعجبك أيضا في دومنيك أخت مادلين.
مدام ل :
لا أستطيع أن أقول لك تماما ما إحساسي نحوها؛ لأني لم أكن يوما ممن يحببن هاتيك اللاتي يمرضن أو يمتن في الحب، وزادني ثقة بعقيدتي ما علمته من أن الحب قلب سريع الانتقال.
وأخيرا انتهى الطعام، وانتهى بذلك القسم الأكثر لذة من الليلة، ولقد بقي بعض الزائرين إلى ما بعد منتصف الليل ثم انصرفوا.
الفصل الثالث
في الرفييرا
16 مارس
من يومين صممت على مغادرة باريس إلى شواطئ المتوسط؛ طلبا للراحة والرياضة، وحبا في زيارة هاته البقاع التي يتحدث الناس بجمالها، فأعددت معداتي وأخذت بالأمس القطار القائم من باريس الساعة التاسعة والدقيقة خمسين مساء قاصدا كلرمنت فراند
Clermont Ferrand ، وكنت آمل حين رأيت القمر في السماء أن أجد الفرصة لأمتع النظر بالأقطار التي نمر بها، لكن سواد الليل غطى على ضوء القمر وساعده البرد فغطى على زجاج النوافذ بثوب من البياض الذي جعل يتزايد كلما تقدم الليل؛ لذلك فضلت أن أنام، غير أن النوم في السفر وتحيط بالإنسان ضجة الوابور واهتزازه الدائم ليس بالأمر السهل؛ لذلك قمت أكثر من مرة وسط نومي حتى إذا اقتربت الساعة السادسة واقترب معها مقصدنا قمت أتميز الوجود، ولما أكد أرفع ستار الباب حتى إذا النور يسقط فوق الليل فيمحو آيته، وبعد سويعة تميز قرص الشمس الأحمر، ما أبعد عهدي به! ظهر فإذا البسيطة نائمة تحته يكسوها ثوب أبيض من الظل الثليج، والقرص هادئ باسم يحيي الكائنات كلها ويرجو لها صباحا سعيدا بعد غيبته، ثم هي كلها حيرى بعد أن ضربت في تيهاء نومها طول الليل تضرع للشمس أن ترفع عنها الغطاء، فتبعث الشمس بأشعتها على هاته المسطوحات الواسعة المرسلة أمام العين إلى الأفق متموجة تعلو وتهبط وقد غطت وجهها الشجيرات الصغيرة.
ووصلت كلرمنت بعيد الساعة السادسة فذهبت من محطتها إلى الفندق فأخذت فيه طعام الصباح، ثم خرجت أبغي التفرج على ما في البلد.
خرجت فقابلني أمام الفندق تمثال الجنرال ديزاي
Desaix
وتمثال آخر لقائد لم أعرفه وقد كتب تحته: «إنما حملت السلاح من أجل حرية الجميع
J’ai portié les armes pour la iberté de tous » ثم قصدت الكتدرال نتردام، وهي متسعة حسنة التوازن كل أعمدتها منقوشة ملأى بالتماثيل وأبدع ما فيها بابها الكبير الدقيق الصنع.
وانحدرت منها فزرت تمثال بسكال، وهو رفيع يحكم المدينة من أعلاها وينظر بعيونه الجامدة إلى مسقط رأسه، خرج منها في القرن السابع عشر، وظهر تفوقه وهو ابن ثمانية، ومات في التاسعة والعشرين، وقد خلف وراءه أثرا لا يمحوه الزمان، أثرا فكريا يمثل فكر الزمان ما بقي الزمان.
من عند ميدان بسكال يمكنك أن تأخذ فكرة عن وضع البلد الطبيعي العجيب، البلد واقعة على مدخل (الأوفرن)
Auvergne
الجميلة تحيط بها من كل النواحي الجبال والبراكين الباردة، وهي بالذات مبنية فوق سفح فشوارعها تصعد واحدها فوق الآخر بنظام غريب حتى لترى فيها ثلاث شوارع لا يفرق بينها إلا تفاوتها في الارتفاع: شارع مونلوزييه، وميدان الأسبانيول القائم عليه تمثال بسكال، وشارع أرفع لم أصعد إليه. ويهبط منحدرا متدرجا إلى ما تحت شارع مونلوزييه حوار هابطة ضيقة سرت فيها على أمل أن أصل منها إلى الجبل فاستوقفني
la fontainie Petrifiante
حيث يتحجر كل ما ينزل عليه ماء هذا النبع على ما أخبرني مديره؛ إذ قال إن الحيوانات الطبيعية أو الأشجار أو ما سواها تبقى ينزل عليها الماء حتى تصير حجرا.
الأماكن التي تستلفت نظر الزائر قبل غيرها في بلاد فرنسا هي الكنائس والتماثيل والمتاحف، وهاته الأخيرة أكثرها استلفاتا للنظر فإنها تحوي من بدائع الفن ومن الأدلة الناطقة على ذوق أهل البلاد ومن الآثار التاريخية ما يأخذ بالفؤاد؛ لذلك أسرعت إلى متحف كلرمنت، وهو وإن بات صغيرا فإنه حيوي كثيرا، ويحوي من كل شيء ومن كل ما يخص مقاطعة كلرمون، يحوي التماثيل والملابس والأحجار والنقوش والصور وكل هذه الأشياء الفنية التي يعشقها الفرنساويون، والتي تربي إلى حد كبير الذوق والعقل والإحساس، ومن الصور التي أخذت بنظري من القليل الذي رأيت صورة لغروب الشمس على شواطئ النرمندي والليل يسقط فوق النهار وتنساب ظلماته وسط الضوء المتضائل والشفق الأحمر يتفانى هو الآخر تحت قوة الظلام، كذلك صورة مثل فيها الشباب في صورة فتى غض جميل يلمح الإنسان على وجهه ذلك الأثر الذي تخلفه سن القوة القوة والجمال، وفي نظراته معنى الحياة والرغبة، وفي شفاهه القبلة الحائرة لا تدري أين تقع.
على مقربة من كلرمون تقع روايا ويصل الترام ما بينهما، فلما نزلت منه صعدت أريد قمه الجبل ولكن بلغ بي الملال حين رأيتني بعد أن أجهدت نفسي أرى القمة لا تزال على بعدها الأول، وإنما أمسك علي قوتي أن رأيت الماء يتخدد الجبل وينزل فيدير معامل غسيل أقيمت عند منتهى السفح، أمسك ذلك علي قوتي لأني أردت أن أتبع الماء إلى منبعه، فتركت الطريق العام وما يحيط به من الصخر عن جانب ومن الوهاد المبنية فيها المعامل على الآخر، وسرت فوق العشب على عكس تيار الماء، ثم وصلت إلى مرتفع من الجبل قد قام فوقه الشجر وهو لا يزال من أثر الشتاء أجرد فقيرا، فهالني أن أجاهد لارتقاء هذا المرتفع وقد أخذ مني الجهد وكدني السير، فجلست مستظلا بجزع شجرة يداري عني قرص الشمس، وبقيت حول الساعة أرقب ذلك الماء المتدفق ينساب بقوة هائلة مدفوعا بقوة الانحدار، وهو لا يقدر من أمره على شيء، ويرغي ويزبد لضعفه أمام الطبيعة فلا ينفعه إرغاؤه، ويظل في انحداره حتى يتلقاه عند أسفل السفح عفريت السموات والأرض - الإنسان - فيستخدمه لأغراضه، ويحسب أنه مختار في ذلك في حين أنه ليس أقل من هذا الماء خضوعا لقانون الطبيعة العاتية.
وانحدرت مع الطريق المعتدل راجعا فأدت بي إلى منازل روايا، وهي عندي أحسن نظاما من كلرمون، وسرت إلى محطة الترام فقابلني في الطريق ما يسمونه الكوبري الكبير، وهو من غير شك حقيق بهذا الاسم، إن لم يكن بأفخم منه، فهو قائم فوق بطن من الأرض منخفض يرتفع عن سطحها خمسين مترا بالأقل، ويبلغ طوله أكثر من مائتي متر، وتمر من فوقه ومن تحته الطرق، وهو من الحجر قائم فوق عمد من الحجر يبلغ من خمسة عشر إلى عشرين مترا في السعة، ويضاهي بعظمته الآثار الكبيرة الخالدة.
ورجعت إلى كلرمون بعد أن قضيت النهار سيرا.
18 مارس (في الطريق من كلرمون إلى نيم)، قمت من كلرمون بقطار الساعة السابعة صباحا، وأنا أعلم أني سأصل إلى نيم حوالي الساعة السادسة من المساء ... إحدى عشرة ساعة في السكة الحديد! كيف يمكنني أن أمضيها وأنا وحيد؟ ... اصطحبت كتابا من حكايات موباسان، وابتدأت أقرأه لأول ما تحرك القطار، الحكايات ألذ ما يكون، ولا بد سأتي عليها في سويعات، فما عسى أنا صانع بعد ذلك؟
وبعد محطة من كلرمون ركب القطار معي شيخ فرنسي، وجعلنا نتحادث ويسألني عن مصر، وينصح لي كما ينصح كل أوربي أن أطمئن للحكم الإنجليزي الذي ملأ بلد الفراعنة خيرا ونعمة ... وله ولكل أوربي العذر فيما يقول؛ فعلى الشكل الذي يفهمون به الحوادث والأشياء من بعيد لا نعمة تعدل نعمة الحكم الإنجليزي عندنا، أمن سائد حيث لا تقوم مذابح يقتل فيها الأوربيون تقتيلا، ووفرة ونعمة لأن لمصر تجارة تزيد على أربعين مليونا وإن كان القسم الأكبر منها لا يتعلق بثروة مصر، وتعليم راق لأن هناك أسماء مدارس كأسماء المدارس العالية في أوربا ... فماذا يريد المصريون فوق هذا؟
المصريون يريدون أن تكون مصر للمصريين.
وتركني الشيخ بعد قليل ورجعت إلى كتابي، ولكني لم أبق طويلا حتى إذا بالقطار دخل فجأة من ذلك السهل الذي كان يرمح فيه لتحيط به جبال عالية يبقى بينها يخرقها لحظة ويتهاوى على سفوحها أخرى، تظله أشجارها من ناحية ويطربه خرير نبوعها من ناحية حتى يتخلص منها إلى نيم، ويكون بذلك قطع طريق وسط جنة منيعة ملأى بآمال الربيع وثلوج الشتاء.
تلك هي الأوفرن البديعة.
سار القطار بين جبالها يظهر مرة فتظهر أمامه حزون وبطون، وفوق الحزن تقوم الأشجار قاتمة اللون لا تزال في مأتم الشتاء، وتصعد على السفح حتى تختلط هي والجبل بالسحاب الرفيع، وتتدفق في البطون مياه المنبع متلاطمة مرغية مزبدة، ما دامت في مبدأ نزولها من موضع رفعتها فإذا هي استوطأت مهادها الوضيع الغائر في الأرض هدأت ورقصت فوق سطحها موجات لطيفة دائمة الابتسام، كأنما هي حلم ذلك الماء المستسلم بعد ثورته.
ويبقى ذلك المنظر لحظة، ثم إذا الجبل انفتح بطنه وابتلع القطار في جوفه فأحاطت بنا ظلمة تبددها المصابيح ... وبعد لحظة إذانا تحت السماء من جديد، وإذا الخرير مستمر دائم، وإذا هناك بين الصخور والأشجار سكة ضيقة يسير عليها أحد هؤلاء الجبليين وتتبعه بقرته، وهو في وحدته ساكن العقل والنفس ينظر بعيون كلها الاستسلام وعدم الاهتمام لذلك المنظر الذي يرى كل يوم.
ويتكرر المنظر الجبلي المستوحش أمام العين ، ولكن في أشكال مختلفة جذابة كلها تأخذ بالقلب والفؤاد وتستهوي اللب، ويظل الإنسان محدقا بها مأخوذا بنشوة جمالها حتى يصل إلى غايته وقد سحرته الطبيعة وتمنى لو أن له كل يوم سفرة من كلرمون إلى نيم.
19 مارس
الآن ابتدأت جولاتي بين المدن القديمة التي شهدت الرومان في أيام دولتهم، وإذا لم يكن لمصري مثلي أجداده الفراعنة أجداد التاريخ أن يهوله قدم؛ فإن لهذه الأماكن ذات التاريخ البعيد لجاذبية لا أستطيع أن أتخلص منها، فتراني متى وقفت أمام بناء قديم احتلتني لمرآه هيبته وأخذ بنظري وسمعي وحواسي ومثل، أمامي ذلك الأجل الطويل الذي يصل مبتدأه بأيامنا، وذكرني بأولئك الذين استحالوا إلى الأرض ثم انتقلوا معها ومع الزمان وجاءت آثارهم ناطقة بالخبر الصحيح عنهم.
أنا اليوم في نيم هذا البلد القديم المملوء آثارا، لا يكاد الإنسان ينزل من القطار ويتدرك السلم النازل إلى الأرض ويسير في الطرقات حتى تقابله الآثار وتصل إلى نفسه ريح التاريخ، يحس مع أنه غريب عن البلد نازح إليه بجاذبية تدفعه إلى هاته الأماكن التي شادها الرومان بعضها للهوهم وبعضها لمنفعتهم، وكلما مر أمام أحدها وقف يحدق به مطيلا التحديق مستعيدا إلى رأسه المشاهد والأشخاص والأعمال والوقائع التي يعرفها عنهم.
أكبر هذه الآثار في نيم (الأرينا)، والأرينا بناء هائل بيضاوي الشكل (طوله مائة متر وثلاثين، وعرضه مائة، ويرتفع عن الأرض عشرين مترا)، بني في القرن الأول أو الثاني من الميلاد، وعشقت أحجاره بعضها ببعض من غير أن تصل بينها أي «مونة» شأن كل الأبنية الرومانية الكبيرة، وقد أعده الرومان للهو فكان يقوم عندهم مقام المراسح عندنا، فنرى في وسطه دائرة بيضاوية ترتفع حولها المقاعد بشكل (امفيتياتر) خمس وثلاثون صفا كانت مقسمة أربعة أقسام: أولها لذوي المقام، والثاني للشجعان، والثالث للناس، والرابع للعبيد. ويدخل إليها ببوابات كبيرة اتخذت فوقها أماكن لذوي المكانة والعظمة.
سوى الأرينا ترى في نيم البيت المربوع، وهو كذلك أثر روماني من أبدع الآثار وأجملها، وعني به أكثر العناية، وقد قامت حوله عمد تزيده جمالا، واتخذ في هذه الأيام متحفا يحوي آثارا قديمة وأشياء حديثة، وفيه مجموعة من النقود يرى الإنسان فيها نقود أغلب الأمم الحاضرة والقديمة.
هناك كذلك حديقة النبع
Jardin de la fontaine
وفيها معبد ديانا وهناك آثار أخرى كلها تبعث إلى النفس ذلك المعنى المهوب الغريب معنى القدم والفناء.
ولقد جاء صديقي ب. من مونبلييه إلى نيم لمقابلتي، وزرنا بعض هذه الأماكن معا، وآخر النهار سافرت إلى مونبلييه.
22 مارس
ليس لي أن أكتب شيئا عن مونبلييه، فإني وإن كنت قد بقيت فيها يومين وشهدت بعض الشيء من آثارها فلقد كنت مشغولا بصديقي ب. الذي أخذ كل وقتي ونفسي، ولم يسمح لي المقام معه أن أعرف عن بلده أكثر من أنه بلد ريفي ككل بلاد الريف التي رأيت: ككلرمنت ونيم أو أقل من هذه الأخيرة بعض الشيء.
أما اليوم بين جدران آرل فإني أحس بأقوى مما أحسست به في نيم، تصورت أمام عيني كل معاني القدم والفناء ظاهرة واضحة في هذه الآثار القديمة والأطلال الدراسة، وليست الأرينا وحدها التي هي أعرق في البناء بكثير من أرينا نيم هي التي تدفع لهذا الإحساس، بل إلى جانب الأرينا تقوم بقايا التياترو الروماني ولم يبق منها أحجار إلا منشورة، واثنين من العمد الكثيرة التي كانت ونقلت إلى الكنائس والهياكل، والمنظر كله يشعر بالقدم البعيد وتحس وأنت واقف في هذه الوحدة والصمت المطلق كأنما تناجيك من تحت الأحجار بصوت خافت تلك الأرواح البالية الفانية التي عمرت يوما ما هذه الأماكن.
أين ذهب هؤلاء الرومان الأقدمون؟ من يدري، ابتلعهم الفناء في جوفه الهائل ثم قذف بهم بعد ذلك أشجارا وحيوانات وجسوما انتقلت هي الأخرى مرات إلى الظلمة ثم ردت في أشكال مختلفة إلى نور الشمس الذي شهدها في غيرها من غير أن يحس لها من أجل ذلك بفرح أو ألم.
وهذا المرسح الدارس الصامت كان مكان الضحكات العالية والسرور الجم؟ وهذه العمد البالية كانت موضع الإعجاب بجمالها، وهذه الأحجار الضخمة موضع الهيبة وسط البناء، نعم كلها كانت كذلك، ثم ها هي اليوم ولا صوت لها ولا حياة فيها إلا حياة القدم المهيب.
والرومان الأقدمون كانوا سكان هذه الأماكن هؤلاء الناس الذين عمروا الأرض وانتشر عليها سلطانهم ولم يك لهم من منافس هم أشد صمتا من هذه الأحجار التي أرى.
وعلى مقربة من هذه الآثار ينصب نهر الرون قوي التيار، وقد شهد هو الآخر كل هذه التقلبات، وربما قذف مرات مع مياهه دماء وأشلاء وأشياء في الماضي، وهو مستعد لأن يقذف بالدماء والأشلاء في الحاضر والمستقبل إلى البحر، والماضي والحاضر والمستقبل كلها عنده سواء.
ترى في آرل متاحف تحوي الأشياء القديمة، وترى فيها سكانها المشهورين بجمالهم يروحون ويجيئون ويقضون حاجات الحياة من غير أن يفكروا في هذه الآثار المطروحة تحت أقدامهم، ولا في الجمال المتوجة به رؤوسهم.
أقمت في هذا البلد ليلة واحدة ونهارا، وكنت في كليهما ممتلئا سرورا وإعجابا ومهابة وأحلاما.
23 مارس
من آرل إلى طولون ... لا شيء يستدعي النظر غير البحر الأبيض الجميل الزرقة الخفيف الأمواج.
من طولون إلى نيس ... أخذت قطار شركة صغيرة من طولون إلى (هيير)، وأخذته لأنه يحاذي البحر فسار بنا من الصباح حتى الزوال بين البحر والجبل، والشمس تنكسر أشعتها على الأمواج زاهية تنسي الإنسان قتوم الشتاء العابس في باريس، ومن (هيير) إلى نيس رجعت إلى قطار ال (P.L.M) ، وبعد أن كنت في أرل ونيم بين الآثار القديمة تنبئ عن البائدين من بني الإنسان، أصبحت اليوم أسير بين آثار الطبيعة الهائلة الغريبة، بين جبال شامخة بعضها من الحجر الأحمر يقده الوابور كأنما يقد اللهيب وبعضا، من حجر متعدد الألوان غريب الشكل، ووصلت نيس حوالي العصر.
25 مارس
وصلتني هذا الصباح البوستة المحولة من باريس وبينها هذا الخطاب.
أخي محمد:
أكتب إليك والبلد تموج من أثر حادثة مقتل بطرس غالي، والحكومة تشدد النكير على كل من يظن صاحب أثر فيها، والبوليس السري يدور هنا وهناك وفي كل أنحاء العاصمة، والناس جميعا في انتظار نتيجة هذه الحالة الفردية الغريبة الكبيرة.
إما أنا فهادئ بين هؤلاء جميعا، وأنظر لما يدور بعين عودت أن لا ترى في الوجود خيرا ولا شرا، وأن لا تعتبر أكبر الحوادث التي يهتز لها الناس والحكام والعالم بأكثر مما تعتبر الحوادث الصغيرة التي تقع كل يوم؛ لأنها لا ترى في ندرة وقوع الأولى وخروجها عن المألوف من العظمة أو الغرابة ما يريد الناس أن يحبوه لها، ولا في كثرة وقوع الثانية وصغرها ما يضعف من أهميتها أو يقلل من قيمتها.
وأنت فما رأيك فيما يقع هنا؟ وماذا عساك وأنت بعيد عن التأثر بالحوادث تقول عنها؟ لعلك تخبرني بكلمة تذهب بكثير من الآراء التي تشعبت وانتشرت في البلد، وتجعلني أطمئن لرأي في هذه الحادثة التي يقولون ستكون ذات أكبر الأثر على مستقبل البلد.
هذا وأما عن خصوصياتنا فلا شيء جديد، غاية الأمر أني كنت أفتش بالأمس في دولابي فوقعت يدي على سبحة بلح مما كانت أحضرته عمتي ر. من الحجاز، فصممت على أن أرسلها لك وأنتظر أن أفعل، ويعدل هذه المسألة في الأهمية أن كتاب صديقي... كتب من أيام وهو أشد ما يكون جزلا، كما أنه بلغني من أخبار البلد أن خالتي سعدة مريضة، وأن ما أحرق من البخور من أجلها وما دفع لقياس (أطرها) ذهب أدراج الرياح.
ولك مني تحيات لا يحصيها العد. والسلام.
عطية
26 مارس
أخي عطية:
كنت أريد أن أكتب لك بالأمس ردا على خطابك وعلى ما جاء فيه، فلما خرجت بعد الظهر ورجعت عدلت عن ذلك؛ لأني رأيت شيئا أحسن ويستحق حقيقة أن أكتب لك عنه.
أنا هنا في نيس - مشتى ذوي اليسار ونزهة المنعومين أيام الأجازة - لي أيام، وغرفتي تطل على البحر إلى حد ما، ولكني لا أكتفي بالمكوث فيها، بل أخرج كل صباح إلى سوق الأزهار، وأمر من وسطه أتمتع بشذاه وبهيج مناظره وألوانه، وأرتقي أحيانا بعض المرتفعات الغريبة من البلد لأسرح النظر فوق سطح البحر المكسو بلجين ضوء الشمس، أما ما بعد الظهر فأمضيه غالبا في نزهات خارج البلد.
كانت نزهتي اليوم إلى مونتكارل، وفي طريقي إليها أخذت الترام الذي جاز بي ڤل فرانش
Ville Franche
وبل ڤي
Belle Vue
وحتى مناكو، هناك نزلت من العربة وارتقيت مرتفعا ثم سلما حتى وصلت إلى قصر حكومة الإمارة (إمارة مناكو المستقلة)، هناك وجدت ساعة تطل على البحر المتوسط من ناحية، ويحيطها المباني الممنوع الدخول إليها من أخرى، ومدافع صغيرة كالتي ترى في ساحة عابدين مصوبة إلى البحر لا أدري لم، ربما كان لإطلاقها عند المواسم والأعياد؛ إذ لا أظن أن قد جال برأس أهل مناكو أن يدفعوا مهاجما لمملكتهم لأنه لا يجول في رأس أحد أن يهاجمها.
وتركت مناكو وذهبت بترام آخر إلى منتكارل، ولقد كان أشد دافع لي على زيارة هذا البلد حبي الفرجة على كازينو القمار فيها، ولكني للأسف لم أقدر، فلقد طلبوا مني جواز سفري، ولما رأوني على ما سطر فيه لم أبلغ الثالثة والعشرين أبدوا أسفهم أن قوانين الكازينو لا تسمح بدخوله إلا لمن كان فوق هذا السن، وبذلك خرجت مضطرا أن أقنع بمنظر البناء الفخيم من الخارج ثم أن أجلس على قهوة قامت أمامه، وأمامها قامت حديقة مستديرة تقف حولها العربات القليلة والأوتومبيلات الكثيرة وكلها تشعر بالثروة الوافرة، هناك نسيتك يا أخي - ولا مؤاخذة - ونسيت ما تسأل عنه، ثم التفت إلى أمامي فإذا ألماني لا يحسن إلا كلمات من الفرنساوية، استطعنا على كل حال أن نتفاهم بها ونمضي سويعة معا، وهو لا يدخل الكازينو لأنه يخاف أن ينقاد إلى اللعب فيضيع ما بقي معه بعد أن أضاع الشطر الأوفر، وأنا لا أدخله حتى لأتفرج عليه لأن سني لا تبلغ الثالثة ولعشرين فلا أستطيع.
هذه الجهات، نيس ومنتكارل والريفييرا كلها ملأى بالألمان وبالإنجلو ساكسون من الإنكليز والأمريكيين؛ لذلك كنت لا أكاد أسمع كلمة فرنساوية فيما حولي وأنا على القهوة، بل كله دردشة ألمانية لا أفهمها، وإنكليزية لا تكاد تخرج من أفواه أصحابها المقفلة فلا أتميزها.
وأخذت الترام الراجع توا إلى نيس، هنا كان موضع إعجابي إلى حد الذهول، في هذه المدة التي استغرقت نحو ساعة أنسيت خلالها كل شيء سوى ما كنت فيه، وهذا المنظر البديع الذي جادت علينا به الشمس في غروبها جعلني أتوه على الفكر في أي شيء غيره، ودفعني حين أردت أن اكتب لك إلى ترك السياسة وما سوى السياسة لأتلذذ بتسطير هذه المناظر المتعاقبة التي رأيت والتي احتلت من نفسي أكبر مكان.
ولكن هل أستطيع أن أعبر لك عما رأيت، هل يستطيع قلمي أن ينقل إلى هاته الصحيفة أمامي الجمال البارع المهيب، كلا يا صديقي إنه لعاجز.
في هذه الساعة التي أكتب لك تمر أمام مخيلتي الجبال والبحر والزهور وقرص الشمس كما رأيت من ساعات، وأريد أن أطبع لك صورة لنفسي فهل أنا على ذلك قدير؟ ... لأجاهد على كل حال.
أخذت الترام من منتكارل وأنا كما قدمت بين جماعة من الألمان والإنكليز، وسار بنا يحاذي الشاطئ فإلى شمالنا يذهب البحر المتوسط بزرقته البديعة تتكسر على سطحه موجات خفيفة، وينحدر الشاطئ من حين لحين مغروسا بالزهور تبعث للهواء بريحها العطر فتملأه رقة وشبابا، وعن اليمين الجيل قائم محدد الوجه أحيانا حتى ليكون قاسيا ومغطى بالزهر أخرى فيصبح ساحرا.
والترام يشق بنا هذه الجنات ونحن بها مسرورون، فلما اجتزنا فل فرانش إذا ضجة في العربة تلاها سكون عميق، وامتدت الأبصار إلى الغرب ذاهلة وفتحت الأفواه وعلا الموجودين الذهول، وتهت أنا عنهم وعن نفسي وجعلت أحدق بعيون ثابتة لهذه الشمس البديعة، هذه الشمس التي أرى الآن أمامي وهي مرتكزة بأسفل قرصها على الجبل كأنها منهوكة من أثر النهار، وقد ارتفع الدم واللهب إلى هذا الوجه الذي ظل سائرا حتى هده اللغوب، والجبل لفه شيء من ضباب تلك الساعة مهوب هائل يحمل القرص البديع وكأنه أشد ما يكون بذلك سرورا ونشوة.
والقرص الملتهب قد بعث إلى ما حوله بلون وردي بديع، وطوق السحب المشتقة في السماء بأطواق من لونه فصارت كأنها في حلقة من نار أو سوار من ذهب، وكلما ابتعدت تغير لون سوارها مائلا إلى البياض.
والشمس في تلك اللحظة أبدع من كل ما نتصور، ألا ليت تلك الساعة دامت إلى الأبد، لا نهار ولكن شمس متوردة ترنو للناس بعينها الفائرة ذاهبة إلى خدرها، وهواء يموج بالعطر ويبعث للنفس تخدرا وسكرة، وجبل نما فوقه الزهر وهو قريب تكاد اليد تلامسه، وبحر هائل تضيع العين دون آفاقه.
والقرص المتورد يخطو فوق الجبل ويختفي رويدا رويدا.
هذا عطية ما رأيت اليوم، وما رأيت أن أسطره لك، ولعلك تجد مثلي فيه من اللذة أضعاف ما تجده في السياسة والكياسة.
محمد
30 مارس
ها أنا مرة أخرى في أحد بلاد الآثار، في أفنيون
Avignon
نزلتها ليلة الأمس فأتممت بها قراءة (مادام بوفاري لفلوبير) التي ابتدأت في نيس، وزرت هذا الصباح قصر الباباوات وهو أحد الآثار الرومانية التي تقلبت على الزمن في أيدي الحكام فاستعملوه لأغراضهم، فمنهم من اتخذه مقاما، وآخرون جعلوه قشلاقا للعساكر، وها هو اليوم تصلح الحكومة الحاضرة من أمره وتريد أن ترده إلى مثل ما كان.
هل هنا موضع لنقل صحيفة من رواية أناتل فرانس (الزهرة الحمراء
le Lys rouge ) حيث يقول: «إن من الآراء عند بعض المعماريين في إصلاح القديم أن يعيدوا إلى أحجاره شكلها الذي وضعت به أول بنائها، في حين يقول آخرون إن من الواجب احترام ما صنع الزمن بها، وهؤلاء أفضل رأيا»، ولكن تفضيل أناتل فرانس لهذا الرأي لم يجعله إلى اليوم متبعا في تعمير الآثار التي ترد إلى شكلها الأول.
يقع قصر الباباوات في ناحية من البلد مرتفعة، ويقوم قريبا منه بستان أو ما يشبهه فوق هضبة تجتلي منها أفنيون ونهر الرون، وتتسلى فيها بمنظر المياه المنحدرة تتسرب هونا ما إلى المنخفض.
فإن أنت نزلت من هذه الأماكن الأثرية والطبيعية، ودخلت إلى قلب البلد، وكان ذلك بيوم ماطر كاليوم الذي ساقني فيه الحظ، لشعرت بأكبر السرور حين تدخل من باب دار الصور (المتحف) وتجتاز صحنها إلى البناء، فإذا صرت في صالات هذه الدار المتواضعة الشكل القديمة البنيان المكسرة الأحجار نسيت البلد والمطر والدار وشكلها ورحت بكلك مسحورا بجمال ما ترى من الصور فيها.
رأيت أبدع ما يكون من النقوش في الدور الأول بعد أن استوقفني مدة تماثيل الدور الأرضي، رأيت غروب الشمس في نرمندي، ورأيت مراتع الشاه ومسارح الصيد وكلها من ريشة نقاشين من أهل أفنيون، ولكن الرسم البديع الذي استوقفني أكثر من كل رسم آخر. والذي أخذ مني وقتا أكثر من غروب الشمس ومن الأشجار والمزارع تلك هي القديسة العذراء جاث أمامها مستتيب.
لا أستطيع مهما جاهدت تصوير ما عليه هاته العذراء من الإبداع، هي الخيال، هي الأحلام، هي الجمال، هي الحب، هي السعادة، هي كل ما تشاء من جميل، فتاة دقيقة القوام حادة الأنف ساحرة العينين قد انسدل فوق جسمها الخصب ثوب فياض، ثم لفتها سحابة فستقية اللون، أو هي سماوية وتشف عن ذلك الجمال البديع ... كنت كلما تركتها خيفه انتهاء الوقت وطمعا أن أرى ما سواها رجعت إليها غير مستطيع أن أفارقها الفراق الأخير، وحدقت منها بتلك الصورة الملائكية الناطقة، وذلك المستتيب جاث أمامها ضارع يعبدها، وهل هي إلا المعبود الأكبر.
لقد جال بنفسي أن أجثو أنا الآخر أمامها، أن أضرع إليها إلا سمحت لي بنظرة من سحر عينيها، ثم أرى أمامي حارس الدار فيعلوني ارتباك ويقف هو عنيدا دون ما أشاء، وكل واجبه أن ينبهني إلى فراغ الوقت.
حقا لو أن هذا الجمال على الأرض لعبد، ولكنه على حيطان متحف أفنيون.
الفصل الرابع
في باريس من جديد
4 أبريل
عدت إلى باريس، الآن أتنفس.
كم تضايقت هذه المدة الأخيرة، وكم شاقتني حقيقة باريس، الآن أتنفس بعد الضيق، لقد أمضيت بليون ثلاثة أيام لم أذق لشيء فيها طعما، ووجدتني مدفوعا من كل جانب لأرجع إلى باريس.
نعم رجعت الآن إلى باريس، ودخلتها بطقس ماطر وسماء عبوس، وقصدت الدار، ولا يعلم أحد ممن فيها بعودتي، ووجدت غرفتي غير مرتبة، وكل شيء على غير ما أحب، ولكني أحس بابتهاج وسرور عظيم، أحس بهزة داخلية كلها الفرح، يخيل لي أني رجعت إلى دار النعيم ... لماذا؟ لأني رجعت إلى باريس.
حقيقة لقد قلت بعد أيام ليون:
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وإن كنت لا أنكر قد سرني في ليون خبزها.
رجعت فوجدت أهل البيت يستقبلون ضيوفا من معارفنا إلا واحدا من أصدقاء المسيو ج. ب. وهو مدرس في كلية ديجون، ولقد سرني كثيرا معرفته لأنه فوق لطفه المتناهي واسع العلم دقيق الحكم، ولقد تكلم مع صاحبه في مواضيع كثيرة؛ فدل ذلك على ذكاء واطلاع نادرين.
تكلمت معه بعد ذلك في مسائل شتى، ويعجبني من هؤلاء الناس أنهم مهما اختلفوا معك في الرأي فإنهم دائما يتمسكون بالحجة العلمية أو الاستنتاج المنطقي أو استقراء الحوادث، وإذا لم يك بعد ذلك سبيل إلى الاتفاق ترك كل واحد صاحبه ولكل عقيدته من غير أن يثور بينهما العجاج، ومن غير أن يصل إلى أن يسفه كل رأي صاحبه، والواقع أن ليس على البسيطة رأي خال من الخطأ أو خال من الصواب، بل كل يحوي قسما من الحقيقة يظنه صاحبه أشد غلبة عليه حتى تظهر الأيام فساد ظنه.
10 أبريل
ألقيت الليلة في الجمعية المصرية كلمة عن الحجاب وفساده.
وكان خصما لي في النظرية التي أقيمها نظرية السفور ط. أفندي، وحكما بيننا ش. ب. أفندي، لا يهمني ما قلت وما قال خصمي ولا حكم الحكم، ولكنما سرني كثيرا ما دار في هذه الجلسة، كان إخواننا جميعا، وكلهم من الشبان شديدي الإحساس بما لنظرية السفور من القوة، ولكنهم مصريون، والحجاب وما اقترن به من ذيوله المزعومة كالعفة وطهارة الذيل لا يزال يجول في صدور البعض منهم، فإذا قام أحدهم تلعثم ولم يدر ماذا يقول، إن قال معي فلتسفر فتياتنا عرته هزة تدفعها الوراثة إلى نفسه، وإن قال فليحتجبن ذكر أنه كان مرة عزم على أن يتزوج فوقفت هذه العادة المشؤومة في وجهة لأنه لا يستطيع أن يجعل شريكة حياته فتاة لم يرها ولم يعرف منها ولا من آرائها وميولها شيئا، وأخيرا قام ع. أفندي الفيلسوف وقرر نظرية الحجاب، ولكنه رأى وجوب الدواء لمسألة الخطبة، فاقترح أن ينظر الشاب الخاطب من ثقب قفل الباب إلى مخطوبته (هتاف وضحك).
وتتالى الخطباء بعد ذلك بحماس وحدة، ويسرني أن أقول إنهم جميعا طلبوا تحسين الحال، والواقع أن هذا الموقف الموجودة فيه المرأة اليوم، موقف حيوان المتاع والشهوة، أخس من أن يجد نصيرا يريد الإبقاء عليه، بل لا أشك لحظة في أن فتياتنا اليوم يخجلن أن يرين أنفسهن موضع اعتبار كهذا ... يعلم الله لو سمعت أن أحدا وجه إلي مثل هذه التهمة الشنعاء لما ونيت لحظة عن طلب دمه ليغسل به ما نسب إلي من العار.
ولكن فتياتنا مسكينات ومعذورات، نعم إني أعذرهن وأتألم لهن، ليس ذلك ذنبهن، ولم يك ليدهن في هذه الجناية عليهن من نصيب، وهن يحتملنها ميراثا أليما عن أمهاتهن وجداتهن ... ولا يرحم الزمن شبابهن، بل هو كعادته يريد المصاب مصائبا وذا الألم آلاما، ويرمي على رؤوسهن أثقالا جديدة من الحجب أخشى أن ينؤن بحملها.
يونيه 1910
أنا الساعة عائد من جمعية الطلبة
l’association génrale des etudiants de paris
حيث كنا نستقبل كبير مشايخ كتاب فرنسا الحاضرة: أناتل فرانس.
ازدحمت الصالة بالطلبة وبعض الطالبات ساعة قبل الموعد المضروب لحضور الكاتب الكبير، فكنت لا تجد مكانا خاليا، بل لقد وقف من لم يجد مقعدا في الممرات حتى غصت بهم، فلما وافت الساعة جاء الرجل يحوطه جماعة من كبار العلماء والكتاب في البلد: بول هرفييه والفرد كروازيه إلخ ... وتكلموا، ثم قام هو من بعدهم طويلا نحيفا ناحل الوجه أشيب ضعيف الصوت؛ لذلك فإذا كان لا ينازع في عظمته الكتابية فهو بعيد عن أن يكون متكلما محسنا، وكان أول ما نصح به الشبان أن يفكروا، أن يفكروا كثيرا، أن يفكروا دائما، فمحال أن يفكر إنسان ثم لا يصل إلى نتيجة أيا تكون من تفكيره، والنتيجة الموزونة التي امتحنها الفكر ذات أثر في حياة العالم دائما.
انتقل بعد ذلك إلى الحذر فعده أخس الفضائل وأنقصها؛ ذلك أن الحذر يلازمه الخوف والرعدة والتقهقر، في حين يصل الإنسان بالإقدام إلى كل ما يريد، ومهما يكن في الإقدام من الخطر فإن خطره أقل كثيرا من خطر الحذر.
ونصيحته الثالثة للشبان أن يكونوا كثيري الخيالات والأحلام والأماني، وتلك عندي أغلى نصائحه وأعلاها، تلك هي اللب واللباب من كل قوله.
بالمنى يصل الفرد وتصل الإنسانية إلى أعظم مراتب السعادة، هو الحلم والخيال الذي دفع العالم من حيث كان في درك الهمجية إلى حيث هو من التقدم والعظمة.
وختم كلمته بأن أشار إلى نص القانون الذي يحرم على رجل التعرض لحكم صادر، وذلك بمناسبة الحكم على هرفييه لتصديه في جريدته للتعريض بنص القانون، والحكم على أحد مجرمي باريس لأنه ضرب جنديا فقتله، اعتبر فرانس كل قانون يحد من حرية إبداء الرأي قانونا مجرما، وقرر أنه مهما حوت الكتابة مما يضاد عاداتنا ومعتقداتنا فالواجب أن تبقى حرة إلى أقصى درجات الحرية.
اختتم الرجل بذلك كلامه، وأراني أوافقه على آرائه كلها بنفس السرور الذي أجده في قراءة كتبه.
8 يونيه
أخي عطية:
انتهيت اليوم من امتحاني الأول للدكتوراه، ورجعت بذلك إلي حريتي، وملكت وقتي بعد أن ملكته علي المراجعة والمذاكرة مدة من الزمن، ولقد دخلته وأنا أخلى الناس بالا وأقلهم بنتيجته اهتماما، ولم أحسب حسابا لشيء أكثر من أني مسافر غدا للندرة فالأحسن أن أذهب إليها مسرورا.
في هذه المدة التي كنت أحضر فيها لامتحاني كنت أبعد الناس عن أن أفكر في الخارج وما فيه من اللذة، وأنت تعلم شديد حاجة الإنسان إلى ما يروضه حين ينهال عليه العمل فيثقل كاهله، ولقد كان ذلك أشد على نفسي حين كنت أرى من نافذتي أشجار حديقة صغيرة إلى جانب بيتنا تورق وتينع، فإذا نزلت قابلتني اللكسمبور في أبهى أيام عرسها زاهرة ناضرة، كل شيء فيها باسم وضاح الجبين، وعلى رأس كل شجرة تاج من الزهر أبهى من تاج العروس، ولكني تعزيت هذه المدة بحادثة بسيطة لذيذة عوضتني ذكراها عن الرياضة والنزهة، وصرفتني لعملي عن كل شيء.
أحسبني أخبرتك قبل اليوم أن بيتنا مؤلف من أربعة أشخاص، ربة البيت والمسيو ج. ب. وشاب فرنساوي في التاسعة عشرة من عمره وأنا، ولقد بقينا كذلك طوال عامنا إلا العشرة أو الاثني عشر يوما الأولى من مايو، حيث جاءت فيها إلى الجمع غادة كندية بنت سبعة عشر، كاملة التكوين، فأضافت إلى نضرة الربيع القادم وبعثت إلى وحدتنا نحن الأربع روحا جديدة شابة فياضة ربما كنت أنا أكثر الناس إحساسا بوجودها.
هذه الغادة هي مس بياتركس.
حضرت مس بياتركس إلينا أوائل أيام الربيع ذات ليلة ونحن جميعا صمت مشتتون في الصالون، ودخلت مع أمها حوالي الساعة العاشرة وعلى رأسها قبعة إنكليزية غطت بعض الشيء عيونها، وظهر من تحتها خدودها المتوردة الزاهرة.
فلما جلستا استأذنت وصاحبي الشاب وذهبنا إلى مضاجعنا، ولم ينس أن يغمزني في الطريق: أليست جميلة صاحبتنا القادمة؟
وأقامت معنا عشرة أيام أو اثني عشر يوما، ثم سافرت مع أمها إلى ألمانيا وتركت لي ذكرا جمع بين اللذة والشوق المر، كان هو سندي أيام مراجعتي للامتحان، والعزاء الوحيد عن عرس الطبيعة الذي كان لا يفتر يجذبني إليه ببديع جماله.
كم من لحظات كنا نقضيها في الحديث وحيدين جنبا لجنب، سويعات بعد الغذاء قصيرة الأمد، كان يدور حديثنا عن مصر أو عن كندا أو عن مسائل من مثلها لا قيمة لها في الواقع، ولكنها كانت عندي الشهد المصفى، وتركت ذكرا يحييه في نفسي الربيع البديع.
وتعددت هاته السويعات، وأحسست مع ذلك كأن نفسي تتفتح وقلبي يأخذه الخفقان بإحساس لا أقدر على تسميته لأني لا أعرف، وشعرت كأن الوجود الذي حرمني طول هذا العام كل متاع بمعنى الشباب جاد ففاض ببياتركس وبالربيع.
وأجدر هاته السويعات بالذكر سويعة آخر أيامها معنا، وتكلمني عن مصر وشأنها، وتريد مني أن أكتب تاريخ أمتي في قالب روائي، ثم تطلب ضاحكة أن أقدم باسمها رواية من هاته الروايات، نعم بياتركس، من أجل هذا الإهداء الذي تطلبين سأكتب تاريخ مصر مهما كلفني، وليكون ذكرا لأسبوعين سعيدين في أيام الحياة.
آه يا عطية، ما أحلى الحياة حين يسمح لها الخيال بالدخول إلى جناته! ولكن الخيال ضنين.
ولكم كانت بديعة هذه البياتركس، لقد كان في خلقها البريء وفي تلك السذاجة التي كانت مظهرها العام ما يجعلها حلما على الوجود، هي حقا الآتية من كندا ، من بين الغابات الهائلة والسهول الفسيحة والطبيعة البكر، هي بنت ذلك العالم المملوء بالطير والشجر والماء والزهر، وليست بنت عالمنا العتيق الأفن.
كنت يا عطية ولا أزل كلما ذكرتها ذكرت فتيات الأحلام، واللاتي يقال إنهن سيكن في العالم الآخر.
تقضي أسبوعين وهي عندنا، ونمضي كل ليلة في لعب الضامة أو الشطرنج أو ما سواهما، وكل ليلة تضيء الفوانيس الكهربائية بنورها على مجموع ساكن هادئ ولكنه سعيد قانع ... على الأقل كنت أنا في أحسن درجات الرضى، ولكن تلك الليالي الجميلة المحبوبة لم تكن شيئا إلى جانب الليلة الأخيرة.
جاءت أمها تلك الليلة لتبيت عندنا ثم يصبحان إلى ميوينخ، وجاء يقضي سهرته معنا أحد معارفها كما جاء بعض معارفنا، وجلس الكل وصديقي الشاب وأنا في الصالون، وفوانيسه الكهربائية لم تزد عددا ولكنما تضاعف نورها أمام هذا المجموع المبتهج، ولم تكد بياتركس تجد الفرصة لتنسحب من بين أمها وربة الدار حتى جاءت إلى جانبنا لتحدثنا ونحدثها أحاديث الوداع، ونسينا إلى جانب ذلك ما كان من الضجة والسرور والضحك بين سائر الحاضرين.
ولما تقدم الوقت دخل إلى الحاضرين شيء من السكون، ورأيت الضجة تغادر المكان رويدا رويدا حتى كاد يكون أخرسا.
واستأذن أصحابنا وبقينا جماعة «الحلية» حتى منتصف الليل، هناك أرادت الأم الذهاب إلى مرقدها و«مست علينا».
فباستفهام جذاب بديع ونظرة ملئت حنانا وعطفا، وبصوت رخيم عذب تساءلت بياتركس: وأنا الأخرى، أنا أيضا سأذهب.
ما كان ألذ هذه الكلمة على مسمعي! هل كانت كذلك على مسمع كل الحاضرين؟
لعلك يا صاح تجد في صورة هذه الفتاة الملائكية بعض ما وجدت أنا من اللذة، ألا ليت أيامها دامت! ألا ليتك لا تزالين هنا يا بياتركس! ها أنا فرغت من العمل وأتمنى ساعة معك من جديد ...
معها في باريس؟ وسط ضجة الناس وجلبتهم؟ ويرانا الناس، وربما اطلعوا على مكنون ما في صدورنا؟ ... كلا، كلا لا أريد ... لكن الحياة الحلوة عيش مع مثلها على أرض ككندا، واسعة ذات دوح وشجر، ولا ضجة ولا جلبة ولا صياح ، عيش هادئ ساكن بين الغياض وأغاريد الطير ... عيش متشابه خالد مملوء بالحب والسعادة.
هذه حقا هي الحياة الحلوة، لا في باريس ولا في مصر، لكني مع الأسف موقن أني لن أعيشها.
هذه هي الفتاة التي ملأت وقتي بالذكر، وعوضتني بذلك عن النزهة والرياضة، ووفرت علي كثيرا من الساعات ما كان أحوجني لها.
الساعة الآن السادسة ونصف، ويجب أن أسرع فأكمل ترتيب إهابي؛ وإذن فسلام عليكم.
أخوك محمد
10 يونية
الساعة السادسة صباحا.
كان مساء الأمس مساء مشهودا.
أمضيت شطرا من الليل مع أهل بيتنا، ثم جاءني أحد أصحابي المصريين، فلما انتصفت الساعة الحادية عشرة استأذنا وخرجنا، ولم نسر إلا قليلا حتى قابلنا صديق ثالث اتخذ طريقة هو الآخر معنا، وذهبنا جميعا إلى القهوة، وبعد نصف ساعة أردت أن أعتذر لأذهب لأنام فأستريح استعدادا للسفر ... فقال صديقي ع. ف: يا شيخ دي آخر لياليك في باريس، خليك معانا.
وبقيت معهم. فلما اقترب منتصف الليل نزلنا إلى التافرن فوجدناها هائصة بالشبان والبنات والموسيقى والدخان والطرب وأنصاص البيرة وكاسات الكنياك والوسكي وكل ما شئت من الكحول، وبعد أن درنا في المكان دورة وجدنا مكانا منزويا هادئا، فجلسنا فيه جميعا، ولما نكد حتى مرت بنا إحدى البنات فسلمت على ع. ف. وجلست، وبعد لحظة جاءت أخرى وجاءت بعدها ثالثة، وهكذا كنا حول المنضدة دستة، ثلاثة شبان متجاورين أنا في وسطهم وثلاث بنات متجاورات كذلك، فلما مضت اللحظة الأولى وما يخالطها عادة من السكون الصامت قالت إحداهن وهي الوسطي: إن ترتيبا هكذا ليس بشيك، بل يجب أن تجلس كل واحدة إلى جانب شاب، فقم أنت (وأشارت إلي) فبادلني مكانك وبذلك يتم الترتيب.
وعقبت الأخرى: وهكذا تبقيان مقابل بعضكما تتبادلان النظرات كما تشاءان
أليست خبيثة هذه المرجريت؟ هي تكسب من وراء انتقالها أن تلصق فخذها بفخذ شاب، وتبقى تتبادل النظرات مع الآخر.
مارجريت :
وأنت ماذا يضرك من وراء ذلك؟ ألا يعجبك الشاب الذي تتبادلين النظرات معه؟ وهلا يسرك أن تلصقي فخذيك بشابين، بدل أن أكون أنا أحد جيرانك!
وجاء الجرسون بالمشروبات، ولما انتهت استأذنت ثانية أريد أن أقوم.
فأمسك بي ع. ف. من جديد، وبينما أنا أتردد قامت مارجريت فتركتنا ولم تعد، وجلست أنا ثانية وخيم علينا السكوت برهة، فقامت ثالثة الفتيات وبقيت جارة ع. ف. فتوثقت منه أن سيكون بغرفته غدا الساعة الرابعة ثم انصرفت هي الأخرى، وبقينا نحن الثلاثة في ركننا الحريز، وقد علتنا دهشة غريبة وكأن قيام هاتيك الفتيات قطع علينا تيار خيالاتنا وأفكارنا، فبقينا صامتين جامدين لا نقول كلمة ولا نفوه بحرف، وأخيرا نادى ع. ف. بالجرسون وطلب منه شرابا جديدا، وتجددت بذلك النشوة وانقضت السويعة الصامتة وابتدأنا من جديد حديثنا.
ع. ف :
إذن ستتركنا غدا يا عم هيكل، يا بختك، وتذهب إلى لندرة وترى بلاد الإنكليز، هذه البلاد الغاشمة الظالمة، لو أنك من صديقنا ع.س. عمدة المصريين في باريس لما دخلت لندن إلا غازيا.
ل. م :
البلاد الغاشمة الظالمة! ما أكرمك يا أخي بالألقاب! لماذا تعد إنكلترا غاشمة ظالمة؟ لأنها محتلة بلادنا؟ وإذا استطعنا نحن أن نحتل إنكلترا أفلا تفعل؟ ويومذاك نكون نحن الغاشمين؟ في نظر من؟ ليس أمام أنفسنا بالطبع ولكن في نظر الإنكليز، وأما نحن فنكون يومئذ أولياء الله على الأرض والموكلون من قبله بحكم الشعوب الضعيفة، كلا يا صاح، إنكلترا ليست ظالمة، إنكلترا تستغل بلادنا وتنهبنا كما تنهب أنت جارك الضعيف، وإذا كانت الصدفة تمن أحيانا على جارك بأن يجد فضاء يرد عليه ضائع حقه فلا يزال القضاء الفصل بين الأمم هو السيف، وصاحبة السيف الأحد والمدفع الأقوى صاحبه الحق من غير نزاع.
ربما كنت معك في الأسف على أن الأمم لا تزال في هذه البربرية، ولكن ذلك لا يمنعني من أن أنظر للأمم الحاكمة بعين الإعجاب، وإذا كان ذلك في نظرك ونظر الكثيرين يعد من قبيل إعجاب الجهلاء بأعمال البطولة؛ فإني راض أن أكون من بين هؤلاء البله والجهلاء، غاية الأمر أني أسمح لنفسي بالدفاع عن نفسي وعن هذه الطائفة، إن الكثيرين ممن تسمونهم العقلاء يعجبون بفيلسوف دقيق يدعو إلى إنسانية أرقى من الإنسانية الحاضرة، ويريد حين يقول أرقى أنها تكون أبعد عن الوحشية وعن الظلم، وأن ترتفع إلى جو العدل والرحمة، وجو العدل والرحمة لم يوجد بعد على الأرض بالرغم من أن الإنسانية تريد أن تصل إليه من آلاف سنين مضت، لماذا؟ لأن جو العدل والرحمة بالنسبة للإنسانية هو جو العدم، جو الفناء ... والإنسانية أظهرت لنا دائما ولا تزال أنها أحرص ما تكون على البقاء والاستمرار، وبكلمة أخرى حريصة على أن لا تصعد إلى جو العدل والرحمة؛ إذن فدفعها إلى هذا الطريق دفعا إلى ما يستحيل أن تسير فيه، وبالتالي تعب ضائع.
يقول الذين يعللون أنفسهم بعلالات التقدم إن الإنسانية قد قطعت شوطا كبيرا في هذا الطريق، حيث ألغت الرق، وألغت كثيرا من أنواع التعذيب، وخففت وطأة البؤس، وأحلت مكان ذلك كله التحاب والرفاهة، متى كان هذا؟ وهل ألغت شيئا مما تفتخر بأنها ألغته، إن كان أنصارها يريدون أن يتمسكوا بالألفاظ ومعناها الموجود في القاموس فأنا أوافقهم على أن كثيرا من الألفاظ دخل دولة التاريخ ولم يبق له أثر بين أظهرنا، لكن ألم تظهر مقابل ذلك ألفاظ أخرى ذات معان ليست بأقل فظاعة من معاني الألفاظ الذاهبة؟ وهل لم تظهر أشكال من البؤس تجعل ما عندنا منه يوازي على الأقل ما كان عند أجدادنا؟ وهاتيك البنات التعيسات اللاتي كن جالسات معنا من لحظة مضت ألسن خلق مدنية هذا الغرب المغرور المجرم؟ ومجاميع العمال التي تصبح تشكو الفاقة والبؤس أليست شقاء جديدا دخل إلى الإنسانية الحاضرة؟ ولكن الناس ينظرون لما كان في الماضي بعين تعظمه وكأن هاته الأشعة الزمنية التي تسري منا لم تمر أولا بمنظار مكبر فترى كل صغيرة من شروره كأنها عذاب الجحيم في حين لا يصل إلى آذان ابن ابن هاته الإنسانية المتألمة التي تحيط بنا.
لا أنكر أن من الناس من يكبر الخير الماضي، بل هؤلاء كثيرون، ومن بينهم قام جماعة الذين يرون في الرجل القديم مثال السعادة والكمال ؛ لذلك فالإنسانية الحاضرة شقاء كلها أمام عيونهم، وخطأ هؤلاء وخطأ أولئك متساويان، والواقع أن الإنسانية كانت ولا تزال ولن تزال خليطا من الحسن والقبيح والشر والخير والنقص والكمال، كما لا يزال الناس كما كانوا يقتل ويأكل بعضهم بعضا، وكل جيل بما لديهم فرحون أو هم عليه ساخطون.
إنك يا صاحبي (مشيرا إلي)
ذاهب غدا إلى مدينة جديدة وقوم يقدرون الخير والشر بمقياس غير المقياس الذي عهدت إلى اليوم، فلاحظهم لعلك تجد في ذلك لذة أو فائدة.
ع. ف. (الذي لم يكن ينتظر كل هذه الفلسفة خصوصا وقد ابتدأت رأسه تدور بعض الشيء) :
الساعة واحدة وربع، مش نقوم!
أنا :
ما أظرفك يا سي فلان! أتمنعني عن أن أقوم حتى إذا جاءت اللحظة الجميلة حيث يحلو السهر ويطير النوم تريد بنا أن نقوم؟ أو أن غرضك أن نسير في الشارع، وإن كان ذلك فإلى أين؟
ع. ف :
إلى حيث تريدون.
ل. م :
أما أنا فيسرني المكث هنا، خصوصا وقد ابتدأ المكان يخلو والدخان الذي فيه يلازم السقف ويبقى منه ريحه المنعش المخدر، على أنه إن رأيتم أن نقوم فلا مانع، وربما كان بقاؤنا نصف ساعة أخرى غير مانع لنا عن أن نسير بعد ذلك حتى ميدان الأوبرا.
ع. ف :
ليكن، ولنرجع إلى الحديث الذي ابتدأته، ثم لتسمح لي أن أنكر هذا التشاؤم الذي ظهر من كلامك، وأن أقول أنا مع الجانب الذي لست أنت منه، إن الإنسانية تقدمت كثيرا ومن كل جانب، وتقدم أمام عيوننا اليوم مناظر أبهى وأجلب للسعادة مما كانت لأسلافنا، وهذه المسائل التي تراها أنت صغيرة مسائل إلغاء الرق وتخفيف وطأة البؤس هي كبيرة وتفتخر بها الإنسانية، تمثل أمامك صورة من النظام القديم حين كان بنو آدم العمال يذهبون قطعانا يملكهم سيد يتصرف في رقابهم وأعمالهم كما يشاء، ويسومهم الخسف وأنواع العذاب إرضاء لبعض شهواته أو لبغي من محظياته، وقل لي إذا لم تكن الخطى التي خطتها الإنسانية تعد تقدما، ثم تصور إزاء التقدم الاقتصادي الهائل الذي يتمتع بنو الإنسان جميعا بنتائجه من أغنانا إلى أفقرنا، ذلك الفقر المدقع الذي كان عليه آباؤنا، وهذا الشكل الوحشي من الحياة الذي كانوا يعيشون، لا يا صاح لا ننكر التقدم العظيم الذي أكملته الإنسانية على مر القرون، فذلك إنكار المحسوس، إذا اعتبرت بلادنا مثال مدنية قديمة بعض الشيء كما هو الواقع وقارنتها بالمدنية الغربية: أتستطيع إنكار أنا أقل سعادة من الغربي وأقل رفاهة؟ بل أتنكر أن حياتنا في مصر إلى جانب الحياة الأوربية تسمى وحشية فظيعة؟ خذ أي جهة من جهات هذه الحياة سواء الجهة المادية أو الأدبية أو العقلية واحكم من غير تحيز إن كان من نحن إلا مدنية مختلفة قيمتها إلى جانب المدنية الغربية كقيمة درهمين متكافئين من معدنين مختلفين.
ل. م :
لا من معدنين مختلفين، بل من معدن واحد، غاية الأمر أن واحدة الكميتين أكثر بريقا من الأخرى وموضوعة في فترينة دكان أغنى وأنظف أو يلبسها على صدره رجل أغنى وأرقى؛ لهذا تظهر أمام العامة ذات قيمة أكبر وإن كانت لا تزيد في الواقع شيئا.
وإن هذا الذي نسميه تقدما اقتصاديا ليس في الواقع إلا نتيجة لازمة لحال الجمعية الحاضرة حال اشتباك المصالح لزيادة عدد السكان في العالم؛ وإذن فلا يمكن أن تعده تقدما إلا إذا عددت تقدما حاجة الأعشى إلى نظارة أو الأكتع إلى عكازه، ولست أدري كيف تريد أن تناصر قولهم إن السعادة أعم اليوم على الأرض مما كانت من قبل.
لئن كان في الدعوى الأولى دعوى التقدم المادي شيء من شبه الحقيقة؛ فإن هذه الثانية أظهر ما يكون فسادا ... لا أريد أن أقول العكس، وإن الشقاء قد مد رواقه اليوم بعد أن كان مطويا في الماضي، ولكني أقول إنه تحول وسار مع العالم في دور النشء والتسلسل، وأخذ أشكالا تطابق كل وسط من الأوساط لكي يعيش في هذا الوسط، وسيبقى إلى الأبد يتسلسل مع الزمان إلى لا نهايات الزمان.
وليس أدل على ما أقول من العالم الحاضر، هل سودان خط الاستواء أقل سعادة من أهل أوربا ؟ هم لا شك أقل ترفا باعتبار المدنية الغالبة، ولكن الترف شيء والسعادة شيء آخر، ولقد أخبرني الكثيرون أنهم كانوا أسعد كثيرا أيام فقرهم واكتفائهم بالقليل منهم أيام غناهم وترفهم، غاية الأمر أنا نحن وأهل أوربا نقرن السعادة بالترف لأنهما مقترنان في مدينتنا ثم نقول: كيف يمكن لهؤلاء العراة الحفاة الجياع غير الممتعين بشيء من نعم العالم أن يكونوا سعداء، في حين أنا جماعة المترفين نرى في الوجود من المرارة والألم ما يجعل السعادة أمامنا حلما مستحيل التحقيق؟
وخطأ هذا التقدير واضح؛ فليس ما يلزم لسعادة كل واحد ضروري لسعادة الآخر، والعاشق يختلف عن محب المال في النظر إلى السعادة، وعن كليهما يختلف العالم، وعنهم يختلف الفلاح البسيط، وكذلك السودان يختلفون عنا وعن أهل أوربا ...
ع. ف :
التعليل ظاهر ولكن فيه بعض المغالطة، ويدلك على ذلك أنك لا تقبل أن يرجع العالم إلى الحال القديم من البربرية أو إلى الحال الذي فيه السودان اليوم.
ل. م :
وكيف علمت أني لا أقبل؟ أنا لا أرفض مطلقا، بل أقول: ولم لا وماذا يضر؟ أنا سأكون في العالم القديم البربري الذي نقول عنه بعقل أهل ذلك العالم وأكون سعيدا، لم حسبت أن سيكون مثلي فيه مثل الشابة التي غاب زوجها فقابلتها الصدفة مرة وأعطتها خاتما يجيب ثلاث مرات نداء من يحك فصه، فحكت هي كي تصل إلى المشيب فلما رأت نفسها قبيحة حكته ثانيا لترجع إلى الشباب، ثم صور لها عقلها أن الطفولة خير من هذين فحكت الفص فصارت طفلة بعقل الشابة التي كانت وبقيت كذلك موضع ضحك الناس وألم النفس بقية الحياة ... لا يا صاح، إن رجع العالم إلى بربريته رجعنا معه من غير أسف، وإن بقي كما هو بقينا من غير سرور، وإن جاء عليه الهرم هرمنا معه ضاحكين منه.
سكت ع. ف. ولم اشارك أنا بكلمة، فدفعنا للجرسون ما علينا ثم قمنا نسير فإذا الشوارع خالية والجو هادئ جميل ويدعو للمشي الكثير.
لكن ع. ف. لم ير نفسه قادرا على السير فتركنا وذهب، وسرنا نحن الاثنان قليلا ثم افترقنا ... ... ها هو ع. ف. ولا شك أنه يريد أن يذهب معي إلى المحطة ...
الفصل الخامس
في إنكلترا
11 يونية
قمت من باريس بقطار الساعة العاشرة وثلث من محطة سان لازار.
قطار ربيد
1
لا يقف قبل دييب إلا في روان، وراح يقطع الطريق ويخرق الصخور مما يجده الإنسان في كل نواحي فرنسا حتى كنا على مقربة من روان، فتجلت البلد بطرقها تضيع وسط المزروعات أو ترتقي الجبل، وظهرت كنيسة البلد الجميلة وأوصلنا القطار إلى الباخرة فعلوتها وكلي الخوف من المانش ومن مرض البحر بعد أن عانيت منه الصعاب في البحر المتوسط، وأقول في نفسي ماذا رباه سيكون من أمري على ما يصفون به هذا المضيق من الشدة والحمق والهياج، وارتقيت سطح المركب وجعلت أدخن من حين لحين سجارات سجارات متتابعة مع أني لم آخذ غذائي في ذلك النهار خوفا من هذا المرض المشؤوم، فإذا وقفت على قدمي خيل لي أني أدوخ فأجلس من جديد، وأخذ مكانه إلى جانبي فتى يظهر أنه أسباني وفتاة فرنساوية جاء بها كرفيقة له، وطفشا معا من باريس إلى لندرة، وهو يحدثها بلهجة عبيطة تكاد تكون أشد بلاهة من اللهجة الشرقية، ويرتب لها جملا ثقيلة فتجيبه بما عندها ويغتبط هو بجوابها، حتى لقد نسيته أو لم ترض بالدخول إلى رأسه فكرة أنه سيمرض، ولما كانت الساعة الرابعة قلت في نفسي وقد بدأت أحس بالجوع: اللهم إن تكن ساعة مرض فما هي بالكثير، والبحر في كل تلك المدة مصقول الصحيفة أصفى من المرآة لا يهيجه من شيء إلا ما تطرده المركب حولها من الماء والزبد، والهواء بارد يتشرب وسط الضباب إلى الرؤوس والقلوب والصدور، والشمس لا تتميز إلا دقائق ثم تختفي عن الناظرين، والماء يكاد يكون سهلا يضيع في الآفاق القريبة دون أن يظهر فيه حراك ... لما كانت الساعة الرابعة هبطت إلى قاعة المطعم وطلبت شيئا من الشاي وتوست، وتناولت هذا بهذا ثم ارتكنت في مكاني لا أتحرك، وأنا خائف لا أزال من المرض، وأقول متى تنتهي السويعة الباقية، ثم سألت الخادم فقال لي أن لم يبق إلا خمس دقائق فهرولت إلى إهابي وبدت أمامي أول مينا إنكليزية في تلك الجزيرة النادرة، وانتقلت بإهابي إلى القطار الصاعد توا إلى لندرة بعد أن مررت بالجمرك، وانتظرت الجبال والمفاوز والمخافات يقدها الوابور ويفتح صدرها خط الحديد، ولكن عجبي كان شديدا أن رأيت هاته البلاد أشبه ببلادنا المصرية مسطوحة حتى ليرى الإنسان الأفق مما لا يوجد في فرنسا، وقام فوقها الشجر وامتدت المراعي ورتعت الابل وتموج الهواء وأطلت سماء صافية تتهاوى فيها قلائل من السحب وينتشر حولنا الظلام رويدا رويدا.
والأرض الخضراء تروح إلى مرامي النظر وتمتع فيها العين بما تحب، ويمتلئ القلب سرورا والفؤاد نعشة، وتطير الروح في جو خال كبير تجد فيه الراحة والطمأنينة، وبقينا هكذا بين تلك المروج الممرعة حتى وصلنا أول المدينة، ووقف القطار ثم عاود السير حتى محطة فكتوريا، ومنها هبطت وأخذت عربة إلى الأوتيل الذي يقيم فيه صديقي م.ص. قطعت بي طرقا وشوارع تختلف كل الاختلاف عن شوارع باريس؛ فلا شجر فيها ولا قهوات بها على سعتها وعظمها، بل لكأن العربة ترمح بي بين آثار مدينة قديمة من مدن العصور السالفة، أهذه لندرة التي يحكون عنها، أأنا الآن في عاصمة بلاد الإنكليز؟ وهؤلاء القلائل، وأكثرهم من الفقراء الذين يسيرون في الشوارع، هم أبناء هاته الأمة المتكبرة المتجبرة، وتلك الأبنية المنخفضة في ارتفاعها إلى جانب العاصمة الفرنساوية هل تكن في جوفها إنكليزا، كل ذلك صحيح وكله غريب.
12 يونية
كنت أظن أني ساعة أنزل إنكلترا سأجد سحابة سوداء من الحزن تثقل سماء هاته البلاد الثاكلة ملكها من أيام، وأن شيئا من الأسى يحوم في كل النواحي ويظهر أثره على جميع الوجوه، وتضيع كل بهجة أو رواء تحت مهابة السواد وجلاله ... غير أن هاته الأحلام لم يصدق منها شيء مطلقا حتى ولا خيالها، اللهم إلا فيما يضعه الإنكليز الآن من مناديلهم السوداء. إذ ما نزلت العاصمة وقابلت م.ص. وأخذنا عشاءنا ورتبت مبيتي حتى خرجنا ومعنا مصري ثالث نمشي في شوارع المدينة الزاهية في مساء السبت ليلة الأحد، وبقينا نقطع الطرق الكبيرة حتى كنا في بيكاديلي المزدانة بالنور العامرة بالمارة، يمرح فيها الغيد خرجن في ليلة الراحة أزواجا، وبلغت بهن الكثرة مبلغا عظيما، وهن صغيرات الأحجام خفيفات الأرواح جميلات النفوس، يتتابعن بسرعة مدهشة حتى ليكن أسرابا ويتقاطعن سائرات في كل النواحي كأنهن عصافير الجنة تحت قبعاتهن الكبيرة غالبا حتى لتغطي عيونهن ولا يظهر من تحتها إلا ابتسامات ثغورهن تفتر عن أسنان ليست حسنة الحظ من الجمال دائما، ودخلنا قهوة من القلائل الموجودة بلندرة وفيها بنات أكثرهن - إن لم يكن كلهن - بغيات، وجاء مجلسنا إلى جانب فتاتين ليستا على كثير من الجمال وإن كانتا ظريفتين، وإحداهما أشبه الناس بالفرنساويات، ومكثنا قليلا ثم قمنا راجعين إلى منازلنا من الطريق بعينه، ولا يزال مملوءا بالناس والنساء المتحركات ببطء وهدوء، أو المسرعات حتى كأن عندهن ما يدعوهن إليه، وبعد أن اتفقنا مع صاحبنا الثالث أن نذهب إلى رتشمند عنده في الغد تركنا إلى ما تحت الأرض وسرنا نحن حتى وصلنا منازلنا.
13 يونية
يقول جماعة المحافظين - ويوافقهم عليه كثيرون من غير المهتمين بشيء - إن وظيفة المرأة تنحصر في البيت وما يخص البيت، ترقى المدنيات وتتنوع الأعمال وتظهر في العالم أصناف شتى من ضروب المهن، ومع ذلك تبقى وظيفة المرأة محصورة في البيت، يجد الناس من الحرف الجديدة ما أعدته الطبيعة للمرأة، وتظهر المجهودات العلمية من كل جديد ما لا معنى مطلقا لوجود الرجل فيه، ومع ذلك لا تخرج المرأة في أذهانهم عن دائرة البيت، من ذا عساه يكون صاحب تلك الميزة الكبرى فيستغل لمنفعته كل جديد، ويقوم بكل الأعمال ويأخذ لنفسه كل المكاسب؟ من ذا يشغل كل الوظائف ...!
هذا قولهم وتلك نظريتهم، فلنرجع للواقع.
في المصالح والمعامل نجد النساء مشتغلات كعاملات مع الرجال، تساعد المرأة زوجها في زرعة، وتجد معه وتتعب مقدار ما يتعب، تشتغل بكثير تضارع فيه الرجال وتفوقهم أحيانا، وكل ذلك كل ليس في دائرة البيت، فلم لا يصرخ الرجال في وجوههن قائلين قد تركتن واترتكن ... فارجعن إليها، لم لا يمنعونهن عن مزاولة هاته المهن ومنها الشاق الأليم.
هؤلاء الناس الذين يصيحون عند كل كلمة يسمعونها من نصير الحرية للمرأة، لم هم ساكتون أمام هذه الأعمال التي تخرج بها عن دائرة وظيفتها الطبيعية، عن دائرة البيت؟
لذلك سببان: الأول أنهم محافظون فكل ما يدور تحت أعينهم وما يعودونه لا يقف أمامهم موضع غرابة ولا يريدون تغييره، والثاني أنهم ذوو طباع مستبدة ينادون بالحرية ليداروا بذلك أغراضهم المخبوءة، ولكنهم يريدون أن يجدوا من كل ضعيف عنهم عبدا يستغلون ثمرات أعماله ويبقونه تحت سلطانهم لا يسمح له أن يشتكي، كلا، بل ولا يسمح لغيره من محبي الإنسانية أن يشتكي عنه، يريدون أن يحفظوا المرأة في البيت ليكون لهم منها خادم، وفي الوقت عينه ليخرجوها عنه متى وجدوا سبيلا لاستغلالها.
الاثنين 13 يونية
أخذت اليوم خطفة عين من المعرض الياباني، رتب في ذلك البناء الكبير الهائل سموه بحق المدينة البيضاء، يمتد إلى حيث لا يجيء النظر على آخره، ويحوي في صالاته العديدة هنا وهناك مصنوعات اليابان وإنكلترا، وفي أول مدخله قسم تاريخي يمثل هؤلاء الصفر في القرون السابقة في القرن الثاني عشر وما بعده وعليهم لباسهم الشرقي الجميل، وإنهم لأقرب في ذلك للوحشية والجمال منهم في هذا العصر الجديد، بل لأرى الأزياء الحاضرة التي يرتدون على ما تدل به الفترينات الأخرى لا تلائمهم في شيء مطلقا، وإن نساءهم ليظهرن فيها قبيحات إلى حد غير معقول في حين أنهن لسن كذلك في زيهن القديم؛ ذلك إن هذا كان يابانيا حقا يسير مع خلقة القوم وخلقهم ونما بوجودهم وحياتهم، والآخر مستعار وقل أن يكون للمستعار بهاء.
حفلة المطالبات بحق الانتخاب
كان في عزم المطالبات بحق الانتخاب أن يقمن بمظاهرة عامة لهن من شهرين مضيا، ولكن وفاة الملك إدوارد السابع وحداد الأمة عليه حال دون ذلك، فأجلن مظاهرتهن إلى الوقت الذي يكون الحداد الكبير قد انتهى فيه، ولما تم ذلك رجعن إلى فكرتهن الأولى ، وأعلنت الجرائد عزمهن على القيام بمظاهرة كبرى، وقمن بها هذه الأيام الأخيرة، وتكلمت كل الجرائد على مختلف لهجاتها وآرائها عنها، وما بالك بمظاهرة جمعت أكثر من عشرة آلاف امرأة كلهن عن رأي واحد في مسألة تمسهن جميعا عن قرب؛ لذلك لم يك موضع لصحيفة أن تتوانى في الكتابة طويلا عن الحفلة التي جمعت إلى مظهر القوة والعظمة معاني الجمال والنظام.
شهدت هذه المظاهرة وهي من أكبر وأبهى المظاهرات التي شهدت في حياتي، فذهبت وجماعة من أصدقائي إلى (هيد بارك كرز) وانتظرنا عنده في الصفوف الأولى حتى مرت المظاهرة كلها، مرت يحوطها صمت مهيب وهي تحمل شارات كثيرة تدل بعضها على أسماء الطوائف التي تحملها، وعلى أخرى كلمات وأمثال، وأنسب هذه ما كتب على إحداها: «إنما ينصر الحظ الشجاع ... نعم إنما ينصر الحظ الشجاع، والموت أنفى ما يكون للموت، والناس من خوف الذل في الذل، واليوم الذي يريد الإنسان فيه أن يعيش شريفا أو أن يموت هو اليوم الذي يحيى فيه شريفا عظيما».
وأسعد هاته المظاهرة طقس جميل وشمس لألاءة وريح طيبة تنعش النفس، واستقبلها الناس بالإجلال والإعظام الذي تستحق.
وفي أول الصفوف تقدمت موسيقى كانت غاية في الرقة قام بها جماعة من الفتيات لبسن لبوس الجنود الإيقوسية، فظهرت من تحت أرديتهن القصيرة سيقانهن الممتلئة، وهن جميعا يصدحن بنغم شجي بديع، وشارك في المظاهرة كثير من الرجال ذوي الدرجات الرفيعة.
لم أقيمت هذه المظاهرة؟ ولم يريد هؤلاء النسوة مشاركة الرجال في الحكم؟ ولم يعارضهم الرجال بقوة قاسية فيما يطلبن؟
ليس من السهل البت في أمر مطالبهن ولا فيما يقيمه الرجال في وجوهن من المقاومات، ولكني أراني أميل للاعتقاد بأن دخولهن في الانتخاب يجعله أقرب للنظام والعدل والحرية وأبعد عن تأثير النساء.
ربما كان هذا التعبير الأخير غريبا، ولكنه صحيح، إن النساء أكثر أثرا اليوم في الانتخاب مما لو كن منتخبات، ومن أجل امرأة غير كاتب كبير من كتاب فرنسا رأيه فأصبح ملكيا بعد أن كان جمهوريا، فإذا ظهرت النساء في عالم السياسة لم يكن هناك موضع لأن ينخدع أحد في مظاهرهن أو يدخل في تقدير جماعة الرجال لهن ومبلغ عقلهن ورأيهن في السياسة.
كما أن العدالة لا تأبى عليهن المشاركة في الانتخاب، وما يقال تهكما بهن مما يلازم حالهن الطبيعية من الموانع لا يزيد قوة عما قد يقال مما يلازم أحد الرجال من الأمراض، ويظهر مبلغ ذلك من الصحة حين ترى أن المنتخبات اللائي يجلسن بين النواب سيكن دائما من اللائي ارتفعن عن صف الولادات، مع هذا فإني أفهم كثيرا معارضة الرجال لهن في مطالبهن، هذه المعارضة تجيء من حب الأثرة الطبيعي في نفس كل منا، والذي يسير على مقتضى ما توصي به طبيعته غير ملوم.
ولو كان لى مطمع في الانتخابات الإنكليزية، وكنت أرى مما يعرقلني أن يدخل النساء في الانتخاب لكنت أول متهكم بمطالبهن منا وضدها.
هيد بارك ... هيد بارك! كم كان لهذا الاسهم من معنى غريب في نفسي، وكم بهت حين رأيت بعيني هيد بارك: هيد بارك هو موضع المتناقضات ومكان العجائب أمام المصري، هو بؤرة الفساد ومستقر الفحش وموضع الفسق ومستنزل غضب الله، فيه تهتك الحرمات ويفتك بالأعراض وتقع النساء في حبالات الشياطين، فيه الشر كله ... هو كذلك مرسح الخطباء تظهر فيه بلاغات المتكلمين ويرتقي منابره عظماء الرجال كل آن وحين، وينشر على الملأ المستمتعين فيه كل وزير خطته، وكل طالب انتخاب ما ينوي عمله، ذلك هو هيد بارك أمام عين المصري أو على الأقل من تلقى علمه من جرائدنا وأصحابنا.
مكان كهذا يشتاق لزيارته! ... ولكنى لم أذهب إليه إلا بعد ثمانية أيام من مقامي بلندرة، ذهبت إليه قبيل المغرب مع أصدقاء يوم أحد: اليوم الذي يموج فيه المكان بالمتنزهين فإذا فيه فتيات لا يعلم عددهن أحد ... كثيرات جدا، وقل أن تجد من بينهن عجوز، فإذا ما تصفحت الوجوه والملابس وكنت على علم بعض الشيء بالقوم وجدتهن جميعا خادمات.
قلت في نفسي هل المساء أحسن من هذا وأضمن لبيان حقيقة المكان كما أملت أن يحوي وجوها أصبح مما أرى، أصبح من تلك الأشكال أطل منها الفقر وقضى على بهجتها نحس الطالع، فرجعت في المساء فإذا هن أكثر عددا ويزحمن كل ما حول مكان الموسيقى، ويسرن عديدات في الطرقات ولكن أشكالهن هي هي لم تتغير.
ولكن ما لي أنا وهذا، هل هاتيك القبيحات لا يقعن فيما تقع فيه غيرهن، وعلى حد قولنا لكل قوتة كيال، والمكان واسع فسر فيه فإنك لا شك راء ما رأى غير ما دام الكيل هنا من غير حساب ... ولكنى لم أكن ذا حظ ولم أر شيئا ولما سألت إخواني من بعد قالوا إن أحد المصريين رأى هذا الأمر مرة بعينه.
أما رتشمند بارك فسعته الهائلة تسمح له أن يكون مكانا لشيء من هذا.
ثم قصدته من بعد أكثر من مرة لأسمع الخطباء، فإذا هم حقا كثيرون ولكن ما هم؟ عدد كبير أكثرهم داعين للدين وبأشكال مضحكة حقيقة، بلغ من تعصبهم حتى فيما بين مختلف طوائفهم أن يتشاتم المتكلم مع أحد السامعين على مسمع من البوليس: داع ديني بروتستانتي يدعو الناس لاتباع تعاليم السيد المسيح، وقد وزع على عدد منهم - العجائز والأطفال - كتبا فيها الصلوات، وقبل أن يبدأ جعل يقدم فضل المسيح وفض البروتستانية ثم مال بكله على البابا قائلا: والبابا يدعي أن في يده تغيير كلمة المسيح، إنه لمدع كذاب.
فقام إليه فتى من بين المحيطين به يبلغ الثالثة والعشرين وناداه خائفا: اسكت هناك، لا تقل عن البابا شيئا. - ها ها، فتى دخل الشيطان لنفسه ويعتقد بقدرة البابا. - إنما دخل الشيطان لنفسك أنت فأصبحت ضالا. - كان الشيطان يوسوس لي من خمس وعشرين سنة مضت، ثم عرفت كلمة المسيح، الكلمة الحق كلمة الله لا كلمة البابا ... البابا الكذاب. - لا تتكلم، سفيه وقح.
واستمروا في مثل هذا والبوليس إلى جانبهم ينتظر أن يقتتلا، ولكن الله سلم وابتدأ الداعي صلواته يرتلها مع المحيطين به بصوت حزين عال تحت سماء رائقة وجو فرح وخضرة ناضرة وكون ضاحك من أوله إلى آخره.
قلت في نفسي إذ ذاك، لو علم القوم أني أنا الواقف بينهم لا أدين بدينهم، وأن اسمي محمد لمال علي الكاثوليكي والبروتستانتي معا، وقضموني بأسنانهم قضما ثم لقالوا إنني متعصب، والتعصب يلمع بين عيونهم وينادون به بأعلى أصواتهم. أيام وجودي بلندرة ذهبت إلى ضاحية رتشمند مرتين: الأولى لثاني يوم من نزولي والثانية بعد مقامي مدة ليست بالقصيرة، ولقد وجدت لهاته الضاحية من البهاء والبهجة شيئا كثيرا، فهناك ساعات العصر وقبيل الغروب إذا وقفت فوق الرصيف
terrace
المفروش بالأشجار والنامية إلى جانبه الأعشاب الصغيرة، ثم التفت إلى جهة التاميز رأيت الأرض تنحدر مع النظر رويدا رويدا، وقد قامت عليها الزهور وفرشتها الحشائش ببساط سميك، وأرسلت عليها الشمس من الأشعة ما تلألأ على أوراق بعض النباتات الجميلة المنثورة في كل مكان من ذلك المنحدر البديع، وفي نهايته يسيل النهر هادئا تتهادى موجاته واحدة بعد واحدة وقد ركبه الكثيرون رجالا ونساء وفتيات، وكلهم ينسابون مع الماء راضين مسرورين.
وإذا ما أخذت قاربا على النهر رأيت الأرض ترتفع مع بصرك حتى تضيع بما لبسته من حلة خضراء قريبا من السحاب، وعلى الجانب الثاني تقوم أشجار عالية تطوق جيد النهر الساكن المستسلم ترسل عليه الشمس النازلة أشعتها وينطرح في ظل الأشجار فوقه وهو على ما هو عليه، وكما كان من لا نهايات الزمان القديم ذاهب في طريقه ليضيع في البحر القريب، وفي وسطه وواصلا للشاطئ مكان يسمونه الجزيرة يحيط به من الزلط الصغير ما يسمح لكثيرين أن يتركوا قواربهم وينزلوا فوقه ليشاهدوا من مكانهم وهم وقوف الرصيف الرفيع إلى الجهة الثانية من النهر، ويمتعوا النظر بمرأى عدة أشياء جميلة متتابعة، الماء ثم الشاطئ الضيق ثم المنحدر الأخضر وما به من زهر ثم الرصيف تتوجه أشجار، وليروا عن شمالهم القنطرة التي تعبر النهر والقوارب تمر من تحتها ومن فيها حذرون يسيرون متمهلين ترقبهم عيون من على الشاطئ أو الجلوس في محلات الشاي الممتدة إلى جانب النهر.
20 يولية
أقمت بلندرة أربعين يوما لأحبها وآسف على تركها، وما من بلد كبير إلا له من الجمال والهيبة ما يجذب النفس ويأخذ بالفؤاد، ما بالك بذلك البلد لا تعرف له أول ولا آخر، هو العالم تتوه فيه ولا تحلم بالخروج منه، أنت في الضواحي وفي لحظة إذ بك تشعر برهبة المدينة الهائلة حولك، وتنظر إلى ما يحيط بك فتراك أبعد ما يكون عن أن تتصور آخرها، هي بحر لا شاطئ له يتوه فيه الإنسان المسكين.
مع تلك العظمة تحوي لندرة بها ورواء ومهابه وجلالا، وأي شيء أبهى وأبدع من منتزهاتها الكبيرة لا عدد لها أو أجمل من دور الآثار العديدة تحوي أدق ما أبدعت رأس الإنسان، وما أنس لا أنس آخر أيامي بها وأنا في متحف الهند وأعمالهم في العاج ونقشهم عليه يأخذ النفس إلى أرقى مواطن الإعجاب، وإني لأشهد أن ذلك أجمل ما رأيت إلى اليوم من مثله، ثم المدينة كذلك مهد علم وعمل وحركة كبيرة، مهد الجامعات العظيمة والكليات الهائلة، ومهد تلك المصانع الكثيرة والمعامل والمخازن، ولا أظن شيئا مما في الوجود ينقص هاته البلاد إلا ما استحال عليها أن تضمه بين جدرانها.
متى يكون لنا في الشرق مدينة كلندرة أو كباريس؟ ... متى بلغنا من هاته المدنية الحاضرة القليلة الطعم ما بلغ القوم، وإني لأدعو كل محب لبلاده أن يعمل لإبلاغها أكثر ما يقدر من مدنية القوم لا حبا فيها، ولكن لأنها الوسيلة الوحيدة والأمل الضئيل الباقي لنا جماعة الشرقيين في العظمة والحرية، ليصبغوا المدنية بصبغة شرقية ثم لينقلوها إلى الشرق ينتفع بها أهلهم ومواطنوهم ويكونون لم يخسروا شيئا وأفادوا أممهم أكبر الفائدة.
بريتين 21 يولية
الساعة العاشرة ونصف مساء، ساعة من الليل أحرى بالهدأة والهدوء والنوم، ساعة لا يتحرك معها في الجو الأسود بالظلام شيء، لكن البحر الهائج عالي الصوت يزأر كأنه الأسد الحبيس، نحن في بريتن، وأطل من النافذة على الجو يذهب مع البصر إلى أفق كان كل مدة هذا النهار ملفوفا في رداء من الضباب حتى لم يتميز لحظة واحدة، فلما جاء الليل تسربت إليه رسله من شياطين العبيد ، ونكشت شعرها فاسود الهواء ولم يك إلا حين، فإذا الكهرباء هي التي تدمي ذلك الجسد الهائل صاحب الخوار العظيم، نحن في برتين، هواء طلق ومناظر بديعة، نزهة لمن حملت نفسه بهموم المدن، فضاء واسع لمن حدق نظره حيطان لندرة وأمواج تتهادى اليوم كما كانت تتهادى أيام نوح وقبل التاريخ، وكما كانت حين كان العالم ماء لا أرض فيه، وستبقى كذلك إلى الأبد، هي بنت الطبيعة ولا حكم للإنسان عليها، يستخدمها لغاياته إن شاء ولكنه لا يصرف حركاتها على هواه.
الساعة العاشرة ونصف مساء، موعد نوم المكدود من أسفاره، وموعد نومي أنا الآخر، والوقت يجري إلى الغد ولا ينتظرني حتى أتم كلماتي وأذهب إلى سريري حينذاك يتحرك هو لا ينتظر أحدا، هو يجري فيمتع به النائم المستريح أو اللاهي عنه بمسراته، ويحمله عله المتضايق المهموم، لست أنا من أي من هؤلاء، ولكني في دقائق سأكون في سريري.
بريتن 1 أغسطس
بعد العشاء نزلت وقد ولت موليات النهار، وانسدل على البحر الهائل ظلمات جعلته أكثر هيبة ومخافة، والناس ليسوا كثيرين على الرصيف (terrace)
في ذلك الوقت، فلم يكن ضجيجهم ليزعج سكون الوجود، ولم أبتعد عن مقامي كثيرا حتى إذا متكلم يخطب بعض عجائز أمامه لا يجاوزون الخمس أو الست، وهو محتد كأنما يكلم جمعا كبيرا، فوقفت أزيد عدد السامعين واحدا وأمتع الأذن بصراخ الخطيب فإذا هو يكرر القصة بعينها التي يخطبون لها في هيد بارك وفي أماكن شتى ... مسائل الدين، قال: ... ولأدلكم ببرهان بسيط على قوة المسيح وسلطانه، أضرب لكم عن ذلك مثلا أعرفه أنا شخصيا، وإنكم بعد ذلك لتحكمون من غير تردد كم تصيب النفس التي تخدمه من الهدوء والتي لا تخدمه من الأسى والألم.
كانت بنت تقرأ في الكتاب المقدس - في الإنجيل - ولما أمسى الوقت وأرادت أن تذهب إلى سريرها وضعته على حرف مكتبها، وقامت فذهبت إلى النور وأطفأته وراحت لتنام، غير أنها في طريقها لمست الكتاب المقدس بطرف فستانها فسقط إلى الأرض ولم تأخذ هي بالها، وتمطت في مضجعها، ولكن كيف يسمح المسيح لمثلها أن تنام! ليست كلمة المسيح للأرض، فلا بد أن ترفع على الأرض؛ لذلك بقيت البنت في قلقها، ولا يقفل عينها النوم أبدا، وكلما طال بها الوقت ازدادت تألما وقلقا.
إن هاته الكسلانة التي لا تحفظ كلمة المسيح لا تستحق النوم، وأخيرا لما تولاها الضجر قامت وفتحت النور من جديد فرأت الكتاب المقدس على الأرض، فبادرت لرفعه وبعد ذلك أقفلت النور وراحت إلى سريرها، فلم تك إلا لحظة حتى كانت في نوم عميق.
ومن بعد ذلك تركته وقد اكتفيت بحكايته.
2 أغسطس
أردت أن أذهب من برايتن إلى ورذنج لأسباب شتى، منها مجرد الرياضة والسير على شاطئ المانش كل هذه المسافة الطويلة، ثم أن آخذ صورة الپير (worthing)
فبدل أن آخذ الأتوبيس إلى هناك استأجرت دراجة من برايتن حسبتها تصل بي وتردني سريعا.
كنا إذ ذاك نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، وشمس أغسطس ممتدة على الوجود، وقد انطرح نورها يملأ الجو بعظيم لجته ويغطي صحيفة البحر فتتقلب تحته الأمواج وتلعب به وتتفاذفه، والناس لا يزالون في بيوتهم منتظرين ساعات النسيم فالسكة خالية أو تكاد؛ لذلك لم أجد عقبة في سبيل أن أسرع في السير، وعلى هذا تركت للعجلة أن تذهب بأسرع ما تطيقه، ولكن سرعان ما انحرف بنا الطريق عن شاطئ البحر وأحاطت بي بيوت عن الجانبين بينهما طريق واسع مفروش بالأسفلت قد امتد على نصفه الظل، وبعد بضع دقائق ظهر البحر من جديد تفصل بيني وبينه مستنقعات واسعة أولا ثم تضيق شيئا فشيئا، وعن يسار الذاهب يقوم حانوت صغير فقير تباع فيه البيرة والمشروبات الأخرى القليلة الثمن، وصحيفة المانش مجلوة بشعاع الشمس تبين هادئة مصقولة لا يحركها نسيم ولا تهيجها الأمواج.
رأيتني بعد ذلك دخلت بين جدران قرية لم أعرف اسمها، وأردت تعرف الطريق فملت إلى غلام يبلغ العاشرة أو الثانية عشرة من عمره أسأله، فأشار بيده إلى أذنه إشارة لم أفهمها، وأخيرا ناداني: «إنني أصم فلا أستطيع أن أسمعك»، ولم أجد بعده بين جدران هذه القرية إنسا.
بدأت أحس كأن همه دراجتى تفتر، فشجعت نفسي ودفعت جهد طاقتي، ونفذت إلى طريق معتدل بقيت فيه أمدا غير قصير، ووصلت منه إلى شاطئ البحر من جديد، وبقيت الدراجة تتلوى مع الطريق حتى بلغت ورذنج، وهي لا تزال هي الأخرى في صمت الظهيرة، والقليلون الواقفون على الشاطئ مبعثرون هنا وهناك وفي كل مكان، ولما كنت على مقربة من الپير أخذت صورته ورجعت أمشي الهوينا ودراجتي بيدي أتفرج على ما حولي وأرفع نظري فأرى الأبنية القائمة ينظر أصحابها من نوافذها، فإذا ما تعدت عينهم ما أمامهم من الأرض والأشجار والناس إلى البحر راحت معه حتى ينطبق الماء والسماء، ويرسم الأفق خطه يحد به القليل الذي نرى والعظيم الهائل الذي يغيب عنا علمه.
ثم رجعت أدراجي والطريق لا يزال خلاء لا يمر به إلا قليلون ... وصلت مرة أخرى إلى القنطرة التي تفصل القرية التي قابلت فيها الغلام الأصم عن البحر، واستوقفني مرة أخرى خادم القنطرة ليعطيني تذكرة أدفع له قيمتها بنسا.
في إنكلترا يجعلون الناس يدفعون بنسا أجر جواز القنطرة في حين يمن علينا الإنجليز في مصر بأنهم رفعوا ضرائب جواز القناطر، ويعدون ذلك مفخرة من عظيم أعمالهم عندنا.
وصلت بريتن الساعة الخامسة ونصف مساء، فرددت دراجتي وملت إلى محل شاي أخذت فيه الشاي ثم رحت إلى المصور الذي أعرف، فاستظهرنا الصورة التي أخذت، ولكني لم أجد وقتا كافيا أطبعها فيه على الورق، وعلى هذا وضعتها مع الأشياء والألواح الأخرى في صندوق منتظرا يوما أستقر فيه، وسافرت من بريتن عند ذلك اليوم، فلما كنت في باريس، وفتشت عن صورة ورذنج إذا اللوح مكسور ولا ينتفع به.
المتحف الوطني
The National Gallery : زرت هذا المكان في لندرة مرتين، وها مر على ذلك زمن طويل ولا تزال ذكراه حاضرة عندي وإحدى غرفه مرسومة أمام ذهني لا تغيب، وأعرف مواضع الكثير من صورها وأشكال تلك الصور، تلك هي الغرفة التي فيها صور جماعة الكتاب والشعراء والفلاسفة، الغرفة التي تجد على جدرانها بيرن وشلي وكلردج ودارون وسبنسر، الغرفة الفنية إذا دخلتها أحسست كأنك وسط العظمة والعظماء وتجسمت في نفسك هيبة للمكان، ورضيت أمامهم بأن تكون التلميذ الصامت تسمع ما توحي به نفوسهم، ثم يذهب بك خيالك في هذا العالم فتذكر لكل منهم اسم بعض الشيء مما تعرف: لبيرن شعره الرقيق ورقته، ولشلي وصفه الناطق وقصائده العذبة، وتذكر لدارون مذهبه الكبير وسياحاته، ولسنبسر كتبه وفلسفته الهائلة، ولكأن شكل كل منهم يوحي بمعنى ما كتب، فترى في وجه بيرن وفي لباسه ما ينطق رقة ولطفا، وفي شكل شلي وعيونه البراقة وصدره المفتوح ما ينم عما تحويه روحه من الشعر، كما أن على الآخرين معنى التفكير العميق والتدقيق الشديد.
ثم إذا صعدت إلى أعلى المكان ودخلت إلى آخر غرفه - الغرفة القائم على جدارها صورة وليم بت - رأيت هناك صورة مدام هملتن، صورة بديعة وجمال ناطق وسيدة أبدع ما ترى من السيدات.
الفصل السادس
في سويسرا
بعد إذا قضيت حوالي الشهرين في إنكلترا سافرت منها قاصدا جنيف.
ولكن وجود صديقي ب. بباريس جعلني أعرج عليها وأقضي بها أربعة أيام ذكرتني أيامنا القديمة حين كنا لا نفترق.
وأخيرا تركته آخذا القطار إلى لوزان، فوصلتها عند مقتبل الصبح ... ومن محطتها أخذت (الفنكيلير) الصاعد إلى أوشي ضاحيتها الجميلة وهناك نزلت في (أوتيل دنجلتير) التي نزل فيها (بيرن) وكتب بعد قصيدته الكبيرة (تشيلد هارلد)، وأوشي ضاحية بديعة تطل على بحيرة ليمان، وتقابلها (أفيان) على الشاطئ الثاني، ولقد كان معي في الفندق شرقيون لم أعرف أمصريون كانوا أم سوريون، وهم عائلة مركبة من أب وأم وابن وبنت، ولقد تحادثت مع الأب مرة وعرفت أنهم يقيمون بالأسكندرية، أما الأبن فيظهر أنه يدرس في فرنسا إذ سمعتهم يلومونه على تقصيره في امتحانه الأخير، والأم سيدة هرم تبلغ الخمسين أو ما فوق، والبنت فتاة ممتلئة الجسم وافية القامة ربما سرت محبي (البياض والسمنة).
وإني أضع للقارئ المذكرات التي كتبتها يومئذ كما هي؛ ليقف على حال نفسية أجدها اليوم غريبة لأنها ملأى بالخيال والشعر، وأحترمها وأحب ذكرها وأتمنى لو تعود.
ولست أدري إذا كان كل من تحويه سويسرا تكون هذه حاله، بل لأظنها حالا خاصة لأني لم أعرف حين زرت سويسرا بعد هذه الزيارة بعام.
وإذا وافق القارئ على غرابتها فأرجوه أن يحسن الظن بها ويكون حليما في الحكم عليها.
11 أغسطس
في ذلك اليوم وقد جاءت علي القدرة الخفية بما لا أعرف من الوحي، تطلعت نفسي إلى زيارة أفيان، فأخذت القارب إليها وقطعت البحيرة تنقلب أمواجها هادئة ساكنة مستسلمة، وينبسط فوقها نور الشمس يجلل مياهها الزرقاء، تميز أمام العين وتنقلب فضية عن بعد، والجبال قد قامت تحيط بنا كساها الضوء، وأخذت طريقي أرتقي المرتفعات جللتها الأشجار حينا وحينا أمتد فوقها بساط أخضر لا يتناهى حتى ينساب مع قممها العالية في فضاء الجو يهبط عليه السحاب يعانقه عناق مشتاق، وبين هاته الطبيعة الواسعة أحلام دائمة تتسرب في جوفها بين الحجر وبين العشب والشجر، تسمعها فتسوقك نفسك إلى استجلاء أمرها فإذا خرير الماء بين هاته الصخور جاءت من عليين، خرير دائم بديع يحيي ذلك الصمت الهائل جاء من المراقي هابطا حتى يضيع وقد أدى مهمته في المنحدرات إلى البحيرة.
شيء بديع لا أقدر على وصفه، وجمال لتحار أمامه النفس.
وفي السماء أخذت قاربا والشمس تطوح نحو المغيب تحجب بالسحب، ثم تقر وقد ظللت القمم البعيدة غمامات، وانطرح عليها من النور ما بقيت معه في رفعتها شفاقة تبين قلبها صافيا إلا من كلوم جاء بها الزمان العتيق، والبيوت عن الجانب القريب تصعد متسلسلة بينها العشب الناضر ... والسحب ما أحلى السحب كيف كانت؟ ذلك ما يذكره ناظري ويعجز دونه قلمي.
في تلك الساعة لم أستطيع إلا أن أشكر الله وأنا على ظهر الماء آمن مطمئن، وتجلى لي أن ليس من تجديف في العالم هو أشد من هاته الصلوات التي يعملها الناس وقلوبهم مقفلة، في حين يفتح الله أمامهم قلب الطبيعة الهائل، تجلى لي كفر مدعي الصلاح والزهد ولؤمهم.
16 أغسطس
في القارب على سطح الماء والليل مفرود على الوجود.
ليس فيما حولي من حسيس، بل كان شيء ساكت ساكن وتجري إلى جانب قاربي القمر والنجوم النائمة على الأمواج الخفيفة، ثم تحجبها السحب وهي تطلب من بينها منفذا كأنها تحس بعظيم شوقي لها، وما تكاد ترى أضيق سم في تلك الحجب حتى تبعث لي منه قبلاتها.
والبحيرة البديعة تحوطها الجبال والشجر، ناعسة تحت ستار الظلمة، كل شيء في تلك المملكة الصغيرة ذاهب في أحلامه وأنا والقمر متناجيان: وهناك هناك من أعلى الجبل عين ترقبنا جميعا، وتطلع على خفايا ما يدور في نفوسنا، نور ضئيل معلق في السماوات.
تلك بحيرة ليمان، هي ليمان الجبال وسجن الأحلام اللذيذة، هي المرآة تضم على سطحها كل ما في الوجود من إبداع وتبعث به للناظرين.
ثم يقف قاربي وإلى جانبه مجدافاه، وأنظر أنا للقمر الهائم، كم ناجى ذلك الوجه الشاحب محبيه، وكم سهر الليل صاحبه من أجلهم.
مغرور الإنسان أن يحسب أن جنسه وحده القدير على الحب، كل شيء للحب أطوع من يده إلا هو، هو أقسى الموجودات وأضلها في طريقه، وهاته العوالم الكثيرة والكواكب العديدة أليست هي الأخرى هائم بعضها ببعض.
لم تتطلع هاته النجوم البعيدة للأرض بنظرات عاشقة؟ ولم لا تكون مصلتة النظرات إن كانت صلدة جامدة كما يقولون؟ كل شيء يحب ويجن هدى إلا الكافر لا قلب به.
20 أغسطس
في أيامنا على الأرض لذائذ شتى، نتذوقها وننهل من كل منها حين يحلو لنا، ولكن ألذ هاته اللذائذ، اللذة التي تجعل الحياة سعيدة كلها خالية من الآلام والأفكار السوداء، هي في حياة بسيطة متشابهة يجلس فيها الإنسان لابسا أبسط ما عنده وأكثره ضمانا لحريته، تاركا كل، يدخن سجارته ويفكر في أحلام مختلفة، يتنقل من واحدها إلى الآخر، كلما حلا ذلك له سواء كان بينها مناسبة أو لم يكن، يجلس من غير ما تكلف، وينسى كل ما سواه والماضي والحاضر، لا يفكر في شيء غير هاته الأحلام.
ألذ من هذه حياة أخرى مستوحشة حياة بين جنات الطبيعة وغدرانها إلى جانب محبوب جميل بريء النظرات عذبها، يتكلم ويسكت من غير انتظار المناسبات أو تحين الفرص، بل لأن كلاما جاء في باله أو لأنه سارح في حلو أحلامه، والسكوت حولنا ترق على أوتاره أغاريد ما يحيط بنا من الطير، فيزيد عالم أحلامنا حلاوة ولذة، والغدير ينساب إلى جانبنا هادئا يلعب الهواء على سطحه أحيانا فيبعث فوقه موجات خفيفة لامعة، لا أدري إن كان في الإمكان تحقيق واحدة من هاتين الحياتين أو الأخرى، الناس مشغولون دائما بآمال وأفكار يقطعون بها وقتهم، لا يهمهم أن يكون ذلك لذيذا فيضطرون غيرهم ممن لا يدين برأيهم، ولا يعتنق مذهبهم لشيء من الكد والسعي، ويفسدون عليه كثيرا وينغصون أحلى ساعاته.
ليتني كنت قديرا على ثانية الحياتين، ألا ما أحلى هذا العيش! وما أشد شوقي له! لو أن عندي ما يجعلني أحققه لما ونيت عن ذلك لحظة ... ولكن ليس عندي، ويل للوجود يعطي غير محتاج من جماعة الذين لا يرون لذة إلا أن يكنزوا عندهم مالا في حين يحرم الآخرين الذين يريدون إرسال هذا المال في الطريق الذي له خلق، الذين يريدون إنفاقه، يا أرواح العشاق والمحبين، يا عوالم الأرض والسماء، هاته الجمالات المحيطة بي، هل لك أن تسعدي إنسانا لو لا ما يجد فيك اليوم من العزاء لما عدل عن الموت بديلا؟
22 أغسطس
أي إحساس ذلك الذي يصيبنا ساعة ننظر إلى فتاة جميلة، ما تلك الهزة التي تداخل النفس وتحتل القلب وتملأ الفؤاد وتمتد إلى الجوانح ثم تعم وجودنا كله، أي سحر يكنه جمالها حتى ليذهلنا عن كل ما سواها.
ما أخذ جمال فتاة ببصري إلا أحسست بضعف أمامه يسهل معه أن أركع إلى قدميها، وأحسست في الوقت عينه بقوة كبيرة ترفع عندي الأمل في الحياة إلى ما لم أتصور من قبل، كلما تخيلت الدنيا وما بها من شقاء وألم، وهاته المساءات التي لا يفتر الإنسان يرمي بها أخاه الإنسان، خيم علي يأس شديد يكاد يقتلني، ورأيت العيش على الأرض شقاء من الجنون البقاء معه، فإذا ما خرجت إلى الناس ولاحظت منهم اهتمامهم بالحياه حتى ليرتكبون من أجلها أفظع الأعمال ، زدت برأي اعتقادا وهمت أفكر بتنفيذه، ثم إذا ما خرجت لي جميلة حلوة النظرات وحدثتها بكلمة أو تبادلنا ابتسامتين أو رنت إلي زال أثر ذلك كله، واحتل مكانه مخدر لذيذ أتوه بسكراته وأنسى معه كل أفكاري السابقة.
كم لهاته النظرات البريئة من القوة على القلوب الحساسة، لو أنك امتحنت نفس إنسان ساعة تتركه جميلة أعجب بها، لوجدتها تجمع بين الهناء والعذاب والسرور والألم والأسى والأمل، وكل ذلك ذو لذة منعشة مخدرة تصور أمامنا عالما كبيرا لا تغيب عنا دقائقه ولا جلائله، عالم الجمال العظيم.
هذا الضعف الإنساني أمام الجمال، هذا الذهول عن عالم المحسوسات وعن كل شيء إلا المحبوب الجميل، هذا التخدير الذي يصيبنا وتلك السكرة التي تحكم على كل حواسنا هذا كله منتهى السعادة.
لو أن هذا المحبوب خرج عن المدن وضجتها وصياحها وجدرانها المتشابهة الثقيلة الظل وشوارعها المملوءة ضوضاء وجلبة إلى فسيح من الأرض طلق الهواء يغطيه الشجر والزهر وينعشه الطير بحلو نغمته، بالله ألا يضيف إلى تلك الجنة الزاهية روحا تزيد في حياتها ومبلغ السعادة فيها؟
25 أغسطس
أسأل عن جنسيتي حيثما ذهبت، وأقول إني مصري فأحس أن مخاطبي يرمقني مستغربا، يرمقني بنظرة تذهب إلى سواد قلبي فتؤلمني، لم ذلك؟ لم هذا الإحساس المشوب بالغرابة عنده وبالألم عندي؟
أما عنه فلا أدري؟
وأما أنا فأحس أن هاته النظرة تحوي معنى كأنه السم، تحوي احتقارا ناطقا، فكأنه يقول: أهوه، من أمة محكومة. أقول في نفسي إذ ذاك: ويلي لهاته الإنسانية الكافرة الجاحدة، ألسنا نحن آباء مدنيتها، ألسنا الذين علمناها الطريق إلى سعادتها الحاضرة، وأجدادنا أما كانوا الحاكمين ذوي السلطان والسطوة، إن لنا على الأمم جميعا من الفخر ما نرفع به رؤوسنا نساوي بها أكبر الرؤوس.
ولكن العنيد لا تزال نظرة الازدراء ظاهرة في عينه وكأنه يجيبني: بالله ذر الماضي فالتاريخ لم يترك أمه من غير مجد، إنما لك الساعة التي أنت فيها، الحاضر فخر أصحابه وعزهم أو هو صغارهم وذلهم، كنتم الملوك ... كنتم الآلهة ... ولكن ما أنتم اليوم؟ أمة مستصغرة مسكينة! أمة راضية بضعفها وذلها! أمة تقبل الحياة ولو كانت حياة خسة ونذالة ... ها أنتم اليوم ... ... من أجل ذلك أنظر لك تلك النظرة، أعذرني عنها! إنما دفعتني لها الفطرة التي تدفعك لمثلها لو كنت في موقفي ... وإنها يا صاح لتكن غير ما قدرته أنت شيئا من الرحمة والأسى من أجلكم!
26 أغسطس
وأنا راجع اليوم من فيفي
vevey
لمونتريه كان معي في الترام غلام ألماني يبلغ السادسة له رأس كبير وجهه عريض ونظره حديد، ولكنه مما تدل عليه هيئته وهيئة الذين معه ليس من عائلة غنية.
حدقت بهذا الغلام مرارا، وأردت أن أجتلي شيئا من غامض أمره، أردت أن أعرف ما تحت هذه الرأس الصغيرة من بذور تنتجها الأيام وما عسى تكون أزهارها ... فبهت ولم أجب نفسي بكلمة.
من ذا يدري هل سيكون ذلك الغلام برأسه الكبير شيخ الفلاسفة أو رئيس طائفة، أو يكون هو كآحاد والناس يقضي حياة متشابهة بليدة، من ذا يعلم إذا كان سيقلب العالم كعبا على عقب، أو هو سحر غير منظور بعين ولا معروفا، ويبقى أيامه القصيرة ثم يقلبه العالم مرة ثانية إلى ترابه.
ماذا في هاته الرأس الصغيرة السن الكبيرة الحجم؟ هي تلك الأشياء العادية المبتذلة التي في كل الرؤوس، أم تخبئ مكنونا ستظهره الأيام لعيون الوجود كله؟ وهل خير ذلك المكنون فيه يسعد به الناس، أم شر يسخطون له ويشكون ويصيحون ... من يدري؟
على كل حال هو سيخطو على الأيام خطواته حتى يصل للغاية الكبرى ... للموت وسواء عمل كثيرا أو قليلا ومرت تحت ستر الأيام أو هو هتكه فأمامه ذلك الآخر الذي ينتظر الناس جميعا ليريحهم من العناء والويل ... أمامه الأبدية حيث الراحة الكاملة الدائمة.
27 أغسطس انترلاكن 1910
أنني لا أخشى الفقر فذلك أهون ما أتوقع، وإنما أخاف شيئا واحدا أن يضيع - أخاف عليه أكثر من حياتي - ذلك هو الصحة.
لقد طعمت من صنوف الحياة ضروبا، ومن السرور والحزن والشقاء والسعادة وجنات الأحلام ومخاوف الحقائق كثيرا، فما رأيت بينها فرقا هالني، ولكني الذي يؤلمني وينغص علي عيشي ... الذي يجعل أمامي كل شيء أسود مخوفا. الذي أفضل عليه الموت ... ذلك هو المرض.
نمت تحت السقوف والتحفت السماء، تدثرت فوق سرير ناعم، ناعم بنعم الدثر، واتخذت مهادي الحلفاء الناشفة وغطائي الصوف الخشن، فما عرفت بينهما من الفرق ما أفرق منه، كلا بل إني لتراجعني ذكرى تلك الليالي المستوحشة وأنا في أنعم حالي، ولأحن إليها وأنا في عيش ناعم أحرى به الناعمات ... هناك أرى الفضاء الحر العظيم أنا ساربه، ويلعب النسيم العطر بشعري وأنا في خيالاتي تائه سعيد.
هناك يناجيني القمر وأناجيه: هناك تخاطبني الطبيعة الصامتة وأفهمها، هناك تتجلى أمامي الآفاق تخبر عما وراءها من السر الخفي في حين بين حوائط أربع أنا فريسة الأفكار الفظيعة والخيالات المخيفة والأحلام المقلقة.
إذن ليس من الفقر خوفي، كل شيء قدير أن يحويني لو كنت فقيرا، ولكني أخشى أن يتغير علي الزمان فيأخذ مني أكبر ما أنا ممتع به اليوم، تلك الصحة الطيبة أشكر الوجود عليها على نفس خالصة، إذ بها حريتي ومتاعي.
اليوم الذي تألمت فيه حقيقة هو حين مرضت أو ضويقت في حريتي.
29 أغسطس 1910
بين برينز وانترلاكن سماء صافية إلا من بعض سحب خفيفة بيضاء هنا وهناك، بعثت شمس أغسطس بالنور العظيم على الموجودات، في تلك الساعة أخذت عربة الأتوبيس من أنترلاكن حتى بحيرة برنيز، وانتظرت هناك ولا غاية لي أقصدها، فلما رأيت القارب وصل المينا نزلت فيه قاصدا أن أجيء على هاته البحيرة من طرفها إلى طرفها؛ لأرى أي شيء تكن من الجمال حتى لتفضل على ليمان، فلم تك إلا لحظة بعد أن تحرك القارب حتى إذ أنا تحوطنا الجبال من كل جانب وقد ارتفعت عالية حتى تلامس السحاب ثم تنزل دفعة واحدة إلى البحيرة، وقد غطى ذلك السد الهائل من الصخر نبات وأشجار خضراء نامية تكسوه، وتكاثرت الجبال حتى لكنا ننفذ من بين مضيق منها، وأمام العين ثماني قمم شاهقة محددة تخرق الجو الساكن لا حراك به، وكلما رسونا على بلد رأيت محطته صغيرة مختفية وسط الشواهق مما حولها، يهبط إليها الناس ثم يتخذون طريقهم صعدا، وسرعان ما يختفون عن العين وسط الغابات المحيطة بهم، وإلى الجانب الثاني تقوم الجبال كذلك، ولكنها أقسى أشكالا وأقل شجرا، وما بين الجبلين تنصقل صحيفة الماء وهي أكثر من كل ما حولها سكونا واستسلاما.
وسط هذا الصمت الهائل من كل الطبيعة المحيطة بنا يموج جوف المركب بالسائحين، وقد ملأوا بيتهم السائر ضوضاء لا يتميز فيها شيء لكثرة المتكلمين، وتعدد اللغات التي يتكلمون بها؛ فبينا ترى عن يمينك جماعة الألمان بجسومهم الضخمة وأشكالهم الكبيرة، إذا أمامك الإنجليز والأمريكيون، وعن يسارك طليانيون، وهناك عند مقدمة المركب جماعة يتكلمون العربية ويظهر عليهم أنهم من الشوام المتمصرين.
دخل إلى هذه الضجة سكون كان يتخلل أجزاءها رويدا رويدا، حتى إذا ما تم وقاربت المركب إحدى المحطات إذا صوت الماء المنحدر جاء من هناك من أعلى القمم، ثم انساب بين الصخور والنبات والشجر فاندفق بصوت عال دائم متشابه في البحيرة الساكنة، وكلما اقتربنا منه تميز طريقه ورأيناه يظهر تارات بين المرتفعات لامعا تحت النور الساطع مندفعا بقوة ثم يختفي بين الأشجار والصخور.
وأخيرا وصلنا برينز، فهبط إليها وأخذت الشاي بمكان صغير هناك، وحيث أرسلت بنظري فالجبال الشماء الرائعة تعلوها الأشجار العالية ويموج فوق سطحها النور المتدفق، ثم تهبط هي وما عليها والنور والشجر ساقطة إلى قاع الماء السجين وسط ذلك الحصن القوي.
ولما كانت الساعة السادسة أو نحوها وآن أن نرجع، كانت الشمس قد ابتدأت تسلك طريقها إلى الغابات البعيدة، وتسقط من جوها الرفيع والهواء يتحرك والأشياء كلها تلبس حياة غير تلك الحياة النائمة التي كانت تلبس ساعة مجيئنا، وأخذ مقعده إلى أمامي في القارب ثلاث شبان أقوياء، وقد انتعلوا أحذيتهم الجبلية الكبيرة، ولبسوا بعض ملابس بسيطة تنبئ عن ضعف حالهم، ثم من بينهم فتاة يظهر أن لها باثنين منهم صلة قرابة، جلسوا وكلهم الرضى والقناعة، يضحكون عن نفس طيبة ومن حولهم سكوت أو يهمسون، والماء تموج بموجات صغيرة صغيرة تتابع منسابة فوق سطحه الذي أخذ لون الجبال الخضراء قد انطرحت بظلها فوقه، ومن بين قمتين بعيدتين تتهادى الشمس النازلة وتبعث على البحيرة وموجاتها بعقد ذهبي يتبع قاربنا في مسيره، وهناك وعن يميننا جهة الغرب منظر أبدع ما ترى العين، جبال تغطي سطحها أعشاب صغيرة تنقشها هنا وهناك خطوط بيضاء، ثم دخل كل ذلك في شيء من الظلمة، فإذا ما تجلى للنظر سحره عن كل ما حوله ولم يستطع إلا أن يبقى محدقا به.
ثم رأيت الذين اخذوا مقعدهم أمامي قاموا فنظروا إلى جزيرة نمر بها، ولكنا لا نقف عندها، ثم أخرجوا من جيوبهم مناديل أمسكوا بها من طرفها، ورأيتهم يشيرون إلى بعض الواقفين على هاته الجزيرة، وينادونهم نداء الوداع، والآخرين يشيرون هم كذلك بمناديلهم حتى غاب القارب عن أنظارهم، فجلس أصحابي وعلى ثغورهم ابتسامة تطوقها.
وأخيرا وصلنا إلى القمم الثمان، وقد اختبأت وراءها الشمس، وصرنا ننظر من ذلك المضيق الذي نحن فيه، فتجلت أمامنا البحيرة وما حولها، ويأخذ بالعين ذلك المنظر الحلو حتى لنود لو يبقى القارب في مكانه حتى حين، ولكن القارب يسير غير وان إلى غايته بنا سريعا إلى انترلاكن.
15 سبتمبر 1910
كنا مع صديق يحكي لنا وقائع سكره وفتكه بالنساء، وكم كان - جازاه الله - حلوا في حكاية وتنسيق وقائعه، كما كان كثيرها إلى حد ما تصورته من قبل أبدا، وقال لنا كذلك سبب تركه الصلاة التي كان يحافظ عليها محافظة الناسك؛ ذلك أن دخل مرة سكران والساعة الثالثة بعد نصف الليل، ولم يكد يضع رأسه فوق مخدته حتى جاءه أبوه يناديه لصلاة الفجر، فقام وأخذ دشا يطهر به وصلاها، فانتابته حمى ظل في أثرها شهورا، فحلف من بعدها أن لا يصلي؛ إذ إنها الصلاة جاءته بها ... ثم انتقلنا بعد ذلك لحديث آخر جاء في خلاله أن تلوت آية من القرآن، فنظر هو إلي وقال: أولا ... أنت طاهر؟
ذكرني في ذلك بنادرة حلوة من مثل هذه ... كنت في إنجلترا وصديق يترافع عن الدين الإسلامي أمامي مرافعته أمام من لا يدين بذلك الدين، يدافع بكل قواه وينصر المبادئ التي قررها ، وأنا أوافقه أغلب الأحيان فلا يزداد إلا حدة واندفاعا.
هو الدين الإسلامي أطلق للناس العنان، وحلهم من قيود كثيرة كانوا يرزحون تحتها، وجعلهم أحرار الفكر يعملون بما يهديهم عقلهم، كما ضمن لهم في تعاليمه السعادة ووضع لهم قواعد محكمة ... إلخ ... إلخ ...
فلما أنهكه التعب وجاء عليه اللغوب التفت إلي قائلا: الواحد تعب ... تعال يا شيخ نأخذ كاس وسكي.
من أيام قام في الرايخستاج الألماني جدال جاء على أثر الخطبة التي كان ألقاها الإمبراطور مشيرا فيها إلى حقه الإلهي في الحكم مستمدذا معونة موكله العظيم، وفي هاته المناقشات قال قائد الاشتراكيين لأول مرة: بصراحة إنما نسعى لغايتنا وهي الجمهورية، يجب ألا تكون الجمهورية غاية الاشتراكيين وحدهم بل غاية كل محب للسلام العام؛ فإن وجود الحكومات الجمهورية على البسيطة هو الضمان الأكبر للحرية، وإن الجمهوريات الحاضرة - على أن بعضها عظيم جدا - لتدلنا عليها، ولو أنا لنصدق ما يقال من أن فرنسا اليوم في تقهقر، فما أحسب أحدا يقول إن الجمهورية الأمريكية الكبيرة جمهورية الولايات المتحدة في شيء من ذلك، كما أن الجمهوريات الكثيرة الأخرى قوية، ومع ذلك فليس في طبعها حب الحرية ومناوشة الآخرين العداء.
لكنها الملكيات هي دائما حبيسة هذا المرض الإنساني الفظيع، هي السبب في بقائه على الأرض، ولو أنك أخذت التاريخ لما وجدت التوسع في الاستعمار إلا في العصور الملكية، اللهم إلا قليلا أيام الرومان حين كانت الجمهورية في يد شبه ملك، والسبب في ذلك على ما أعتقد هو أن هؤلاء الملوك من الشره والطمع والأنانية حتى ليعتقدون أن الأمة وما فيها هي في شخصهم، فكلما اتسع نطاقها اتسع مجدهم وعظمتهم؛ وعلى هذا فهم مدفعون بما يخالط الطبيعة الإنسانية من الشرة الفظيع الجشع، هم يدفعون من يؤمنون بحقهم في الحكم إلى الغزو، وأقام الحكومة حبا في السعادة الشخصية؛ لذلك تدخل في أخلاق الناس وفي الفكرة العامة أن الوجود موضع سعادة للمجموع، في حين تكون الفكرة عند الملكيين أن الحاة قائمة على إرضاء لأطماع شره ملوكهم .
19 سبتمبر
ترى الأوربي هنا عمره فوق الثلاثين وفوق الأربعين، ورجل ذو مكانة في الوجود وقيمة في نفسه، وهو مع ذلك مثال السرور والنشاط وشديد التعلق باللذائذ وبالرياضة، يعطي قسما كبيرا لها، ويجد موفورا عنده الوقت الذي يعمل فيه كل عمله مما تطالبه به الحياة.
يفوق الخمسين ويفوق الستين ويبقى ذلك شأنه.
ترى الشاب يحس في نفسه بشبابه ويعلم أنه غير مسؤول بعد إلا عن عمل شخصه: عند دروسه ومدرسته، كما أنه يفهم أن هاته الأيام ربيع الحياة، وفي غد يأتى الصيف فيدخل إلى عالم مسؤولية وجد، ثم الخريف تعرى فيه رأسه عن شعرها فيكسب ذلك الربيع ويأتي فيه بكل ما تحبه نفسه ويجول بخاطره.
عندنا متى بلغ الفتى الرابعة عشرة من عمره أو السادسة عشرة إن كان ساكنا بعض الشيء خاض غمار السياسة، وأخذ على عاتقه من الأعمال، وتعهد أمام نفسه وغيره بأشياء، فتراه أصبح ذا العمل الضخم الكبير: وهو نعم الكفء لعمله؛ إذ تراه ما حل مكانا إلا صاح ونادى وصرخ واستصرخ، فإذا ما وصل العشرين كان الرجل الناضج يمشي وعليه وقار الكمال وهيبة الرجولية، وعند الخامسة والعشرين ينتظره المشيب فيتمهل في مشيته ويهز رأسه إن تحكي له مسألة أو حادثة كما يهزها من عرك الحوادث وعركته، وإن رأيته رأيته ذاهب الفكر سارحا يحدد عينيه لحظة ثم يسبل عليها حاجبيه ... ويكون بالجملة الشيخ الذي فرغت منه الأيام ولم يبق فيه من خير، تلك حالهم النفسية وما أدري إذا كانت الجهة الأخرى جهة اللذائذ الجسمية هي على هذا النظام، ولكنما يخيل لي أن الأمر بالعكس؛ لأنهم كلما كبروا سنا كلما اندفعوا وراء شهواتهم وتماوتوا في طلبها وزادوا إلى حد فظيع ... كل ذلك نتيجة تربيتنا الأولى وفساد العائلة.
سبتمبر/أكتوبر
عرفت أحد الموظفين بالحكومة قد قضى بها أكثر من اثني عشر عاما، وعمره اليوم لا يزيد على الثلاثين كثيرا؛ لذلك كان أمامي خير مثل للتربية إلي تعطيها الوظيفة لمن يشغلها، والأثر الذي يصيب نفس المستخدم، وإذا لم يكن هذا الشخص مثلا في قوة الإرادة أو توقد الذكاء أو حدة الخاطر أو نحو ذلك فليس هو بالعكس، ليس بالغبي الأبله، بل هو الشخص العادي الموجود عندنا، هو المصري الوسط عرفته فأظهر لي من أفكاره ما وافقني، كنت كلما قررت أمامه قاعدة وجدته لم يخالفني في صغيرة ولا كبيرة من أصلها أو حواشيها، وإذا أعطيت رأيي عن شخص قواه هو بالحوادث الكثيرة لا عدد لها يحفظها عن ظاهر قلبه، وإذا تكلمنا في السياسة والحال في مصر كنا دائما من رأي واحد.
شخص كهذا يكون صديقا حميما في أيام قلائل، ولاحظ هو أن هكذا كنا، ثم قابلته ليلة ومعه منتم للحزب الوطني مناصر لأفكاره، وهو الآخر صديق ذلك الموظف، كنا نحن الثلاثة معا، ماذا يعمل صاحبنا، اجتهد بكل ما استطاع أن يوافقنا نحن الاثنين، كلا بل كان مع عضو الحزب الوطني أكثر مما هو معي، ادعى فعلا أنه منتم لهذا الحزب؛ إذ كل فرد يعمل لصالح مصر هو من الحزب الوطني، فلما لم أقبل أنا هذا التعريف جعل يحور فيه حتى يرضي صاحبه ويرضيني.
قام الشخص الآخر قبلي، بقينا من جديد وجها لوجه ومنفردين أنا والموظف المحترم؛ فإذا به يقول عن الحزب الوطني كله (دول جماعة مجانين) بالطبع لم يرقني ذلك الانقلاب السريع، فلم أجب وأغضيت بنظري أن يقع عليه وبذا سكت ولم يستمر في كلامه.
طلب إلي أن يمضي معي عريضة كنت أتكلم بمناسبتها عن تقديم مشروع في مسائل الطلاق لناظر الحقانية، ووجدنا من بعد مع صديق آخر قال إن ذلك المشروع سابق لأوانه فوافقه الموظف، ولما شرحت رأيي للصديق الآخر كما كنت شرحته للموظف وافقني فوافقنا الموظف.
حوادث أخرى كثيرة من هذا الصنف وقعت معه.
ألست محقا أن أقول إن الوظيفة في مثل حكومتنا لها على النفس من الأثر ما يفسده ويضيع أخلاقها.
مسائل الاعتقاد ليست نظريات تبنى على قواعد طبيعية وثابتة كالمصلحة، ولكنها مضاربات نظرية تختلف من فرد لفرد باختلاف فطرة كل واستعداده والمحيطات به وأثر ماضيه عليه؛ لذلك من الصعب محاولة إرغام مفكر على أن يعتقد شيئا لأن الأغلبية تدين به، كما أن من الظلم الفاحش أن يمنع صاحب رأى عن نصرة رأيه مهما خالف الجماعة فيه لأن تكوين العقيدة أو الرأي في رأس المفكر لا يجيء إلا بعد أن يعمل مخه ويتعب أعصابه ويكابد أهوالا، فمن العدل أن يترك له من الحرية ما يجعله يكسب حوله أنصارا أو معززين أو على الأقل أن يتعزى بإظهار ما في نفسه للوجود. •••
يولد كل شيء عندنا قبل أوانه، ها صحافتنا ولدت ونمت في الحين الذي تضر فيه أكثر مما تنفع؛ فهي تصد الكتاب عن التأليف، وترجع المفكرين عن إتمام فكرتههم وتنميتها وتكبيرها حتى تبلغ أشدها بأن تنشر لهم كلمات قد تحوي مبادئ الفكرة، فتبعث بذلك النشر الغرور إلى نفوسهم وتقفهم عند تفكيرهم المبدئي، ولو أنا أرجعنا الصحافة إلى وظيفتها من الخوض فيما يخص الحوادث الحاضرة لرأيت الكثير من صحف مصر تقفل أبوابها؛ لأنها لا تعرف كيف تقوم بواجبها. •••
يعاب علينا جماعة المصريين - وبحق- أن لا ثقة لنا ببعضنا ولا بنفسنا، فيبحث الناس عن أسباب ذلك فيعتقدونها أحيانا في نقص التعليم وأخرى ضعف النفوس، والذي أعتقده أنا سبب ذلك أنا لا نعرف في الواقع طعم المساواة.
1 يناير 1911
اليوم أول يناير، اليوم دخلت سنة 1910 في الفناء وحلت محلها سنة جديدة، انقضت كما انقضى من قبلها غيرها، والزمن يسير دائما يفني عمر الناس ويهرم العالم العجوز.
في مثل هذا اليوم من العام الماضي كنت أسائل نفسي لم الحياة؟ وها أنا أسائلها الآن لم نستعجل الموت وهو منا قريب؟ وهل بين العام القديم والعام الجديد إلا غمضة العين، إلا أنه ليخيل لي أني أستطيع الساعة، وقد انتقلت إلى سنة 1911، أن أقبض بيدي على عام 1909 كأنه إلى جانبي، أو كأنه لم يدخل مع الأموات في حفرهم.
يخيل لنا أن الحياة تمشي على مهل، وأن أعمالنا فيها كثيرة لا يحصيها عد، ألسنا في ذلك كالحالم الذي يطوف الخافقين ويقف على حوادث الأولين والآخرين، ويسر ويحزن ويموت ويحيا ويفعل كل شيء سواء كان ممكنا أو مستحيلا في ساعة أثناء نومه، ويظن أنه قد استغرق ذلك الشهور والسنين.
من يدري إذا لم نكن نحن في عملنا على الأرض خيالات مسخرة تعمل ما تريده القوة الخفية في الكون، وإن أحست أن لها وجودا مستقلا، أليس من الممكن أن يكون حقا ما يقال من أن الله خلقنا على صورته، أي أنا خيالات هاته القدرة الهائلة، فنعمل ما تعمل ونتحرك بحركاتها ونسكن بسكونها ونظن خطأ أنا نريد ما نعمل.
خيالات نحن ثم نئن من الحياة، ماذا في الحياة حتى نئن منها أو نسر بها أو يبلغ بنا اليأس أمامها، إنها فارغة فاضية وكل ما نملأها به إنما هو لا شيء. عملنا وسعينا وسرورنا وحزننا وشقاؤنا وسعادتنا عقائدنا وأفكارنا حربنا وسلمنا، كل ذلك راجع إلى لا شيء.
11 يناير
ها أنا اليوم لا أعبأ بأمر ولا أحفل بشيء، ضميري صامت ساكت أمام الحوادث، ونفسي لا تناجيني بخير ولا بشر، كل ما أمامي من الأشياء والناس والحوادث لا يستلفت مني نظرة ولا يعيرني التفاتة، وشخصي كله هادئ بل جامد لا يستفزه أسف أو ألم لماض أو لحاضر.
كنت في العام الأخير ريشة تلعب بي الحوادث وتغيرني الأيام، وكل خبر يصلني من مصر أو مسألة تجد هنا تجد مني قلبا حساسا حتى كان يبلغ بها اليأس أحيانا أقصى غاياته، وكنت أجلس مكتئبا حزينا ترى عيني الوجود أمامها داعية آلام فتغلبها الدمعة، ويحيط بي وبخيالي وجودي الآسي، وآسف أن تركت أهلي وبلدي، أما الآن فلا شيء من ذلك. بل إن من الحوادث التي كانت ذات أثر كبير من قبل ما يمر أمامي فأتفرج عليه غير آس ولا أسف.
كذلك كل ما أعمل لا يترك في نفسي أقل أثر من فرح أو حزن أو سرور أو ألم أو أسف، على العموم أصبحت جامدا أمام الكون صلدا.
ومهما جاهدت فلا أستطيع معرفة أسباب ذلك كله، وغاية ما أفهم أنه نتيجة لازمة لنوع الحياة الذي أنا فيه، وللتطور الفكري عندي ولفطرتي الساكنة بطبعها، كل هذه العوامل تفاعلت وعملت واحدتها في الأخرى فأوصلتني معا لحالي الحاضرة، وهل بقاء الإنسان بعيدا عن كل قلب يحبه وعن نظرات يخالطها الحنان والعطف ثم عن الأصدقاء القديمين أصدقاء الطفولية حيث كل شيء فيهم يحيي أثرا قديما وعن مصر موضع الآمال ومستقر الرغائب، وعيشة بين من لا يهتم له ولا يتأثر به ولا يعرف من أمره من شيء، هل ذلك إلا يطبع النفس بعد أن تصيبها الأحزان وتتوالى عليها الحوادث، على الجمود أمام كل شيء والنظر لكل شيء بالعين الباردة التي ينظر هو بها إلينا.
ولكن الشر الأكبر هو أن الجمود بلغ عندي أن أصبحت جامدا أمام نفسي وأمام ما أعمل، ولست أدري إن كان ذلك ليضرني أو لينفعني، وكل ما أحس به أن هذه الحياة الحاضرة هي حياة لذيذة طيبة ليس من السهل الاستعاضة عنها بخير منها ولا بمثلها، ووددت لو أبقى كذلك غير مسؤول من أحد بقية أيامي التي أرجو أن تكون طويلة أطول ما يمكن.
طويلة أطول ما يمكن، ولماذا؟ لتكن طويلة أو قصيرة، مسرعة أو بطيئة؛ فما ذلك ليغير مني أنا شيئا ولا ليزيد أو لينقص من حظي كثيرا ولا قليلا، الحياة هنا، الحياة الجامدة الباردة، الحياة التي لا تشوبها أغراض ولا أطماع، هي لا شك خير أنواع الحياة أو أقربها للعقل، ولكنها كذلك أشبهها بالموت.
أيامنا على الأرض قصيرة جدا تمر وتجري بغير قرار، ثم تأتي علينا لتسلم نفسها لمن بعدنا، هي كالبغي تريد أن تأخذ من كل شخص أكبر حظ تستطيع منه، وأعقلنا من أخذ منها ولم يعطها إلا ما تجود به نفسه إشفاقا عليها أن تفنى وتذبل تلك الزهرة الجميلة، ولكن لا لنلقي بأنفسنا بين يديها تصرفنا كما تشتهي، أو نعطي حظنا إليها فتلعب بنا كما يحلو لها، بل يجب أن نجلس إلى جانبها ونريها ما عندنا، فإن أعطت أعطينا وإلا فأمرها بيدها.
ولكن لم تكون هذه الحياة الخامدة خير أنواع الحياة؟ لم يكون هذا الجامد خيرا ممن يترك نفسه لحظوظها تستوفي من الأيام كل ما تقدر على استيفائه، وتفنى هي في الأيام من غير ما حذر؟ ولم يكون خيرا من أي إنسان آخر؟ كل الناس يعيشون تتوازن آمالهم وآلامهم مسرورين بأنفسهم حانقين على الآخرين، ويقضون كذلك أيامهم في الفروق بينهم، لا فرق إلا الخيال الذي يدور برؤوسهم ويجعلهم يعتقدون أن غيرهم أسعد منهم، والواقع أن لا أحد أسعد من صاحبه بل كل الحياة مشاغل كاذبة لا حقيقة تحتها.
19 يناير
للباقين على عهد الحجاب ممن يحضرون إلى أوربا حجة يحاجون بها كل من كلمهم، تلك هي الكثرة لعدد البغيات ومن يبعن عرضهن من فتيات هذه البلاد، ولو أن هؤلاء كانوا أبعد نظرا لما أحوج الحال أن نقول لهم أن في كثرة الحاجيات وغلاءها هنا ما يدفع هاتيك البائسات لعملهن. كما أن التربية التي يربين عليها والحظ من التعليم الذي نلنه والقراءة والمطالعة التي تفتح نفوسهن وقلوبهن، وتجعلهن يطلبن الجمال من كل وجه ممكن، هذا كله يدفعهن رغم إرادتهن إلى ذل نفوسهن لمن يمسك بيده الذهب ويعمل لقضاء أغراضهن، والحقيقة التي لا شك عندي فيها أن هاته المدنية الغربية بما خلقت من كثرة الحاجيات وغلاء المعيشة، وتفننت فيه من أمور الزينة والجمال، وبما أودعت في الأشياء من السر وفي الحياة من السحر تجرف بسيلها كل من جاء في طريقها ولا تدع لأحد من أهلها ما يريد من تقشف أو زهد.
هذه المدنية القوية على ما فيها من فساد وشر تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتعطي لأصحابها من الغلب على غيرهم ما لا يستطيع معه ذلك الغير إلا أن يندمج فيهم ويأخد مأخذهم، ورغما عن أملي أن توجد أمة تأخذ من مدنيتهم بأسباب القوة والدفاع عن نفسها وأفرادها وتذر مجالب الشقاء من مواد الترف المتناهية في الكثرة، فإني ناصح كل أمة لا تستطيع هذا أن تصبغ المدنية الغربية بصبغتها ثم تأخذها إليها. •••
حبس فريد بك: قرظ كتاب الغاياتي «وطنيتي» كل من الشيخ شاويش وفريد بك، فأخذ الأول وزج به في السجن ثلاثة أشهر في حين كان الثاني يتجول في عواصم أوربا المختلفة، فلما رجع إلى مصر وطلب للمحاكمة كان حسابنا جميعا أن سيحكم عليه بحكم موقوف التفيذ مدة بين ثلاثة أشهر وأربع، ولكن حسابنا خرم وحكم عليه بستة أشهر معجلة التنفيذ.
مرت هذه الحادثة كغيرها من الحوادث التي تمر، وصاحت جرائدنا في وجه الحكومة صيحاتها المعتادة، وطلب بعضها العفو عن السجين وآخرون لم يطلبوه، ثم دخلت جراب الماضي وجاء عليها النسيان، ولكني أرى فيها من جانبي الحكومة والأمة أكثر مما رأوا، أرى فيها فساد نية الرؤساء وضعف إرادة المرؤوسين، ولو أن البلد لتلقي كل هذه الحوادث وكل ما تعمله أن تعلن الصياح والشكوى فيا طول ذلتها ويا عظيم ما ستلاقي!
إنني أنظر إلى الحوادث هنا وأنا بعيد عنها وبعيد عن تأثيرها الوقتي الذي تهيج له الأعصاب، فأراها أكبر بكثير مما يقدرها به أهل مصر؛ لأنني أراهم هم أيضا معها يصرخون ويصيحون، وذلك يدل على أن الألم لم يبلغ بعد أن يكون الألم المميت، الألم الذي تتوتر معه الأعصاب وتقف دقات القلب وتثبت العين ويتصلب الجسم، ثم يقذف صاحبه بنفسه على ظالمه قذفة اليائس الذي يريد الحياة الطيبة أو الموت الأخير.
في هذا اليوم فقط حين لا يكون من أثر الحوادث إلا بريق العيون وازدياد الجسوم تصلبا، يمكن لأي بلد مظلوم أن ينال حريته واستقلاله وحلاوة الذكر. •••
نرى منظرا أو نعرف شخصا أو تروقنا فتاة لأول مرة وقعت عليها عيننا، ويبقى لذلك من الأثر في النفس، ثم تكر الأيام ويدخل ما أعجبنا تحت ستار الماضي، ولكنا لا ننساه، بل يبقى عندنا في عالم الخيال والذكر، هاته الأيام التي مرت عليه لم تمر عبثا، بل هو يتجلى لنا في عالم الجديد وقد لبس جمالا غير جماله الأول، وإن أصبح غير هذه المزرعة أو الفتاة التي كنا نرى محسنين أمام أعيننا قائمة بين الأشياء الأخرى المبتذلة، بل يكون هو ومحيطاته والعالم الذي يعيش فيه مكسوا بقميص شفاف يستر العيوب وتبين المحاسن من ورائه مضاعفة ، كأنما أنماها الزمان، فالوردة التي كنا نرى محاطه بالشوك وقد ذبلت بعض أوراقها تظهر في أكمل ما تكون وردة صابحة عذبة، والمرأة التي عمل الكورسيه في جسمها نتصورها تمثالا أملس من الرخام النقي، والكلمات البسيطة تأخذ أمامنا روحا جديدة، وتحسبها تساقط من فم الحسناء التي تحب كأنها أشجى الأنغام، وكل شيء في هذا العالم يظهر كأحسن ما يمكن أن يكون.
في هذا العالم نحس حقيقة بالسعادة، نسير وسط هاته الأشياء البالغة منا أقصى درجات الإعجاب، وإلى جانبنا المحبوب الذي صورناه على ما نشاء، ونقول الكلمات ونعمل الأعمال التي تعجبنا، والسماء فوقنا ضاحكة الثغر دائما، وعن يميننا غروب الشمس البديع على ترعة صغيرة أو على النهر، أو هي تسقط لتبتلعها أمواج البحر العظيم، وعن يسارنا البدر المتكامل يحبو متهاديا ويتخطر ثملا، والجو كله تعطر بالطيب وتنعشه الطير بأحلى صفيرها.
فإذا ما خرجنا من هذا العالم الطيب إلى الحقيقة، إذا ما قابلتنا الحسناء التي أعجبتنا من قبل أو نحن زرنا الأماكن التي أخذت بأبصارنا مرة من المرات، كم يكون شقاؤنا كبيرا أن نرى كل ما تصورنا كاذبا! وكم نتمنى أن لا نخرج ولا مرة واحدة لنلمس الواقع.
26 مارس 1911 سان كلو
تعرف غادة وتسمح لكما معرفتكما بشيء من رفع التكلف والتكلم في مواضيع وفي أخرى، وتطرقان أبواب الحديث في كل شيء، وتمضي الأيام وتزيد المعرفة بينكما، وتطلعك أكثر على ما في نفسها وكل يوم تحادثها وكأنها تقول جديدا؛ ذلك لأنها إنما تحكي عن آمالها وتلك كلها لا حدود لها تمتد في كل الجهات وتميل إلى الشعر أكثر منها إلى الحقيقة وتنزع دائما لأن تجد جديدا.
وتعرف سيدة قد قضت من حياتها شطرا فإذا ما تكلمتما وقصت لك ما في نفسها ثم أعادته وجدتها دائما تقول الشيء بعينه لأنها بقية الماضي، وتحكي الأشياء الفائتة. الأولى نفس جديدة تريد أن تأخذ إليها كل ما تجد ولا شيء يكفيها، فهي تعبر في كل ما تقول عن هذه المطامع الغير المحدودة، ثم هي لم تدخل الحياة بعد ولا رأت مضايقاتها وتلك الأشياء السافلة التي تتكاثر في أنحائها؛ فكل ما تقول إنما هو عما في حلمها، وكل ما في حلم الشباب جميل، والثانية قد قضت وعرفت وعركت الدنيا وعلمت ما فيها؛ فهي لا تريد منها جديدا إلا لقضاء غرض حاضر أو لنوال مطلوب معين.
الأولى شعر الوجود البديع ممزوج بالأمل الحلو، والثانية الحياة الحقيقية الباردة ممزوجة بالألم المر.
الأولى ترنو للآتي فتحملنا معها إلى المستقبل ويظهر بذلك شباب الحاضر، والثانية تردنا إلى الماضي فتجعلنا نرى ما أمامنا وكله شعور بيضاء أو أكفان أو قيود كهذا الماضي المرجو.
من أجل هذا كله كان الشباب أوان الجمال، ومتى ولى الشباب ولى الجمال على أثره، كهاته الفتاة وهاته السيدة أمم الأرض، منها عجوز جاء عليها الضعف وذهب جمالها فكل ما تتعزى به عن أليم وقع الحاضر أن تفتخر كل يوم بماضيها وتعيده أمام الناس في أشكال إن اختلفت فهي دائما أشكال الماضي، في حين الأمم القوية الشابة دائما تنظر للمستقبل وتعنى به، الأولى مسكينة مخذولة والثانية قوية مهيبة.
28 مارس 1911
لم نكره الآخرين؟ ألأنهم أوصلوا إلينا ضررا؟ ألأن نفوسهم باقية لا تزال في الظلمة ولا تستطيع أن تتصور فعل الخير دائما؟ لعل واجبنا حين نرى هاته النفوس أن نتألم من أجلها ونعطف عليها، ويسوقنا هذا الألم والعطف لحبها، بل أليس الواجب أن يزداد حبنا لها كلما هي أوغلت في الشر أكثر، وكانت بذلك في ظلمة أدكن، كلنا نحب الطفل الصغير لأن نفسه لا تزال خالية من الخير والشر، فهل نحن نزداد له حبا وعليه عطفا إذا هو أسعده الخظ فوجد من ملأ بالخير نفسه واستغنى بذلك إلى حد كبير عن عطفنا، أو إن هو كان تعيسا فذهب به تعسه لأن يكون شريرا، الشخص الذي يسيء إلينا شخص مريض النفس، فإذا نحن حكمنا على من يتقزز من مريض الجسم أو مهدود القوى بأنه جاف خليط إلى حد أن يكون خبيثا ألا يكون من العدل أن نحكم الحكم عينه على أنفسنا إن نحن تقززنا من مريض النفس، واجبنا أن نداوي المريض ونعنى به، ولا يمكن أن يكون ذلك مع رفضه وتحقيره، ترى لو أنك نظرت إلى إنسان مقترب من الموت بنظرة يشك فيها ألا يتألم ويبكي كما بكى عبد الله الصياد حين أردنا أن نتركه بعد أن مكثنا نعوده سويعة من الزمان، كذلك ألا أكون قاسيا إذا نظرت النظرة عينها إلى مريض النفس، أليس من واجبي أن أحابيه مقدار ما أستطيع لعله يشفة ولا أبعده وأحرمه من عطفي حتى يموت موتا نفسيا مثلما أبقى مع الآخر حتى تفارق روحه بدنه، حقيقة في ذلك اليوم أدفنه لأنه لا فائدة منه بعد، ولكني أتألم من أجله بل وأزاداد له حبا، هذا واجب كل إنسان نحو كل إنسان.
سان كلو في 31 مارس
نزلت بالأمس إلى باريس وبقيت بها حتى منتصف الليل.
بعد أن تناولت طعامي الساعة السابعة سألت نفسي أين أذهب؟
إلى التياترو أم إلى بعض الملاهي أم أين؟ وأخيرا قر قراري على أن أقضي ليلتي في سماع الموسيقى، وانتهى بي الاختيار على (كونسيروج) حيث بقيت حتى الساعة الثانية عشرة إلا ربع.
هل أستطيع أن أحدد الأثر الذي تتركه الموسيقى في نفسي؟ إن هذا الأثر غير محدود من طبعه فأظن عبثا محاولة تحديده، وكيف نجد حدودا له في قطعة مثل (بير جنت) من تأليف جريج، حيث ينتقل الإنسان من السرور إلى الحزن ومن المرقص إلى النغمات الحزينة من أجل موت صاحب جريج، ثم إلى أن تهتز النفس مع دفات الرقص أو يبهجها الطرب لرجوع جنت إلى بلاده، كيف يمكن ذلك في قطعة أخرى، في قطعة بتهوفن المهداة إلى الطبيعة وجمالها، في قطعة كورساكوف عن شهرزاد، في أي قطعة أخرى، بل كيف يمكن تحديد الأثر الذي تحدثه النغمة الحزينة في النفس حين تجرها معها رويدا رويدا ثم تروح بها في عالم لا حدود له.
إن فيما تخلقه الموسيقى أمام النفس من العوالم المترامية إلى لا نهايات الإحساس لما يسحر اللب ويأخذنا جميعا من وجودنا الأرضي المملوء بالغابات والأطماع إلى جو جميل تسكنه الإحساسات ولا محل للأجسام منه.
في اليوم الذي تأخذ فيه الموسيقى مكانها في مصر، في اليوم الذي يكون فيه عندنا مؤلفون مهرة في هذا الفن ويعتبرهم الناس والعالم أساتذة فيه، في ذلك اليوم نكون بلغنا شيئا كثيرا، نكون خلقنا لأفراد الأمة سعادة لا نظير لها، وللمجموع إلى جانب هذه السعادة عظمة تبنى فوقها الأجيال المتعاقبة.
2 مايو
بالأمس مساء إلى ساعة متأخرة جدا من الليل، إلى الساعة الثانية من الصباح، كنا نتحادث مدام سنيار وأنا، ولا أستطيع بسهولة أن أعلل
son attitude
1
في الساعة الحاضرة إذ تغيرت إلى شكل آخر من يوم أخبرتها أني سأترك سان كلو، هي دائما رقيقة فوق ما يتصور، ولكنها أشد حيطة من قبل في كلامها، ولقد سمح لنا هذا أن نتكلم مساء الأمس في مواضيع أكثر جدا مما نتكلم فيه عادة، ذلك هو ما دعاني لأكتب مذكراتي اليوم.
كنا نتكلم فيما لو كان الفرد يستطيع ملاحظة الآخرين والحكم على أخلاقهم من وراء أقوالهم وأعمالهم، ولقد كنت ولا أزال شديد الاقتناع بأن ذلك ممكن إلى حد كبير، لكنها وضعتني موضع الحذر من عقيدتي، وأظهرت لي أن الناس ليسوا من السهولة بمقدار ما يتصورهم الإنسان، وأن أقوالهم وأعمالهم التي نرى ونسمع ليست كافية لنحكم من طريقها عليهم؛ لأنها دائما غطاء غير شفاف عما يجول بقلوبهم وضمائرهم، كم من كلمة يقولها الإنسان وهو لا يعتقد منها بحرف ولكن قالها لأن الكلام اقتضاها، كم نوافق على أشياء لولا أنا نريد أن تمر من غير أهمية وفي الوقت عينه من غير حرج لمحادثنا لكنا أشد الناس قياما ضدها.
قضينا وقتا طويلا في مثل هذا الحديث، وقت كان يسرني جدا أن أقضيه مع أهلي من السيدات المصريات، ننتقل من مسألة لأخرى ومن كلام لكلام ويسير الوقت ولا نحس بسيره ونود لو نبقى حتى الصباح لولا أن النوم من الواجبات المحتوم القيام بها.
مثل هذا الحديث وغيره مما تتجلى فيه رقة مدام سنيار ودقتها يجعلني أحترمها كل الاحترام.
28 مايو
كنا بالأمس نتحدث على الطعام عن سكك حديد أمريكا، فبمناسبتها أخبرتني السيدة جارتي أن المسافة بين واشنطن وسان فرنسسكو تستغرق ستة أيام، وأنها حسنة النظام والترتيب إلى حد عجيب، وصفت لي بعد ذلك أن ابنتها - وهي أرق ما يكون من الفتيات وتنم نظراتها السارحة وأنفها الأقنى الحاد وهدوؤها المطلق عن جمال في النفس كبير - أخبرتني أن ابنتها أخذت هذا الطريق وكان معها في العربة من أولها إلى آخرها أحد الضباط، وبقيا طول المدة يتناولان الطعام في قاعة الطعام ثلاث مرات كل يوم، ثم يرجع كل إلى مكانه ولم يدر بينهما حديث، ويعد أن وصلت سان فرنسيسكو أخذت الباخرة إلى جزر الفيلبين لترى أخاها، وكانت كذلك وحدها.
كم لهاته الفتاة من الثقة بنفسها! وكم لأهلها من الثقة بها! أذكر لمناسبة هذه الحادثة حوادث أخرى لا عدد لها، ولكني أدون منها حادثة مس ب.ك. التي ذهبت وحدها إلى مالطة وأقامت بها ثلاثة أشهر وساحت بعد ذلك في بلاد متعددة، ورجعت وهي أشد الناس ثقة بنفسها وأهلها أوثق ما يكونون بها.
كذلك مس ا.ت. التي ذهبت لأسبانيا مع أختها، ثم كانت تسافر وحدها إلى أبعاد من الأرض أغرب ما يتصور.
لهؤلاء الناس ثقة بنفسهم وبصفتهم لا تطرأ لمصرية - بل ولا لمصري - على بال، ألا نأسف على حالنا بعد ذلك!
اجتمعنا عصر هذا اليوم خمسة من الشباب عند خروجنا من درس السوربون، واتفقنا على أن نأخذ الشاي معا، وكان بيننا فرنسي صديق أحدنا، فصحبنا هو الآخر وذهبنا فأخذنا ركنا في القهوة بعيدا عن الضجة والذهاب والجيئة، ويسمع الإنسان منه دقات الموسيقى تصل إليه رائقة من التشويش والجلبة، وجيء بالشاي وبقينا نتناقش في نقط مما ألقيت في هذا الدرس الذي ألقاه رئيس أساتذة كلية الآداب: - مهما يكن من الأمر فليس من السهل الاعتقاد بأن هذا الوجود العظيم الذي نحن فيه يسير على غير نظام ومن غير رقيب، وكما إنا لا نحس بالدورة الدموية فينا، ولولا الطب لما عرفناها كذلك، فما دمنا نرى أنا نسير في الحياة بنظام عجيب فليس جهلنا بالقوة المصرفة للكون بمثبت عدم وجودها؛ وعليه فأرى أقرب للعقل التصديق بما دار في خلد الناس من القدم وما جاءوا به تقريرا لوجود خالق منظم للكون وما فيه. - أعجبني ما صنعت من المقارنة بين الدورة الدموية ونظام الكون، ولكني أرى استنتاجك معتلا وإليك البيان. - نحن إنما صدقنا بالدورة الدموية يوم وجد من يثبت وجودها أمام حسنا ولا يدع عندنا موضع شك فيها، أما ما قيل عن نظام الكون وأصله وعلته فلم يخرج عن المضاربات النظرية المجردة المبنية على الخيال والوهم، جاء أقوام من الأقدمين فضربوا بخيالاتهم في كل صوب، وجاءونا بفكرة عن خالق الأرض ومبدع الكائنات، وجاء من بعدهم نبي بني إسرائيل فأخذ فكرتهم ونقحها كما أوحى له طبعه فأخرج للناس إلها قاهرا قادرا عظيم الجبروت والسلطان، وانتقل الأمر من بعده لعيسى وهنا نحن في أوربا نتبع إلى اليوم تعاليمه وتخرج منها المبادئ والمذاهب والآراء حتى ولو استحال عليها أن نخرجها، ويستند بعض المفكرين على كلمة جاءت عرضا في الإنجيل ليقيموا عليها نظرية اجتماعية عويصة أو مبدأ اقتصاديا هاما، بل ويبلغ ببعضهم أن يبني عليها مسألة علمية لا دخل للدين فيها، وجاء من بعد عيسى نبيكم محمد فصبغ الإله بروحه القوية الهائجة الطالبة العظمة والمجد، الظمأى إلى فضائل التقشف والزهد وإلى لذائذ الحياة جميعا، وجاء من بعد أولئك أنبياء كثيرون، ولكن العالم كان قد انتقل إلى حال فكرية لا تسمح له بتصديقهم. - في هذه السنين الأخيرة تضاربت الأقوال واختلفت المذاهب في أمر الخلق والخالق، وقام كل يعلل مبدأ وينصر رأيا، ولقد كان من همي زمنا ما أن أبحث في هذه الآراء والمبادئ وأقربها للتصديق لأنه أقربها للحس المبدأ المادي وكلكم تعرفونه، ولو لم يكن من خطأ الناس في فهمه والنظر إليه لما نفروا منه كما ينفرون، فإنا جميعا نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا، ويصل إلى كل حواسنا أثر القواعد التي بني عليها هذا المبدأ، نحس جميعا بأن ما نسميه الحياة لا يمكن في الجماد لأن من علائم الحياة الحركة والنمو ، والجماد لا يتحرك ولا ينمو، لكنا نعترف إلى جنب ذلك بأن من الجماد ما ينمو وما يتوالد، مثال ذلك مناجم الحجر يأتي عليها أصحابها ثم يتركونها تمتلئ بطبعها من جديد؛ إذن فهذه درجة وإن تك دنيئة جدا من درجات الحياة، ويجيء أرقى منها النبات فإنه أظهر نموا وبعضه يصل في درجات النمو بحيث يكفيه أن يعيش في الماء، وذلك شأن بعض الحيوان لا يعيش إلا في الماء فهو في ذلك قريب جدا من درجة هذا النبات الراقي في درجة الحياة؛ لأن هذا الحيوان يتحرك، وترتقي درجات الحياة حتى تصل إلى الإنسان، وهي تختلف كذلك في الناس، من هذا كله يظهر أن الحياة كمينة في المادة أو هي صفة من صفاتها “une FONCTION de la matiére”
واختلاف درجاتها إنما يجيء نتيجة اختلاف تفاعل العناصر الموجودة في المادة، ولهذا السبب عينه فإن المادة لا تفنى ولا تزيد وإنما تتحول، هذا هو أقرب المذاهب إلى العقل وأحقها بالتصديق في رأيي. - ترقيك يا صاح في التعليل المنطقي يعجبني، لكنك تظهر استخفافا غريبا في كلامك بسر الحياة، هذا السر العجيب الغامض الذي حار فية الفلاسفة وعجز دون كنهه العلماء، تحكيه أنت بتعليل بسيط ظاهر كما تقول، ولكنك لم تبين كيف يمكن لمذهبك المادي مذهب تفاعل العناصر أن يفسر حوادث الكون كلها ودورات الفلك وتتابع الليل والنهار واختلاف الفصول وتعاقب الدوران، فهل ذلك كله يسير على مقتضى تفاعل العناصر، وإذا صح ذلك فلم لا يزيد عنصر على عنصر قوة في وقت ما فيختل هذا التوزان العجيب الذي نرى في الكون؟ بل كيف تفسر حياتنا نحن على الأرض؟ كيف يمكن أن يكون الناس في وقت واحد متضامنين ومتباغضين، متضافرين ومتحاسدين، وهم دائما معا وقلوبهم شتى؟ كيف يمكن تفسير هذا إلا إذا افترضنا قوة قادرة مصرفة للكون خارجة عنه موجودة فيه وضعت له نظاما يسير عليه وكفلت هي بوجودها حفظ ذلك النظام. - لقد فكرت أنا الآخر في الكون كثيرا، فكانت أصغر معضلة من كبير أسراره كافية لتوقفني مبهوتا دونها عاجزا عن حلها معترفا بوجود قوة لا أستطيع فهمها، ولكني أحس في أعماق قلبي بوجودها، قوة أخضع لها لأني أؤمن بها وأعتقد أن في يدها إسعاد الخلق وشقاوتهم، في يدها النعيم والجحيم، مطلعة على الغيب عالمة بما كان وما يكون، بها وحدها أومن وفيها أجد السند الذي أستند إليه عند عجزي وضعفي، لا إله إلا الله. - اعتراف متدين في قهوة لأنه مسلم، ربما كان هذا أحسن من اعترافي أنا يوم الأحد الماضي أمام القسيس في الكنيسة، حين أخبرته أني أعتقد أنه محترف فقال لي: «إنك ارتكبت خطيئة لا يمحوها إلا التوبة والتكفير عنها» ومع قوله هذا فآسف (إني لم أتب). - كل هذه المسائل التي أردت تفسيرها يفسرها تفاعل العناصر، سل علماء الاقتصاد ينبئوك أن الحياة مبنية على المناقشة، وهل المناقشة إلا تفاعل المصالح، سل الاجتماعيين يخبرونك أن كل شخص متضامن مع الآخرين لأنه مكلف بطبعه الاجتماعي أن يخدمهم، فهل معنى ذلك إلا التفاعل؟ ودورات الفلك وتتابع الليل والنهار إنما هي نتيجة تفاعل المادة الموجودة في الكون كله أي في السماء والأرض، أولو وقفت الأرض لحظة عن الدوران أما يختل العالم بأسره سماؤه وشمسه ونجومه!
ولكنها لا تقف لأن كل هذه القوى الأخرى تدفعها لإتمام دورتها، هي كالساعة الكهربائية كامن فيها كهرباؤها فهو يحركها وهي نتيجة له.
صديق آخر: أيكما الآن أدخل في باب المضاربة النظرية من صاحبه، كلاكما يتكلم في المتافزيقا ربما كنتما محقان جميعا ... - كلا يا صاح، صديقي المسلم وحده هو الذي يتكلم في الميتافزيقا، وأما أن فأعترف بأن كل شيء لم يثبته النظر الحسي بنفسه أو بمعونة العلم لا أقدر على تصديقه ... هل يجهل أحدنا تزايد الحجر أو نمو النبات والحيوان؟ هلا نعلم جميعا قوانين الجاذبية في العالم؟ هلا ترى تفاعل المواد وامتزاجها كيماويا، هلا تستطيع أن تضعف حياة إنسان بألم أي بإفساد تفاعل العناصر، كلنا يعلم أن الأجهزة الحية في الحيوان أشبه شيء بالأجهزة في الآلات الميكانيكة أو إن شئتم فاعكسوا الشبه، لم تفسد الماكينة إذا فسد تفاعل أحد أعضائها وبطل أو انحط عمله، أليس ذلك لانعدام التفاعل.
وقد أثبت العلم أن القوانين التي تسير عليها الجماعات هي بعينها التي تحكم المواد والتي تحكم الأفراد، وأثبت كذلك وجوها شتى لشبه بين أجرام الأرض وأجرام السماء، وأن هناك جاذبية وتفاعلا بين هذه وتلك، فأي متافزيقا بعد ذلك اتهم بها.
لا أنكر أن جوهر المادة في ذاته والسبب الأصلي في وجود قوي في هذا الجوهر لم يظهر بعد بوضوح كاف أمام العلم، ولكن ذلك لا يحملنا على الرجوع إلى الوراء آلاف السنين، واعتقاد أن هناك قوة خارجة عن الكون داخلة فيها منخرطة معه بعيدة الشبه عنه تصرفه ولا تتأثر به، جامعة كل ما شئت من أضداد الصفات وقادرة على كل شيء.
هذا رأيي وهو معتقدي.
وطال بعد ذلك جدال جعل المسألة تنتهي بضحك وضجة أن مر بالجالسين فتيات من معتادات القهوة، وجلسن على مقربة منهم وجعلوا يشاغلنهن.
أول يونية
كلنا يحني رأسه أمام ما عمله هو شخصيا، ولا يجرؤ على القيام ضده، ليكن ذلك جالبا عليه ما يجلب فهو خاضع لنتائجه، عامل على احتمالها بأي شكل ممكن، تلك عقيدة عامة قد تكون لا معنى لها ولكنها على كل حال لازمة لبقاء الجنس وسعادته، فالصغير الذي يضر بنفسه أنواع الضرر لا يصيح ولا يبكي؛ لأنه يحس أنه هو الذي جلب الضرر على نفسه، كذلك إذا تزوج شاب بفتاة عن معرفة وشيء من الحب سابق لم يكن لأيهما إذا صادفه ألم من هذه الرابطة أن يعزو بسبب هذا الألم لغيره أو أن يكبر شأن مصابه، بل هو يسعى لتخفيفه لأنه يعلم أنه وحده المتحمل لهذه المسؤولية الثقيلة؛ من أجل هذا واجب أن يترك للفرد في كل شيء أوسع ميدان ممكن للعمل؛ ليكون أقل حنقا على غيره وعلى الإنسانية، وأكثر بعد نظر وتدبر حين يريد احتمال المسؤولية.
الزواج عندنا حاجة من الحاجيات، كلما اشتد إحساس الشاب بها كان أكثر مؤانسة في قضائها، هو يبقى عزيز النفس أبيا عن أن يقع في زواج لا يكون على غرضه ما دامت الحاجة لا تصرخ في وجهه منادية قضاءها، فإذا ما صرخت ضعف دونها وترك نفسه تذهب لأول ما تلاقي، هو في ذلك كمثله في الحاجة للطعام، ما دام شابعا لا يقبل علي شىء إلا إن وجد فيه من شديد اللذة ما يجلبه نحوه، وإذا ما تكون أمعاؤه وصاحت في بطنه أحشاؤه قبل بنفس مفتوحة كل طعام يقدم إليه، أخشى أن يكون أمره في الحال الأولى كأمره في الحالة الثانية، متى راجع أحشاءه هدوؤها ونظر إلى ما أمامه بعين هادئة تقزز منه وقد يرفسه برجله، فكرة سائدة عند معظم الشبان إن لم يكن عند كل الناس أنهم هم وحدات ممتازة عن الآخرين، وتعيش غير حياة هؤلاء الآخرين، فواحدهم يعتقد أنه أكثر من كل من سواه، لا يمكنه أن يعيش من غير أن يحب، وأن اليوم الذي يمر عليه من غير أن يكون مملوكا لهاته العاطفة يوم تعس، ثم يقول في الوقت عينه: «ولا أحسب في ذلك مثلي أحد»، آخرون يعتقدون أنهم أكثر من كل الناس لا يستطيعون العيش من غير أن يفكروا، ويعجبون كيف يتسنى للآخرين أن يبقوا ساعات سكوتا من غير تفكير، غير هؤلاء يخيل لهم أنهم لا يستطيعون أن يقولوا غير ما يعتقدون، ويندهشون جدا كيف يمكن لإنسان بدعوى التأدب أن يقول أو يعمل غير ما في فكره، هؤلاء جميعا بين جاهل نفسه وجاهل الناس أو جاهلهما معا، فجاهل نفسه الذي يصل إلى التهويل في كل شأن من شؤونه، وجاهل الناس الذي يعتقد أن لا أحد مثله، وهم جميعا يذكرونني ببعض أيام كنت فيها شديد الاعتقاد بأن تركيب أعضائي ليس كتركيب أعضاء الآخرين، وأنه إذا تشابهنا ظاهرا وكان لي فم وأنف ويدين وساقين فإن سوى ذلك يخالف عندي ما عندهم كل المخالفة، وأحسبهم إذا فكروا يعودون مثلي إلى الاعتقاد بأن الناس متشابهون جدا وفي كل شيء وإذا رأينا منهم غير ما نحسه لأنفسنا فذلك لأننا ننظر لهم بغير العين التي ننظر بها لأنفسنا، كما أن ندرس ظاهرهم السطحي إن جسما وإن خلقا، ولو أنا نقرأ ما يكتبه بعض الأشخاص عن أنفسهم أو ما نجده في الروايات من الأبحاث، تعلمنا كم بين الناس من الشبه وأنهم أقرب جميعا للصغر منهم للفظة.
30 يونية
تركت باريس يوم الثلاثاء 27 يونية بقطار الساعة العاشرة مساء، كنت أتناول طعام العشاء ذلك اليوم مع صديقي ع. ف. في (بولان)، وبعد برهة جاء جماعة من المصريين النازلين باريس فجلسوا على المائدة التي أمامنا، جلسوا ثلاثة وفتاة معهم وكلهم يتكلمون وهي ساكتة، فتاة جذابة أكثر منها جميلة، دقيقة القوام بسيطة الملبس، ابتدءوا حديثهم عن مسائل وأشخاص وجعلوا يبدون ملاحظاتهم على العادة المصرية من رفع الصوت، ولكن كلامهم كان دائما محصورا في حدود الأدب لا يتعداها، مع أن ذلك ليس شأن الأ كثرين ممن يحضرون، ولم يبدوا ملاحظة إلى الخادمة ولا هم غمزوها بكلمة كما هي عادتهم وعادة أمثالهم.
أخيرا تكلمت الفتاة على ذكر واحد من معارفهم، تكلمت بصوت رقيق، رنان ولكنه لا يكاد يبين، ويتخلل عباراتها المصرية من حين لآخر كلمات بالفرنساوية، والواقع أني دهشت أن سمعت مصرية، مصرية اللهجة، تتكلم على هذا النحو وبتلك الرقة المتناهية.
حين عرفت أنها مصرية عرفت سر تأدب الجماعة في القول وتأدبهم في العمل، وأنا على يقين من أنهم لو كانوا يختلطون بمثلها كثيرا لزال عنهم كثير مما يزال عالقا بهم من رفع الصوت دائما والحدة فيه أحيانا.
كذلك أدهشني أن تكون مصرية بدقة قوام هاته الفتاة، رأيت في العام الماضي بلوزان وفي باريس مصريات ولكنهن جميعا يحملن علم الجمال المصري (بيضة وسمينة)، ولا شك أن أهلهن فرحن بهن لأنهم يعملون أن سوقهن في مصر لا في فرنسا، لكني أحسب الذوق مهما كان مقلوبا عندنا على اليوم فإن خروج أمثال هاته الفتاة أمام نظر أصحاب الذوق لا بد يردهم عن هذا العمى القديم.
بقي معي حتى ودعني على المحطة صديقي حمدي، وافترقنا حين سار القطار الساعة العاشرة.
كان معي في ديوان واحد ستة غيري، بينهم أربعة تجمعهم صلة تبين من خلال ما عملوا، فما كدنا نبتعد بعض الشيء حتى جلس الأربعة كل اثنين مقابل بعضهما: أمريكية (أو ألمانية لا أدري) مع أسبانيولي، جلسوا بطوق كل صاحبته بذراعيه، ذكروني بصاحبي الأسبانيولي على الباخرة من دييپ إلى نيو هيڤن في العام الماضي، ولكن هذين كانا جالسين بحكمة ووقار ... بعد برهة أخرى انتقل جاري وصاحبته إلى الجهة المقابلة ثم جعلوا ينظرون لنا نحن المنفردين بعيون حيرى، وننظر لهم بعين جمعت مع الاشمئزاز الريبة والشك، ولكنهم لا يرجعون عما هم فيه.
طمست على النور حتى لا أراهم، وحاولت أن أنام فما لبثت الظلمة أن شدتهم حتى تعاقبت القبلات من جانب وآخر ترن متوالية من غير انقطاع، ثم رحت في سنة لم أتميز معها ما يعملون.
بعد منتصف الليل، أقلقوا راحتي إذ جاءوا فجلسوا إلى جانبي، ولكنهم هذه المرة حاولوا أن يناموا وحاولت أنا الآخر ولكن عبثا، وبقيت حتى وصلنا بازل وآن أن نغير القطار، فنزلت وتناولت طعام إفطاري في بوفيه المحطة، طعام نظيف وحلو، ثم قمت مع قطار الساعة السابعة إلى لوسرن.
لم يكن هينا أن نميز الأراضي التي نمر بها، لقد بقي النوم يلعب برأسي حتى وصلنا، ولم أكد أبلغ المكان الذي أنا فيه اليوم وأختار مكانا أحسب للتعب في اختياره نصيبا حتى نمت لأستيقظ الساعة الثالثة إلى محل كوك لبعض ما أريد.
أردت بعد طعام العشاء أن أخرج من جديد، معتقدا أن نوم النهار يفسد علي نوم الليل، ولكني شعرت الساعة العاشرة بما يجذبني إلى سريري وقضيت فيه إلى الثامنة صباحا.
الفصل السابع
في لوسرن
لسويسرا نشوة غريبة فيها ينسى الإنسان نفسه وسط الجمال المحيط به، ولوسرن من أجمل بلاد سويسرا؛ فلا بدع اذا سحرت الإنسان عن الفكر وعن الكتابة وعن كل شيء.
أقمت بلوسرن ثلاثة أسابيع لم أكتب فيها مذكرات مطلقا، هذا الذي أكتب اليوم إنما هو ذكر لما كان يومئذ لساعة لذيذة من ساعات الحياة، ساعة نسيت فيها الحياة وتهت عن كل همومها ومشاغلها لأمتع بما كان يحيط بي من جمال ومن أحاديث عذبة ومن رياضات ونزه لا عدد لها.
تحيط بلوسرن جبال شامخة تكتنف بحيرتها البديعة وتقدم هي والجبال والماء والسماء الرائعة، والناس المختلفي الجنسيات والملل، والمناظر المتباينة على جمالها جميعا صورة تملأ الذهن ولا يبقى للخيال معها مجال، بل ترى الإنسان مكتفيا بهذا الذي حوله ينتقل فيه كما يحلو له، ويسبح منه على لجة تبهر النظر والفؤاد ويصبح شاعرا من غير جهاد ولا تكلف ويبقى كذلك نهاره.
فإذا ما أقبل الليل رأى المدينة الصغيرة دخلت في جوفه الهائل، وقامت الجبال على مرمى النظر أشباحا هائلة مخوفة، واشتد الماء بالسواد وحكم الصمت على الوجود، ثم تألق في الجو البدر البديع يحبو أولا من هناك فوق المرتفعات الهائلة، ويتسلق الأفق، ثم يبعث على لجة البحيرة أشعته الهادئة فتبسم لها الموجات الصغيرة يحركها النسيم ويخرج الوجود من حلكته، ويترنح كل ما في الجو كأنه ثمل بهذه الأشعة الفضية، وعلى شاطئ البحيرة قام الكرسال رشيقا بأنواره والضجة داخله والقمار والموسيقى والتياترو والمتفرجون ودخان السجائر، وإذا ما دخلت صالة اللعب رأيت جماعة المقامرين وكلهم ثابت النظرات قلق البال تلعب نفسه مع دورات كرة الملعب وينتظر العدد الذي تريد أن تقف فوقه بفارغ الصبر ونافد الانتظار، وفي صالة الموسيقى ترن أصوات بديعة أوحت بها نفوس كبار الموسيقيين فتملأ الآذان سرورا والنفوس بهجة، أو هي تحملنا وإياها على جناح الفكر أو الأتراح أو الهموم، وتطير بنا في جو خافت لا تكاد تسمع فيه الأصوات إلا همسا، ومن وقت لآخر تمر من أمامك سيدة أو شابة حسنة اللباس سليمة الذوق معتدلة القوام دقيقته، فتبعث للنفس مع لذة السمع لذة أخرى لا يمكن تكييفها لأنها تمثل جميع الحواس وتصل إلى أعماق القلب، فإذا ما اختفت السيدة وما تلبس تركت لك منها خيالا سرعان ما يطير وترجع مصغيا بقلبك إلى نداء الموسيقى، أنت تتوه بأفكارك وأحلامك في عالم تنسى معه كل الوجود، وعلى الجانب الثاني من البحيرة وعلى مقربة من محطة السكة الحديد يقوم مكان كبير (للباتناج)، ولقد دخلته مرة واحدة مدة مقامي بلوسرن، وجاهدت لأتعلم فأخفقت ولم يجد جهادي فتيلا، في هذا المكان ترى حركات الشبان والفتيات وهن ينزلقن على عجل، والأولون يقابلونهم أو يسيرون معهن ويتحادثون ويتضاحكون حتى اذا أحسوا بالنصب رجعوا إلى مقاعدهم يستريحون.
أعلى الجبال التي تحيط بلوسرن وأصعبها مرتقى جبل البيلات، ولقد أعد فوقه فندق ينزل فيه الصاعدون فيمضون ليلهم ويوقظهم الخدم قبل مطلع الشمس ليمتعوا النظر بمشرقها، ولقد استغرق بنا مسير القارب من عند لوسرن ليصل إلى محطة (الفنكيلير) الصاعد فوق الجبل أكثر من ساعة قضيناها متفرجين على ما يحيط بالشواطئ البديعة الرفيعة من المنازل والقرى ومن الأشجار والخضرة، ووصلنا حوالي الظهر وشمس يولية قد اعتلت السماء وإن هدأ من حرها رذاذ تساقط سويعة، فأرسل إلى الجو بردا وسكينة، وصعدنا قليلا فوصلنا عربة (الفنكيلير) وتحركت صاعدة تجاه القمة ببطء كأنها السلحفاء، والمرتفع عنيف شاق يكاد يكون قائما ثم اخترقت صخرا هائلا بقيت تحته زمنا نفذت منه وجعلت تحبو فوق ظهر الجبل العنيد، وأخيرا اختطت طريقها على سكة ضيقة يرتفع عن يمينها الصخر وتنحدر عن يسارها وهدة عميقة مخوفة، رأينا راجلا يسير على بعض طرقها الضيقة وبعد ساعة ونصف من هذا الحبو العنيف وصلنا إلى قمة البيلات وذهبنا إلى الفندق.
جعلت أدور في الجوانب فوجدت قطعة جسيمة من الثلج مستترة في ظل بعض الصخور، فتلهيت بأن أنكش فيها بعصاي مدة ثم تركتها ودخلت في ممر ضيق مظلم منحوت في الصخر، وخرجت بعد ذلك أبغي أعلى قمة في الجبل وهي على ارتفاع نحو مائتي متر من محطة (الفنكيلير)، وصعدت إليها فانكشفت أمامي قمم لا عدد لها من جبال سويسرا وتبينت على البعد صغيرة حقيرة لوسرن الجميلة، والبحيرة مسطوحة متواضعة يتعالى النظر عن الإعجاب بشيء منها، والمنخفضات كأنها رسوم الأطلس مسطوحة بطولها ووهادها لا تفترق أمام العين إلا في لونها، وحولي وقف جماعة يحدقون مثل ما أحدق للوسرن وللمنخفضات وللجبال وما عليها من ثلوج.
والجو رطب عذب والنسيم بليل، وكل شيء جميل وأقام أصحاب الفندق في هذه الليلة نيرانا من النقط إعلانا عن فندقهم، بقينا نتفرج عليها حتى ادلهم الليل، وذهبنا إلى مضاجعنا مبكرين لنرى شمس الصباح عند مشرقها.
أيقظونا والليل لا يزال ضاربا على الوجود أطنابه، وقمنا جميعا فأخذنا عدتنا من برد الصباح فوق قمة الجبل، وارتقينا إلى حيث كنا بالأمس، وكنت أنا من السابقين فإذا أمامي جماعة من السويسريين الجبليين الفقراء قد حمل كل منهم حقيبة على كتفه فيها طعام، وأمسك بيده عصى يحميها من طرفها السفلي غطاء من الحديد، وجاء هو الآخر يرى مشرق الشمس، وهم يتوافدون ويغنون غناءهم الجبلي المنخفض المرتفع تردد أصداءه الصخور من كل جانب، وبقينا كذلك حتى إذا النور ابتدأ يلمع على السماء ويبدد من دكنة الليل تجلت على مرمى النظر الثلوج الناصعة وكأنها في رداء من الليل لا تزال، وتزايد النور وتبدت الجبال تطوق الآفاق من كل جانب، وهي كلما ابتعدت كلما ظهرت سطوحها العليا كأنها خط أبيض من الثلج، وبزغ القرص يهدي الكون القائم من أحلامه تحية وابتسامة، وتجلى على الوجود وملأه بنوره ورجعنا غير راضين عنه لأنه لم يحقق في مطلعه أحلامنا وما كنا نريد أن يكون عليه من الجمال.
قبل زيارتي للبيلات زرت جيل الريجي، وهو أقل من الأول ارتفاعا ولكنه أنضر منه وأبهج، وقضيت في الصعود والانحدار يوما كاملا لم أكن فيه سعيد الحظ فقد تدلى الغمام حتى لكانت تلمسه اليد.
هذه كلمة مجملة عن لوسرن، وإني لم أذكر شيئا عن آثارها الطبيعية ولا عن شعبها المتمدن ولا عن مصنوعاتها؛ فليس في الذاكرة ما نستطيع معه التدقيق في شيء من هذا، غير أن الذي لا ينساه إنسان ممن زاروا سويسرا هو تعدد الجنسيات في هاته البلاد، فبينا تجد الإنكليزي والأمريكاني إذاك تخالط الفرنسي والطلياني والألماني والنمساوي ونسمع بعض الأوقات من يتكلم العربية.
وفي ذلك ما يسمح للنفس برياضة ونزهة طويلة، ولقد كان يسرني أن أحدث شخصين مجاورين لي بلغتين مختلفتين؛ فإن ذلك بالرغم من أنه يسمح لي بأن أكون ترجمانا لهما يجعلني أكثر صلة بهما .
يذكر في ذلك يوما كنت عائدا فيه من إنكلترا ومعي ألماني يتكلم الفرنساوية وأمريكي يتكلم الألمانية، فكنا يتكلم كل اثنين منا ولا نستطيع أن نتكلم معا جميعا أبدا، وتركت سويسرا قاصدا إيطاليا ونزلت في طريقي بلوجانو، ولا شك أن أبدع أسفاري كان ذلك الطريق ما بين لوسرن ولوجانو حين مررنا بنفق سانت سنس فلقد كان الطريق كله جنة يانعة لا يحويها الوصف مهما أبدع فيه، وأي شيء يقدر على تصوير جبال سويسرا وما عليها من شجر وزهر وهي تكتنف البحيرات في وسطها صاغرة أسيرة تحوطها الجدران العظيمة والسفوح الهائلة وينهب القطار الأرض فيود الإنسان لو يمسكه عن سيره ليتمتع بتلك المناظر البالغة في الإبداع أقصى حدود الجمال.
ودخلنا النفق فمكثنا تحته نصف ساعة ثم إذا به تخلى عنا ليتركنا على شاطئ من شواطئ عدن أو هو أبدع، وصفحة الماء مصقولة أذابت الشمس فيها فضتها وقد ابتدأ يتخللها ذهب الأصيل.
ووصلنا إلى لوجانو حيث بقينا يومين وحيث كانت الصلة بين سويسرا وإيطاليا.
لوسرن في 9 يولية
تذكرة عام
في منتصف شهر سبتمبر الماضي نشرت إعلانا في الجرنال أسأل فيه عن عائلة أسكن معها، وجاءتني الردود بعد ذلك تترى لا عدد لها ... ومر بالبيت سيدات يردن مخاطبتي في الأمر وجها لوجه، وكل تسعى لتجذبني إليها بكل طريق ممكن، فوحيدة عجوز تصف مقدار ما سأجده من الراحة والحرية معها، وأم بنين تمدح لي في لطف أبنائها، وصاحبة بيت تخبرني عما يلاقيه السكان عندها من الهناء والسعادة، وخطاب تخبرني فيه صاحبته بأن عندها أبناء وبنت في العشرين وصفتها بأنها
une charmante jeune fille
مررت بكثيرين ممن كتبوا إلي ومررت ببيت هاته السيدة، فلما تحادثنا أخبرتني أنها يقيم معها ابناها وبنتها وزوجها، ولكن هذا الأخير كثير التغيب وعلى ذلك فهو لا يضايق في شيء، ولما كان البيت الذي يسكنون جديدا نظيفا جعلني ذلك أفكر في أن أكون معهم.
عرضت مسألة مؤتمر باريس المصري في هذه الأيام والصعوبات التي أقامتها الحكومة الفرنساوية في وجهه، والتصميم على عقده في بروكسل، وبعد تردد طويل قبلت أن أذهب إليه، على هذا لم أقطع في أمر السكنى بشيء.
التردد مرض من أمراضي، لا أجزم بشيء ولا أبت في مسألة إلا بعد إحجام عنها طويل، ولو كان ذلك من باب التحرز أو إعمال الفكر لهنأت نفسي ببعد النظر ولكني أقبل الأمر أخيرا أو أرفض بغير سبب جدي، وكثيرا ما تؤثر علي مطالبة الغير وضراعته، ذلك نتيجة ضعف طبيعي عندي يظهر أحيانا في مسائل تستحق الشدة، ولولا أن الصدف إلى اليوم لم تقدم أمامي مسألة ذات بال ونتائج كبيرة لكنت قاسيت من وراء هذا الضعف كثيرا، ومهما كنت قد جاهدت للقيام في وجهه ونجحت في أحيان متعددة فلم أصل حتى اليوم إلى الغاية التي ترضيني، كما أن هذا الجهاد ألجأني في موضع لأن أظهر شدة لا لزوم لها.
ذهبت إلى بروكسل وحضرت جلسات المؤتمر مع المصريين الكثيرين والأجانب القليليين الذين حضروها.
وكتبت عنه بعد ذلك بكل ما استطعت أن أجيء به في جانبه وملاحظاتي الشخصية عن بعض مسائل اجتماعية إلا أن ما لاحظته ولم أكتبه كان كثيرا، ولا شيء يؤسف عليه أكثر من الروح التي عملت بها خطب المؤتمر، روح خفيفة لا تعرف الثبات تمر على الأشياء والحوادث فتظهر منها جهتها الشعرية غير ذاهبة بعد ذلك إلى أعماق ما تتكلم عنه، ولا مقتضية بأن تؤيد قولها بحجة ثابتة، كان من أكثر الذين نالوا الاستحسان العام فؤاد أفندي حسيب، ولا أنكر عليه أن خطبته كانت مثال بلاغة في اللغة يقتدى به، ولا أنكر عليه تحمسه حين ذكر يوم 14 سبتمبر، ولكن الخطبة كلها خالية من دليل علمي أو تاريخي يؤيد الخطيب به مطلبه العام وهو حرية مصر، قام الخطباء الكثيرون من بعده وكلهم كرروا ما يقال وما يعاد كل يوم على ألسنة العامة، دنشواي ومسألة السودان وقانون الصحافة والنهب والسلب الحاصلين في البلد، كرروا هذه الحوادث وقرروا هذه الأشياء من غير دليل جدي يؤيدونها به حتى يقتنع كل سامعيهم.
بروكسل هي كما سماها بعضهم باريس الصغيرة، بلد خفيف الروح لطيف النفس، تأخذ ترموايه الذي هو أشبه الأشياء بتراموي مصر فيؤدي بك إلى أطراف البلد المختلفة ويصل بك إلى المعرض العام، في المعرض قضيت ساعات كثيرة طيبة، فيه رأيت مظهر كل بلد من البلاد، فألمانيا بوابوراتها ومدافعها وفرنسا بحرائرها الجميلة ومصر بقلعتها. •••
رجعت من بروكسل واهتممت من جديد بمسألة السكن، ولكني لم أصل منها لشيء، وأخيرا تركت لوكاندة شارع (جاليلي) وذهبت إلى لوكاندة
Avenve Carnot
لأقيم بها نحو الثلاثة أسابيع جهة (الأتوال) هي منزل الإنكليز في باريس، ففي كل لوكانداتها تجد إنكليزا، وفي الشارع تسمع الإنكليزية بمقدار ما تسمع الفرنساوية وأحيانا أكثر، ثم إذا خرجت في الصباح جهة غابة بولونيا رأيت الإنكليز يكادون يختصونها لأنفسهم لولا جماعة من الفرنساويين ذوي اليسار يزاحمونهم فيها.
والأطفال هناك أو في طريق الغابة
Avenue du Bois
يتكلمون كلهم تقريبا هاته اللغة ليس هؤلاء الأولاد من الإنجليز بل هم فرنساويون مربياتهم إنكليزيات، وهن يرتدين لباسهن على شكل الحرملة وقبعتهن الصغيرة فيظهرن بذلك في شكل جميل وقد اتخذهن الآباء من الفرنساويين مربيات لأبنائهم ليتعلم هؤلاء الإنجليزية ويتقنونها من صغرهم، ثم لما عند الأمة الفرنساوية اليوم من الولع بكل ما هو إنكليزي والإعجاب إعجابا يفوق الحد أحيانا، فالفرنساوي يعجب من الإنكليزي بخلقه وبلباسه وبسياسته وبحالته وبكل ما عنده، وإذا حدث عنه حدث بشيء غير المعروف عنه من السخرية
Raillerie
وكثيرا ما يطنب في مدحه، ولست أدري إذا كان الإنجليز يستحقون كل هذا عدلا، بل ولا أفهم كيف أن هذه الأمة الفرنساوية تصل إلى هذا الحد مع أن الإنكليز من أشد الذين يستخفون بالفرنساويين ويستخفون عقولهم، بل وليبلغ بهم التطرف حتى يستخفون بأدبهم وهو التاج الذي تفخر به الأمة الفرنساوية، ثم لا بدع إن وجدنا هؤلاء الأطفال متى كبروا أشد من آبائهم إعجابا بهذا الجنس السكسوني بعد ان ربتهم بنات أمته.
الإنكليز مهما كان عندهم من الادعاء لطاف النفوس خفاف الأرواح يجذبونك بلطفهم إليهم ويعاملونك بأحسن المجاملة، لكنهم في الوقت عينه محبون لأنفسهم إلى حد فظيع إذ يطلبون منك إزاء هذه المجاملة مثلها أو أكثر منها، ومهما سامحتهم أنت في هفواتهم بأي هفوة تبدر منك نحوهم تقيمهم وتقعدهم وتظهر من شراستهم ما يمحو كل حسنة سابقة لهم، ولا يرجعون إليك إلا إذا رأوك عاملتهم المثل بالمثل وقابلت شدتهم بالشدة... يظهر ذلك لمن يعرفهم وتصل معرفته بهم إلى شيء من رفع التكلف في القول والعمل أو لمن تلجئه الحوادث إلى صلات جدية بينه وبينهم.
كان معي في اللوكاندة عدد من الإنكليز، ومقابلي على المائدة أختان إنكليزيتان، وإلى جانبهما كندية فرنساوية وبجوارها أحد أقاربها، أما جارتي أنا فكانت فرنساوية عجوزا.
وافق أول نزولي باللوكاندة أيام اجتماع البرلمان الفرنسوي ونظره في اعتصام عمال السكة الحديد، في ذلك اليوم خطب رئيس الوزارة برين
Aristi de Briqnd
وظهر في تلك المسألة كمظهره في غيرها الرجل الثبت القوي، لكنه لم يسلم من لسان الجرائد الاشتراكية رغما عن انتصاره في مجلس النواب.
كانت جارتي العجوز متحمسة لبرين إلى حد مضحك، نزلت للغداء ولأجل أن أتكلم سألت عما إذا كان الاعتصام لا يزال كما هو، فلم تكد تسمع كلمتي حتى بدأت حديثا دفاعيا استغرق كل مدة الطعام.
في المساء كانت ساكتة ودار الحديث بين الإنكليزيتين والكندية، هذه السيدة زوج كندي إنكليزي، ولهما ابن كان موضع كلامها هذه الليلة، قالت: يطلب أبوه أن أكسوه وأربيه على النظام الإنكليزي، أنا لا أكره البساطة في لباس الأطفال ولا أكره أن أعوده الرجولية والإقدام من طفولته، ولكن مهما طالبني به أبوه فإني أربي نفسه على أن تكون كندية لا إنكليزية على أن يكون ابن كندا وصاحبها لا ابن مستعمرة إنجليزية خاضعة. عجبت أنا لهذا الحديث بعد أن أخبرتني في العام الماضي كندية إنكليزية أنهم لا يهتمون بأمر استقلالهم لأنهم الآن حكام البلد وذلك يكفيهم، خصوصا وأن كندا بلاد واسعة موحشة قليلة السكان كما أن الإنكليز لا يضايقونهم في شيء ما.
انتهت هذه السيدة من طعامها وقامت، ولما أخبرت الإنجليزيتين بشديد عجبي أخبراني أن لا عجب أنهم في إنكلترا يفرقون بين الكنديين الإنجليز والكنديين الفرنساويين في الاعتبار والمعاملة، ويأخذون الحيطة من هؤلاء الآخرين في حين هما الأولون إخوة، أي أثر يكون لهذا الاختلاف على مصير كندا؛ لا أدري. •••
مضى علي إلى ذلك اليوم أكثر من عام في باريس، ومع ذلك لم أذهب مرة إلى جهة مونمارتر مهما تكن جهة الأتوال جهة الأغنياء وذات نظام وجمال؛ فإن كل شاب اعتاد الحي اللاتيني حيث الشبيبة وحيث سرورها يفيض في كل مكان وفي كل مظهر من مظاهر هذه الجهة العلمية من البلد يجد من نفسه دافعا يدفعها تجاه ذلك الحي، والواقع أن العربات الجميلة والملابس المترفة والشوارع المتسعة المنظمة وأبهة المباني الفاخرة وبهاء المنظر الذي يقابل العين حين تقف عند قوس الأتوال وتنظر إلى أي جهة من جهات الدائرة الكبيرة المحيطة به، الواقع أن ذلك كله لا ينسى، حديقة اللكسمبور ولا البانتيون ولا الشبيبة الناضرة التي تروح وتجيء في كل نواحي تلك الجهات؛ لذلك كنت كثيرا ما أترك مستقري وأخذ المترو لأنزل في محطة الأديون مركز الدائرة من الحي اللاتيني ... ذات ليلة وقد كنت في (تافرن البانتيون) جلس إلى جانبي شاب أحمر الوجه أصفر الشعر لا يتكلم الفرنساوية إلا قليلا، فسألته إن كان إنكليزيا.
أخبرني أنه نرويجي ولكنه يتكلم الإنكليزية أحسن من الفرنساوية لأنهم يتعلمون هاته اللغة في بلادهم من الصغر، ولا يكاد يوجد واحد من أهل بلده إلا يعرفها إلى درجة ما، وذهب بنا الحديث مذاهبه وعلمت أن له أسبوعا في باريس وأنه كان بالأمس في (كباريه جرلوت) بمونمارتر، وامتدحها أمامي.
من النفوس ما يبقى زمنا مقفلا أمام الواقع وحوادث الوجود مكتفيا بعيشه في عالم الخيال والمضاربات النظرية والمسائل العلمية، فإذا جاء عليها يوم تطلعت فيه لترى العالم كما هو ثم لتأخذ مما فيه بنصيب ظهر عليها التورط وجاهدت بكل وسعها لإخفاء ما تنويه، تريد أن تأخذ حظا من كل شيء وحدها؛ لأنها تحسب كل شيء كالكتاب يفيدك أكثر كلما أفرغت إليه نفسك، كما أن الخجل الذي يحيط دائما بالذين عاشوا عيش الوحدة يبعدهم عن مشاركة غيرهم في كل ما يخيل لهم أن عمله يجر إلى شيء من الريبة فيهم.
وإن أقدموا أخيرا على هذا العمل أقدموا خائفين وجلين، لذلك هم لا يرون من الحقيقة لأول الأمر شيئا.
كان ذلك شأني في أمر مونمارتر، أردت بعد تلك الليلة أن أذهب إليها واكتفيت من كل الاستعلامات عنها بأن عرفت اسم جرلو، وبعد تخبط طويل في البحث عنها وصلتها الساعة العاشرة ونصف مساء فإذ اني مبدر أكثر من اللزوم.
في مثل هذه الساعة يوجد في تلك الجهة من باريس، كما يوجد في غيرها، عائلات تريد أن تفرج الكرب عن نفسها، فإذا ما انتصف الليل وخلا الجو لأصحاب السهر ابتدأ يحل محل هؤلاء من الشبان وبنات مونمارتر ويدخل السرور على المكان بشكل فظيع، سرور غير مرتب ويملأ وجه كل إنسان، فتدور البنات بين الترابيزات ويلبسن برنيطة هذا ويرتدين رداء ذاك ويصحن ويدخن ويجذبهن الشبان نحوهن، والموسيقى تدق بنغمات شديدة ويتتابع المغنون والملحنون أشكالا وألوانا، ومن لحظة لأخرى ترن في المكان ضحكة من بعض النواحي التي أخذها جماعة معا من الشبان، وكأن في ذلك الجو - المملوء بالدخان حتى ليختنق - مخدرات تذهل كل من فيه عن همومهم ولا تدع مكانا إلا للضحك والسرور ... وسط هذه الضجة الفرحة بقيت أنا وحدي ساكتا حتى الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
كنا تلك الأيام في أواخر أكتوبر، والسنة المكتبية الداخلة تناديني أن أرجع إلى الحي اللاتيني، إلى جوار المدرسة، ولما يئست من الوقوع على عائلة توافقني أخذت الطرف الثاني من أنواع الحياة، أخذت سكنى اللوكاندة.
حجزت لنفس غرفة في اكسلسير، ولما وثقت منها وارتاح بالي من هذه الجهة رتبت عفشي قبل تعزيلي بثلاثة أيام على ما أذكر.
سهرت ليلة أول نوفمبر حتى الساعة الرابعة صباحا، رغما عن ذلك فقد أيقظني صديقي حمدي الساعة الثامنة ولا أزال في أشد الحاجة للنوم، لكن سروري بحضوره من مصر أنساني تعبي، وفي اليوم عينه انتقلت إلى اكسلسير وأخذ هو الآخر غرفة فيها.
ساكن اللوكاندة حر إلى أقصى حدود الحرية، ولكنه كذلك وحيد إلى أفظع درجات الوحدة؛ لذلك هو يميل بكله لاتخاذ أصدقاء إخوانا ويكثر منهم ما استطاع، ومهما يكن محبا للانفراد ولطعم ذلك السكون اللذيذ حين يجلس في غرفته، إن شاء يدخن متى أراد، ويتثاءب حين يحلو له، ويفكر الساعات الطوال على غرضه، فإن تشابه تلك الحياة الميتة وعدم وجوده حتى ولا ساعات الطعام مع أشخاص يقتادهم ويقتادونه يجعله سؤوما ملولا، ويجئ الشيء طبيعيا إلى حد غريب، هو يذهب ساعة الظهر للمطعم فيقابل شخصا يعرفه ويكون مسرورا أن وجد مكانا إلى جانبه، وفي أكلة أو أكلتين ترتبط المودة بينهما ... يذهب بعد المطعم إلى القهوة فيجد آخر وثالث وهكذا يجد جيشا عرما من المعارف، ثم يغريه حب استدامة اللذة إلى أن يجد من يبقى معه أطول زمن ممكن، وفي اللوكاندة كل حر يعمل ما يريد، وهكذا تسير الحياة على هذا الشكل الفاتر اللذيذ ... ولكنها في الوقت عينه تسمح لمن عنده شيء من التفكير فيما يرى ويعمل، ومن القوة على إمساك نفسه عند الحاجة أن يلاحظ أشياء كثيرة ويستفيد من مخالطة الأشخاص والنظر في الحوادث أضعاف ما كانت تفيده من قبل الكتب والروايات، وإذا رجع إلى هذه بعد أن طعم الحياة التي وصفنا رجع إليها وعنده من التجربة ما يجعله يصل منها إلى أعماق فكر صاحبها ويفهم كل ملاحظة عن حادثة يقص الكاتب خبرها.
كنت أذهب إلى المطعم أنا و(ع. ف.) فنجد هناك جماعة من المصريين، وقد اختصوا مائدة كادت تكون محجوزة لاسمهم؛ ففي الظهر وفي المساء تراهم يحضرون الواحد بعد الآخر حتى تمتلئ بهم، ويدور الحديث في مواضيع مختلفة كانوا فيها دائما موضع حضور الذهن ووضع النكتة في أحسن محلها، وكثيرا ما كنت أمضي كل ساعة الطعام من أولها إلى آخرها ضاحكا مسرورا، ولكن متى دخل إلى كلامهم شيء عن السياسة والأحزاب علت إذ ذاك ضجتهم، وإن انتهت في الغالب بالتنكيت والضحك.
في تلك اللحظات كان أحدهم (م. د.) يجلس صامتا لا ينطق وتلك عادته حتى غيرها، ثم إذا امتلأت نفسه جاء مرة واحدة بكل ما عنده من سب بعض الكتاب ورميهم بالنفاق والخيانة والجبن، وأنهم يبيعون البلد بيعا ... سمعت عن هذا الشخص بعد شهور من هذا أنه في حيرة لا يجد ما يأكل به.
ت. س. شخص ثابت رزين حلو الحديث، ولكن رزانته تذهب أحيانا إلى حدود أكثر من اللازم ويعتقدها آخرون كبرياء فارغة.
م. م. يظهر من الظروف ما لا تكاد تتصوره، ولكن ظرفه ينحصر في غيبة الآخرين والطعن عليهم وإن أظهر لكل الناس أنه صديقهم الحميم.
م. ر. شخص ضعيف الإرادة ضعيف العقل أحمق من دجاجة، ويعتقد نفسه شيئا ذا قيمة بين الناس، بل وفي وجود مصر.
أ. ن. فلاح صعيدي جاء إلى باريس، تصور أثقل فلاح صعيدي يريد أن يصبغ نفسه بصبغة ابن باريس.
م. ز. شاب في الحادية والعشرين، عقل طفل في جسم رجل.
ع. س. ينافق حبا في النفاق، ويكذب حبا في الكذب، ويعمل كل نقيصة ليقال عنه حر الفكر أو أنه ذو ذكاء.
هؤلاء جماعة من بين الذين عرفت في المطعم يومذاك، وأولهم أحبهم إلي لأنه إنسان جميل العشرة يفهمك إن حدثته، واسع الاطلاع.
في هذه اللوكاندة قضيت شهرين، ولسبب لا أدريه كنت أجد نفسي دائما مشتغلا بدروس غير دروس الاقتصاد التي أعددت أن أمتحن فيها لأول ما أتم تحضيرها، بالرغم من ذلك كنت حياتي مرتبة إلى حد كبير.
جاءت النتيجة الطبيعية لسكنى اللوكاندة، اعتدت القهوة وصرت أصرف فيها وقتا طويلا، كنت أحيانا أذهب لآخذ طعام الغذاء في (هولانديا) ولا أكاد أتمه حتى يحضر بعض إخواني المصريين فنبقى نتحدث ونلعب البليار أو الطاولة حتى موعد العشاء، ومن بعده نجد موضعا لقضاء الوقت هو وقت راحتي.
لكن ليالي كانت منتظمة إلى حد كبير، من الساعة العاشرة في غرفتي، وأشتغل حتى نحو منتصف الليل ثم أنام لأقوم الثامنة صباحا وإن كان عندي درس أسرع إليه وإلا بقيت أشتغل حتى الظهر، وفي مدة الشهرين أذكر أني لم أبق إلى الصباح إلا مرتين، إحداهما كنت مع جماعة في مونمارتر، وقد وضعت حديث هذه الليلة في غير هذا المكان من مذكراتي.
اشتركت في محاضرات العلوم الجنائية، وواظبت على حضورها وعلى سماع دروس المسيو جرسون في صبيحتي الثلاث والخميس.
في أواخر العام سئمت هذه اللوكاندة، وانتقلت مع العام الجديد إلى (سلكت)، سلكت معمورة بالمصريين، ولكن منهم من لا تراه إلا كما ترى آخر ساكنا في الحي اللاتيني ولا صلة بينكما، ومنهم من تتوثق بينكما الرابطة حتى لتصبح صداقة جامدة، كان ذلك شأني مع السيد مرعي.
أكثر من المطعم تسمح لك هذه اللوكاندة بملاحظة المصريين والدخول إلى باطن من أمرهم لا تقف عليه من غيرها، ولكنها كذلك تعرضك لأن تكون إلى جانبهم دائما وبالحق الذي يعطوه لأنفسهم بصفتهم مصريين، وإذن أصدقاؤك يدخلون عليك غرفتك في أي لحظة ولأي سبب.
عشت هنا عيشة الطلبة أكثر من أي لحظة عشتها قبل ذلك، هنا عرفت مواعيد العصر لأبقى بها إلى الصباح، هنا طعمت العيشة المكسال لا يغيرها أمر ولا نهتم فيها لشيء، وننسي أنفسنا تتوه حيث تشاء من علام الهمود ونتمتع من كل ما في الحياة ولا رقيب علينا، حقا أن النفس التي عاشت بعيدة عن لذائذ الحياة متى وجدت أنها بينها غرقت فيها وأرادت أن تأخذ منها بأكبر حظ تستطيع، وكثير من هاته النفوس تروح في عرقها إلى الموت، إلى موت لذيذ هو الآخر لا تحس به إلا حين تحرمها الظروف من غرضها أو يجعلها السن المتقدم قليلة الإحساس بما حولها، لكن إن قدر لها أن تنجو انتفعت من تجربتها أكبر النفع.
لم أكد أسكن سلكت وأجد نفسي محاطا بإخوان السرور، وتمد الحياة إلي يدها ممسكة بها حتى تهت عن صوابي مبهورا، وأردت أن آخذ من ذلك كله أعطته لي الصدفة ولم تمنع عني شيئا أردته، كل ما أرغب ما علي إلا أن أمد يدي فأتناوله.
قضيت كذلك شهرين من حياتي، شهرين جاءا في لحظة ما كان أحوجني إليهما، شهري لذة وسرور.
وإذا كنت أنظر لهما اليوم بشيء من الأسف فإن لهما كذلك شفيعا من أنفسهما كما أن الحياة التي تلتهما كفرت عنهما.
وكأن النفس التي ربيت بين الكتب والمطالعات والكتابة مهما وجدت في هذا العيش من اللذة تسأمه أخيرا، تسأم تلك الساعات الفارغة والليالي الساهرة لغير فائدة والأوقات الطويلة الضائعة بين جدران القهاوي أو حول ترابيزات البليار؛ لذلك أحسست في النصف الأول من فبراير بقلق أخذ بخناقي وأنذرت (ويكث) أني تارك اللوكاندة لآخر الشهر، وكل يوم يمر يزيدني قلقا، حتى إذا كنا حوالي الأيام الأخيرة ذهبت وأخذت لنفسي مكانا في سان كلو.
في سان كلو كان معي عائلة من رجل وزوجه وابن صغير، ثم سيدة أخرى، وكل جماعة في ناحية من قاعة الطعام، ولم يمض علي بها ثلاثة أيام حتى سافر هؤلاء وأصبحت الغرفة الواسعة لا أحد بها إلا أنا ... وأحسست في تلك الوحدة المطلقة بعد الذي كنت فيه من الضجة الدائمة براحة كبيرة، لكن ما أسرع ما وجد الضيق سبيله لنفسي، فكنت أهاجر لباريس ثلاث مرات وأكثر في الأسبوع الواحد، وبقيت في تلك الوحدة أياما.
جاءت عند صاحبة الدار ليلة عجوز كانت ساكنة عندها، وسألتها أن تذهب معها للكنيسة، وسألاني أن أصحبهما ففعلت، وجاءت العجوز عندنا تتناول طعام الغذاء، وكانت غرفة الطعام قد صار فيها غيري شخصان رجل وسيدة، سيدة مريضة يكاد المرض يجيء عليها ذاهبة اللون مسؤومة الوجه غائرة العينين، فلما انتهينا من الطعام وذهبت إلى الصالون وقد شيعتني إليه هذه السيدة الرومانية العجوز جاءت صاحبة الدار تحادثنا، وسألتنا أن ننادي بهذه السيدة المريضة من غرفتها فنزلت، وقضيت معهن حتى الساعة الثالثة بعد الظهر.
كنت في هذه الأيام قد أخذت في العمل من جديد، الشهر مارس والسنة اقترب آخرها ولم يبق من التحضير للامتحان محيص، وكأن تلك العادة المكسوبة بالزمان من تأدية امتحان والنجاح فيه كل عام من سنين عديدة مضت جعلتني أحس بمسؤولية مضاعفة؛ لذلك فرغما مما كنت أجده من لطف السيدتين لم أكن أعطيهما من وقتي أكثر مما يلزم.
غير أن رقة المرأة لها من القوة على قلب الرجل ما يسحره عن نفسه، كم من رجال أمناء أضعفتهم النساء! وكم من ضعاف أعطتهم النساء قوة، وأقوياء أورثنهم ضعفا! ولا أظن أن هناك ضرورة لدخول الحب في قلب الرجل من أجل أن يصرفه عن طريقه، بل يكفيه قليل من الإحساس بالميل نحو امرأة لتأخذة عن نفسه إلى حد كبير، لذلك صدتني رقة صاحباتي وخصوصا رقة مدام س. عن عملي إلى حد ما.
وكل يوم كانت تحكي لي فيه عن مركزها كانت تزيدني رحمة بها وعطفا عليها وبالتالي عملا لإرضائها ... أول ما عرفت عنها أنها زوجت في السابعة عشرة من عمرها ثم طلقت زوجها بعد سنتين بعد أن رزقت منه ولدا، وبعد أن ذاقت من زواجها الذي خلفت بعده أن لا تجعل لرجل عليها سبيلا، ثم تعلق بها المسيو س. وجعل يجاهد سنتين حتى قبلت يده وهي في الثالثة والعشرين، وبقيا زمنا وهو أطوع لها من يدها، ثم انصرف عنها بعد أن رزقت منه صغيرا، وهو اليوم يدور مع أخرى وهي تقاسي في الوحدة آلامها.
جاهدت بعد ذلك أريد أن أقف على كثير من أمرها، وزادني ذلك تحريضا على صرف بعض وقتي معها، وهي دائما تلك السيدة الرقيقة الطيبة القلب الواقعة تحت حكم الألم.
كنا إذ ذاك في أوائل أبريل، ورأيت أني أكاد أنصرف عن القسم الأكبر من عملي، فلم أكد آخذ كلمة من صديقي (ش. ب.) يدعوني فيها للسفر معه إلى التورين حتى فكرت في قبولها جديا، وفعلا قبلتها وسافرنا الخامس من هذا الشهر.
بلاد التورين بلاد سهلة لا جبل فيها، وتحوي جمال البلاد السهلة كما تمتاز ببديع غروب الشمس، وفيها القصور الفخمة القديمة يحكي بعضها ببهائه عن ذوق حلو والآخر بقدمه وقوته عن عظمة ذات أصل في التاريخ.
في بعض هذه القصور سجون تحت الأرض لا يدخلها الضوء ولا الهواء إلا رغما، ويحكي الحراس من قصص المسجونين فيها ما يحفظ القلب على ملوك كان كل همهم السلطان المطلق على رعيتهم.
الفصل الثامن
في إيطاليا
لوجانو في 20 يوليو
كنت على القارب الذي يقوم من هنا الساعة الثامنة ونصف صباحا قاصدا بونتي تريزا، وهو قارب صغير الحجم أو دونه.
سار القارب حتى وصلنا إلى الحدود الإيطالية، هنالك مر عمال الجمرك، وما أثقلهم، فجعلوا يفتحون أصغر حقائب السفر ثم يختمونها ولم يتركوا من غير تفتيش إلا الجيوب وحقائب السيدات، ولقد حدق بي أحدهم وأنا أخرج صندوق السجائر من جيبي، وهز رأسه كأنه يأسف أن ليس عنده من الإقدام ما يجعله يضبطه، وكان هؤلاء العمال بشائر إيطاليا، فإن يك هذا فويلي من الطليان ما أقبحهم!
إذا رأيت أشخاصا بالغات في القبح فاحكم بأنهن أمريكيات وربما كن إنكليزيات، ولقد صادفت خارجتين من القارب عند (پورتو سريزو) تشمئز لمرآها العين، ولم يكد يرتد إلي طرفي حتى صدقتا حكمي عليهما أنهما أمريكيتان بأن تراطنتا بالإنكليزية الأمريكية.
صباحنا اليوم كثير الغيوم؛ فلقد اشتمل الجبال المحيطة بالبحيرة ضباب كثيف جعلها تظهر كلما ابتعد القارب ولو قليلا عنها كأنها أشباح مخوفة هائلة، أما سطح البحيرة فقد كان يعكس خضرة الجبل ويتموج قليلا، والمسافرون قد هدهم الضباب وضايقهم عمال الجمرك يسود عليهم سكون حزين.
ثم حملنا قطار صغير من (بورتو سريزو) إلى (لونيو) على شاطئ بحيرة (ماجبوري)، ومن لونيو سافر بنا قارب أحسن بكثير من القارب الأول قاصدا (ايزولا بلا - الجزيرة الجميلة).
كان إلى جانبي على القارب سيدة فرنساوية ومعها ابنها، وهو طفل عمره ثلاث سنوات، وبينما هو يلعب نادته: أندريا، أندريا تعال هنا! فذكرني ذلك قول أخرى لابنها ذي الخمس عشرة سنة: «ألبير، ألبير لا تعمل هذا» وتقول ذلك بنفس اللهجة التي تخاطب بها أم أندريا طفلها؛ ذلك أن الفرنساوية متشابهة دائما في معاملة ابنها، فهي دائما شديدة في الأمر لينة في التنفيذ، وتصحبه دائما قبلة لطيفة ... لست أحكم ... وربما كانت هذه التربية أضمن لتخريج جمهوريين.
ايزولا بلا ... قصر وحديقة جمالها أبدع ما يرى، وينبئان عن ترف ممتع مكسال، وهذه الجبيلات وهذه الحديقة القائمة على عشر درجات ترتفع كل عن الأخرى عشرة أمتار! ... عن أي شيء تنبئ ؟ ... وايزولا ماورا وحديقتها الغريبة ... إلا أن الإنسان ليجمل الطبيعة ويعطيها من الإبداع ما يفوق كل خيال. قفلنا راجعين من لونيو إلى بونتي تيريزا وكان إلى جانبي إيطالي ومعه بنتاه، وكبراهما جميلة، وهي فوق ذلك بديعة محبوبة، وإنها لتحمل في ناظرها من الحب والعطف مبلغ ما ينم عنه من الرغبة ثدياها الناهدين.
تورينو 22 يوليو
قمت بالأمس من لوجانو بقطار الساعة واحدة وأربع وعشرين، وكان معي اثنين من الأمريكيين، فابتدأنا الحديث، وعرفت أنهما آتيان من لوسرن قاصدان فنيسيا (البندقية)، ويريدان أن يزورا مونيخ وهولاندة ولوندرة وايقوسيا ثم يرجعان من أرلندا إلى بلادهما، وقد اختارا هذه البلاد لأن لكل ميزة لا يشاركها فيها غيرها.
هما من غير شك مخطوب وخطيبته أو هما في شهر العسل، وإنها لفكرة جميلة أن يزورا العالم معا ثم يرجعان إلى بيتهما وقد خلقا لنفسيهما في ذلك عالما عظيما من الخيال والذكر. دخلنا بعد كومو في سهل اللومباردي فتجلى أمامنا ناطقا جميلا الاختلاف المهول بين الألب والسهل، وظهر بعيدا الأفق يترنح ثملا تحت النور المبياض.
نحن الآن في إيطاليا الإيطالية، فمنازل من الطوب وإلى جانبها بيوت ترابية اللون كأنها من اللبن، وكلها وإيانا ينهكها الحر المفرط.
ميلانو
المحطة عظيمة، وأمامها ميدان كبير، والسماء تعكس من بياضها نورا يعمي الأبصار، وقام القطار إلى تورينو فإذا عربات الدرجة الثانية قذرة دنيئة، أما عربات الدرجة الأولى فأحسن كثيرا مع حفظ الفارق، وكان إلى جانبي إيطالي يحكي لي عن إيطاليا: هذه البلاد البديعة حسن قوله المبالغ فيه لا شك ولو بعض الشيء، فتلك عادة كل أوربي فرنساويا كان أو سويسريا أو طليانيا أو ... حيث يظهرون وطنيتهم في هذا الشكل النافع والذي ربما كان أحسن الأشكال.
تورينو ... ما أقربها في الشكل للقاهرة، القهوات، وبائعو الشربات في الشارع، والتراب، والذباب ... غير أن الناس يظهرون أقل تعسا وأكثر فرحا وبهجة.
23 يوليو
إيطاليا مهد الفن كما يقولون، فحيث تكون ترى تماثيل بديعة في الميادين وفي المعرض وفي كل مكان، ولقد ذهبت صباح الأمس أزور (الأكاديمية دلاسيانزا) فمررت بميدانين ما أحلى شكل تماثيلها .
وابتدأت في الأكاديمية بأن زرت القسم المصري، فماذا رأيت؟ رأيت ما أرى دائما عن مصر القديمة: موميات مكشوفة الوجه سوداء مفزعة، وإن هذه الرؤوس المؤلفة لتعطي بشكلها المخيف منظرا جذابا غريبا.
على الحيطان أوراق قديمة تنزل فيها الكتابة أحيانا من الأعلى إلى الأسفل، وتكون أحيانا بشكل قطع شعرية أو في شكل النثر المعتاد وتصحبها الرسوم دائما والتشبيه أظهر صفات هذه الرسوم، وكأن هؤلاء القدماء كانوا لا يستطيعون تخيل الإنسان إلا في حالة غضب مفرط أو سكون مفرط، وإن تماثيلهم تظهر ذلك أكثر مما تظهره الرسوم، ولكن هذه الأخيرة تدل عليه كذلك دلالة واضحة، فيجب أن يكون للرجل الهائج المغتاظ رأس هائل حتى يكون مغتاظا، رأس بعض الحيوانات الآلهة، أما الإنسان الباقي برأس إنسان فإنما يكون في حالي سكون أو استسلام وضعف بعض الأحيان؛ وإذن تكون الأيدي المرفوعة علامة الخوف أو ادراء لغضب إله، له رأس طير مفترس وفي يده عصاه.
في الدور الثاني صالة صور تحوي نحو الستمائة، من بينها قليل من ريشة مشايخ التصوير، وأهم ما يفيد هذا الدور الفكرة التي يعطيها من نشوء الفن وارتقائه وتسلسله، كما أن الفكرة التي نسمعها أحيانا من أنه لا فن مما يحوي الإبداع والعظم بعد المشايخ القدماء، وأن كل شيء ينحط يبين هنا فسادها، فإني وإن لم أكن عرافا في الفن ولا درست شيئا ذا قيمة منه أراني استنتج مما أمامي أن الانتقاد غربل الفن القديم، فأظهر لنا منه الصور ذات القيمة ومبلغ جمالها، أما الصور الحديثة فلم تنل هذا الحظ بعد، وكثيرا ما يغطي رديئها الحسن، ويضل حكمنا عليها إننا عائشين معها في جيل واحد فلا تقدر على الحكم بخلودها.
وإن الثورات في الفن الحاصلة اليوم والتي يناصرها جماعات شتى (والمستقلون بعضها) لتجعل الإنسان يتردد في اتباع المذاهب الجديدة، ويبقى عند إعجابه بالقديم، وهذا هو السبب الذي يحملنا على حب الماضي وتفضليه.
وذهبت بعد الظهر إلى المعرض، ما أعظمه! ... وما أجمل تماثيله وأحلى بيوته، من الأشياء التي أخذت بنظري آلات النسيج وهي تشتغل يخدمها بنات ونساء يعملون في هذا الشغل المذهل ... فهل يملكون عقولهم آخر النهار؟ ... وأعجبني في القسم الإنكليزي أعمال ودجوود الفنية الجميلة.
وكما تمثل الممالك الكبرى نفسها بالأعمال الهائلة تمثل الهند وسيام وتركيا نفسها بما يثير في النفس الرحمة عليها والأسف من أجلها، لم يظهر الإنسان نفسه في مثل هذا الموقف الذي يجد به فيه أن يختبئ!
وألمانيا العظيمة تشتغل منازلها من ناحية، ومن الناحية الأخرى يرى الناظر النتائج التي جاءت بها ضمانات العمال فيها.
غريب كيف يظهر على معروضات كل أمة طابعها ... فألمانيا بلد الرحمة والعواطف الجميلة هي كذلك بلد الضجة وحب الظهور، وفرنسا بلد العلم الصحيح بالجمال وأسراره علما جاء عن طريق النقد أكثر مما جاء بالوحي والجبلة، وإنكلترا وهي بلد الهدوء ومواصلة العمل تصل إلى نتائج مدهشة.
27 يوليو
فلورنسا، الجميلة كما يسميها الطليان، هي حقيقة جميلة تحيط الإنسان فيها الآثار القديمة من ناحية وأجمل ما خلد الفن من الأخرى، ولكن الإيطاليين هم دائما الإيطاليون، بل يظهر أنه كلما أوغل الإنسان جنوبا كانوا أقل مدنية، ولقد رأيت هنا مشاحنات أكثر مما رأيت في تورينو؛ إذ قابلني في يومين خمس أوست، ولم أكن أخرج إلا نادرا ... أو أن ذلك إنما كان نتيجة الصدقة! ...
ومما يأخذ بالعين حقيقة الكاتدرال والكمبانيلي والباتستير وكلها مجتمعة في ميدان القبر (الكاتدرال) مظهرة بذلك نظاما فنيا معماريا بديعا، وقد اتخذت جميعا من الرخام، ويبين عليها توازن دقيق غير أن الكاتدرال فقيرة من الداخل ومظلمة، لا ككتدرال بيزا التي زرت هذا الصباح، والتي هي ذات مظهر أغنى بما فيها من التماثيل وما على جدرانها من النقوش وما في سقفها من الذهب.
أما كمبانيل بيزا فهو إحدى عجائب الدنيا، البرج المائل المشهور، وهو أقل جمالا من كمبانيل فلورنس المربع البديع النقش.
وما أكثر المتاحف في إيطاليا! فقد زرت أربعا منها في فلورنسا مع أني لم أبق بها غير يومين، وإن متاحف الأوفيزي والبني لبدائع يقصر دونها الوصف، قد حوت من نقوش أساتذة التصوير أبدعها، فيها من رفائيل وروبنس ودشي وبوتيشلي وريني ولبرن وكثير غيرهم من الكبراء، من ميشيل أنجلو وتسيانو البديع، كم من الدقة في عذارى رفائيل، وفي الصورة التي يخلد بها معشوقته، وكم من القوة في باباواته ... ثم كم هن مكسالات عريانات تسيانو، وكم هي ناطقة صورة سوزانا لريني وصور دلشي ... ورزايا الحرب لروبنس، كم هي متكلمة شاكية، فيها يحس الإنسان كأنما يسمع صرخة اليتم تشق قلوب النساء والأطفال ممثلي الإنسانية اللطيفة الهادئة المسالمة صرخة بأس وجزع ...
وحدائق فلورنس، تلك الحدائق الهائلة العظيمة ما أبدعها!
ولقد زرت بعد الظهر فيزولي وهي الضاحية التي أحب أناتل فرانس من كل قلبه ... ومن شرفاتها تتجلى فلورنسا تحت النظر وبين الضاحية والمدينة غرقت منازل صغيرة في خضرة السفح اليانعة.
لكن ضيقها والمرسى الروماني البالي الفقير وكنيستها العريانة التي تذكر بماض ضئيل، شحاذوها الكثر ومظهرها البائس أو يكاد، كل ذلك يحمل العين بعيدا عنها إلى هذه الشرفة البديعة حيث تتجلى جنة الأرض، دونها روما المهيبة العظيمة سيدة الزمن الماضي وروما الكبيرة بنت الزمن الحاضر، بين بعض ربوعها يحس الإنسان كأنه انتقل إلى بلد عظيم ميت يبعث النفس المهابة والوقار؛ فإذا انتقل فاختلط بالناس وجد دائما من هؤلاء الطليان بعض القذرين، بل إنه ليجد بين الآثار القديمة الوقت بعد الوقت شيخ بائس من الشحاذين تنم هيئته التعسة عن أنه انتقل هو الآخر إلى ملكوت الموت، ولقد كنت عند (الكولوسيوم) أزوره وأزور الآثار إلى جانبه فصادفت عيني مرارا أشباحا في أطمار تخرجها الأحجار المؤلفة ملقاة على الأرض وهي أنشف من الموميات العتيقة، وبين الآثار والأحجار والأشباح تسمع صرير الحشرات الساكنة في شجيرات سوداء، وامتد على الأرض عامود ينسب إلى (ديوكليسيان) وهو مكسور ثلاث قطع في حين قامت عمد كثيرة أخرى تدل على مكان (الفورو رومانو)، ودعيت بعد ذلك لأزور أماكن أخرى، ولكن الحر أرهقني فلم أذهب، وقابلت بالصدفة عند ميدان إسبانيا عربيا عرفني وطلب إلي أن يكون دليلي، وألجأتني الحاجة أن أقبله، ولو رأى لومبروزو هذا الشكل لما تعب في أي وصف يضعه، ولقد ساعدني كثيرا في تعريفي الطرق ومخازن البيع والشراء، أخذتني به الرحمة ومسني الإحساس ببؤسه.
تظهر روما بالليل في شكل القدم، خصوصا في الأماكن الكثيرة الميادين الملأى بالعمد، القائم عليها تماثيل تراجان وقيصر وغيرهم ممن يستثيرون معهم ماضي عظمة الدولة، أما الميادين الجديدة فهي قليلة الطعم، ربما أحسست أنا بذلك لأنا نحمل للماضي احتراما يحتل أعماق نفوسنا، أو لأن هذه الصبغة التي يعطيها للأشياء هذه الصبغة الترابية القديمة تجعلنا ننحني أمامه.
من روما إلى برنديزي ... ما أقذر هؤلاء! هؤلاء الخنازير لا أنسى أني في الأربع المرات التي ركبت فيها سكة الحديد كانت مراتب الدواوين مقلوبة على وجهها، وأقل احتكاك بها يثير ترابا عجاجا، وتلك هي عربات الدرجة الأولى ...
والطليان أنفسهم! يا حفيظ! ... أول أيامي في إيطاليا حدثني أحدهم وجاء في الحديث أن وصف بلاده وعظيم ما فيها من جمال ... وكانت كلمته الختامية: ... إيطاليا جميلة ولكن يجب تغيير الطليان! ... إنه لمحق وايم الله.
إنهم حقيقة لخنازير، يجيء ركاب الدرجة الثانية إلى الأولى فإذا اراد الكمسارى أن يأخذ منهم الفرق سبوه وصاحوا في وجهه، ثم يرضونه أخيرا بجرعة «كيانتي» فيقبلها مسرورا وينصرف.
ومكتوب في العربات: «البصق على الأرض ممنوع»؛ ذلك أن الشركة تعرف مواطنيها ومبلغ نظافتهم، والمحطات الصغيرة يظهر فيها من حين لحين جماعة من الفلاحين الفقراء والبؤس يبين على وجوههم وفي ملابسهم، وتكاد تلمسه في هواء هذه البلاد الجنوبية، وأخيرا ها أنا ذا وصلت إلى مصر هذه الليلة.
الفصل التاسع
في مصر
كانت الساعة الثالثة من صباح يوم الأربعاء 2 أغسطس سنة 1911، حين استيقظت أنا وصاحبي الذي معي في غرفة الباخرة، وبعد أن تبادلنا كلمات قليلة قمنا فصعدنا معا فوق ظهر المركب على أمل أن نرى تباشير شواطئ بورسعيد عند الأفق، ولقد وجدنا بعض أشخاص من الركاب سبقونا ولا يزالون لابسين (بيجاماتهم)، وكلهم قد حدد نظره إلى الجهة التي تسير نحوها المركب، ولكنا لم نر بعد إلا نورا بعيدا ضئيلا لا يكاد يتميز، وكلما تقدم الوقت بهت لون السماء وابتدأ يتسرب وسط ظلمتها خيوط من ضوء الصباح فتمحو نجومها والأفق هناك لا يزال قائما.
صاحبي في الغرفة إيطالي من مستخدمي الحكومة المصرية، وهو على ما أخبرني رئيس مصلحة الطب البيطري في بعض الجهات ويتقاضى مرتبا أربعين جنيها.
وأكبر آماله أن يجيء يوم يكون قد وفر فيه مبلغا طائلا من المال ليرجع فيعيش في إيطاليا بلده ومسقط رأسه، ولقد قال لي: وبالرغم من أني أحب مصر كثيرا فلا أستطيع أن أوطن نفسي على فكرة العيش فيها دائما، بل أحس بشيء يدفعني لأن أرجع لميلانو متى توفرت عندي أسباب الرفاهية واستطعت أن أعيش من دخل ممتلكاتي، وأرجو أن لا يكون ذلك بعيدا.
ابتدأ الشاطئ يتميز قليلا، امتلأ ظهر الباخرة بالركاب الذين تناولوا لقمة الصباح وجهزوا أنفسهم للنزول، فلما دخلنا المينا هبطت حركة الآلات في الباخرة حين اقترب منا قارب (السائق
le Pilote ) وحوالي الساعة السادسة رسونا.
بعد أن مكثت برهة بالباخرة نزلت إلى الشاطئ ومررت بالجمرك، ثم أخذت عربة وضعت فيها ما معي وركب شيال إلى جانب السائق واخترقت المدينة وسط شوارع ضيقة مملوءة بالتراب يمر بها رجال ونساء عليهم جميعا مظاهر البؤس والفاقة، والحوذي على مقعده على مقعده لا يفتر ينادي: «يمينك. شمالك. اوعى رجلك. أنت يا شيخ هناك. يا واد يا ابن ال ... يا ست. أنت يمينك. أنت يا أطرش»، ويفرقع بكرباجه، وخيوله الضئيلة ظاهرة ضلوعها باهت لون شعرها تجري ساعة وتمشي أخرى، وأخيرا انتهينا إلى الشارع الخارجي وبعد لحظة كنا عند البيت الذي أقصد.
هذه أول مرة رأيت فيها بورسعيد، ولا أدري إن كان مظهر البلد حقيقة مظهر غير نظيف أو أن مقابلتي إياها بالمدن الأوروبية التي عشت فيها سنتين هي التي جعلتني أحكم عليها هذا الحكم؛ إذ بالرغم مما كنت أسمعه من أهلها من مدح تنظيم مدينتهم وجمال ترتيبها والمشروعات التي نفذت، والمنوي تنفيذها، فيها فلم تكن هاته المنازل القليلة الارتفاع الترابية اللون على الأغلب لتبعث لنفسي الثقة بقولهم، وقد أثارت المدينة في نفسي ذكر بعض القرى التي زرتها حين سياحاتي في فرنسا، وإن كان بعض الشوارع مما رأيت يدل على ترتيب جديد يدعو إلى الأمل بتنظيم هذه المدينة.
جلست على قهوة في الحي الإفرنجي - وهو الحي المنتظم - من البلد، ولقد كان من أغرب الأشياء على أذني سماع جماعة إلى جانبنا يتكلمون بصوت عال في مسائل تهمهم، وكأنهم جميعا يحسون كأن القهوة دار لهم فهم يعطون لأنفسهم الحرية التي لا يسمح الإنسان لنفسه بها في مكان عمومي، وكلما مر بهم أحد معارفهم مال إليهم وسلم عليهم، وإذا ما أراد أن يبتعد لم يسكت واحد منهم أن يصيح: «اتفضل قهوة والله تيجي» ويعتذر الآخر بصوت أعلى وهو مستمر في طريقه سائر في الشارع.
تناولت طعام الغذاء عند أحد أصدقائي، ولقد أحسست بسرور كبير أن رجعت إلى هذه الحرية البدوية، وجعلت أرقب صديقي صاحب الدار وهو يكسر بأيد قوية أضلاع الديك الرومي الموضوع فوق طبق الأرز، من زمان وأنا لا أرى هذا اللطف المصري حين يقدم لك صديقك كل ما أستطيبه مما أمامه، وكلما رآك انتهيت قدم لك من جديد، وإذا أنت أردت أن تتنازل عما يقدمه تظاهر بالغضب وأراد إرغامك على تناول ما يعطيك غير حاسب حساب ما تخافه أنت من عسر هضم أو تلبك معدة، ركبت القطار بعد الغذاء فسار يقطع بنا الطريق بين رمال المنزلة من جهة وشاطئ القنال من الجهة الأخرى، وإلى مرمى النظر عن الجهتين تمتد الأرض حتى تلتقي بالسماء عند الأفق، وعلى ظهر القنال تسير بعض الكراكات ببطء فنجوز نحن بها مسرعين، وانعطفنا عند الإسماعيلية وانتقلنا من مركبتنا في الزقازيق، هنالك أحسست حقيقة كأني رجعت من سياحتي الطويلة وابتدأت عيني تتعرف المحطات والمزارع والأشياء التي رأت مرارا، فلما نزلنا بأبي الشقوق وسلم علي الخادم وركبت جوادي وسرت على الطريق الذي سرت عليه قبل اليوم ألف مرة أحسست بالرغم من جمود رأس مطيتي وعدم سكونها، بسكينة تراجعني ورضى يحتل قلبي وشعرت بأني صرت حقيقة في بيتي.
ما أعجب الإنسان، أي شيء هذه المحيطات بي والتي بعثت بالسرور إلى نفسي وما مبلغ ما لها إلى جانب ما رأيت في سياحاتي، لكني بالرغم من ذلك أحس لمرآها بانشراح في صدري وخفقان في القلب وكأن هذه الأشياء التي غابت عن عيني سنتين توحي إلي بطفولتي وشبابي.
بعد أيام قضيتها بين أهلي ذهبت إلى القاهرة وأقمت بها يومين، ولقد زرت في خلالهما جماعة أصحابي، كما ذهبت إلى أماكن شتى من مواضع النزهة فيها، كم تغيرت مصر الجديدة وأصبحت مدينة جميلة تستحب سكناها وترتاح لها النفس! ودخلت لونا بارك آملا أن أجد فيه الضجة والسرور الذي كنت أجده في لونا بارك بباريس، ولكني أصبحت بعد أن جزت بابه وكأني بين آثار قديمة لا يقطع صمتها إلا رج الالآت وحركة الأرجوحات فيه، ومع جمال الهواء ونقائه فقد كان الزوار قليلون لدرجة يحس معها بالدهشة والانفراد؛ لذلك فبدل ما كنت أعده في نفسي من الضحك والسرور وامتطاء الأرجوحات والمراكب شعرت بكل ذلك ينهال ويحل محله جد حزين دعاني وصاحبي الذي كان معي لنأخذ بأطراف الحديث في مسائل ذات قيمة، ولما خرجنا سألت عن السبب الذي دعا لهجر هذا المكان مع جمال موقعه ومع الأشياء المفرحة التي يحوي، فعلمت أن الجرائد حملت عليه لأول افتتاحه وعدته مكان سخرية وفساد فجعلت بذلك زيارته سبة وحولت عنه أنظار الناس.
إنني أشد الناس حيرة حين أنظر في أخلاق أمتنا، يخيل لي أن الفرد لا فضيلة له في ذاته وأنه مستعد للوقوع في كل نقيصة - إن صح تسمية أكثر الأشياء نقائص - ما دامت تعرض له، أي أن المصريين جميعا يسيرون على مبدأ «أن من العفة أن لا تجد» وإلا فلم نرى الحكومة والكتاب والآباء والرأي العام كلهم يخيفون الناس - لا من الوقوع في الرذيلة - ولكن من النظر ولو من بعيد لما قد يشك في أنه رذيلة؛ إذ لو أن لهم أقل الثقة بقوة نفس إخوانهم أو أبنائهم لما كانوا بهذا الحرص، ولكنهم في ذلك ينسون أن التجربة خير دروس الحياة وأن الوقوع في الشر مرة يدعو لتوقيه دائما ويخلق للفرد نفسا تفهم وتريد.
ماذا كان في لونا بارك حتى دعا للتخويف منه والحملة عليه، شبان يغازلون فتيات على ما أتصور؟ وأي شيء هذا، ألا يوجد غير اللونا بارك ألف مكان ومكان يغازل فيه الشبان الفتيات؟ ألا ترتكب أعمال مخجلة من هذا النوع بين جدران دور كبيرة؟ ألا يجد الإنسان في الأماكن العمومية بل وفي الشوارع أمثال ما قد كان يمكن وقوعه في لونا بارك؟ لقد قص علي أحد شبابنا حكايات عما يقع في الأماكن الخاصة، ورأيت بعيني مما يحصل في الأماكن العامة ما لا نزاع في أنه يعدل ما يصح وقوعه في مثل اللونا بارك إن لم يكن أفظع منه بكثير، وغاية ما في الأمر أن هذا المكان معرض للأنظار أكثر من غيره، والمصري لا يني عن أن يرتكب أكبر عار في الخفاء إذا أمكن بعد ذلك أن يحفظ أمام الناس حسن مظهره، بل لقد حكى لي صاحبي الذي كان معي في البارك حكاية إن صحت كانت نعم الدرس؛ ذلك أن شابا كان راكبا عربات السكة الجبلية وراء إحدى الفتيات، فانتظر حتى دخلت العربة تحت النفق ثم مد يده فأمسكها من يديها فلما خرج القطار من الظلمة أدارت الفتاة وجهها ولطمت الشاب بيدها على وجهه من غير أن تقول كلمة واحدة، وخرس الشاب وأعتقد أنه قرر في نفسه أن لا يعود إلى مثل ما فعل.
الحكايات التي يقصها إخواننا المصريين عن أنفسهم وعن مواطنيهم تدل على أن الواحد منهم لا يكاد يرى امرأة حتى يساوره نوع من الجنون يضيع معه عقله، وتملكه حواسه فتدفعه إلى الحيوانية المجردة وتقوده - لولا ما ركب في طبعه المصري من الحياء - لأن ينقض على هاته التي أمامه فيأخذها بين يديه ويضمها إلى أحضانه وينهال عليها تقبيلا وعضا، ولو أن المساكين عرفوا النساء وأنهن لا يحوين كل الخزائن التي تدفع شهوة الواحد منهم إياه لتقديرها في مخيلته لهدأت ثائرتهم وكانوا أبعد كثيرا عن الوقوع في هذا الجنون الذي هم معرضون له في لحظة، ولكنهم يعيشون أغلب الأحيان في مجرد الخيال من هذه الجهة، والخيال تلسكوب يكبر كل ما يقع أمامه فيبهر صاحبه ويستدعي كل انتباهه ولا يزال يزداد حتى تصل به الدهشة فتجعله يرتمي على موضع خياله بكل جسمه وقواه، ومهما ظهر له غير مرة كذب ما تخيل فإنه دائم الأمل أن يصدق الحلم مرة ويصل إلى ما يظنه موجودا.
والغريب أن هذه الحالة النفسية التي أهم مظاهرها التهيج والدهشة والجنون تبين عند هؤلاء حتى في أماكن لا موضع لظهورها فيها، فقد ذهبت لثاني ليلة من وجودي بالقاهرة إلى الالدواردو، وتلك هي أول مرة أذكر أني رأيت فيها هذا المكان، وكان من حسن حظي أني لم أقع على أحد من معارفي (القليلين جدا) بل بقيت وحدي أتمتع بالمنظر الذي سيعرضه أمامي الفن المصري.
ولقد حسبت حين دخولي أنني متأخر لأن الساعة كانت تجاوزت التاسعة ولأني وجدت الستار مرفوعا، ولكني انتظرت بعد ذلك كثيرا من غير أن أرى شيئا، فعلمت إن القاعدة أن يبقى الستار مرفوعا إلا عند الضرورة.
جاء الخادم وسألني عما أريد، وطلبت قهوة وسألته أن يجيئني معها بورقة أردت أن أكتب فيها ما أرى علي أضيع بذلك الوقت الباقي ومنتظرا أن أجد شيئا لذيذا أكتب عنه، وغاب الخادم ورجع بالقهوة من غير ورقة ثم وقف إلى جانبي يحدثني، وأخيرا تركني ولم يعد حتى تركت أنا المكان بعد منتصف الليل.
الساعة العاشرة وربع ابتدأ (الآلاتية) يأخذون مقاعدهم، ولقد جلس على يمين المرسح أحدهم رجل ذو عمامة وجلابية سوداء والباقون بين لابس طربوش وجاكيته ولابس جلابية بيضاء وعمامة على طاقية ولابس بلطو، وبين الأسمر والقمحي ومنهم عبد أسود، ثم ابتدأوا يدندنون بغير انتظام مدة حتى خرجت راقصة، امرأة وافية الجسم غليظة البطن عريضة الأكتاف غير جميلة الوجه وغير قبيحته كذلك، وهي تلبس ثيابا كثيرة ورفيعة ينم بعضها عن بطنها وقد تدلت إلى جوانبها كثير من الزينة البراقة ما بين لامع أصفر وذهبي وفضي، وابتدأت رقصتها بحركات مدهشة غاية في الخفة والسرعة يهتز معها كل جسمها: بطنها وثدياها وأصابعها اهتزازا سريعا، وتجيء بحركات غريبة شهوانية أكثر الأحيان يهيج معها الحضور ويصيحون صيحات المتشنج الأعصاب غير المالك زمام نفسه، ويقوم من وقت لآخر واحد منهم صارخا من أم رأسه كأنه الثور الراتع أهاجته أوليات الربيع.
وتبع الراقصة مغنية وجاء وراء هذه وأخرى قمر الليلة تغني سائرة على المرسح بخطوات بطيئة مرتبة جميلة تتهادى ويهتز ببطء قوامها الدقيق، وأغنياتها تطير في جو المكان فتبعث للدخان الذي ملأه أشباحا من ملائكة السرور، وجاء بعدها غيرها فلم أطق دون القيام راجعا إلى مرقدي.
بعد ذلك رجعت إلى الريف ثانية فقضيت أياما طوالا بين أهلي أبتدأ يفارقها الملال لأني ابتدأت أعتادها، وكلما اعتدتها رجعت إلى ذهني خيالات الماضي فجعلتني أحتمل بصبر هذا العيش المتشابه الفارغ، وبقيت حتى الأيام الأولى من سبتمبر.
في سبتمبر رجعت إلى القاهرة وابتدأت أشتغل بالمحاماة واتخذت لذلك مكتب الأستاذ أحمد بك مصطفى، وكل همي من ذلك أن أتعدى المحاكم الجزئية لما بعدها.
رأيت في المحاماة ما يبغضها إلى نفسي، هذه الغرف التي يسمونها «أود» الجلسات يقعد في الصف الأول منها على مقاعد خشبية خشنة قذرة أحيانا جماعة المحامين عشرات مكدسة يزحم بعضهم بعضا ويتبادلون أحاديث ساقطة الوقت بعد الوقت، ويضحكون بصوت عال مرتفع كلما غاب عنهم القاضي حافظ نظام الجلسة، ويجلس وراءهم الناس أكداسا أكداسا ينظرون إلى العدل كما ينظر المتفرج إلى الممثل، وتفوح من أبدانهم وثيابهم روائح كريهة، ويدخل القاضي فيصيح الحاجب: محكمة. ويتلو ذلك هرج ومرج وضجة يعقبها الصمت، وعن يمين القاضي عضو النيابة جالس منتفخ الأوداج مغمض العين تائه الخيال مسرور بكرسيه الخضم وشريطه الوظيفي، وعن شماله الكاتب تائه بنظرة وسط أوراقه، والكاتب يصيح بصوت فظيع يكرره وراءه الحاجب بصوت أفظع وأشد إزعاجا ينادي أسماء أرباب القضايا، والمحامون يقوم كل واحد بدوره فيمثل فصله ثم ينسحب من المرسح بعد أن يسمع غالبا كلمات لا تسر من جانب الرئيس.
قضيت في المحاماة أشهرا رأيت فيها كثيرا، رأيت قضاة غاية في الذكاء ويستعملون ذكاءهم في التنكيت طوال الجلسة، ورأيت آخرين يبلغ بهم الإخلاص لكرسيهم فيعدون أنفسهم فوق بني آدم، وقلال غير هؤلاء وأولئك يفهمون القضاء والتقاضي.
وها ما رأيته ذات يوم بين قاض ومحام وأنا بالجلسة.
خلق كثير ومحامون كذلك والقاضي جالس بعظمة في كرسيه كأنه ملك على عرشه، والقضايا تتابع مسرعة لكل دقيقة أو ما يكاد.
وجاء دور محام عجوز مبيض الشعر مجعد الوجه ليس معه بنشه (رداء) لأن كاتبه لم يحضر معه.
فلما رآه القاضي كذلك إذ المحكمة اهتزت وظهر في عين الرئيس الغضب، فصاح في وجه المحامي وأرغى وأزبد وزايله كل أدب أو احترام لحرفة الرجل أو لسنه وكاد يسبه جهارا، والمحامي العجوز مبيض الشعور مجعد الوجه محترم الهيئة يرتجف هو الآخر ولكن خوفا وجبنا، وأخيرا استعار رداء زميل له وبصوت واجف ضئيل نطق بكليمات مرافعته، وانتهى ذلك كله والمحامون جميعا لا يبدون حراكا كأن لم يحدث شيء، وكأن من أهين واحتقر لم يكن زميلا وإهانته إهانة لهم جميعا.
مثل هذا الإرغاء والإزباد من المحكمة سمعته حين تهيج القاضي ضد شاهد ظنه يكذب في شهادته، وكان في هذا اليوم مضاعفا فظيعا مصحوبا بتقلب في عيون القاضي الذي كان يصيح بأعلى صوته ويخبط بيده على المنضدة أمامه فتدوي أركان قاعة الجلسة دويا مخيفا، وبلغ بالشاهد الخوف فلما أمره القاضي بالجلوس إذا هو وقع إلى الأرض يرتعش، وبعد كل ذلك قضت المحكمة بما يوافق الأقوال الأولى التي فاه بها هذا الشاهد.
رأيت حوادث أخرى اجتمعت في ذهني وذكرني بعضها بقول قاسم أمين: أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.
وفي تلك المدة التي قضيت في المحاماة ثارت الحرب بين تركيا وإيطاليا في طرابلس، واختلطت بسبب هذه الحرب بالصحافة والصحافيين، وعرفت كثيرا عن هذه المهنة وأهلها ومبادئ الأكثرين منهم، وعرفت حقيقة كيف أن منهم «قروشيون» كما قال أحدهم بنفسه «قروشيون» لا مبدأ لهم وهم نصراء كل المبادئ.
ولا أدخل في تفصيلات هذه الحرفة، وكل ما أقول أن حكمي عليها ربما كان أقسى بعض الشيء من حكمي على القضاء والمحاماة.
كان من شأن ذلك كله أن يرهقني ويخرجني من طوقي، فأظهرت شديد رغبتي في مغادرة مصر لأوربا، واشتدت في نفسي هذه الرغبة وجاء يوم أصبحت فيه ضعيفا أمامها مستسلما لها عاجزا عن مقاومتها تصرفني هي كما تشاء، وهي التي دفعتني لأغادر مصر يوم الأربعاء 6 ديسمبر سنة 1911 على ظهر المركب الألمانية: برنس لويتبلد.
18 يونية سنة 1912
سأسافر بعد غد قاصدا مرسيليا فبورسعيد فكفر غنام، وأكون قد قضيت بذلك ستة أشهر في باريس ولندرة، فماذا عملت فيها؟
كتبت التيز
1
الذي أخذ مني مائة يوم بالضبط، ابتدأته في آخر ديسمبر وفرغت منه في عاشر أو حادي عشر أبريل، ولم أتفرغ إليه كل الوقت بل بقيت على عادتي أقرأ من حين لآخر كتبا خارجة عنه كبعض كتب تين وموباسنت وأناتل فرانس وراجعها (وسيل) بورجيه إلخ، وأودعت التيز في سكرتارية المدرسة يوم 17 أبريل وقمت بطبعه بعد ذلك، وتحدد له موعد النظر
Soutenance
يوم 14 يونية؛ لذلك غادرت باريس يوم 6 مايو قاصدا لندرة حيث بقيت ثلاث ليال ثم انتقلت لاستبورن فبقيت بها أسبوعين ورجعت للندرة ليلتين ثم طفشت منها ثلاثة أيام، وبعد يومين آخرين بلندرة رجعت إلى باريس يوم الخميس 30 مايو، حيث قابلت صديقي بهي الدين وحيث نزلت معه، ثم قمت بنظر التيز يوم 14 يونية، وكان حاضرا معي بهي الدين وحمدي وعبد الحميد سعيد وزكي كوهين، وظهرت النتيجة بعد ساعة من الانتظار فكانت
Trés bien .
نفعني تحضير التيز وكتابته كثيرا، من هذه الأبحاث عرفت سلسلة حياة مصر في نصف القرن الأخير، واطلعت على أسرار مركزنا الحاضر، ولكن ما كنت فيه من العجلة المتناهية جعلني لا أصل عند الكتابة للأعماق التي كنت أود أن أصل إليها، بل مررت ببعض نقط كان من الواجب الوقوف عندها والنظر فيها وتحليلها والبحث الطويل عن أسبابها ونتائجها من غير خروج عن الموضوع بل مع البقاء في لبه.
أما ما عدا ذلك من الأعمال فقد استفدت كثيرا من ملاحظة إخواني وأصدقائي القديمين، استفدت معرفتهم بهذا الضحك من كل شيء الذي أدى بي إليه النظر للأشياء والناس والبحث عن دقيق نفوسهم، فإذا هي جميعا تضحك ضحكا كالبكاء، ولكن الحياة أقصر من أن نقضيها في اليأس؛ لذلك خير أن نسخر منها.
القسم الثاني
ما بعد المذكرات
مقالات معاصرة للمذكرات
الفصل الأول
أدب اللغة الفرنساوية
ربما كان من الصعب علي، ولم أعن بدرس أدب اللغة عناية خاصة، أن أكتب شيئا عن هذا الموضوع، ولكن ميلي الشخصي له وقراءتي كتبه ودرسي إياه درسا عاما، وحرصي على أن أعطي لقارئ مذكراتي فكرة من الأدب ومنزلته عند قوم عشت بين أظهرهم ما يقرب من الثلاثة أعوام، كل ذلك يجعلني أقدم على أن أكتب كلمة عامة في الموضوع أستسمح القارئ إن وجد فيها شيئا من التقصير أو عدم الدقة.
وإنما يدفعني أكثر مما تقدم لكتابتها ما أعتقد من أن الأدب في كل أمة من الأمم هو روح هذه الأمة، هو النفس المثالية الخالدة التي تمثل أخلاق الناس وميولهم وأهواءهم، وتظهر لنا الصفات العامة المشتركة بينهم وبين غيرهم من الأمم، والمميزات الخاصة بهم المقصورة عليهم.
كما أن مقام الأدب عند الفرنساويين، هذا المقام الرفيع الذي يجعله التاج على رأس هذه الأمة القديمة يجذب النظر إليه ويجعل كل إنسان أيا كان حظه من العلم أو التربية مرغما أن ينظر إلى حياة البلد نظرا خاصا من هذه الجهة؛ فإنك حيث سرت في شوارع باريس، وأي صحيفة من جرائدها قرأت، وفي أي مكان جلست، تجد آثار الأدب ظاهرة واضحة، تجد مراسح التمثيل وتجد الروايات في زجاج باعة الكتب، وتجد النقد الأدبي على صفحات الجرائد وتسمع الناس في القهوات والأندية والمنازل والبارات، وحيث كنت يتكلمون عما ظهر ويظهر من القصص والروايات التمثيلية، ويتكلمون بلهجة المهتم بها المتتبع حركتها، فلا يسعك أمام ذلك كله إلا أن تأخذ بحظ قل أو كثر من هذا الميل العام، وتمد بنظرك وتلقي بسمعك إلى ما يكتب ويقال، وتذهب إلى التياترات لترى التمثيل وطريقته والآراء التي ينطق بها الممثلون، على العموم لا يسعك إلا أن تشارك في الحركة الأدبية.
من أول ذهابي إلى فرنسا وابتدأت أتعلم اللغة الفرنساوية أطالع في قصص وكتب أدبية، وأزور التياترات طلبا للنطق العذب واللسان الفصيح، بين هذه الروايات والقصص وجدت ما كتبته أقلام كتاب معروفين لنا ممن لهم مكانة خاصة في نفسي مثل جان جاك روسو وفلتير، فقرأت مما كتبوا ومما كتب عنهم، وتدرجت منهم إلى قراءة العصريين حتى جاء وقت كنت لا أقرأ فيه كتابا لمؤلف قديم.
وقرأت كثيرا، قرأت مما كتبه شعراء القرن السابع عشر وكتابه وما ألف فلاسفة القرن الثامن عشر حتى وصلت إلى آخر الكتب التي ظهرت حديثا، وفي أثناء قراءاتي كنت آتي على كتب مترجمة عن الروسية والألمانية، وكنت أقرأ بعض الكتب الإنكليزية كما أني اهتممت إلى حد ما بقراءة كتب النقد من قلم (تين) و(لمتر) و(فاجيه) و(أناتل فرانس) وغيرهم.
وما أكتب اليوم للقارئ عن أدب اللغة الفرنساوية إنما جاء نتيجة هذه القراءة فليس بحثا خاصا مرتبا مدققا.
لما حصلت الحركة الدينية الإصلاحية التي قام بها (لوثر وكلفن وكست) في القرن السادس عشر قام إزاءها حركة أدبية أحدثها في فرنسا من الكتاب (رابليه)
Rabelais
و(منتيني)
Montaigne ، وكما أن الحركة الأولى كانت حركة ضد الوقوف والجمود الديني وضد الخرافات والخزعبلات التي كانت سائدة يومئذ من بيع عقود العفو ونحوها كذلك، كانت الحركة الثانية ترمي إلى تحرير العقول والأفهام من القيود القديمة قيود العادات الدينية الصارمة التي لم يك في وسع أحد مخالفتها من غير أن يعرض نفسه لأشد الخطر، ولما وافق قيام هذه الحركة انتشار العلماء الذين هجروا القسطنطينية بعد سقوطها في يد الأتراك انتشرت في النفوس روح الأخذ عن اليونان والرومان ما خلفوا وإظهاره وتوضيحه؛ لذلك لما هدأت الحركة التي كانت تهز أوربا أيام رابليه وكلفن ظهرت الآثار والأسماء اليونانية والرومانية في روايات الشعراء وأخبارهم وأخذ تاريخهم وفلسفتهم حظا كبيرا من الانتشار.
رابليه ومنتيني كاتبان مختلفان في الطينة كل الاختلاف، أولهما مضحاك عالي الصوت ترن قهقهته في الفضاء ويقهقه من كل شيء، يرى الوجود والحياة والعقل والسلطة وكل ما في الكون موضعا لأن يضحك منه، وإذا مثل شيئا مما في الحياة مثله غليظا قبيحا، ويكتفي بذلك ليجعله مضحكا، والحقيقة أنه يضحك لأن كل شيء بلغ الغاية في الغلظة والقبح يثير استهزاءنا به وضحكنا منه، أما الثاني فرجل يأخذ الحياة كما هي ويجاهد لينال خيرها ويتقي شرها، وقد اتفق أن حل البلاء والطاعون ببلد كان هو رئيسا عليها، فبدل أن يظهر للناس من الشهامة ما يجعلهم يحتملون مصائبهم بالصبر، كان هو أول فار من الوباء مبتعد عنه، غير أن ذلك لا يمنعه أن يكون كثير الاستخفاف في كتابته.
الاستخفاف بالحياة وما فيها طبع من الطباع الفرنساوية، ومهما حار به بعض الكتاب فإنك تجده ظاهرا من حين لآخر عند هذا الكاتب بشكل لا يحتمل الشك، يستخف بالحياة لأنه يرى المضحك منها كثيرا أكثر مما يجده أي إنسان آخر سواه.
ظهرت الأسماء والآثار اليونانية والرومانية بشكل واضح عند أدباء القرن السابع عشر كما قدمنا، وتصدوا لإحياء ذكر هذه الأمم مهد الفلسفة والشعر والفن الجميل، وأكبر من كان في هذا القرن السابع عشر راسين وكورني ومليير، والأول محيي ذكر اليونان، والتالي معيد تاريخ الرومان، والثالث شاعر فرنسا الضاحك، وظهر مع هؤلاء الفحول الثلاثة شاعر فرنساوي آخر نظم حكايات وما شاكلها في شكل جديد، هذا الشاعر هو لافونتين، وظهر من الكتاب مدام لافايت مؤلفة البرنسيس دي كليف، ولابريير صاحب «الأخلاق»، ظهر إلى جانب هؤلاء عدد كبير جدا من الكتاب والشعراء ولكن هؤلاء هم أظهر أدباء عصرهم.
للقرن السابع عشر أو القرن الأعظم كما يسميه الفرنساويون ميزة على غيره من العصور، تلك هي عظمته، هو عظيم في كل ما فيه، ملكته عظيمة، وملكه عظيم، وشعراؤه عظماء، وكتابه كذلك، وكل ما فيه وفرنسا نفسها ... هذه الصفة أبرزها (تين) غير مرة في كتبه عن كتاب يومئذ وعن تاريخ ذلك العصر، فوضع أمامنا لويس الرابع عشر ومظهره وعظمته وما كان يدور في بلاطه وهيبته هو وإحساسه بتلك الهيبة ومحافظته عليها في كل وقت وفي جميع الظروف، «كان يمسك عصا البلياردو كما يجب أن يمسكها لويس الرابع عشر»، وكان يسير عالي الرأس في لباسه الفخيم تزينه الدنتلات من كل جانب وعلى هامته شعره المستعار يزيده فخامة وهيبة، والناس من حوله متأثرون بذلك الوسط الذي يعيشون فيه، يجيء الرجل الشريف منهم فينتظر على باب غرفة الملك من الصباح حتى المساء لا ضجر ولا ملال، ويفرح أكبر الفرح إن هو وصل لمحادثة خادم الملك، فإذا انتهى من هذه المقابلة ذهب بعدها ليقابل مدام دمنتنون ويمر بالرسميات عينها ليصل إليها ... وهذا الترتيب المراعى فيه كسوة كل شيء بثوب العظمة كان يتصل إلى من حول الملك في معاملتهم لمن دونهم وللرعية بعد ذلك بما يشبهه.
هذه الميزة البارزة لهذا العصر وما كان يتبع بلاط الملك من مقتضيات الأدب والذوق واللياقة، وما كان يستلزمه الوجود فيه من رشاقة العبارة ودقة اللفظ ... كل ذلك ظهر بوجه عام في كتابات يومئذ حتى لابريير وموليير مع أن أحدهما نقادة مر والآخر ضحاك من كل شيء، أما لافونتين فكان ذا طبع مستخف جوال يكره حياة البلاط وكل حياة مرتبة، كما أنه عالي الأصل فهو لا يهتم بشيء؛ لذلك لم يكن يأنف أن يدخل في شعره عبارات كانت تمجها الأذن في تلك الأيام.
لكن أظهر من ظهرت آثار العصر في كتاباتهما وأخذتهما إليها واستحوذت على نفوسهما وجعلتهما يراعيان في الشعر ما كانا يراعيان أمام الملك، هذين هما راسين وكورني، فكلاهما مهوب في شعره جد في القول لا يبتسم إلا نادرا، وإذا أراد أن يضحك ضحك عاليا، وما أندر ذلك إذ ما أقل ما كتبه من الهزليات، وهذه ليست أحسن ما عملوا، وقد تصديا كما قدمنا لإحياء ذكر اليونان والرومان، لكنهما بالرغم من هذا القصد عندهما لم يكونا ليرجعا إلى هذه العصور السالفة فيحللان النفس اليونانية أو النفس الرومانية ويظهرانها أمامنا، بل كانا إنما يستعيران الأسماء والحوادث اليونانية أو الرومانية، ثم يكسوان ذلك من شخصيتهما؛ فإن أندروماك وهوراس والسيد وكل ما في هاته الروايات من الأشخاص لا يحيي أمامنا نفسا رومانية واحدة، كلا بل ولا نفسا معينة ولكنه يظهر الأفكار التي كانت تجول برأس راسين أو كورني، والعواطف التي كانت تهز قلب أيهما، وموجات الإحساس التي كانت تمر بخيال الواحد أو الآخر منهما؛ لذلك نقول إنهما لم يظهرا على المرسح شخصا واحدا أيا كان معين الصفات، محدد تموجات النفس يقول ما يدفعه إليه مركزه وعواطفه، بل أظهرا أصواتا تنادي بما كان يجول بصدر هذين الشاعرين العظيمين.
حين نقرأ شكسبير نرى أمامنا أشخاصا ذوي حياة يسيرون يروحون ويجيئون، ويتكلم كل كما يتكلم في الحياة، ذلك أيضا ما نجده في موليير، وهو كذلك إحدى الصفات المميزة للافونتين، ولكنك لا تجده مطلقا في أشخاص راسين وكورني، وإنما تلمح أفكارا أو عواطف تمشي على المرسح وكلها المنطق الدقيق التحليل النفساني الذي لا يمكن وجوده في الحياة وإنما يوجد في رأس المفكر أو الشاعر ساعة يجلس في غرفته مسندا جبهته بيده مستعدا للكتابة.
ولكنهم جاءوا بهذه الأفكار والعواطف في لغة وقالب من أجمل ما يكون؛ لذلك فما كتبوا خالد يقرأه ابن اليوم ويقرأه أبناء المستقبل بنفس اللذة التي كان يقرأه ويسمعه بها أهل القرن السابع عشر وما بعده، لغة جمعت مع السهولة موسيقى شعرية تصل إلى النفس وتأخذ بالقلب وتهز الجوانح، تقرأها فتسحرك عن نفسك وتبقى مأخوذا بها كما يأخذك إليها فلسفة أفلاطون أو نقوش رفائيل.
هذه اللغة البديعة يحس الإنسان فيها بعظمة العصر كله وتترك في الذهن هذا الأثر الباقي الذي يخلده في نفوسنا منظر وحيد الجمال، ومهما اعتبر الإنسان أفكار كتابها وبأي عين نظر لها؛ فإنه لا يستطيع دون الاعتراف بأنها لبست أحلى الكلمات وأغناها، لا تجد لفظا معقدا ولا لفظا مبتذلا، وتراكيب منسجمة تسري إلى الفؤاد وتسبق إلى الذهن وتسيل في أجزاء النفس.
اقرأ أندوماك، اقرأ برنيس، اقرأ هوراس، اقرأ ما شئت من هذه الكتب (الكلاسيك) آيات الجمال في الكتابة وأنا الضمين أنك ستخرج منها بهذا الإحساس الذي قدمت لك.
يختلف راسين عن كورني في طريقة كتابته، فأولهما إنسان دقيق الإحساس ضعيف القلب يعجز أمام العواطف القوية فلا يستطيع مصادمتها ولا مقاومتها، بل هي تحتله وتسلبه إرادته وتتصرف فيه بما تشاء وتدفعه إلى أقصى درجات الجنون واليأس، وتصل به أغلب الأحيان إلى الموت، هذه هي صفته الظاهرة في كتاباته، كلما وضع القلب في كفة والعقل في أخرى رجحت كفة القلب وغلبت الثانية بشكل عجيب.
أما الثاني فهو رجل الواجب، ومهما كانت العواطف تهيج صدور أبطاله فإنهم دائما يخمدون نارها ويتغلبون عليها ويعملون الواجب الذي يعمله شخص لا حرب في نفسه بين الإحساس والواجب.
يختلف عن هذين الشاعرين الخياليين الروائي الهزلي موليير؛ فإنه يضع في رواياته أشخاصا مما نرى في الحياة إلى حد كبير وإن كان يبالغ في تصويرهم، وتراه دائما يعارض شخصا بآخر وعاطفة بأخرى في شخصين مختلفين، ولا ينسى الحياة وما فيها من صغائر الأمور، ويذكر ذلك كله بلغة سهلة ضاحكة جميلة أجذب ما يكون للنفس، وهو في ذلك أعرق في فرنساويته أو بالأحرى في باريسيته من كل شاعر آخر من شعراء عصره يستخف بالحياة ويتلاعب في روايته بأبطاله ويضحك معهم ومنهم، ويظهر لنا من وقت لآخر بواطن أنفسهم، ويأتي وسط ذلك كله بعض الأحيان بحكمة خالدة باقية على الدهر بقاء الدهر، ورواية (الميزانترب
Le Misanthrope
أو الطيرة) من أبدع رواياته، لكنه كان يصل أحيانا بالهزل والضحك إلى حد من المبالغة يكاد يكون سخيفا، فلقد مثل لنا في رواية (بورجوا جنتيم)
Le Bourgeois Gentilhomme
قنصل تركيا تمثيلا وصل في الإفراط إلى حد الفظاعة، وليس من شخص يرى الفصل الأخير من هذه الرواية وما حواه من السخافات إلا ويضحك ساخرا منه، وإذا كان يعتذر عنه أحيانا بأنه إنما فعل ذلك لغرض فليس العذر إلا بأقبح من الذنب، وهذه المبالغة نفسها في التمثيل لا تدعو للطمأنينة للمؤلف.
ولو لم يكن هذا العيب عند موليير لكان الشاعر المجلي بين شعراء فرنسا أجمع، بل وربما كان من أشعر شعراء العالم، وإن له أغلب الأحيان لدقة في ملاحظة الناس والأشياء حتى ليكاد يخترق بواطن ما تخفي نفوسهم ليظهره لنا على الورق، ثم هو يضحك مما يرى لأنه لا يرى في العالم شيئا يستحق الإعجاب به أو التعصب له، أو بكلمة أخرى إن هذه الحياة التي يهتم الناس بها ويعنون بها إنما هي مجموعة سخرية من كل إنسان بالآخرين يأتيها أحيانا من غير إحساس منه بها ويستحق من أجل ذلك أن يسخر منه.
إلى جانب مليير يجيء لافنتين، وإلى جانبهما يجيء الكاتب الثائر لابريير، ولكن هذين لم يكونوا في مركز الأولين الذين كانوا من حاشية الملك المقربين، ولا بريير أعرق في البعد عن البلاط من صاحبه ولكنه لاحظ كل ما يدور ويجري فيه، ولقد رأى صغار نفس هؤلاء المدعين العظمة المرتدين بلباس الشرف الذين يهفون ويرفون بدنتلاتهم تيها ودلا وهم مع ذلك المنافقون معدن الصغر والخسة، وبلغ به الاعتقاد بخستهم وعلو نفسه عليهم حتى انقلب ذلك إلى المضاضة المرة؛ لذلك كان كتابه (الأخلاق) مجموعة ملاحظات صادرة من قلم كاتب شديد القسوة صعب اللسان عظيم الاحتقار للناس، بل ربما بلغ به ذلك أحيانا إلى الحسد، والحقيقة أن هذه بذرة ثورة يبذرها هذا الكاتب الذي عاش في عصر الملكية وهي في عنفوان قوتها وعظمتها يريد أن يظهر للناس أن هناك شيئا آخر حقيق بالاحترام غير شرف المولد وكثرة المال، هناك العظمة النفسية والقوة العقلية، بل هذه أرقى مقاما من الأولى، وهذه شخصية لصاحبها في حين الأخرى غير متعلقة به ولا فضل له في كسبها.
ولقد ابتدأت هذه الفكرة تظهر واضحة قوية عند كتاب القرن الثامن عشر، وأصبح رجاله يقولونها ناصعة لا تحتاج شكا ولا تأويلا، ويكادون جميعا على كثرتهم يضربون على هذه النغمة التي دخلت في الذوق العام يومئذ، وأصبح يتمدح بها في صالونات الإشراف والأمراء، كذلك انتقل إلى هذا العصر مما قبله عادة الصالونات تقليدا لصالون الملك، فكل سيدة شريفة تجاهد لتجمع حولها نخبة من الأدباء والفلاسفة ذوي الفضل والشعراء والعلماء؛ لتكون في ذلك كمدام دمانتنون في القرن السابع عشر، ومن شأن هذا الاحتكاك أن يزيد الفكر الثائر ثورة وأن يدعو أشد الناس هدوءا للتفكير والنظر؛ لهذا سرت في البلد حركة عنيفة هزتها قامت على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين، وزاد عدد هؤلاء ودخل من بينهم جمع كبير من النساء الكاتبات وصرن يعددن في ميدان الأدب مئات كثيرة.
أظهر كتاب هذا العصر والمبرزين منهم ثلاثة، فولتير وروسو ومونتسكيو، وهم جميعا يتحدون في اعتبار أيامهم أيام ضعة وفوضى ولكنهم يختلفون اختلافا كليا في طريق تفسير ذلك، ولا بدع في اختلافهم؛ فإن هذا الهياج الفكري العام الذي كان موجودا يومئذ كان من شأنه أن يخرج رؤوسا تختلف اختلافا كليا في طريق البحث والنظر، كما أن طبائع الكتاب الثلاث الشخصية وأخلاقهم تختلف، وكذلك حالهم ومولدهم والوسط الذي عاشوا فيه، فأحدهم باريسي خفيف الروح ميال لأن يسخر من كل شيء، وثانيهم سويسري الأصل وضيعه عاش في شبه التشرد طول شبيبته ولكنه رأى الترف والرفاه الذي يعيش فيه الأغنياء فحمله ذلك على النفرة منهم، والثالث يمت بنسبه إلى الإشراف ورجال الحكومة فهو دائم الفكر في أمور الحكومة.
هذه الحركة الشديدة التي يتصف بها هذا العصر من عصور تاريخ فرنسا تجعلنا غير قادرين على أن نحكم عليه حكما عاما مثل حكمنا على القرن السابع عشر؛ فإنا نرى أنفسنا أمام أدب يتشعب إلى نواح شتى وأفكار تختلف اختلافا ظاهرا وعواطف غريبة متضاربة تجمع بين حب العظمة الملوكية والميل إلى الحرية والديمقراطية، وفي صالونات السيدات العظيمات يجتمع أقوام من أطراف متنائية في المولد، يجتمع أشراف أبناء أشراف ومعهم روسو ومن هم في طبقة ميلاد توازي طبقته، ويجلس الجميع وبينهم شبه مساواة تمكنهم من التفاهم والتعارف، لكن ذلك لم يمنع بعض الأشراف من الاعتصام بحصونهم والبقاء فيها والبعد عن العاصمة وعن الحركة الأدبية والبقاء على العقائد القديمة والاستمساك بعوائد عائلاتهم والإيمان بالفرق الذي بينهم وبين باقي الخليقة.
في هذا العصر، عصر الصالونات، حيث كان يجتمع الرجال المعروفون والسيدات النبيلات ظهرت العواطف في شكل جديد، فأصبحت في أحيان كثيرة مجرد لذة يتذوقها الرجل أو المرأة فإذا سئمها تركها حتى إذا شاقته عاد لها وإن هو وجد شيئا ألذ انتقل إليه؛ لهذا كنت ترى لكل رجل عددا من المعجبات به المحبات له ولكل جميلة ذيلا من المملقين المحبين، أما هذه العاطفة القوية المتينة التي تأخذ بالقلب والنفس وتستولي على الوجدان وتصرف على ما تشاء الحياة، هذا الحب الذي ينسينا وجودنا وأحزاننا ومخاوفنا ويجعلنا نفنى في ذكر المحبوب ونهيم به ولا نعرف سواه، ونهزأ بالحياة إذا فقدناه، فلم يك موجودا في الأخلاق يومئذ ولا في العقائد، لذلك خلت كتب الأدب منه إلى حد كبير وصار لا يجول إلا بخيال نفر لا يعدون.
أشد الكتاب الثلاثة الذين أخذناهم عنوانا للعصر والمبرزين فيه، أشدهم ميلا للعواطف وتقديسا للإحساس وإعلاء لشأنه إلى حد أن يعده المصرف لنا في الحياة هو جان جاك روسو، وهو مع ذلك أكثرهم ميلا مع الأهواء وتقلبا أمام رياح الحب وانتقالا للمحبوبات الجديدات، ولو شئنا أن نذكر جميع من أحبهم وتعلق بهم ولزمهم لذكرنا كثيرات، فمنهن مدام دفارنس ومدام دبناي وماداموازيل جرنفريد وغير أولئك ممن ورد ذكرهن في اعترافاته، وفي كل مرة كان يظهر نفسه الوامق المأخوذ التائه الرشد من شدة الحب، وفي كل مرة ينعقد لسانه ويعتريه الحصر أمام محبوبه فلا يقدر من عظيم ما به أن يبوح بمكنون صدره، ثم إذا هو بعد ذلك انتقل أن رأى سيدة أخرى أعجبته فمثل معها الدور عينه، هذا مع الاعتراف له بأنه كان أيام شبابه كلما أضناه التنقل رجع إلى دفارانس أول محبوباته وأسهلهن فقضى معها أياما يتمتع بمالها وبها بقدر ما يسمح له طبعه الحي وعلته الملازمة. فإذا شبع منها انتقل لباريس يبحث عن محبوبة أخرى.
وإنما نفسر هذا الطبع عند جان جاك بالنشأة التي نشأها وبما عنده من الخيال المتسع إلى حد الجنون وبميله إلى الترحل والبداوة.
ولد جان جاك من أب ساعاتي، وماتت أمه ساعة منحته الحياة فنشأ يتيما، وكان له أخ لم يكد يبلغ سن الإدراك حتى فارق أهله وبلده ولم يسمع به أحد بعد، وعني بروسو عم له، فلما بلغ الصغير سن التعليم أراد وصيه أن يلقنه صنعة وأودعه عند نجار فأبت عليه نفسه أن يتعلم وجاءت حوادث فارق من أجلها بيت معلمه وهام على وجهه، ثم ألقى عصاه بعد ذلك عند عجوز عرفه بمدام دفارنس فعنيت هذه به وردته عن كاثوليكيته إلى البروتستانتية، وتركها بعد ذلك تدفعه نفسه الرحالة إلى أن يضرب في الأرض فاشتغل خادما على مائدة بعض الإشراف، ثم طرد فالتجأ إلى دير ولم يبق به إلا قليلا حتى أراد أرباب الدير به السوء وأراد أحدهم ارتكاب المنكر معه، هنالك فر الشاب هاربا وجعل يتعيش من بعض حرف يدوية فكان ينقل كتب الموسيقى بأجر زهيد ويشغل وقته بقراءات شتى، ولقد كان ولوعا من أول أيامه بالقراءة، فلما أينع ذلك وظهر عنده أثره ابتدأ يكتب فأظهر أول الأمر أقاصيص لم تحز رواجا، ثم حماه جماعة من السيدات الأشراف واهتموا له وبذلك ظهر فضله، وكتب بعد أن استقر به الأمر كتابه في التربية (اميل) وأراد نشره فصودر طبعه في هولاندة، فأمرته السلطة بالخروج من فرنسا، ثم كتب النوفل هلويز، وانقطع في أخريات أيامه بعد أن قضى شبيبة مضطربة وتزوج بابنة غسالة شنعاء، وكتب اعترافاته ثم «أحلام المتنزه المنفرد» التي نشرت بعد وفاته، وفي هذه الاعترافات والأحلام يرى الإنسان علائم الجنون بادية ظاهرة حيث يرى روسو شديد الاعتقاد أن الناس يريدون الفتك به وأنهم جميعا يطلبون هلاكه لأنهم يحسدونه ويكرهونه، وأول كلمة في الأحلام «ها أنا وحيد في العالم هجرني الناس».
وألف غير الكتب المتقدمة كتاب «العقد الاجتماعي»، وقد كون فكرة هذا الكتاب عنده وجوده قنصلا لفرنسا بالبندقية، كذلك كتب خطابه لدالمبرت عن الفنون، وكتب كثيرا سوى هذا مما هو أقل منه تداولا وقيمة.
ولقد وضع في اعترافاته تاريخا مطولا لحياته كما قوى بها أساس (الرومانتيسم) فنقل الأدب بذلك خطوة إلى الأمام، وجعل الكتاب يرجعون عن مجرد قص الحوادث إلى التحليل النفساني لإبطالهم تحليلا مأخوذا من الواقع بوصف حالاتهم وعواطفهم وما يحيط بهم، كما أنه في «أميله » وضع مذهب الحرية المطلقة في التربية فقرر وجوب جعل الطفل معلم نفسه إلى أقصى الحدود، أما عقده الاجتماعي فمع أنه أقصد في الأدب من الاعترافات ومن الأميل فقد حاز شهرة أكثر منهما، ومبناه أن الناس أول ما ألفوا الجمعية تعاقدوا على ذلك، وقد أظهر النقاد فساد هذه الفكرة وخطأها، أما النوفل هلويز فهي الرواية التي ظهر فيها رومانتيسم جان جاك في أجلى مظاهره، رواية عواطف وإحساسات وهي كذلك مملوءة بالأفكار والآراء.
والفكرة الأصيلة في أفكار روسو هي أن الرجل طيب في أصله، وأنها المدنية هي التي أفسدت حاله وغيرت طيبة طبعه، لذلك كان دائم الدعوة للرجوع إلى ما يسميه «الحالة الطبيعية» شديد الانتقاد لكل ما يعده من مبتدعات المدنية، وربما كانت هذه الفكرة هي التي ساقته إلى الانتقاد المر للفنون الجميلة واعتبارها مفاسد للأخلاق وإن كان رأيه في ذلك جاء سابقا إلى تقريره حسن «الحالة الطبيعية» بزمان.
ومع دعوته للرجوع إلى الحالة الطبيعية دعا كذلك للمساواة بين الناس وطلبها، ولا شك في أن الأسباب التي حملت لابريير في «الأخلاق» على انتقاد الأشراف كانت أقوى عند روسو وأدعى لتحمله على الثورة ضد كل شرف نسبي.
هذه أفكار روسو التي سادت زمنا غير قليل والتي بنيت عليها مبادئ شتى، ثم التي ابتدأت تتقهقر بظهور النقد العلمي والنهضة الحاضرة.
ولقد كان روسو متحمسا لها إلى حد مدهش، كان يناصرها كما يناصر نبي رسالته، ويتحمل من أجلها الضرر والهول، ويقاسي النفي والفقر، ويصيبه الويل من كل جانب، وهو مع ذلك لا يفتأ ينادي بها، كان من هؤلاء الذين تستولي عليهم الفكرة فتأخذهم عن نفسهم وتحقر الحياة أمام عيونهم وتجعلهم يعيشون لها ولإبدائها ولنصرتها، وهؤلاء يبقى ذكرهم في العالم عظيما لأنهم عاشوا للعالم لا لأنفسهم؛ لذلك كان روسو يستحق الإعجاب.
أعرق في الفرنساوية وأرق وأدق من روسو وأكثر كتابة وأرقى في أيام حياته مقاما كان فولتير، فقد ولد في باريس بالذات من عائلة باريسية قديمة سنة 1694 وأعده والده لأعمال الكسب في الحياة فأبت عليه نفسه ذلك وأراد من أول أيامه أن يكون بين الأدباء، ولست في حاجة لأعرف فولتير فكل من يعرف أقل طرف من الأدب الفرنسي يعرف اسمه، ولكني أنقل هنا حكم (برنتير) عليه حكما صادرا من رجل من كبار نقاد الأدب والذين درسوا تاريخه قال: «ليس بين رجال الأدب الفرنسي إلا ثلاثة أسماء أو أربعة أكثر عظمة من فولتير، وإذا كانت ثمت من هم أشرف منه وأكثر بحق احتراما فلا أجد أعرق منه فرنسية، ويعكس لنا صورة صادقة من أنفسنا ولا أحد أظهر منه في أوربا بل أقول في العالم أجمع».
هذا هو حكم عالم أديب على فولتير، وربما لم أكن في حاجة لنقله فلا أحد يشك في عظمة هذا الكاتب الشاعر الفيلسوف الذي أخذ بيده رئاسة رجال الأدب والعلم في عصره، وكتب في كل المواضيع بنفس دقيقة لطيفة وذكاء نادر وسعة اطلاع مدهشة، ولقد كان ولوعا بالعظمة متطلعا إليها يعمل كل ما استطاع للوصول إلى غايته ولا يقف شيء أو اعتقاد في سبيله، وسافر وصحب كثيرا من الأشراف وذوي الإمارة، وكان صديقا للمعجب به أمير بروسيا الفيلسوف فرنند الثاني.
فولتير أحد الذين لقبوا من بين أدباء العالم «بملك الضحك»؛ ذلك أنه لم يترك شيئا إلا وتهكم به وأظهره في أشد أشكاله سماجة وقلب كل ما يثير عاطفة الأسف أو الحنان أو العطف عليه لشهوة الضحك منه والسخرية به؛ فالمذاهب والآراء والأديان والآلهة كلها لم تسلم من قلمه المر الساخر، قال مجيبا للدعاة إلى «الحالة الطبيعية» المنادين بعظيم ما فيها من جمال وسعادة: «ربما كانت أكبر أمنية هؤلاء أن يكونوا على أربع» ورد عليهم بقصته المسماة «كانديد أو الساذج
Candide » فلم يترك سخرية إلا نالهم بها، من ذلك يحكم القارئ على ما كان بينه وبين روسو من العلاقات.
وهو من ملوك الكتابة كما أنه من ملوك الضحك، قلمه سيال لطيف عذب وتصويره حلو وروحه خفيفة، كتابته دائمة الابتسام لا تقطب حاجبيها ولا تصيح ولا تغضب، تحس وأنت تقرأه بابتسامة دائمة تطوق ثغرك حتى وأنت تقرأ قصص أشد الحوادث إثارة للألم، ولا تغضب أنت منه مهما كان كلامه يناقض اعتقادك، بل تكون أمامه كمتدين أمام مجوسية بارعة مهما حوى قلبها من العقائد لا يفتأ ينظر إليها ويستعيد نظرها ويود لو تكلمه، فإذا كلمته لم يفارقها وإن لم يعتنق عقيدتها.
هذا هو الأثر الذي يجده قارئ فولتير، وهو لا يخرج منه بمذهب جديد ولا بعقيدة معينة، كما أنه هو لا يدعو القارئ لمذهب ولا لعقيدة، ليس كروسو الذي يحسب ما يقول الحق من عند الله بل هو كرابليه ولافونتين يأخذ الحياة ضاحكا منها لاهيا بها عاملا ليكسب من وجوده فيها قدر ما تستطيع هي أن تعطيه.
ثالث كتاب هذا العصر هو مونتسكيو، وهو أقل كتابة من سابقيه بكثير وأشهر ما كتب «الخطابات الفارسية
Les letters persannes » «وكتاب روح الشرائع
L’esprit des lois »، والكتاب الأول نقد للعادات والأخلاق الفرنساوية جاء به على لسان الفرس حتى لا يمسك ذلك عليه أحد.
هؤلاء الكتاب جميعا ساعدوا الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت موجودة تهز جوف فرنسا يومئذ، وكانوا معها من العوامل التي جاءت على إثرها الثورة الفرنساوية، ولقد كان كتاب العقد الاجتماعي لروسو قرآن هذه الثورة يعرفه الناس جميعا ويطالبون بحكومة على المثال الذي يريد، كذلك كان كتاب روح الشرائع من الكتب التي لقيت حظا، ونسج على منوال هذه الكتب غير قليل من الكتاب، وشاع في الأدب هذا النوع من الكتابة الذي أبدعه قلم روسو، وظهر في القرن التاسع عشر جماعة كثيرون نشأوا على منواله، وأهم هؤلاء شاتوبريان
Chateubriand ، فلقد كان ذلك الكاتب الشعري المتحمس المملوء بالخيال على مثال جان جاك، وأظهر كتبا نسج أسلوبها على منوال جان جاك وإن كانت آثار العصبية أشد وضوحا فيها لأن كاتبها كان أكثر تعسا، كان من أصل شريف ثم قذفت به الأنواء فرمته في أمريكا حتى إذا عاد بعد أن قاسى أهوالا عاد بمخيلة قوية وأظهر كل ما رأى بقلم ترعشه أعصاب الكاتب المتوترة، وأخيرا كتب «مذكرات إلى ما بعد القبر» قص فيها تاريخ أيامه وحكى حكم نابليون ووضع الإمبراطور الكبير موضع النقد.
ولقد كان شاتوبريان أشبه في حملته وكبريائه بروسو منه بأي شخص آخر، فكما كان روسو يقول «إني أحسن الناس» كذلك كان شاتوبريان لا يفتأ يضع نفسه في كفة تقابل الكفة التي يضع فيها نابليون.
في هذا القرن التاسع عشر ظهر شعراء فحول بزوا من قبلهم ومهدوا الطريق لنوع من الشعر جديد، أولئك هم لامرتين وفكتور هوجو والفرد دموسيه، وكلهم حقا فريد لا يشق لهم غبار، جاءوا بالخيالات القدسية العالية فوضعها في أجمل لباس من اللفظ وأرقه وأقواه.
ولكنهم يختلفون جميعا في النزعة والخيال الشعري، فبينا لامارتين شاعرا لطبيعة يتسمع على أصواتها ويجد في هزيم العواصف وحفيف الريح وفي الموج والجبال وصفحة الماء النقية وفي القمم العالية وقيعان البحور العميقة وفي الغدران والبحيرات والأشجار والزهر والسماء والأرض، بينما هو يجد في كل ذلك جمالا يثير من نفسه ويهيج عواطفه ويبعث إليه أعذب الشعر، إذا دي موسيه في تعشقه وغزله تتغلب العواطف على أوتار قلبه فترسل إلينا منها رنينا لذيذا يخالطه اليأس والألم، وإذا هو يناجي الليالي في وحدتها فتجيبه أصداؤها بكلمات وآيات، ثم إذا هوجو العالي الصوت القوي الفؤاد رافعا عقيرته يتغنى مرة فيطرب الخليقة ويأسى أخرى فيستبكيها ثم إذا هو أخذته رعشة غريبة فطار في الجو وملأه بندائه ناصرا الحرية طاعنا على الاستبداد ومستثيرا من كل الناس إعجابهم وتصفيقهم.
هؤلاء هم الشعراء المعروفون في القرن التاسع عشر، أما الكتاب فكثيرون وأظهروا مبادئ في الكتابة جديدة انفصلوا بها عن روسو وعن الرومانتيسم الذي بقي معشوقا في ألمانيا.
من أكبر هؤلاء الكتاب جوستاف فلوبير وأميل زولا وأناتل فرانس وبيير لوتي وبول بورجيه وكل أولئك قصصيون، ورنان وتين وفاجيه ولمتر وهؤلاء نقاد مؤرخون، أما الفلاسفة فقد انفصلوا مدرسة وحدهم وأكبرهم في العصر الحاضر ريبو وبرجسون ودركيم.
نترك جماعة الفلاسفة فليس هذا موضع الكلام عنهم، كما أنا نأخذ من النقاد والمؤرخين الجانب الذي يمس الأدب عن قرب، ونذكر كلمة عن كل من الآخرين بقدر ما يسمح به المقام.
قلنا إن كتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر أظهروا مبادئ أو بالأحرى مبدأ جديدا في الكتابة، ذلك هو الناتوراليسم
Naturalisme
وهو يقصد وصف الحياة كما هي من غير تحسين ولا تجميل، وذكر كل ما يقع فيها كما يقع من غير أن يكون للكاتب شخصية ظاهرة أبدا ومن غير إهمال شيء دق أو جل مما يحصل في الظروف وفي الأشخاص الذين يرسم الكاتب بقلمه، وكان أشد أنصار هذا المبدأ جوستاف فلوبير وأميل زولا، والرواية التي وضعها فلوبير تحقيقا لهذا المبدأ - مادام بوفاري - آية من آيات الأدب الفرنسوي، يحس الإنسان حين يقرأها أنه يسير بين الناس ويرى باطن نفس أشخاص الرواية منشورا أمامه ظاهرا ما يحويه عن خير وشر، وأحسن ما قيل في وصف مادام بوفاري أن كل قارئة تقرأها تحس بنفسها بطلة الرواية وكل قارئ فيها الحياة كما هي، هذا فوق أن قلمها من أبدع وأدق ما يكون، نقول أدق ولسنا مغالين؛ فلقد كان فولبير يمضي ساعات يبحث عن الكلمة المضبوطة التي يضعها صفة لشخص أو لحادثة معينة لتطابق الواقع كل المطابقة ... وكان يتفق له أن يبقى أياما كاملة قبل أن يجد هذه الكلمة.
وأحب ما في فلوبير تشيعه إلى أقصى درجات التعصب للفن (l’art)
فقد كان يعد كل ما سواه وكل ما في الحياة العملية سافلا خسيسا، وأخذ عليه ذلك ناقد معاصر هو المسيو هنري لوجل حين تساءل عن أفضلية الرجل الذي يكسر رأس نفسه وراء صفة من الصفات على ذلك العامل في مكتبه يقضي وقته في العمل النافع المفيد، ولا شك أن كليهما متطرف ولكن فلوبير أقرب إلى الحق، ويعجبني حكم أناتل فرانس فيما بينهما حيث قال: «ولا شك أن الرجل الذي يقضي حياته لمصلحة الجميع يفضل ذلك الأناني الذي لا يفكر إلا في نفسه».
أما زولا
Emile Zola
وقد كان (ناتورالست) متطرفا وإلى الجهة السوداء، وقسم كبير مما كتب يتعلق بعائلة من عمال المناجم، ولقد وصف هذه الحياة وما فيها بصراحة تبلغ أحيانا الخروج على معتاد الأدب، فهو لا يعبأ بذكر ما يقع بين الرجل والمرأة بأوضح ألفاظه، ولا يخجل أن يصف أي جزء من أجزاء الجسم، لكنه مع ذلك عظيم المقدرة إلى حد غريب، إذا وصف خيل لك أن الموصوف موجود أمامك تنظره بعينك وتلمسه بيدك.
ربما كان من مستلزمات ذكر فلوبير وزولا أن نذكر جي دموباسان وهو تلميذ فلوبير المفضل، وأحد الكتاب الذين كانوا يأخذون الحياة كما هي، لا يجاهدون أن يجدوا فيها جمالا ساحرا يأخذ باللب، كما أنه في بعض الأحيان يظهرها لنا لذيذة براقة أشد ما يكون استيلاء على النفس، لكنه كان مع ذلك دائم الميل إلى الحزن والشجن، ورواية «حياة»
Une vie
من أدل ما يكون على إحساسه، هو يرى الألم والمصيبة آخر كل شيء، ومهما كان لنا على الأيام من ساعات السعادة فغايتنا أبدا الحزن الأليم.
لكن ميزة دموباسان هي حكاياته القصيرة، فلقد كتب من ذلك عددا كبيرا ضمنه أوصافا وآراء وأخلاقا شتى، وهو يمتاز في كل ما كتب بسهولة الأسلوب واللفظ بحيث تسري معه مأخوذا بطلاوته غير شاعر بضجر ولا بملال، لكنه بعيد عن أن يدخل من جهة المعنى إلى باب العويص من الأفكار، بعيد عن ذلك لسبب أو لغير سبب، فربما كان الدافع له إلى ذلك إحساسه بالفناء الذي ينتظر كل موجود فهو لا يرى في العالم ما يستحق الفكر أو ربما كان بعيدا بقواه وطبعه عن عويص الأفكار والمسائل.
من اللفظيين الوصافين المبدعين من كتاب العصر الحاضر كذلك بيير لوتي
، هذا الكاتب لا يعنى بفكرة عميقة ولا يهتم بالتقليب في نفس الإنسان ولكنه يجول في نفسه أفكار شعرية هائمة لا قرار لها أهمها إحساسه بالعدم المطلق الذي ينتظر كل شيء وهذا العدم يرعبه ويخيفه؛ لذلك فهو يريد أن يأخذ من الحياة كل ما يمكن من اللذائذ والمسرات، وينال منها كل متاع تصل إليه يده، يمتع عينه بمناظرها وأذنه بأصواتها وحواسه أجمع وشهواته بكل ما يقع في قبضته، ورواياته مجموعة إحساسات شخصية له وأكثرها غريبة عن فرنسا يصف فيها البلاد والأراضي والبحار التي جاب وقطع في أسفاره مما ساعدته عليه وظيفته كضابط في البحرية الفرنساوية.
وهو أميل ما يكون للشرق، ويظهر أن سبب هذا الميل عنده حبه للشرقيات واعتباره لهن موضعا للمتاع، ويصل الإنسان معهن للذة لا يحلم بها مع غربية أيا تكون، وكتاباه عن تركيا «أزيادي
Aziyadé
والدزانشانتيه
Les Desenchantés » مملؤان باعتبارت شهوية بحتة وبالأخص أولهما؛ فإنك ترى فيه هذه الأزيادي وهي الفتاة التركية في خيال لوتي مرة في قميص نومها لابسة شبشب البيت وتظهر من تحت القميص وفوق الشبشب ساقها الممتلئتين، وأخرى أقل من ذلك لباسا وهي تميل على لوتي بفن ودل ودلع وثالثة ... كذلك رواية «زواج لوتي» حيث يصف نساء تاهيتي وعوائد أهلها، وكذلك القسم الأكبر من رواياته.
لكن له أيضا «رامنتشو وصياد أسلانده» وفيهما يظهر رجل عواطف وإحساسات وإن كانت صفته الغالبة في هذين الكتابين كصفته في غيرهما هي وصف كل ما تقع عينه عليه وصفا مسهبا جميلا يبعث إلى الذهن خيالا لطيفا غير محدود مما يصفه.
ولقد ساقه خوف العدم والمتاع بكل ما على الأرض واستباحة كل شيء إلى نفي الدين والإله والأخلاق، واعتبار ذلك كله أكاذيب وحديث خرافة لا صحة له ولا فائدة، ونصحه بوجوب الأخذ من هذه الحياة الفارة منا أحلى ما فيها.
على النقيض من لوتي وموباسان وجماعة اللفظيين يجيء بول بورجيه
فهو قبل كل شيء كاتب تحليلي يمسك بطل روايته ويفتش في زوايا نفسه ويرسم أمامنا ما يدور بها من الأفكار والأحلام والأوهام، ولا ينسى أن يوقفنا على الوسط الذي يعيش فيه البطل والأسباب الاجتماعية والوراثية التي أنتجت هذه الأفكار والأحلام عنده، والنتائج التي ساقته إليها أفكاره وأحلامه، ثم يتركها أخيرا وقد بين لنا أن هذه الحال الفكرية الحاضرة في فرنسا حال سيئة لأن نتيجتها عقيمة وتدفع إلى شقاء الأفراد وتعسهم وأن الخير كل الخير في الرجوع إلى الماضي والتأسي به والأخذ عنه، فهو في ذلك ما يسميه الفرنساويون
Traditionaliste .
وأهم ما كتب تعزيزا لمبدأه روايتان: (الدسيل أو التابعي
Le Docile
والأتاب أو الخطوة
L’Etape
وأول الروايتين فلسفية دقيقة في التحليل وصف في أولها حياة فيلسوف هو (أدرين سكست) وطريقه في البحث والفكر، ثم مذكرة من أحد أتباعه إليه وهو في السجن متهم بقتل فتاة بالسم، وفي هذه المذكرة أو الاعتراف كما سماه المؤلف قص الشاب تاريخ حياته والوسط الذي عاش فيه ومطالعاته وتشيعه لفلسفة سكست، ثم تجريبه وتطبيق ما جاء فيها في الحياة العملية، فوصل بذلك أن أوقع في شباك حبه ابنة سيد شريف كان هو مربيا لوالده، وبلغ الحب من قلب الفتاة حين هددها الشاب بأنه سينتحر إن أعطت نفسها إليه على شريطة أن ينتحرا معا، فلما تم لها منها ما أراد راجعه حب الحياة واقترح عليها أن يتزوجها وأن ينجوا معا، فغلت في عروقها دماؤها وثارت في رأسها عقائدها وموروثاتها، وهذا التاريخ الطويل الذي لها فانتحرت وحدها بالسم الذي كان استحضره هو ليهددها به، وأوقعت بذلك التهمة عليه، ولكنه نجا من القضاء باعتراف أخي الفتاة أن أخته انتحرت، لكن هذا الأخ لم يلبث أن قتله وانتقم بذلك لأخته ولشرفه ... وكل هذه المقاتل نتيجة تعاليم هذا الفيلسوف الحديث (الناتورالست).
ولمثل هذه النتيجة يريد أن يصل كاتب (الإتاب)؛ إذ بعد أن حلل أمامنا عائلة من العائلات الوسط التي وصلت بعض الشيء إلى مكانة في الجمعية بسعي ومثابرة رب العائلة أرانا هذه العائلة وهي تنهار ويحل بها الخراب والتعس يقبض على أكبر أبنائها بتهمة النصب طلبا للمال، ويضيع شرف ابنتها الوحيدة لاختلاطها بوسط غير وسط آبائها، ويبلغ اليأس من نفس الأب ويحل الشقاء بالجميع حتى تنتشلهم يد بارة، يد رجل عريق الأصل متمسك جد التمسك بدينه لأنه يرى في ذلك الصلاح والخير.
أما في روايته عن الطلاق
Un divorce
فقد جاهد بورجيه ليظهر عدم فائدة القانون الجديد الذي يبيح للمرأة وللرجل أن يتزوجا زواجا ثانيا بعد الطلاق وفي حياة الزوج المطلق.
وفي (أكاذيب
Mensonges ) يكرر الفكرة دائما من أن الأشخاص الذين وصلوا بعملهم تدفعهم أطماعهم دائما لمراكز تأبها الفضيلة.
ففي كل ما كتب بورجيه يرى الإنسان الفكرة الملازمة من أن الخروج على القديم والجهاد لمساعدة محدثي النعمة وصفهم مصاف الأشراف والاعتداد بالقوة المالية، كل ذلك داع لتقويض دعائم المدنية دافع بالأفراد إلى التعس وبالمجموع إلى التلاشي.
ولا شك أن هناك شبهة من الحق فيما يكتب الفيلسوف الكاتب، ولكنه يتغالى ويصل في تغاليه إلى حدود بعيدة تجعل الغاية التي يرمي إليها تجيء بمنطق فاسد بعض الأحيان، وإنا لنتساءل إن كانت هذه النتائج التي أظهرها لنا كنتائج حتمية للأفكار والوسط الحاضر هي حقيقة نتائج حتمية، وهلا يوجد إلى جانب هذه الشرور التي تنجم عن الجهاد للمساواة بين الناس خيرات أخرى يساعد الوسط على نموها وتقوى بالزمان، ليس هناك شك في ذلك أيضا ولكن بورجيه مذهبي حزبي.
فكرة الوسط وتأثيره ظهرت وقويت ودخلت العالم الفكري بفضل الفيلسوف النقادة (هيبوليت تين)
Hipolite Taine ، فلقد كان هو أول من قررها كمبدأ عام مستقل وأكبر من ساعد على نشرها وجاهد لتطبيق كل الحوادث والموجودات عليها، وكلمته الخالدة في ذلك هي: «المرء خلق وسطه»، ولقد كتب مؤلفات عديدة كان همه الأكبر في معظمها أن يفسر الحوادث والأخلاق والأدب والفلسفة بالوسط الطبيعي والزمني والوراثي الذي عاشت تحت تأثيره هذه الأشياء، فكتابه عن فلسفة الفن الجميل ليس كما ربما يفهم القارئ من عنوانه مجموعة أفكار مطلقة عن الفن على العموم، ولكن تطبيق الفن الإيطالي على هذا المبدأ وتفسيره بالوسط الزمني والوراثي والطبيعي الذي عاش فيه، كذلك كتابه عن (لافونتين)، وكذلك مجموع مقالاته في التاريخ والنقد وما كتب عن تاريخ أدب الإنكليز ومؤلفه الأكبر عن «أصول فرنسا الحاضرة» هو نزعة كبرى إلى جهة هذا المبدأ الذي احتل من نفسه محل العقيدة.
لكن فكرة الوسط هذه لم تنتج عنده ما أنتجت عند بورجيه من (الترادسيناليسم) بل لقد كان على العكس من ذلك أكبر دعاة التقدم والمنادين والمعتقدين بأن العلم سيصل بالإنسانية إلى درجة عليا.
ويمتاز على بورجيه برشاقة تعبيره وطلاوته؛ فإن أسلوبه أشبه شيء في سلاسته بالماء الجاري فوق أحجار ثمينة يظهر من خلاله ألوانها وينم في صفائه عن قيمتها، أسلوب عذب ويكاد في رقته ينسيك اللفظ ليتركك تهيم بالمعنى كما تشاء وتحب، وأسلوب يستحيل أن يعتريك الملال لقراءته، فهذا الكاتب الفيلسوف الكبير قد جمع إلى جزل المعنى حلو اللفظ، وإلى رشيق التعبير بديع الفكر، وهو في ذلك يصل إلى درجات من السحر لا يمكنك معها أن تمنع نفسك من الإعجاب به إلى حد عبادته، ولا تكون في ذلك مغاليا.
ولقد كتب فيما كتب (مذكرات عن باريس) ملأها بملاحظات ومشاهدات مما في العاصمة الكبيرة، وإني لأجد هذه المذكرات من أبدع ما كتب؛ ففيها من دقة الملاحظة وحسن العبارة وبديع التهكم ما يندر أن يجده الإنسان في كتاب آخر، ومع هذا فالقارئ ينتقل دائما في روض مختلف ألوانه كلما انتقل إلى صحيفة جديدة من الكتاب.
أما ملاحظاته عن إنكلترا فهي أكثر جدا؛ لأن له فيها غرضا يرمي إليه هو مناصرة الأرستقراطية الحرة على الديمقراطية المطلقة؛ لذلك هو هنا أقل ابتساما وخفة منه في باريس.
ولقد سلك في النقد طريقة أعدها أحمد الطرق، هو يعرض أمامك دائما صورة من العصر والوسط الذي عاش فيه الكاتب الذي ينتقد، والأفكار السائدة يومئذ وآداب الحديث والمقابلة، وكل ما يمكن أن يكون ذا أثر في ذوق الإنسان أو في رأيه، ثم هو بعد ذلك يشرح الظروف الخاصة بالكاتب الذي أمامه وعلاقة هذه الظروف بالأمور العامة التي قدم، وأثر هذه وتلك عليه كمفكر وكاتب، وينتقل متى انتهى من ذلك إلى ما هو أخص منه فيأخذ الكتاب الذي يريد الكلام عنه أو الفكرة التي يريد نقدها أو تمحيصها.
هنالك تتكون أماك فكرة معينة محددة عن الكاتب وعصره وكتابه، ويمكنك أن تشارك تين في الحكم عليه حكما مدققا.
من الذين عاصروا تين وكانوا ذا أثر كبير في الأدب الفرنساوي إرنست رنان
Ernest Renan ، ولكن الميزة الكبرى لرنان هي أنه مؤرخ أظهر في شكل حديث صورة دقيقة من أيام بني إسرائيل ومن حياة عيسى، ولقد كان عنده من الاحترام للدين ما مكنه من أن يقضي عليه قضاء قاسيا بما كتب وأظهر، واتبعه كثيرون وتشيع له جماعة أحرار الفكر، في حين عجز خصومه الدينيون عن الحط منه عجزا عظيما.
ظهر غير تين نقاد كثيرون في هذا العصر الأخير، فبرنتيير وسانت بيف وغيرهما، ومن معاصرينا الحاضرين ظهر إميل فاجيه وجول لمتر، وهذان من كبار الكتاب كذلك، والمجموعة التي ألفها الأول عن القرون الأربعة للأدب الفرنسي وما كتبه الثاني عن الكتاب المعاصرين
Les Contemporains
كلها كتب لا تنسى، كما أن لهما غير ذلك شيء كثير.
ها نحن استعرضنا أمام أنظارنا أسماء كثيرة من كتاب وأدباء فرنسا في العصر الحاضر فلوبير وزولا ولوتي وبورجيه وتين وغيرهم، ولكن أحب اسم بين القصصيين المعاصرين إلى نفسي، الاسم الذي أضعه إلى جانب اسم تين، وأعجب به إلى حد العبادة إعجابي بتين، ذلك هو أناتل فرانس، وإني لأختتم بكلمة موجزة عنه هذه الكلمة المقتضبة عن تاريخ الأدب الفرنسي.
أناتل فرانس هو أكبر كاتب في العصر الحاضر يمثل فرنسا، يرى القارئ في كتابته صورة صحيحة من هذه الأمة وحركتها الفكرية والروح السارية في نفوس الطبقات المختلفة من أهلها روح التهكم والاستهزاء، كما يقع في كل صحيفة على الأفكار العصرية في العلم والفن والنظرة المجردة، ويرى ذلك كله بلغة أصفى وأرشق ما يمكن.
ولقد كتب عدة مؤلفات أحدها يقع في أربعة أجزاء، وجمع فيه المؤلف ما كتب في نقد الأدباء والشعراء وسماه (الحياة الأدبية)، ومؤلف آخر يقع في أربعة أجزاء كذلك قص فيه تاريخ العصر الحاضر بشكل روائي جميل، ومؤلف عن جان دارك، ثم عدة روايات كان آخر ما ظهر منها روايته عن الثورة الفرنساوية بعنوان (الآلهة ظماء)، ومن بين هاته الروايات والكتب يجد الإنسان عددا كبيرا بالغا أقصى غايات الإبداع، أخص هذه الزهرة الحمراء
Le lys rouge
وعلى الحجر الأبيض
Sur la Pierre blanche
وجزيرة البنجوان
I’ile des Pingouins
وجريمة سلفسربونار وتاييس وكتاب صديقي إلخ.
والفكرة القائدة في كل هذه الكتب، أو بالأحرى الخلق الذي تنم عنه جميعا هو (السبتسزم)
scepticisme
أي عدم إقرار رأي من الآراء ولا الاعتقاد بشيء أيا كان ولا دحضه، بل الشك في صحته أو بطلانه؛ فالكاتب ينقل صورا متناقضة مما في الحياة وأفكارا متضاربة مما أظهرت العقول، ويناصرها جميعا وينتقدها جميعا ، وكثيرون لا يتذوقون هذا الصنف من الكتابة لأن الأكثرين من الناس يريدون دائما أن يجدوا أمامهم حكاية مرتبة ملأى بالوقائع والإحساسات تتخللها الأفكار من حين لحين؛ حتى لا تكون عارية منها بل لتخدم فيها خدمة الملح في الطعام فقط، غير أن هذه الأفكار الشكية (السبتيك) عند أناتل فرانس تميل دائما إلى الجهة السوداء من الحياة، وترى في هذا الترتيب الاجتماعي الذي يعيش الناس على نظامه موضع الشقاء والظلم الصارخ، والذي يقرأ قصته (كرنكبي
Crainquebille ) يخرج منها مقتنعا بأن القضاء والبوليس والناس جميعا بلغوا من الظلم أقصى درجاته، وبأن السجون ونظامها والأخلاق العامة واعتباراتها كلها فاسدة ظالمة، والحقيقة أن حال أوربا الاجتماعية ونظاماتها أصبحت لا تلائم الحال الفكرية السائدة فيه، وإني لأوافق ماكس نوردو في الاعتقاد بأن هذا القلق الظاهر في أعمال وأخلاق وأفكار الأوربيين وهذا الاضطراب الذي يبين على كل نظاماتهم لا بد سينتج ثورة كبيرة أكبر بكثير من الثورة الفرنساوية.
والذي يدفع أناتل فرانس للابتسام والتهكم بكل شيء ذلك هو أنه يرى العالم يسير على قواعد طبيعية خالدة ليس في طاقة البشر تغييرها، فنداؤهم ضدها وصراخهم طلبا لتغييرها وتبديلها واقتناعهم أنهم قادرون عليها يجعلهم أمامه كالطفل الضعيف يجاهد ليدفع بيده صخرة عظيمة، هو لن يصل لذلك ولكن جهاده وتوتر يديه الضعيفتين واحتقان وجهه وصياحه يسبها من وقت لآخر، كل ذلك يجعلنا نبتسم منه.
إلى جانب إحاطة فرانس بالأفكار العلمية الحاضرة وبالمضاربات النظرية القديمة، نجد دقته في الذوق والفن؛ فكل وصف من أوصافه يدل على نفس متشبعة بمعنى الجمال وقوانينه، يصف لك امرأة فتراها حية متحركة تسير وتبتسم وتدل وتغضب، وهي في ذلك كله جميلة أدق الجمال، وترى في (الزهرة الحمراء) مما يثبت ذلك شيئا كثيرا، ترى بطلة الرواية (تريز مارتان) في كل حركاتها وسكناتها، تراها واقفة أمامك تنظر في المرآة وتقدر في نفسها جمال نفسها، وتراها في سريرها يسترها قميص نومها، وتبين من تحته خطوط جسمها النقية، وتراها في يد حبيبها تائهة في عالم الرغبة والشهوة، وتتسمع أثناء ذلك كله على نفسها وما يدور بباطن إحساساتها وفي أعماق قلبها.
في هذه الرواية البديعة ترى أفكارا شتى عن الفن والمعمار والتماثيل وكل ما تريد أن ترى في العالم الجميل.
أما كتابه (على الحجر الأبيض) فهو كتاب فلسفي في نصفه الأول، يأخذ أبطاله بأطراف المناقشة في مواضيع نظرية كالحقيقة وتعددها والناس وحياتهم، وهو في نصفه الثاني عبارة عن حكاية المبدأ الاشتراكي المنتظر، وينتهي هذا النصف بتهكم على ما في الاشتراكية مما ينافي الطبيعة البشرية.
وكتابه عن جزيرة البانجوان، حيث يحكي تاريخ فرنسا قد خصص منه قسما كبيرا لقضية دريفوس...
لو شئت أن أكتب عن جميع كتبه، اضطررت أن اجتزئ على قليل جدا ما فيها؛ ولذلك أكتفي بما أوردت عن الأفكار العامة لهذا الكاتب المبدع الذي أكتفي في القول عنه بأنه أحسن كتاب العصر الحاضر.
انتهيت الآن من كلمتي الموجزة التي أردت أن أضع عن الأدب الفرنسي، وأعيد للقارئ أني إنما وضعتها كتكملة بسيطة لمذكراتي عن أوربا، وربما جاء وقت يتسنى لي فيه أن أكتب طويلا عن فرنسا وأدبها.
الفصل الثاني
تطور فكرة المسؤولية في العصور المختلفة
يجمل بنا قبل أن ننظر في التاريخ - نستفسره عن الطريق الذي اتبعته فكرة المسؤولية في سيره وأين هي اليوم من هذا الطريق - أن نلخص هنا في بضعة أسطر ما ذكرناه في الكلمة السابقة عن هذه الفكرة وكيفية تكونها في النفس؛ وذلك لأن هذه الكلمة التي نكتبها اليوم ليست إلا بيانا تاريخيا واجتماعيا لكلمتنا السابقة يقصد به توضيح تلك الكلمة وإقامة الدليل على صحة الأساس الذي قامت عليه.
فقد ذكرنا أن فكرة المسؤولية تدخل إلى ضمير كل فرد من الأفراد على الصورة التي تنعكس بها فيه وحدات الإيمان اللازمة لحياة الجمعية التي يعيش فيها ذلك الفرد، وإن وحدات الإيمان هذه هي القواعد والعقائد التي تستلزمها ضرورات الاجتماع على اعتبار أن الإخلال بها يضر بحياة الجمعية أو يفسد عليها طمأنينتها، وقررنا أن انعكاس هذه الصورة في الضمائر الفردية يكون تاما في الجمعيات الساذجة التي لا تزال على الفطرة أو تكاد، وفي الجمعيات الثابتة أركان العقائد فيها على نحو لا يحتمل الشكل، ولكن لما كانت الإنسانية قد قطعت أجيالا طويلة من مراحل حياتها فقد اعترى هذه الصورة شيء من الإبهام في الجمعيات التي امتدت إلى نظامها الفوضى العقلية والخلقية، كما أن أكثرية الأفراد إن لم نقل كلهم في كل الأمم قد تأثرت نفوسهم بمؤثرات الوراثة وطوارئ الحوادث وتضارب العقائد القائمة في الوسط الزماني والمكاني الذي هم فيه، وأدى ذلك إلى أن انعكاس صورة الجمعية جعل يختلف ولو اختلافا جزئيا في نفس فرد عنه في نفس الفرد الآخر، وقد بلغ هذا الخلاف عند أفراد قلائل حدودا غطت على صورة الجمعية أو كادت، وهؤلاء الأفراد هم المجرمون بالخلق والمجانين العظماء، والأكثرين من هؤلاء الآخرين ومعهم طائفة المفكرين الذين لا يكتفون بقبول فكرة المسؤولية كما تصلهم من طريق الجمعية، بل يحللونها ويبحثون هل تضعف في نفسهم صورة الجمعية وما تلقيه في نفس كل منهم من بذرة فكرة المسؤولية، فتتقوى عند الأولين الملكة العملية التي تدفع بعضهم لجذب الجمعية إلى إيمانه الجديد الذي أفاده من مضطرب العقائد التي تبعث بها الفوضى إلى مختلف أركان الاجتماع، وتقوي عند الأخيرين الحال الفكرية إلى حد يضعفهم دون العمل ويجعل منهم أساطير إيمان المستقبل يكتفون بالنظر إليه وتقرير ما يجب أن يكون فيه، وهؤلاء وأولئك يسعون بالجمعية إلى التقدم؛ لأن النزعة الفردية ليست إلا صيحة الجنس إلى الكمال، وأما المجرمون الذين يعملون على تدهور الجمعية فلا يبقى لعملهم أثر بعدهم، بل يموتون وتتخطى الجماعة ذكرهم دون الوقوف عند ما يحملون إلا وقوفا وقتيا يقاس مبلغ زمنه بمقدار ما كان لهم في وسط الجماعة التي عاشوا فيها من سلطان وبطش.
هذه هي النظرية التي قررنا في كلمتنا السابقة، وظاهر أنها ترتكز على قانون اجتماعي لن تجد له تبديلا، ذلك هو سلطة الجمعية المطلقة على الفرد وتحكمها في أمره تحكما، لا يجعل له من التصرف إلا بمقدار ما لا يتعلق مباشرة بحياتها.
ولقد رأيت في بعض كلمات اطلعت عليها أخيرا كتابا ينكرون هذا القانون ، فناقشناهم فيه، فتبين لنا أن اعتراضاتهم مبنية على عدم دقتهم في الإحاطة به وفي تصوره، وكما أن سوء وضع حجر من أحجار الزاوية في بناء من الأبنية مهما كان ضخما يجر إلى تداعي هذا البناء وسقوطه على الرغم من زخرفه وروائه، كذلك فقد بنوا على تصورهم هذا نظريات طويلة عريضة ضربوا لها الأمثال وحسبوا أنهم أقاموا عليها الأدلة مع أن هذه الأمثال والأدلة هي إما بعيدة عن أن تكون متعلقة بنظريتهم أو هي فاسدة الأساس المنطقي فلا يمكن أن تبقى.
وبلغ من غلوهم في تصورهم أن قرروا أن الجمعيات الأولى هي في سلطة فرد من الأفراد هو رئيسها يصرفها كما توحي له بذلك شهواته.
هذا الأب كان هو ذاته أثرا من الجماعة التي يرأسها، أي أن كل مكونات شخصيته من عقائد وأخلاق ونظام تفكير وطرائق معيشه كانت مرتبة على النحو الذي كونته هذه الجمعية قبل وجوده بأجيال الأجيال، وفرد هذا شأنه لا يمكن أن يسير في الحياة إلا السيرة التي تملي عليه بها هذه المكونات، اللهم إلا أن يصيبه خبل في عقله يخرجه عن متعارف الناس، أما لم يصب بهذا الخبل فهو متأثر قطعا بهذه المؤثرات التي كونته هو في جميع وجوه حياته، فإذا أصيب بالجنون احتمله الناس زمنا وقد يتأثرون به ولكن تأثرا وقتيا ينتهي بقيام أحد تملأ صورة الجمعية نفسه فيقود الباقين ضد هذا الآخر المجنون ثم يحل غيره محله.
هذا هو ما شوهد دائما في الجمعية القديمة، ولا يرد عليه أن الشعب في اتباعه الصائح الجديد كان متأثرا بفرد من الأفراد، ولأن هذا الفرد لم يكن إلا الصيحة الخارجة من أعماق قلب الجمعية لا تلبث الجمعية كلها أن تجيب نداءها وتنضم إليها كما تنضم قطرات الماء المتباعدة واحدة للأخرى لمجرد وجود قطرة أقوى وأكبر من سواها ولكنها متحدة في الخواص مع سائرها.
والمصلحون أنفسهم الذين يحدثون التغييرات في نظام الجماعات لا يحدثون من ذلك في الواقع إلا تغييرات في الشكل لا في الجوهر، أو هم - بكلمة أدق - ينظمون شيئا موجودا في قلب الجمعية ولكن في حالة التبعثر، ولا يخلقون شيئا جديدا ولا غير موجود، ولسنا نريد بذلك التصغير من شأن هذه المهمة، بل هي في نظرنا أكبر وأعظم ما يستطيع الفرد عمله في الحياة، كلا بل إن قيام رجل واحد بها دليل على أنه يستطيع أن ينتج بمجهوده الفردي ما قد تعجز مجهودات مجتمعه عن إنتاجه، ولكنا نريد أن نقول إن المبادئ والنظريات ووحدات العقائد والأديان وقوانين الظواهر الطبيعية والاجتماعية هي كلها أحياء من أنواع مختلفة موجودة في الجمعية وجود الخلايا المختلفة في جسم الفرد، ولكنها لا تشعر بها إلا عرضا أو لمس الحاجة إليها كما لا يشعر الواحد بما يحويه جسمه من الخلايا، بل وكما يجهل الأكثرون بعض أعضاء مهمة ذات عمل حيوي من أعضائهم، ثم يحصل أن يقع أحد أفراد صدفة على أحد هذه الأعضاء أو يستلفت نظره أمر كما استلفت سقوط التفاحة نظر العالم الكبير نيوتين، ولكن الموفقين في الاستنتاج توفيق نيوتن قليلون، فيترك الأكثرون مشاهداتهم حتى يجتمع عدد منها تحت نظر أحد المفكرين أو المصلحين، يرتبها وينسقها حسب ما توحي له به ملكاته التي أفادها إياه الاجتماع والوراثة، فإذا تم له ذلك نادى بها فيشعر الناس جميعا وقد تم في نفوسهم من قبل ذلك إحساس بملاحظات الأفراد السابقين ما تحويه هذه الصيحة من اتفاق مع مشاعرهم، وهنالك يسمون هذه الصيحة الجديدة حقيقة يأخذون بها وتصبح آية ظاهرة من أي إيمانهم، ويعتقدونها مذهبا جديدا مع أنها ليست في الواقع إلا هاتيك الأحياء المبعثرة المحسوس بعضها إحساسا تاما، والمحسوس بالبعض الآخر عن طريق الحواس والوهم اجتمعت معا وكونت موجودا جديدا، كما تكون العناصر المختلفة عند اختلاطها الكيماوي عنصرا جديدا هو جماعها وإن اختلف عن كل منها منفردا.
على أن هذا الموجود الحي الجديد لا تبقى حياته ولا يضمن استمراره إلا يوم تتفق الجماعة على التسليم به كائنا بينها، فإن هي لم تسلم به فإما أن تشهر عليه حربا عوانا تنتهي دائما بانتصارها واستئصاله، وإما أن تهمله وتتركه فيبقى ضعيفا ضئيلا يتطلع للحياة ولا يصل إليه من شعاعها إلا مقدار ما يستمهله في الحياة حتى يموت أو حتى ينشر عظيما قويا، وإما تطول الحرب بينه وبين الجماعة بإسعاد بعض قوى تعارض الجماعة وتناضلها وتشغلها بعض الشيء عن إماتة هذا الخلق الجديد وإفنائه.
وهذا الحال الأخير هو شأن المبادئ والمدنيات التي يدخلها متحكم أجنبي في بلاد محكومة، تبقى روح الجماعة تناضل هذه المبادئ والمدنيات إلا ما كان منها متفقا مع أي إيمانها الخاصة، أو مرتبا لأحياء موجودة فيها ومستعدة للظهور، هذه الأجزاء من المدنية الجديد تبقى وتندمج في نظام الجمعية المحكومة، ولكن ما سوى ذلك لا يمكن أن يألفه الناس أو أن يدخلوه في أي إيمانهم؛ لتتحكم مدنية الغرب ما شاءت في أقطار الشرق، فلكل أمة من أمم الشرق عقائد وآي إيمان ومبادئ وأنظمة حيوية مهما قسرتها القوة فهي تبقى تناضل ولا يمكن أن تموت أبدا؛ فإن طبيعة الأرض والجو وآلاف الأجيال التي مرت بالناس تضمن حياة هذه المبادئ. بلى، ولئن استئصل السكان الأولون وأحل محلهم سكان آخرون فإن بقايا مهما قلت من المبادئ القديمة تبقى وتقوى، ولكن إذا لم يتم الاستئصال فإن النواة لا يمكن تغييرها؛ ولهذا نرى الشرقي إلى اليوم مهما كان متورطا في الربا أو في الخمر أو في بعض ما لا تشمئز منه المدنية الأوروبية، ولكنه محرم بقواعد اجتماعنا نحن يشعر دائما في أعماق قلبه كأن صوتا يناديه: تعسا لك أيها الشقي، أفما ترجع عن غوايتك! هذا الصوت هو الضمير المنطبعة فيه آي الاجتماع ويتوارثه الأجيال خلف عن سلف حتى آخر الدهر.
ولو أن المدنية التي تحمل الحرب الحاضرة بين جنبيها وهي تتمخض اليوم عنها ضمنت ما يقوله أنصار التقدم من حرية الشعوب؛ لقامت هذه المبادئ المضغوطة في الأمم المحكومة تستعيد نفسها وتضمن معها الأمم صاحبتها تقدما مبنيا على قانون التطور المعقول.
من ذلك كله يظهر أن احتجاجات بعض الذين يتقدمون للكتابة في مسائل الاجتماع، ويتعرضون لقانون سلطة الجمعية على الفرد منكرين هذه السلطة وحكمها العام ليست إلا صيحات شعرية مبنية على ملاحظات مبعثرة، لم يستطيعوا خلق الصلة بينها وبين غيرها فأخطأ استنتاجهم منها وفسد الأساس الذي أقاموا عليه رأيهم.
والآن نرجع بعض الشيء إلى إثبات نظريتنا المتعلقة بالمسؤولية من طريق النظر والتاريخ، وغرضنا من ذلك أن نصل إلى موقف فكرة المسؤولية الحاضرة في مصر وفي أوروبا، حتى إذا درسناه من طريق الفلسفتين الاجتماعية والجنائية تبين لنا أن حقيقة هذه الفكرة هي دفاع الاجتماع عن نفسه بالطرق التي يراها منتجة ومفيدة.
وخير ما يبين لنا الطريق الذي تطورت فيه فكرة المسؤولية تاريخ المبادئ الفلسفية وتطور قانون العقوبات؛ فالأول يدلنا على الاتجاه النظرى للفكرة العليا في الجمعيات المختلفة والثاني يبين لنا الطرائق العملية التي كانت تتخذها الجمعيات للدفاع عن نفسها ضد الأفراد الذين يخرجون عليها، وتصور هذه الجمعيات لمسئولية أولئك الأفراد.
ولسنا نرمي لوضع بحث مستوفي في كل من هذين السبيلين؛ فإن ذلك - فوق أنه ليس الغرض من أبحاثنا الحاضرة - هو ينزع بنا منازع تبعدنا عن الفكرة الأصلية فكرة المسؤولية، وإنما الذي نرمي إليه بيان بسيط للاتجاهات العقلية والعملية التي كانت تعد في الماضي، والتي تعد اليوم أساء بناء الاجتماع، وبكلمة أخرى الاتجاهات في هذين الوجهين التي كانت تحدد الصلة ما بين الفرد والمجموع.
الفصل الثالث
كتاب مفتوح إلى لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية
صديقي مدير جريدة السفور:
كانت عرضت لي أفكار من سنين مضت متعلقة بمسألة العلاقات القانونية بين المرء وزوجته، لكن ظروفا خاصة منعت من نشر تلك الأفكار فبقيت في طي أوراقي إلى اليوم، والآن يقال إن لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية تشتغل في المسألة بجد وتكاد تكون أتمت قسما غير قليل منها، فقد رأيت أن أبعث لكم بهذه الكلمات علكم تنشرونها على صفحات جريدتكم، فإذا حازت قبولا لدى أعضاء اللجنة كنت سعيدا أن خدمت قومي في مسألة تهم كل واحد منا وإن رأوا غير رأيي فالأيام كفيلة أن تظهر النافع، وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
وفي هذه الكلمة الأولى أقدم مشروعي، وفي الكلمات التالية أعززه وأشرحه، وإني أتقدم لأعضاء اللجنة بهذا المشروع ولي بهم كل الثقة أن سيمحصوا كل فكرة تكون نافعة للبلاد ومتمشية مع روح الشرع الشريف.
إن ما تحس به الأمة من الحاجة الشديدة للإصلاح في هذه الجهة من جهات حياتها، ليدعونا للتفكير فيها ويجعلنا نطالب بتشريع تراعى فيه أحوال البلد الحاضرة، ويكون الغرض منه تقويم عوج اجتماعنا وإصلاح شأنه.
كتاب مفتوح إلى الوزير الجليل ناظر الحقانية
يا سعادة الوزير:
وليت نظارة المعارف فعملت فيها نعم العمل وتركت الأثر الجليل، وأسفت الأمة كلها حين انتقلت منها لنظارة الحقانية، وحق لها أن تأسف إذ كنت عمدتها في إصلاح أبنائها وتربيتهم، على أنا لا نعدم أن نجد في الحقانية مواضع إصلاح كبير يخلد لصاحبه ذكرا باقيا، ويقدم للأمة الأساس الذي تبنى عليه سعادتها.
من القوانين ما يرتب صلات الحكومة مع الحكومية، وهاته أغلب الأحيان، وفي مثل بلادنا قوانين تخلقها ظروف وتقضي عليها ظروف، وتغيرها متى شاءت السلطة القادرة، هاته القوانين نكلها للزمان والحوادث وننتظر بمعوجها أن تعد له الأيام.
ولكن أخرى تنظم صلات الأفراد فيما بينهم، وتدخل إلى بيوتهم وفي غرفهم، وتشكلهم إلى حد كبير يشكلها وتكون عاداتهم وكثير من معتقداتهم، ولا تتغير إلا كل ردح من الزمن، هي التي نطلب إلى الوزير اليوم أن يدخل الإصلاح عليها، تلك هي قوانين الأحوال الشخصية.
نسمع من زمان أن نظارة الحقانية تعد للمحاكم الشرعية قانونا موحدا تسير عليه... لذلك فلا فرصة أنسب من الساعة الحاضرة نطلب فيها تعديل القديم وإصدار تشريع تراعى فيه أحوال البلد الحاضرة، ويكون الغرض منه تقويم عوج اجتماعنا وإصلاح شأنه.
ضج الناس ويضجون من تعدد الزوجات عندنا، يأتون ويشكون من الطلاق ونتائجه... يتألمون من حال العائلة الحاضرة، والكثير منهم يقدر لهذه الأشياء قيمة كبيرة، ويرى في صلاحها الأمل في خير الأمة كما أنها بفسادها اليوم مجلبة شر كبير.
كتب الكاتبون يصفون فظاعة الموقف الحاضر ويطلبون عنه بدلا، رفعوا أصواتهم إلى المشرع يريدون تداخله وإلى الأمة يحثونها على العمل من نفسها ... ولم يمض بعد الوقت الذي ييأس فيه من أن يمد المشرع يد معونته، وأن تنتبه الأمة لحالها فتجاهد لنجاة نفسها، بل لا يزال باب الأمل واسعا في كليهما، في المشرع وفي الأمة.
فتش كثيرون عن الدواء لهاته العلل الاجتماعية عندنا، ومنهم من وصل إلى نتيجة من بحثه، ولكنما يخيل لي أن ما يراد من إدخال حدود قانونية على قوى الزوجين وتداخل القاضي فيما بينهما لا يسير مع شرعنا الحنيف ولا مع عوائدنا القومية ... كلا بل ولا يجيزه الذوق.
يقول أقوام إن أهل أوربا يجعلون الفصل في الطلاق لأمر القاضي؛ فلم لا نجعله نحن؟ لأن أهل أوربا انتقلوا من المنع المطلق وعدم الفرقة بين الزوجين إلا بالموت إلى الدرجة التي بعد ذلك، ولكنا نكون إذا عملنا عملهم هادمين لحرية كبيرة نتمتع بها، وإذا كان الأفراد قد أساءوا استعمالها من قبل فلا يكون جزاؤهم أن يحرموها، ولكن أن يجدوا من أنفسهم ما يقمع غيرهم ويردهم إلى الحد المعقول حين يريدون الخروج عنه.
من أجل الوصول إلى هذه الغاية أضع أمام أنظار اللجنة المحترمة اقتراحي الذي أعتقده خير دواء للحاضر وخير قانون يبقى أجيالا إلى أن يقضي تغير الزمان والحال الاجتماعية تغيرا ظاهرا بتعديله أو استبداله.
ذلك أن تضاف المواد الآتية لقانون الأحوال الشخصية ويلغى ما يخالفها. (1)
يعطي القانون للمرأة حق تطليق نفسها في الأحوال الآتية:
أولا:
إذا تزوج عليها الرجل بزوجة ثانية.
ثانيا:
إذا ثبت زنا الرجل وطلبت هي الطلاق في ظرف ثلاثة أشهر من تاريخ ثبوت الزنا.
ثالثا:
إذا ارتكب الرجل أمرا ثبت ويثبت به أن وجودها معه يمس شرفها ويخدش كرامتها، وطلبت الطلاق في ظرف ثلاثة أشهر من ذلك الثبوت. (2)
طلاق المرأة نفسها طلاق بائن بينونة صغرى، إلا أنه يصح للزوجين أن يتراضيا على الرجعة من غير مهر. (3)
لا يقع الطلاق إلا إذا كان المطلق يريده وينويه، وأن يعلم الزوجان به، وكل طلاق ينقصه أحد هذين الشرطين لا يقع. (4)
تبتدئ أيام العدة من بعد توفر الشرطين المذكورين في المادة السابقة.
أعتقد أن إضافة المواد السابقة إلى باب الطلاق وإلغاء كل ما يخالفها يداوي ما عندنا، كما أنها كلها تتمشى مع روح الشرع أكثر بكثير من التفسير القديم حين اشتغل الفقهاء بتحديد ألفاظ الطلاق والكنايات عنه، وبما لو وقع الطلاق بائنا بقوله طلقة شديدة أو ثلاثا بقوله أكثر الطلاق، وتركوا لب ما جاء به الكتاب والسنة، كما أحسب أنه يوفر علينا إلى حد كبير تداخل المحاكم في المسائل العائلية الصرفة.
بهذه المواد نحسم مشكلا من أكبر المشكلات الحاضرة في حياة مصر الاجتماعية، بها نعطي الناس معنى جديدا من تقدير حرية الفرد واحترامه، بها نقضي القضاء الكبير على مسألة تعدد الزوجات التي يرتكبها الأزواج أحيانا كثيرة انتقاما من زوجاتهم، بها نقيم للعائلة قائمة تجعلها أساس بنيان الأمة المقبلة.
أفضل دائما أن يترك للفرد من الحرية ما يتمكن معه من تنمية قواه والحصول على أغراضه، لكن لا ليضير بذلك غيره، وأرى واجبا أن ينحصر القانون في أضيق دارة ممكن حصره فيها، وليس ما يضمن هذين في باب الطلاق مثل إدخال المواد التي أشرنا إليها بين مواده.
والشرع الشريف الذي تأخذ عنه أحكام أحوالنا الشخصية يحض عليها ويساعد على إيجادها في قانوننا، فإذا ما نحن تركنا قليلا تفاسير العصور المختلفة التي أدخلناها على ما بها من الغريب في قوانينا، ورجعنا إلى الكتاب والسنة وجدناهما نعم السند لنا.
قال تعالى:
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء
وقال جل شأنه:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ،
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته
فلم يدع للقاضي أن يتداخل في مسالة خاصة كمسألة الطلاق، بل ما يتعلق بهاتين الآيتين يكلها للرجل أو للأهل من الطرفين، وعلى هذا يكون إدخال القانون والمحكمة مع ما فيه من المساس بروابط دقيقة أحرى بها، وأوجب أن يبقى أمرها مجهولا لغير صاحبيها غير متمشي تماما مع قواعد الشرع.
وقال تعالى:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة
وفسرت هذه الدرجة في موضع آخر بقوله تعالى:
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم
فإذا حددنا مسالة القيام في الزواج بما يجب له عليها من طاعة ما دامت الزوجة قائمة وتوليه أمرها والإنفاق عليها وتحقق هنا معنى الدرجة، كان لها في غير ذلك ما عليها وكان لها بالطبع حق الطلاق.
ويؤيد ذلك أن الآية التي ذكرنا قبلا:
وإن خفتم شقاق بينهما ... إلخ، لم تجعل غضب الرجل وتألمه وحده هي الداعية لهذا الخوف، بل أي الزوجين غضب يقيم خوف الشقاق على قدم، فإذا كان ذلك آتيا من جهة المرأة ولم يريدا إصلاحا كانت النتيجة أن يتفرقا، وجاءت الفرقة هنا على غرض المرأة.
ثم غير هذا قد نص الفقهاء على أن للمرأة حق طلاق نفسها إن اشترطت ذلك في العقد، نصوا على ذلك أيام كانوا يوسعون للرجل في السلطان على المرأة، حتى ليقع طلاقه عليها ولو لم ينوه، أي حين كانوا يجعلون حق المرأة في البقاء مع الرجل معلقا على الحوادث والصدف، ولم يبق اليوم من قائل إن عملا لم ينوه صاحبه يقيده، بل إن أصل الشريعة الغراء مبني على هذا فإن من متواتر الحديث المشهور قوله
صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات» فإذا كنا لنأخذ بهذا الحديث ونقيم من عقولنا ما يجعلنا نصل إلى البديهي من أن لا عمل يقيد العامل إلا ما نواه، ثم نرى أن هؤلاء السلف كانوا يجيزون للمرأة اشتراط طلاق نفسها في العقد، أظن من المعقول جدا أن سير الفكرة ونموها يصل بنا كذلك إلى الاعتراف بالحق الذي أعطاه الله للمرأة من استطاعتها تسبيب الفرقة ولو لم تشترط شيئا في العقد.
لهذه الأسباب الشرعية وغيرها، ولأسباب اجتماعية أخرى كثيرة، أرفع إلى اللجنة طلبي أن تكون هذه المواد من بين مواد قانون المحاكم الشرعية الجديد، وأن يلغى كل ما يخالفها.
وأعتقد في ذلك للأمة أكبر الخير والصلاح.
الطلاق وتعدد الزوجات
1
يميل الناس للاعتقاد بأن ما هو حاصل اليوم كان موجودا من قبل دائما، ويعطيهم هذا الاعتقاد من معنى التقديس للشيء وتقدير أنه حق من غير شك، ما يصعب معه مناقشتهم في قيمة ما أمامهم، ويظلون على رأيهم حتى تأتيهم الحوادث بقوة لا قبل لهم بها تغير الحاضر، فإذا انتقلوا إلى الجديد وبقوا فيه ثم اعتادوه دافعوا عنه بنفس القوة التي دافعوا بها عما قبله، وبحثوا له في الماضي عن أصول يزداد سرورهم بها كلما وجدوها أكثر ابتعادا في غياباته وذهابا في أعماقه.
والواقع أن الحاضر في مثل بلدنا كما هو في كل مكان لم يعن أهله بالتفكير في إصلاح شأنه، إنما يحوي مجموع أغلاط الماضي الطويل وخطأه، ويندر فيه وجود حسنات الأقدمين وطيباتهم؛ ذلك أن الباطل أهون رواجا في السوق العامة من الحق، وأسهل انتشارا بين المجموع وتداولا على الألسنة، هو كالعملة المنقوصة يريد كل أن يدفع به لغيره حبا في التخلص منه أولا، ولكن متى راجت سوقه وتكلم به الناس تراه اعتنقه واعتقده.
ليس ما عندنا في قانون الأحوال الشخصية مأخوذا عن عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وحده ولا من تفسير الإمام أبي حنيفة ولا واحد أو اثنين ممن تبعه من أصحابه، ولكنه يتناول شيئا من كل عصر، ويضم بين مواده أقوال الرسول وأحكام الخلفاء وتفاسير الشراح وقضاء الولاة على مختلف القرون، ولما كانت هذه الأحكام والتفاسير وهي صادرة من بني آدم يخطئون بالطبع ويصيبون، لم تجد نقادة من العلماء في كل جيل يضعها موضع البحث، وتسلل منها إلى عصرنا زيف أكثر مما تسلل إليه من الحق، ودخلت إلى الشريعة التي نستمسك بها أقوال ليس من السهل أن يقبلها العقل ولا أن تسير مع قواعد الدين وأصوله.
من ذلك الزيف الذي دخل إلى قانوننا مواد كثيرة جدا نذكر منها المادة (218) من قانون الأحوال الشخصية التي نصها (يقع طلاق السكران الذي سكر بمحظور طائعا مختارا لا مكرها ولا مضطربا)، ولا أدري أي ذنب على المرأة يوجب انفصالها وأولادها الضعاف عن الرجل ولم يقصد هو من ذلك شيئا، ولقد رأى ذلك أستاذنا الشيخ محمد زيد الأبياني فقال في كتابه (شرح الأحوال الشخصية) صحيفة (297) ما نصه:
والظاهر عدم وقوع طلاق السكران ولو سكر بمحظور؛ لأن الطلاق ليس عقابا له فقط، بل يترتب عليه قطع الزواج المترتبة عليه المصالح الدينية والدنيوية والإضرار بالزوجة وبأولادها منها وبأهلها، فلو أوقعنا طلاق السكران لعاقبنا غير المذنب ممن ذكر وهو غير جائز، فلا يعاقب إلا السكران وعقابه يكون بالحد لينزجر عن مثل هذا ويعتبر غيره.
وقوله هذا موافق لما قال به جمع من الصحابة ووافقهم عليه بعض الحنفية.
لذلك يجب أن لا نجعل أبعد نظرنا ما سطر في قانون الأحوال الشخصية أو بعض كتب الفقه وإن كانت كبيرة؛ لأن مقصد الإنسان الأسمى في الوجود أن يصل إلى الحق حيث يكون وأن يعضده وينصره.
كل الآيات التي وردت في باب الطلاق لم تفرق بين الرجل والمرأة، بل جاءت به على معنى أن لكل منهما حقا فيه، فمن ذلك قوله تعالى:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، فلم يجعل هنا شيئا من حصر معنى الطلاق في أيهما، بل جعله على صيغة المصدر حتى لا يكون من معنى الحصر ما يمنعه عن المرأة، ثم لما كانت قوة الرجل على زوجته قد تبلغ الاستبداد أحيانا ويفرط صاحبه فيه، نزلت بقية الآية نصيحة للرجل أن يعامل المرأة بالمعروف إن بقيت معه أو يتركها بالإحسان ومن غير إجحاف إن هي فارقته، وأما الآيات التي نزلت خطابا للرجل وحده كقوله تعالى:
فطلقوهن لعدتهن
فإنما خوطب بها الزوج دون الزوجة لما لحقها من التخصيص بمسألة العدة التي تلزم المرأة وحدها، وليس من المعقول طبعا أن يقول للنساء: (وطلقوا الرجال لعدتهم) إذ لا عدة على الرجل، كذلك قوله تعالى:
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء
جاء في وقائع مخصوصة وجه فيها الكلام للرجال وحدهم.
والشريعة الغراء في عدالتها لم تكن لتفرق في الحق بين الرجل والمرأة لتعطي واحدا كل شيء والآخر لا شيء، والله تعالى يقول:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف
وإنما المرأة بطبعها لا تحب ترك زوجها متى كان لها منه أبناء، كما أن سلطانه عليها الكبير كان يجعلها تخضع لأمره من غير مناقشة ولا حساب، فظن بعضهم أن ذلك لأنها محرومة من كل حق، ولو كان هذا صحيحا لما كان معنى ل«لهن مثل الذي عليهن» وحاش الله تعالى وكبر كلامه عن أن يكون خلوا من المعنى.
بمثل هذه التفاسير يفتح الشراح علينا بابا من القول يرمينا منه مخالفونا بكل نقيصة، والله الذي لم يفرط في الكتاب من شيء أكمل لنا الدين، ولو اهتدينا بهديه وسرنا على معقول معناه لكنا اليوم في مقدمة الأمم رقيا وحضارة، أرأيت لو لم يفتح المشرعون هذا الباب بأن يجعلوا الطلاق في يد الرجل وحده، ثم أن يقع منه متى نطق بكلمته هل كان الطاعنون إلا وراءنا بكثير، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله قد دخلت على الدين أشياء هو منها براء، وأضيفت إليه شروح ومطولات تحوي كثيرا يتمسك به غير المسلمين ويسموننا مرة متأخرين وأخرى رجعيين، ولو فهمنا روح ديننا الحق وأفهمناها لهم لسكتوا أمام كمالها مبهوتين.
عن الدين الحنيف أخذت الأمم الطلاق، ولو بحثت فيما تعمله اليوم من القوانين لوجدته يسير تماما مع تلك الروح العالية، ولكنا لا نريد أن نتعب أنفسنا بالبحث عما عندنا من الجواهر المكنونة في كتاب الله الكريم.
ولو أن الناس من المسلمين لم يقفوا وقفتهم التي وقفوا، بل جعلوا وجهتهم التقدم وترقية المبادئ التي عندهم؛ لما وجدوا من شرعهم إلا مساعدا لهم على عملهم، الذنب - يعلم الله - على المسلمين لا على الإسلام، في كل هذه الوقفة الطويلة من غير سبب.
إن الحنيفية الغراء شريعتنا شريعة سير إلى الأمام، هي الشريعة التي تساعد الكون على التقدم والارتقاء وتوافق العقل على أن يكون حرا في تفكيره، فلم نحرم نفسنا هذه المزايا العظيمة التي تهبها إيانا.
لسنا في الحقيقة نتبع الإسلام في مركزنا الذي سكنا إليه وتمادينا عليه، ولكنا نتبع مجموع عوائد الأمم الإسلامية حين ابتدأ تقهقر الأحوال واختلال الأمور وفساد الزمان، ننصر أيام الظلمات ونساعدها على البقاء حتى أمام النور الساطع الذي تبعثه علينا مجاوراتنا من الأمم بعد أن ساعدنا أمام نور ديننا وهديه.
أعطى الإسلام المرأة ما أعطى للرجل إلا فيما نص عليه القرآن من مسائل الشهادة والميراث وأشياء أخرى معدودة، فلم نعتدي نحن على القرآن باعتدائنا على المرأة؟ لم نسيء معاملة من أوصانا صاحب الشريعة السمحة بحسن معاملته؟ هل بعد ذلك نحن لديننا حقيقة متبعون.
الآيات التي قدمنا تعطي المرأة حق الطلاق من غير ما قيد، فهلا نعطيها نحن ذلك الحق ولو بألف قيد وقيد، هلا نعطيها إياه في أحوال مخصوصة ومعدودة، إننا إن فعلنا ذلك نكن وافقنا العقل والشرع وخدمنا مصر خدمة الصادق الأمين.
2
من الناس من لهم غرام مخصوص بالشكوى والتألم، فإذا ما أردت أن تزيل سبب شكواهم وقفوا في وجهك وحاربوك جهدهم وطعنوا عليك، ثم لا تلبث أن تتركهم حتى يرجعوا إلى ما كانوا فيه من الضجيج والتأوه، ويستغيثون بمن لا يغيث بعد الذي رأى منهم! ذلك لأنهم يحسون بالألم ولا يفكرون في موضعه ولا أي شيء هو، إنهم لا يقدرون على تشخيصه لذلك هم لا يقدرون على مداواته.
في الإنسانية أدواء كثيرة يعوق عن مداواتها هذا الصنف من الناس، ومحال أن يخلو الوجود منهم، ويساعدهم آخرون ليسوا مثلهم صرعى بتمجيد الماضي بحق ومن غير حق، ولكنهم يريدون أن يكسبوا لأنفسهم مركزا ذا قيمة في الوجود، وأن يجدوا حولهم أتباعا وأنصارا هم أكثر فرحا بعدتهم منهم بقيمتهم.
هؤلاء لا تدفعهم لعملهم الفكرة الممحصة، وإنما تدفع الأولين منهم حمية تشغل كل وجودهم، وينساقون بها إلى مواقف ما كانوا يقدرون مطلقا أنهم واصلون إليها، ويدفع الآخرين غرضهم من حب الظهور بأي وسيلة ممكنة، هم يحصرون تفكيرهم في البحث عن هذه الوسيلة مدفوعين بهذا الغرض، ولا يهمهم من بعد ذلك خرب الكون أو عمر، وإن ادعوا بالطبع أنهم للإصلاح عاملون، ودعواهم مقبولة على العين والرأس من الأكثرين.
الآلام التي تضج لها بلدنا كثيرة جدا، أحدها الصلات العائلية فيما بين الزوجين - يدخل في ذلك الزواج والمعاملة وتعدد الزوجات والطلاق إلخ - وسببها لا يختلف في كثير عن أسباب العلل الأخرى، ولكنه أشد استعصاء في المداواة؛ لأننا فيه محافظون أكثر منا في غيره، كلا بل نبلغ بمحافظتنا حد الجامدين المتقهقرين.
علة العلل وسببها الأول في كل شيء نقص الحرية، وكلما تقدم الناس إلى جهة الكمال منها وتمتعوا بها زالت عللهم؛ ذلك هو السبب أيضا فيما نراه مما يخص العائلة.
للرجل ما يسميه البعض حرية أكثر مما يلزم، وما أسميه أنا حرية ناقصة، إن كل خطوة يزيد بها الفرد عن حقه في الحرية ترجع عليه فتنقص من حظه بمقدارها؛ لذلك رجع كل ما عند الرجل من زيادة فأفسد عليه وعلى المجموع طعم العيش كما ترك المرأة في بؤس قد تحس وقد لا تحس به.
يشكو الناس عندنا ولا يجدون دواء لسهر الرجال المفرد ونساؤهن جالسات في الدور، يلعب النوم برؤوسهن فيغالبنه، ويأخذ الضيق بخناقهن فيتنهدن، ولا ينفذ صبرهن في انتظاره، ويضرع الكتاب إلى الرجال مرة ويؤنبونهم على عملهم أخرى لعلهم يرجعون، فيذهب تأنيبهم وضراعتهم سدى، ويبقى الرجال على ما هم عليه يقضون قسما كبيرا من أوقاتهم في القهاوي.
وإذا غضبت المرأة عليه ساعة رجوعه، أو أظهرت أمامه الألم أعطاها ظهره إن لم ينتقم منها بأنواع الانتقام.
يشكون كذلك مر الشكوى من تعدد الزوجات، ويصورون العائلات المصابة بهذا المرض بأشكالها الفظيعة المؤلمة، ومع ذلك فتعدد الزوجات لا يزال شائعا في معظم الطبقات وخصوصا في الأرياف شيوعه من قبل، ويأتيه الرجال لسبب ومن غير ما سبب، بل في أحيان كثيرة جدا انتقاما من زوجتهم الأولى، والأمة تنتظر لصلاح هذا الحال قضاء السماء.
والشكوى من الطلاق أمر وأدهى، ذلك فظيعة الفظائع ورأس الآلام، وإن أكثر الناس نكاية منه من أصيبوا به من غير أن يريدوه، ولكنهم في ساعة حدة لفظوا كلمة الطلاق الكبير طلاق الثلاث فبانت زوجهم، وهم مكلفون لاسترجاعها أن يلجأوا لما تشمئز منه نفوسهم .
وإذا كنتم يا قوم تروم كل هذا موضع شكاية وألم، فلم لا تفكرون في العمل لتخفيفه إن لم يكن في الإمكان القضاء عليه! من ذا يمسك أيديكم عن العمل إن شئتموه؟ إنني على يقين من أن المشرع لا يبخل على الأمة بما يصلح أمرها؛ إذ تلك هي وظيفته ومن غيرها لا معنى لوجوده، وإنما يغل يده أحيانا عن تنفيذ ما يراه هو الخير ما يتوقع من السخط العام وما يتخوف من ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، ولكن اليوم الذي يجد فيه لعمله نصراء ومعززين هو اليوم الذي يضع فيه القانون المعقول ويعمل لتنفيذه.
وعهدنا بحكومتنا أن تنظر في مثل مسائل الأحوال الشخصية بعين خالصة كل غرضها خير الأمة، وما أحسب قانونا يضمن لنا زوال القسم الأكبر مما نشكو منه، ويقيم لنا أساسا نبني عليه سعادتنا العائلية وطمأنينتنا مثل ما اقترح وضعه.
يقوم هذا القانون حدا لغي الرجل في معاملة زوجته؛ إذ ما دام يعلم أن هناك شيئا من شبه المساواة بينهما فهو يعاملها كصاحب لا كمتاع، وما دام يعلم أن مس شرفها وكرامتها ليعطيها حق التخلص من الرابطة بينهما فهو لا شك عامل للمحافظة على ما له من الميزة بتحسين خطة سيره.
يقوم كذلك في وجه تعدد الزوجات؛ لأن الرجل يخشى أن يغضب بذلك زوجته الأولى فتتركه، كما أن هذه الميزة لها على الزوجة الثانية تعطيها - وخصوصا فيما لو كان لها أولاد - سلاحا وقوة تتدبر معه كثير من النساء حين يراد أن يأتي بهن زوجات ثانيات.
يقلل كذلك من الطلاق إلى حد كبير؛ إذ أنه سيبقى كما هو في يد الرجل وحده ما دام حسن السير مكتفيا بزوجته، ولا يكفي للتفريق بينهما أن تخرج من فم الرجل كلمة الطلاق، بل لا بد أن يكون مريدا له وناويا، وأن يبلغ علم الزوجة، وإنا لنرى أكثر الأحوال من يتألم ساعة لفظ الطلاق أشد الألم لا لأنه طلق زوجته فقط، ولكن لأن في الدار الآن من هي فرحة مسرورة يلعب حولها أبناؤها ناعمين بجوار أمهم وينتظرون بفارغ الصبر عودة أبيهم يقبلهم ساعة دخوله؛ فإذا هو يحمل لهم معه الشر ويأتي منذرا بالسوء، وما أراد أن يكون ذلك النذير الكريه.
كما فلاح من طبقة العمال - أولئك الذين لا يقرأون الجرائد ولا يفهمون كتابة الكتاب - كان يأتي متألما، ويكاد المسكين يبكي وينفطر قلبه لأنه حلف على زوجته بالطلاق من غير ما سبب، وكم كانت تنشب العداوة بين رجلين لأن واحدهما طلب إلى الآخر أن يأخذ معه (فنجال قهوة) وإلا فامرأته طالق، ومصلحة الآخر تناديه ألا يضيع من وقته؛ وبذلك تطلق زوجة الرجل.
يعلل المنتصرون للحاضر وقوع الطلاق في هذه الأحوال بأنه عقاب للرجل على تسرعه، وإذا سلمنا أن الرجل أخطأ فما ذنب المرأة وما ذنب الأولاد وما ذنب أهلها؟! أي عدالة توقع العقاب على رأس بريء إلا عدالة مجرمة؟ ألا إن ربنا أكبر عفوا وأوسع حلما من هذا ولكن الناس إلى الظلم أميل.
وقوع الطلاق على هذا الشكل لا شك بقية من بقايا الفكرة العتيقة الخاطئة، فكرة أن المرأة لا روح لها، تلك الفكرة التي يدعي عليها كثير من الغربيين أنها من ديننا وهو منها بريء، جاءت أيام الجهل حين كانت تدخل الأفكار الزائفة فتجد في الوجود مجالا، ثم بنيت عليها أحكام ليست أقل منها فسادا.
لنرجع في أحكامنا وتشريعنا إلى أصل الدين وهدى العقل ونوره؛ نبلغ كثيرا من السعادة التي يطلبها الناس من وراء قوانينهم، وإلا فما دمنا نرى الجرح الدامي ولا نستطيع أن نضع يدنا عليه فسيبقى الدم ينزف حتى يبلغ بنا الحال إلى ضعف كبير، أخشى أن يكون إلى الموت.
3 (يجوز للحر أن يتزوج أربع نسوة في عقد واحد أو عقود متفرقة.)
تلك هي المادة (19) من قانون الأحوال الشخصية الذي اعتمد عليه، لا لأنه القانون المتبع عندنا، ولكنه خلاصة بحث في مذهب الإمام أبي حنيفة.
رأى الأستاذ الشيخ محمد زيد الأبياني في شرحه هذا الكتاب أن زواج أربعة في عقد واحد ليس من الأمور السهلة التصور على الشكل المعتاد؛ إذ لا يعقل أن يقبل أربع نسوة أن يكن معا زوجات رجل واحد، فضرب مثلا أقرب للعقل وأسهل في التصديق، قال في صحيفة (38) من الجزء الأول ما نصه: (بل يقتصر على أربع نسوة في عصمته سواء كان تزوجهن في عقود متفرقة، كما إذا تزوج كل شهر مثلا واحدة أو في عقد واحد بأن وكل أربع نسوة رجلا في أن يزوجهن لفلان فقال هذا الوكيل للرجل زوجتك موكلاتي فلانة وفلانة ... إلخ، فقبل الرجل صح هذا العقد بالنسبة إلى الجميع إذا لم يكن متزوجا غيرهن.)
والأستاذ طبعا يريد أن كلا وكلنه وهي لا تعلم توكيل الأخريات.
ما أظن في القوانين الشرعية شيئا يقف في وجه القرآن أكثر من هذه المادة، هي ضد روح الآيات التي نزلت في تعدد الزوجات وضد لفظها أيضا، وما أدري كيف تكون من الشرع في شيء بعد ذلك.
حدد القرآن مسألة التعدد بحدود شديدة ولم يبحها إلا عند الضرورة، فقوله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة
ثم أتبع ذلك بقوله:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة
ليس مما يحرض على تعديد الزوجات مطلقا، بل يكاد يحرمها قطعا إلا لضرورة ملجئة، وليس التحليل للضرورة إباحة مطلقة كما يفيده نص المادة.
أو أن أسيادنا الشرعيين يعتبرون أحكام القرآن الشريف تضعف هي الأخرى بالزمان، فيصبح ما كان محظورا من المباحات؟ حاشا كلام الله الكريم أن يكون ككلام البشر، وما دمنا معتقدين به آخذين بنصوصه فالواجب أن نسير على مقتضى ما تقرره، وإذا كان الزمان الفائت قبلنا قد جاء فيه بعض الخطأ فعلينا أن نصلحه.
لم يكن تعدد الزوجات من الفضائل الممدوحة في زمن من الأزمان، وإنما هو كالأمراض اللازمة التي تعتري الجسم أو العقل، نحن مجبورون على احتمالها ما دام تركيبنا يستلزمها، كذلك الأمم التي يضعف فيها معنى العدالة ويتمشى إلى نفوس أهلها شيء من فساد الاستبداد، وتفقد بين أفرادها المساواة، تميل إلى صنوف من الترف توافق هذه الحال فيستكثر أغنياؤها من شراء الموالي واتخاذ الزوجات واقتناء كل شيء من شأنه أن يشبع منهم ذلك الإحساس الذي يملأ كل وجودهم من حب السلطة والسلطان والاستبداد بشأن غيرهم، ولولا أن ألغي الرقيق من العالم لكنا نرى مصداق ذلك في بلاد كثيرة محرومة منه اليوم، بل إن تركيا ظلت إلى عهد دستورها متجر رقيق هائل، ولم تزل إلى حد كبير رائجة السوق في العبيد والإماء خصوصا على شواطئ البحر الأحمر، والفقراء تقليدا للأغنياء يعددون زوجاتهم.
هذا المرض قديم في بلادنا، وحالنا اليوم تبشرنا بأنا نسير نحو الشفاء منه، ولكنه سير بطيء يكاد يكون غير محسوس، ولازم أن نستحث السائرين بل أن ندفعهم بعض الشيء حتى لا تكون حركتهم ذنب كل الحركات الأخرى، وعلمنا في هذا ليس بأقل أهمية منه في غيره؛ لذلك ليس من العقل أن نغضي عنه قائلين هذا ثانوي فاتركوه.
صحيح أن تعدد الزوجات نتيجة لا سبب في أصل وجوده، ولكنه أصبح اليوم سبب مفاسد شتى وخراب للعائلات كبير، وأصبح من المحتوم العمل للقضاء عليه حتى يقضى على نتائجه.
كم من عائلة تفرقت أيدي سبأ من وراء تعدد الزوجات، كما من إخوة تنازعوا واقتتلوا وتباغضوا لأنهم من زوجات مختلفة، كم نسوة بائسات يذرين الدمع على شبابهن وعلى حياتهن لأن أزواجهن قد تركوهن وتأبى عليهن عفتهن أن يخاللن.
ويعلم الله أن الحال الحاضرة عندنا، وظلم الرجال الفاحش، يجعل للمرأة عذرا إن اتخذت رفيقا.
للمرأة شرف تحافظ عليه، عفافها يجب أن يبقى مكرما، يجب أن تبقى طاهرة الذيل نقية العرض، كل هذا صحيح ولكن المرأة لا تزال ولن تزال بنت آدم وحواء، ولها نفس تحس وتتألم، وحق إن اهتضم أثار من كامن ما بين جوانحها ما قد يدفعها إلى غير ما تحب هي وترضى.
لم يميل الناس على المسالم ويريدون نهبه وغصب كل حقوقه؟ ثم إن أراد الانتقام منهم رموه شر الرميات وسموه أقبح الأسماء.
وإني لأعتقد أن كل خطوة تخطوها الأمة نحو استقلالها وحريتها تضيف حتما إلى إحساس المرأة دقة كما تضيف إلى إحساس الرجل، وتجعلها كما تجعله أقل احتمالا للضيم، وإذا كنا جميعا نعمل جهدنا وبكل وسيلة لننال حريتنا فمن العقل أن لا ننسى النتائج اللازمة عن هذه الحرية.
إننا في سعينا وجهادنا لا نعمل للحاضر وحده، ولكنا نعمل لكل الأجيال القادمة، نعمل لأزمان لا تدري أشكال الناس الذين سيكونون فيها ويكون أثرنا عليهم قويا بمقدار أثر من قبلنا علينا؛ إذن فلنكن أبعد نظرا من أن يحد الحاضر عيوننا فلا نرى إلا أنفسنا.
وكل يوم نكسبه للتشريع الذي نريد إدخاله على قانوننا يوم كبير النفع؛ لأن القوانين لا تنتج أثرها بمجرد إصدارها، بل هي تأخذ زمنا طويلا لتدخل في أخلاق الأمة وتمتزج بعادتها.
ولو أنا لنعطي المرأة حق طلاق نفسها بالشروط المذكورة في المواد؛ أي على أن تخبر به زوجها وهي تريده وتنويه، لوفرنا على الزوج أن يكون في موقف قد لا يرضاه أحيانا، كما أنا نكون أعطينا المرأة قوة كافية تحارب كل فساد يأتي على العائلة من جهة زوجها، أو يريد أن يأتي عليها نتيجة ما عندها من الضعف الطبيعي المركب في النفس الإنسانية، كما أنا نحميها كذلك من شقاء كبير معلق على رأسها تتوقعه كل آن وحين، ونضمن للرابطة التي بين الزوجين أن تبقى الرابطة الحرة الشريفة المبنية على اختيارهما.
إذا كان ملاك الأراضي في هذه الأيام يطبعون إيجاراتهم ويضعون فيها ألف قيد وشرط على المستأجر، وتنفذ هذه الشروط عليه متى أمضاها، فلم لا يحتوي عقد الزواج، وهو أهم ألف مرة من الإجارة، الشروط اللازمة مطبوعة عليه؟ وبكلمة أخرى: حيث إن ورقة العقد ورقة رسمية وهي الحكومة التي تطبع هذا العقد، لم لا يدخل حق الطلاق للمرأة في مواد القانون ولو في هاته المسائل المحدودة القليلة جدا التي ذكرنا.
ولا يجب أن ننسى أن فتح باب الحرية في هذه المسألة يسمح لعقد الزواج أن يسير سيره الطبيعي، ويعطي النتائج المطلوبة منه، وينتفي عنه هذا الشكل القبيح من أنه عقد استرقاق للمرأة يملك به الرجل كل شيء من أمرها، ويصرف بيده حياتها وحريتها.
جاء في قانوننا المدني أن إجارة الأشخاص مدة الحياة غير ممكنة، وتعليل ذلك أن فيه عودة للرق القديم، أليس عقد الزواج على ما عندنا أكثر من إجارة شخص، بل هو شراء شخص يبقى في حيازة الشاري ويرده له القانون بقوة البوليس إن نشز مهما أساء المالك معاملته ومهما اشترى إلى جانبه زوجات أخريات؟ فمن العدالة إذن أن ننفي ولو إلى حد محدود هذه الصفة الدنيئة عن هذا العقد الشريف، ونعطي للمرأة حق الطلاق متى ارتكب الرجل الجرم الفظيع المخيف جرم تعدد الزوجات.
4
نص ثالثة المواد التي نريد إدخالها إلى قانون الأحوال الشخصية هو:
لا يقع الطلاق إلا إذا كان المطلق يريده وينويه وأن يعلم الزوجان به.
وكل طلاق ينقصه أحد هذين الشرطين لا يقع.
قسم الفقهاء العقود إلى عقود يبطلها الهزل وعقود لا يبطلها، وهاته الأخيرة هي النكاح والطلاق والعتاق، فلو فرض أن فتاة خفيفة الروح جلست إلى جانب صديق لها أو ابن عمها يتقاصان الأحاديث ويضحكان، فقالت في ضحكها: (بدي أجوزك يا ابن عمي) وقبل هو، أصبحت زوجته وملك عليها كل ما يملك الرجل على امرأته، كذلك لو في هزل الرجل مع زوجته جرى على لسانه الطلاق طلقت زوجته أو أكره على ذلك وقع طلاقه، وكالطلاق العتق وهو ما لم يبق له أثر بعد زوال رق الأفراد؛ لذلك جاء في المادة (217) فقرة ثانية من قانون الأحوال الشخصية ما نصه: (ويقع طلاق كل زوج بالغ عاقل ولو كان ... مكرها أو هازلا.)
وأضاف الأستاذ الشيخ محمد زيد الأبياني في شرح هذه المادة قوله: (وكما يقع طلاق المكره عند أبي حنيفة يقع طلاق المخطئ والناسي فالمخطئ هو الذي يريد أن يتكلم بغير الطلاق فيجري على لسانه الطلاق، والنسيان لا يتصور إلا في فعل الشرط المعلق عليه الطلاق ... إلخ.)
وفي كل هذه الأحوال يقع الطلاق بلا نية.
لما أسند الفقهاء الطلاق للرجل دون المرأة عللوا ذلك تعليلات شتى أكثرها تداولا أن النساء يجزعن غالبا فيتأثرون بأقل مؤثر فيقدمن على الطلاق كثيرا، ولما كان مبنى عقد الزواج الاستمرار طول الحياة أو أكبر زمن ممكن، جعل سبب التخلص منه بيد الرجل؛ لأنه أقدر على نفسه وأكثر كبحا لجماحها، ولا يندفع بالسرعة التي تندفع بها المرأة.
كل هذا كلام حسن ونتائج مبنية على أسباب ما داموا يعتقدونها صحيحة فالنتيجة قوية جدا، ولكن أليس يعد مناقضة نفسهم بنفسهم أن يأتوا بعد ذلك فيقولون يقع الطلاق ولو لم ينوه الرجل أو لو أكره عليه، يقع مادامت تجري حروفه على لسانه، وكان في شخصه قديرا على إيقاع الطلاق، ما أظن أحدا ينكر ذلك مهما أراد الانتصار للمذهب القائم اليوم.
والذي أعتقده أن الذين قالوا الكلام الأول وعللوا ذلك التعليل المعقول، هم غير الذين أصدروا الحكم الثاني، وقليل من البحث يكشف الغطاء عن هذه الحقيقة، ويبدر إلى ذهني أن القائلين بوقوع طلاق المكره والسكران ومن لم ينو الطلاق هم جماعة من يعتقدون أن المرأة لا روح لها وبالتالي فلا قيمة لها، ومن لا روح له ولا قيمة له بقاؤه وعدمه سيان، خصوصا وأن الرجل يستطيع أن يضم إلى بيته من النسوة أربعا ومن الموالي ما شاء.
هل بقي من أحد يقول بهذا الرأي اليوم ويعد نفسه إنسانا عاقلا؟ هل في بلادنا من يرى هذا الرأي فيظهره لنا ويجهر به ويقيم على قوله أدلته؟ أحسب الناس أصبحوا أعقل بكثير من هذا، والزمان الذي يبين كل يوم عن جديد كشف عن أن المرأة إنسان مثل الرجل تحس وتتألم وتفكر وتعيش.
من أجل أن يتم الإنسان أصغر الأعمال قيمة نراه يطيل التفكير والتقدير، ويستشير معارفه وذوي الخبرة فيما يريد عمله، وينتظر اليوم وغدا وإلى شهر حتى يقلب الموضوع في رأسه على مختلف وجوهه، ويقدم ويحجم ويكاد يكون انتهى من كل شيء، ثم إذا هو أعاد الكرة وبحث من جديد، فإذا ما وثق من عمله أتمه بكل تحرز وتحفظ، وإن تعلق هذا العمل بغيره دارت بينهما مكاتبات ومناقشات وجرى بينهما رسل ومتكلمون، أفنجعل نحن الطلاق مستهانا بأمره بحيث يقع لشيء وللا شيء، وسواء فكر الرجل فيه أو لم يفكر وأراده أو لم يرده وعلمت به زوجته أو لم تعلم نجعله ألعوبة وأضحوكة.
يقال إن العرب قبل الإسلام كانوا إذا أرادوا الطلاق أدارت المرأة وجهة بيتها فجعلت الباب بدل أن يكون شرقيا غربيا مثلا (وهذا سهل بالطبع في بيوت الشعر) فمتى رجع الرجل ورأى ذلك علم أن قد انتهت العلاقة بينه وبين زوجته، وما أحسبها كان تأخذ هذا العناء قبل أن تفكر في الأمر وتصمم عليه، وإذا اتفق أن ساقها طيشها إلى البدء فيه فإنها في أثناء العمل تتروى في المسألة وترجع إلى صوابها، وإن أحوج الأمر ردت البيت إلى أصله، والتشريع في كل الدنيا يسير إلى الإمام لا إلى الوراء ويزيد في حرية الناس ولا ينقص منها.
وليت التشريع الذي عندنا وقف عند الحد الذي ذكرنا، بل إن فيه سوى هذا مضحكات مبكيات فيما يختص بالطلاق والزواج، يقف عليها من كلف نفسه عناء مراجعة أي كتاب من كتب الفقه ولو أصغرها حجما، أو ما كتبه أقلام مفكرين اضطروا بحكم الوسط والحال التي وجدوا أنفسهم فيها لتسطير أشياء لو أنهم جلسوا بعيدا عن بلدهم وعن التفكير العام فيها لخجلوا من تسطيرها.
وإني موقن أن ليس في بلدنا مفكر إلا هو آس آسف على كثير مما في قوانيننا، كما لا أحسب أحدا يظن مجرد ظن في الدفاع عن فكرة وقوع الطلاق من غير نية، وأن أعمالنا اليومية من أكبرها إلى أصغرها لدرس غير صغير يعلمنا أنما الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى.
بل الذي أعتقده أن كثيرين عندنا ممن خصصوا أنفسهم لدرس شيء غير القانون لا يعرفون أن الطلاق يقع بلا نية، وكيف يدور ذلك بخلدهم وأن القانون إلا تقرير ما يفهمه العقل، وتوحي به المنفعة وكل قانون لم يتوفر فيه هذان الشرطان قانون فاسد، وإنهم ليدهشون متى علموا ذلك، ويزيد دهشتهم إذا رأوا أن من الناس من لا يزال يجول بخاطره أن يدافع عن أمر غير معقول.
هذا الشيء الخطير - الطلاق - يكاد يكون الشيء الوحيد الذي ينفذ على الإنسان ولو لم ينوه، ولو قاله مخطئا أو ناسيا، وما سواه يستلزم النية، أشياء كثيرة جدا في قانون العقوبات متى فقدت شرط النية سقط العقاب عن مرتكبها، فإذا فرضنا فرضا غير معقول من أن الطلاق عقوبة نصبها على رأس الرجل، فما أصل جريمته التي تعاقبه من أجلها؟ ثم أي شيء يوجب اشتراك المرأة فيها حتى تقع هي الأخرى تحت طائلة العقاب؟ والأبناء - إن كان ثمت أبناء - ما ذنبهم؟
قلبت ما استطعت أمام نظري علي أجد مبررا لوقوع الطلاق من غير نية، فرجعت من تعبي بخفي حنين، رجعت خجلا أن نبقى السنين الطوال - إن لم يكن القرون - تحت حكم قانون غير معقول ونحن به راضون ولأحكامه خاضعون، وعدنا من الشراح من يعلق عليه الشروح الطوال وينتحل لبقائه أعذارا هو أعلم مني أنها واهية، رجعت وقد علمت أن لا سبيل لإصلاح خطأ الماضي إلا القضاء عليه وإصدار تشريع جديد يسير مع روح الشرع ويقبله العقل.
5
يجوز للزوج شرعا أن يؤدب زوجته، فإذا أحوج الأمر أن يضربها أبيح له ذلك على أن يكون الضرب خفيفا، فإذا ما اشتد الخصام بينهما أو رفع الأمر إلى الحاكم فله أن يعين عدلين ويجعلهما حكمين، والأولى أن يكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها ليستمعا شكواهما وينظرا بينهما ويسعيا في إصلاح أمرهما، أما إذا اشتكت المرأة نشوز زوجها وضربه إياها ضربا فاحشا ولو بحق وثبت عليه ذلك بالبينة يعذر (راجع المواد 209 و210 و211 من قانون الأحوال الشخصية).
هذا هو الشرع على ما فسره فقهاؤنا، أي أن ليس للمرأة على الرجل من شيء فيما يختص بمعاملته إياها إلا أن لا يضربها ضربا فاحشا، وتقدير فحش الضرب بالطبع يختلف على حسب القضاة، فمنهم من يعتبره كذلك لمجرد ظهور أثر الكرباج على جسمها، وآخرون لا يقتنعون إلا إذا كان من نتيجته كسر ذراعها أو ساقها أو أحد أعضائها، وفيما سوى هذا فلا حق لها في الشكوى.
يحكون عندنا حكاية تفسر ذلك الرأي تفسيرا ظاهرا؛ ذلك أن امرأة اشتكت زوجها للقاضي مدعية عليه سوء معاملتها، فلما سئل الزوج عن ذلك أجاب: اسألها يا سيدنا القاضي: هي جعانة؟
أجابت المرأة: لأ. - والهدوم اللي هي لابساها: مين شاريها؟ - جوزي. - الولد اللي في بطنها من مين؟ - من جوزي. كان ذلك جواب المرأة في حياء. - اسألها يا سيدنا القاضي عايزة إيه لسه؟
فاقتنع القاضى بأن المرأة لا حق لها في شيء وطردها من مجلسه.
هذا مبلغ ما تفسره به العلاقات الزوجية عندنا، والزوجة مهما كانت رقيقة حساسة كان زوجها شرس الطبع قبيح الخلق ثقيل الدم، مهما عاملها أقبح المعاملة فهي لا تجد ما يدفع عنها شراسة طبعه ولا ما يحميها من رذائله، وبمقدار ما أهملها القانون وتشكلت طبعا بشكله العادات فساعدته أن يضيف إلى هذه الأخلاق من الزوج قوة، وبالزمان تتحول نفس المرأة من نفس صافية بكر لم تلطخ بسوء إلى نفس شريرة دنيئة خبيثة، وبعد ذلك نقول: النساء شياطين.
قص علي بعض من أعرف الحادثة الآتية قال: كنت في بيت مأذون البلد وعنده رجل وامرأته يريد أن يصلح بينهما ويرضي الزوج عنها أو أن يطلقها، فلم يكد يذكر لفظ الطلاق حتى بدت على البنت علائم التأثر، وانهالت الدمعة من عينها ومانعت في ذلك جهدها، وكلما استنكر المأذون سلوكها وسألها إن لم تكن كارهة زوجها حلفت أنها لا تكرهه وكل مناها رضاه عنها، ولكن الزوج العنيد لا يريد أن يرضى ولا يريد أن يطلق، وأخيرا ساعدت المأذون عليه حتى قبل أن يطلق بشرط أن تعطيه خمسا وثلاثين مجرا عدد ما على برقعها، واشتد المأذون مع الصبية حتى قبلت أن تأتي بها، وغابت ثم رجعت ومعها الذهب، فنقدناه فإذا أكثر من نصفه ذهب كذاب، فلما أعلمناها الخبر ارتعدت مستغربة كيف يكون ذلك! وأخيرا جاءت بها ثلاثا وعشرين مجرا صادقة ووقع الطلاق، وكتب المأذون ورقته وختمها الزوج، فما علمت أن أخذتها بيدها حتى إذا الدار ترن بزغروتة طويلة، وإذاها تميل على يدي ويد المأذون تقبلها ثم خرجت مستبشرة ضاحكة كأن قد حصلت على أكبر أمانيها، ثم أضاف إلى ذلك ملحوظته: فانظر صاحبي مكر النسوان وخبثهن، ولتعلم أن من تحت رؤوسهن تأتي كل الدواهي.
رواية مرتبة قامت الزوجة فيها بتمثيل فصلها أحسن قيام، حقيقة أنها خبيثة ماكرة وعرفت كيف تصل إلى أن تطلق من زوجها، ولكن الذي علمها ذلك المكر كله ليس أنها امرأة ولكن أنها مستضعفة أمام القانون والعادة، مهضومة الحق يداس كل ما يخصها بالأقدام.
يوصف اليهود في نواح كثيرة من الأرض بالخبث والدهاء، ليس ذلك لأن خلقهم مركب فيه الدهاء، وإن هم إلا ناس من دم ولحم ويأكلون ويشربون، ولكن الضغط عليهم وتحميلهم الأذى والضيم والميل ضدهم يضطرهم للتهاون في حقهم، ثم يرسل إلى نفوسهم الخديعة والختل والمكر؛ ذلك شأن كل المستضعفين في العالم، وذلك الحكم يحكم به كل الأقوياء.
القضية العامة المسلم بها من الأكثرين أن المرأة ضعيفة، ولا نستطيع مع الأسف أن نطبق عليها قانون بقاء الأقوى؛ لأنا في حاجة مطلقة لها، فإذا كانت ضعيفة يكون من المعقول أن يأتي القانون لمساعدتها وتقوية عضدها، ويكون لها منه ظهرا تستند إليه عند الحاجة، أو أن يزيدها على ضعفها ضعفا حتى يضطرها لأن تتحول من المخلوق الوديع الصافي إلى المرأة الخبيثة الماكرة.
يضرب الرجل زوجته تأديبا لها إن أذنبت، ومن ذا الذي يؤدب الرجل في عظيم خطئه وكبير اعتدائه كل يوم وكل ساعة؟ ليس من العدل أن يترك هكذا مطلقا يعمل ما يريد ولا يجد من يرده عند حده، وليس من الإنسانية ولا من الرحمة أن تترك المرأة الضعيفة من غير سلاح تدافع به عن نفسها.
إنا لا نريد لها أن تعتدي عليه يوما ما، هي أودع من أن تبلغ هذا الحد من الوحشية، ولكنا نريد لها درعا تحتمي فيه وتدفع به عن نفسها أن أحوج الموقف دفاعا وأن وجود درع لها ليكون من شأنه أن يرد الرجل إلى صوابه ويحفظ عليه غيظه أغلب الأحيان، فلا يغضب لكل شيء بل ومن غير ما شيء، ولا يضايقها بزوجة ثانية انتقاما منها، ولا هو يسيء معاملتها حتى يضطرها إن شاءت الخلاص أن تدفع له جزية فادحة.
وما نطالب بكثير ولا نقول اجعلوا لها من الحقوق مبلغ ما للرجل؛ فإنا نعتقد أن الرجال قوامون على النساء، ولكنا نريد أن تكون في مأمن من أن يتزوج بزوجة ثانية إلا إذا كان الموقف يقتضيه بأن تكون الزوجة لا تصلح لشيء أو أن تكون سيئة العشرة بحيث لا تحتمل، وفي كل حال أخرى تكون صلات الزوجية قد أصبحت معها غير ممكنة، وفي كل هذه الأحوال ليس من السهل تصور المرأة تطلق نفسها لأنها تعلم أنها تقضي بذلك على كل أمل لها في الحياة الهنية، أما أن نجبرها وهي زوجة صالحة قائمة بواجبها على البقاء مع رجل قلبه صادف عنها إلى غيرها طامع في مطامع صغيرة فذلك الظلم عين الظلم، وغير هذا من الأحوال التي ذكرنا في المواد المقترحة من أسباب طلاق المرأة نفسها فأحسبه من الوضوح بحيث لا يحتاج كلمة عنه، وكيف نجبر امرأة على بقائها مع زوج زان لنطالبها في الوقت عينه أن تكون عفيفة، أو مع زوج ارتكب ما يمس شرفها وكرامتها، اللهم إن طالبناها بذلك فإنا نكون من الظلم بحيث لا يحتملنا إنسان.
6
قيل إن امرأة كان لها صاحب تجلس إليه ويتقاصان الأحاديث، فأراد يوما أن يضحك منها فحكى لها أن السلطان أمر بأن الزوجة يمكنها أن تطلق زوجها، فما لبثت أن سمعت الخبر حتى قامت مسرعة وأخبرت به جماعة من صاحباتها، وما غربت شمس اليوم حتى قررن جميعا تطليق أزواجهن.
سمعت هذه الأحدوثة مرات من رجال ومن سيدات، ويريد كل من قصها البرهان على أن وضع الطلاق في يد المرأة يدعو إلى جعلها تسيء استعماله إلى حد فظيع، فلا يكون أقرب على لسانها من لفظه عند كل صغيرة أو كبيرة تحدث بينها وبين زوجها.
إذا صح هذا فهو لا يمس المشروع الذي نريد أن يكون في قانوننا بشيء، فإنا لم نعط المرأة الحرية في الطلاق إلى آخر درجاتها، كلا بل ولا إلى قليل منها، بل حددنا هذا الحق لها وحصرناه ووضعنا له الضمانات بحيث لا يكون ألعوبة في يد المرأة، وفي الوقت عينه يكون المؤدب الذي يتقي الرجل شره، على هذا فليس لأحد أن يجعل موضع مناقشة للمواد أن المرأة سريعة الغضب أو أنها خفيفة العقل، فإنا لم ندع لها أن تجعل من غضبها سببا في فساد.
هذا من جهة المواد في ذاتها، وأما من جهة تقرير الواقع فلست أرى من السهل الحكم في المسألة بحيث نعطي عنها حكما عاما، وأخيرا كالذي تفيدنا إياه هذه الأحدوثة، وكما يفتكر كثيرون فإنا لم نخبر المرأة بعد في هذا الموضوع، والنظريات كثيرا ما يبين الواقع فسادها إلى حد كبير، كما أن بعضهم يرى العكس من ذلك ويريد أن يكون الطلاق بمجرد إرادة أحد الزوجين في يد المرأة دون الرجل، قال ذلك الكاتب: «الطلاق بإرادة أحد الزوجين تريدون؟ إذن فليكن طلاق المرأة زوجها لا الرجل زوجه؛ إذ أن الطلاق بعض ما يسر به الرجل نفسه في حين أنه للمرأة دواء محزن مؤلم لا تلجأ إليه إلا للضرورة المطلقة» على أنه لا ضرورة للتمسك بشيء من هذا ما دام كل طلبنا ينحصر في نقطة محدودة وبسيطة وظاهرة.
يفكر آخرون ويظهر أن هؤلاء أكثر عددا من الأولين في إخراج الطلاق من يد كل من الرجل والمرأة ووضعه في يد القاضي، فإذا ما اختلفا تخاصما إليه في خلافهما، وله هو إذ ذاك الحكم ببقائهما أو بالتفريق بينهما بمقدار ما تثبت له الأدلة الموضوعة أمامه من كلا الطرفين، وحكمه ككل الأحكام نافذ عليهما.
هذا كلام قد يتفق مع ظاهر القانون، ومن الممكن جدا لأصحابه أن يقولوا إنه يضمن بقاء رابطة الزوجية، ويعطي للعائلة القوة اللازمة لحفظ كيانها؛ وبالتالي لحفظ كيان الأمة، وإن الطلاق يكون معه نادرا مما يجعل الصلة بين المرء وزوجه تصبح على ما يقصد منها شركة الحياة.
كل هذا حسن إذا صح ولكنا مع الأسف نراه غير صحيح ؛ فإنه أولا لا يتمشى بقليل ولا بكثير مع روح القانون؛ إذ القاعدة العامة حرية التعاقد وأن كل شخص مكلف بالقيام بما تعهد به، فإذا لم يقم به كان للقاضي أن يقدر مبلغ الضرر الذي ينتج عن هذا الامتناع في شكل غرامة مالية، وليس في طوقه أن يجبره على سوى هذا؛ وإذن فإعطاؤه حق إرغام المرأة على بقائها مع زوجها أو الرجل على بقائه من امرأته منافاة لروح القانون وللحرية الشخصية.
على هذا فإن ما يظهر على هذه الدعوى لأول نظرة من اتفاقها مع القانون غير صحيح، ولا وجه للاحتجاج بما عند أوروبا؛ فإنهم كما ذكرت قبلا منتقلون من أن عقد الزواج عقد فيه يد الله ولا يمكن حله، في حين أن عندنا حق الطلاق مطلق بيد الرجل يصرفه كما يشاء، وإما أن هذا الرأي يعطي للعائلة قوة فهو تزويق ينجلي لأقل تدقيق؛ إذ لو فرضنا تنفيذ قانون كهذا وحكم قاض ببقاء زوجة كارهة في عصمة زوجها كان ذلك مما يدعوها لإدخال أبناء في العائلة لا حق لهم أن يكونوا فيها، ويفسد بذلك أمرها وينقلب بنيانها وتضعف الروابط فيها بين الزوجين وبين الرجل والأولاد، ويصبح حالها مزريا يستحق الرحمة.
وإن الشكوى التي عمت أنحاء أوربا اليوم من فساد العائلة هي في الواقع نتيجة هذا الحجر على الحرية عندهم؛ فإن المرأة التي لا تجد وسيلة للخلاص من زوجها بالقانون وتسد في وجهها أبواب الفرج، تلجأ إلى حمى غيره حتى تستريح من عنائه، وما أدري إذا كان الحال على هذا عندنا غير أني أعرف أن كثيرات من طبقة العمال والأوساط في الريف يركن إلى شيء يشبهه، فتجد الواحدة منهن من اللذة في خيانة زوجها الذي تكره ما يحرضها على ارتكاب أشياء لم تكن ترضاها من قبل؛ وذلك لتحمله على تطليقها.
إذن فليس بصحيح أن هذا القانون المرجو الذي يسمح للقاضي بالتداخل في أمر الطلاق يكون سببا في احترام رابطة الزواج ولا في حفظ كيان العائلة، ولا في شيء من هذا، بل إنه يكون اعتداء على حرية مقدسة هي حرية الإحساس ، ويضطر كثيرين وكثيرات لإذاعة أشياء لا يودون إطلاع أحد عليها من أسرار العائلة، وهل من العدل أو الذوق أو من المعقول أن يجعل الإنسان يسرد الحوادث الدخيلة التي تغير من أجلها شعوره ليحكم فيها محكمون.
إذا كان هذا الرأي لا يسير مع القانون ولا يتفق مع المصلحة ولا ينصح به العقل، فأي سبب دعا أصحابه للقول به ومنهم عقلاء مفكرون ليس من السهل الحكم بأنهم قالوه جزافا؟ السبب بين واضح: أنهم رأوا كثرة الطلاق عندنا إلى حد مريع وقفوا إزاءه مبهوتين، وأرادوا في الوقت عينه أن يجدوا ما يداووا به الحال، وأول ما يطرأ بالبال أن يضع الإنسان في الطريق مانعا يقف في وجه الشر الذي يرونه، وكأنما يغيب عنه أن وضع المانع يضيف إلى قوة هذا الشر المحجوز، فيدفع بناره كل ما أمامه، ويسير بقوة أكثر من ذي قبل، في حين إن استطاع أن يجد له منفذا ينصرف منه هدأ ذلك من حدته رويدا رويدا حتى يزول، كذلك لنقوم نحن في وجه الطلاق بحزم وحكمة يلزم أن نضع مانعا في الطريق مسألة الإرادة والنية وعلم بالزواج الثاني، ثم نفتح منفذا بإعطاء المرأة حق الطلاق ولو في المسائل القليلة التي ذكرنا.
وإنه ليخيل لي أن هؤلاء المفكرين لم يرد ببالهم هذا الحل، ولو أنه ورد لما استعاضوا عنه بديلا ولا عدلوا به آخر يقص أطراف حرية نملكها اليوم ويجعلنا بدل أن نتقدم مع الزمان إلى أوسع نطاق ممكن من الحرية نتقهقر يوما بعد يوم، كما أنه يظهر لي كذلك أن الحال في أوربا بلاد المدنية أثر عليهم فقالوا: وما لنا لا نكون مثلهم فنبلغ مبلغهم وترقى العائلة عندنا رقيها عندهم! ولكن العادات والأخلاق والآداب في الأمم لا تجيء مسألة نقل عن آخرين، ولكنها نتيجة عمل أزمان وأجيال تنقلت فيها الأمة من حال لحال، وتدرجت من يوم إلى ما بعده، وتنمو فيها عادة وتستيقظ أخرى، ويقوم قانون ويلغى آخر مع دورة الزمان؛ لذلك من الخطأ الواضح أن تريد أمة إقامة بنيانها بمجموع أخلاق غيرها وقوانينهم وآدابهم؛ فإنها إن عملت ذلك فقدت شخصيتها ونسي أبناؤها أنهم أبناؤها؛ إذ لا يجدون قلوبهم ملأى باحترام ماضي أمتهم الطويل، وإن وجهوا أنظارهم لشيء وجهوها لمن أخذوا عنهم، فتموت فيها صفات الأمة وتسقط عنهم كل معانيها.
حسبنا ما أخذنا في الماضي عن أوربا إرضاء لأطماع ملوكنا وحكامنا؛ فإنا لا نزال ننوء بأحماله إلى اليوم، ولنجعل مستقبلنا دائما نتيجة من نتائج الماضي تنقلها الأيام وتضيف لها قليلا قليلا من أجزاء الحرية التي نفقد، وإنا بعد ذلك على يقين من أن الغاية التي نصل لها تكون أرسخ قدما ألف مرة مما لو كنا لنستمر في التقليد البحت كما أنها تكون أقرب منالا.
7
من الأشياء التي تشغل فكر كل باحث في شأن العلائق بين الرجل والمرأة مسألة العائلة، فهي دائما الغاية التي ترمي بفكره وأكبر آماله أن يصل من بحثه إلى جعلها متماسكة وسعيدة؛ ذلك لأن العائلة هي الأمة المصغرة، فإذا ما سعدت هي وتماسكت كان ذلك سعد الأمة وتماسكها، هي كذلك موضع فزع أنصار الحاضر المتخوفين من كل تغيير المعتقدين أن كل خطوة إلى الأمام دخول إلى عالم الشرور، وهؤلاء يخيل لهم أن الموجود مهما كان به من فساد وعوج خير من غير الموجود ولو تحقق عنه النفع والخير.
لا حاجة لي أن أذكر هنا فساد هذا المبدأ، فلو تحقق يوما ما لكان الضربة القاضية على العالم، ولو عمل به جديا لكنا اليوم لا نزال في عهد آدم وحواء، هذا رغما عن أنه من المحال أن يعمل به إذ ما دام للناس في رؤوسهم عقول يفقهون بها وأعين يبصرون بها فهم دائما سائرون أرادوا ذلك السير أو أبوه.
مسألة العائلة مسألة كبيرة عويصة الحل، ومن أجل أن نصل إلى إسعادها يجب أن نضع أمامنا فروضا كثيرة لنرى أيها يصل بنا إلى ما نشاء، وكما هو الحال في كل أمور العالم يلزم أن نطلب دائما ما هو أحسن من الحاضر، ونوجه كل سعينا هذه الوجهة غير متخوفين ولا مزعزعي العقيدة في ما نعمل أو الثقة بأنفسنا، يجب أن نطلب ذلك مهما كان الحاضر حسنا؛ فإن الكمال لم تطأ قدمه أرضنا بعد، وكل عمل الإنسانية إنما هو السعي نحو الكمال.
فرضت أمامي أشكالا من العائلة متعددة فلم يكن ما عندنا اليوم بخيرها، كلا بل ولا هو بالحسن منها، وما بالك بعلاقة منغصة العرى ورابطة مفصومة، وأفراد كل يحس من ناحيته غير التي يحس منها صاحبه، ويفهم بشكل غير الذي يفهم به الآخر، ويعيش بعيدا عنه أغلب الأحيان، ويهتم بأمور لا تعني الثاني ولا يعلق عليها شيئا من الأهمية، فإذا ما جمعتهم الصدفة أو الحاجة رأيت مجموعا مفكك الأجزاء يحكم عليه أغلب الأحيان سكوت أخرس، وإذا ما تكلموا ظهر على كلامهم من أثر التكلف، وينادي كل منهم صاحبه إما بألقاب التفخيم والتبجيل والإجلال أو الإصغار والاستهانة، ما بالك بقوم ينحصر كل ما بينهم من الصلة في إنتاج الأبناء.
ولقد وجد من يهتمون بزيادة الأمة ضعفا عن ذلك المكان ما يبلغون به غرضهم، فزادوا الهوة بين المتفرقين سعة وخرجوا الابن على غير شكل آبائه، وأعطوه من التعليم ما لا يبقي له سبيلا لمشاركتهم في الإحساس، ولما كنا لا نهتم بشأن الرابطة بيننا وبين أبنائنا وأزواجنا بما نفثه هذا الشكل من الحياة في قلوبنا، لم نشعر بعملهم ورحنا نتخبط في البحث عن أذاهم وننسب لهم أشياء كثيرة صغيرة في حين نسينا هذا الداء الكبير.
أصل هذا الضعف في البناء العائلى عندنا يرجع إلى أسباب متعددة، من أقواها ما نعاني اليوم من تعدد الزوجات والطلاق، وما أحسب إنسانا يتردد مطلقا في القول بأن وجود زوجتين لرجل واحد كلاهما أم تحب أبناءها يخلق بين الأبناء وآبائهم أو بين الإخوة فيما بينهم من خير مطلقا، وإني أؤكد للقارئ أني أعرف أشخاصا هم أكبر إخوانهم أعطتهم الصدفة من الحظ أن وجدوا بعيدا عن عائلاتهم هم ومن أصغر منهم، وأوحى لهم عقلهم أن يجاهدوا ما استطاعوا لمحو كل ما من شأنه أن يعد فرقا بين إخوتهم الأشقاء وبين الآخرين، وعملوا لذلك كثيرا، ومع ذلك وبعد أن حسبوا أنهم أفلحوا إذا حوادث صغيرة أثارت خلافا ظهر لهم من خلاله مبلغ خطئهم، وأنه لا تزال الفروق توجد، ويعد الصغير أحد أخوته أحب إليه لا لشيء آخر إلا لأنه أخوه شقيقه.
هذه نتيجة مؤلمة ولكنها الواقع، وأكثر منها إيلاما ما أعرف كذلك عن كثيرين شكوا إلي مر الشكوى مما تثيره زوج أبيهم بينهم وبين هذا الأب من الخلاف حتى لتحمله أحيانا على إرسالهم على وجههم يبتغون رزقهم من غير ما رحمة ولا حنان.
وأشد إيلاما وأوقع في النفس حال أبناء المطلقة، يا لشقائهم! لا يجدون في الشتاء القارس مبيتا عند أحد، والزوجة الجديدة أو الزوجات الأخريات مع أبنائهن في الكن والدفء، يسير ابن المطلقة البائس وسط صحن الدار يقرسه البرد، حتى إذا ما كده الألم غلبه النوم فيلجأ إلى جانب من جوانب الدار يتخذ مخدة تحت رأسه عتبة قاعة من القاعات أو قالبا من الطوب، أو يلجأون إلى غرفة الخدم، هذا في الأرياف وما أدري ما شأن البائس المشرد تحت سماء القاهرة.
وليس أحسن حظا من ابن المطلقة الباقي مع أبيه ابن المرأة المكروهة من زوجها التي تثير في نفسه لكل مقابلة لها معه من القسوة والحقد ما يجعله الأسد الضاري المفترس.
يجب من أجل سعادة العائلة أن يكون بين الرجل وزوجته شيء من الحب، أو على الأقل شبه الحب، وهل يتيسر ذلك مع تعدد الزوجات، كذلك لا بد أن يشعر الابن في أعماق نفسه بالصلة الكبيرة بينه وبين آبائه، يجب أن يحس أن هناك بينهم شيء آخر سوى أنهم ينفقون عليه ويقدمون له أسباب معيشته، إن هناك رابطة قوية بين أبويه وإخوته وبنيه، وإن هؤلاء الذين يعيشون معه تحت سماء واحدة أيام صغره ليسوا أفرادا أوجدتهم الصدفة، فهم كغيرهم بالنسبة له، ولا هم مضايقات أرسلت بها الطبيعة لتفسد عليه حياته، ولكنهم أهله الذين يحبونه ويسرون معه ويتألمون لألمه، وهل ذلك ممكن مع حالنا التي وصفنا؟
إذا كانت السعادة غير ممكنة مع هذه الحال فأي لذة ترانا نجد في بقائها، أو أي قوة ترغمنا على هذا البقاء؟ لم نتمسك بها ولا نبحث عما هو خير منها؟ هل ذلك تعلق منا بالحاضر؟
يقول أقوام: بالله لقد جربت علينا أشياء كثيرة في مسائل الحكومة والإدارة ولم تنجح فلنقنع بما عندنا فيها وفي غيرها. ويقول آخرون: إن المساواة بين الرجل والمرأة لم تجرب بعد في أمة من الأمم فلا نجربها نحن. ويتبع هؤلاء من يقول: كذلك كل شيء لم يجرب عند غيرنا أحرى بنا أن ننتظر فيه الغير. وعار على الأمة كل ما يقولون، هل قضي علينا قضاء أخيرا أن نكون أذنابا لكل الأمم؟ أم نحن من قصر النظر وضعف النفس بحيث لا نستطيع سوى تقليد غيرنا.
أكرر أن لنا ماضيا يجب أن نحتفظ به ونبني عليه حتى يكون سيرنا أكيدا ومعقولا، وأن نستمر في البناء مقدمين غير متهيبين؛ فإن الأمم مجموع أجيال على قرون من الزمان عديدة، ونسيان الحاضر الماضي جريا وراء أقوام غيرنا قتل لقوى وملكات، وفصم للسلسلة المتتابعة بين الأجيال، كما أن الرضى بالحاضر والتماوت عليه وقوف في حين يمشي العالم وجمود غير مغتفر، فإذا صدق ما نطلب من التقدم وإذا كنا ككل الناس مدفوعين بطبيعتنا للسير إلى الأمام فلنسر من غير ما تخوف ولا وجل.
وإذا كنا نسارع إلى إصلاح الممكن إصلاحه فها هي العائلة تئن وتضج، ومظهرها وحده يستدعي الرحمة فلنسارع لإصلاحها، وإصلاحها إن لم يكن بالأمر السهل فما هو كذلك بمستحيل.
8
مصاب العائلة نتيجة من نتائج التشريع الحاضر وما تركه من الأثر في النفوس بالزمان الطويل، واعتقاد الناس أن هذا التشريع قضاء من الله نازل بهم، فواجبهم أن يشكلوا أنفسهم بشكله حتى يقدروا على احتماله، ومع أن هذا الاعتقاد غير صحيح؛ إذ القوانين التي تحكمنا اليوم هي قضاء أبي حنيفة وأصحابه ومن تبعه وأحكام الولاة وذوي السلطة، فقد بقي راسخا في نفس الكثيرين، ولا يزال من الناس من يؤمن بأن تغييره تغيير لما أنزل الله، وإن تغييره إلا تغيير ما قال أبو حنيفة أو أحد أصحابه ممن عاصره أو جاء من بعده.
أما التشريع الذي نقترح وضعه فمع تمشيه مع أصول الشريعة ومع موافقته لأقوال جماعة من الفقهاء، فهو رغما عن أنه خطوة ضيقة جدا في طريق سيرنا يفتح لنا بابا نسير منه بالفرد وبالعائلة إلى السعادة التي ننشدها، ويقف حائلا دون أضرار شتى وفساد كبير مما هو ناتج عن التشريع الحاضر، كما أن له فضيلة أنه نتيجة قريبة عن هذا التشريع الحاضر، ماذا عملنا نحن؟ شيئا بسيطا جدا، حددنا وقوع الطلاق بالحد المعقول من النية والإرادة وعلم الشخص الثاني به، وكل تلك الحدود توجد في العقود كلها وفي التصرفات من أي نوع كانت؛ فإنه إن فرضنا وتم عقد بيع مثلا، ثم أراد المتعاقدان فسخه أو الرجوع فيه، لم يصح رجوع من أيهما إلا إذا نواه وأخبر به الآخر، وغاية ما في الأمر أن لم نجعل رضى أيهما هنا واجبا؛ لأن هذا الرجوع يتعلق بالحرية الشخصية، وكل ما تعلق بها لا يكون فيه إلزام أو جبر، إلا أن يحكم القاضي بالتعويض على الراجع، وأقرب العقود شبها بعقد الزواج ويعطينا معنى منه كاملا عقد إجارة الأشخاص وكل العقود الشخصية، فلو حصل واتفقت مع آخر أن يبني بيتا ثم امتنع، لم يكن في طوق أحد ولا القاضي ولا غيره أن يجبره عليه، وإنما ينفذ على ماله التعويض الذي يحكم لي به.
وأعطينا المرأة حق طلاق نفسها في أحوال شتى، لم تتقدم بكثير عن القانون الموجود اليوم، إنه يسمح لها أن تشترط لنفسها حق الطلاق في العقد، فنقلنا نحن أحوالا محددة وجعلناها بدل أن نشترطها في العقد تكون لها من غير شرط؛ على هذا فعملنا الذي نريد اليوم ليس هدم الحاضر ولكن تعديله تعديلا بسيطا.
مع بساطة هذا التعديل فإنه سيفتح لنا بابا تسير منه العائلة للسعادة؛ ذلك أن يخرج الزوجية من أن تكون الحياة المملوءة بالأنانية، والكبرياء من جهة الرجل والتذلل والخضوع من جهة المرأة إلى حياة يخالطها شيء من الحب المتبادل والشرف والمساواة إلى حد ما، ويرفع بذلك حتما من نفوس الجميع إلى شيء من العزة، ويعطيها من الحرية ما تعرف معه كيف تطعم العيش السعيد.
محال أن يكون لحياة العائلة قيمة ما دامت المرأة تحس من جانبها بالضعف المطلق؛ لأنها تصرف وقتها إذ ذاك لا في تربية أبنائها تربية حسنة حرة ولا في تنظيم بيتها تنظيما اقتصاديا وجميلا معا، ولا في العمل لعزاء زوجها عما قد يصيبه، ولكنها تصرفه في الجهاد للوصول إلى الطريق التي تملك منها على الرجل كل وجوده، ويكون لها عليه من السلطة مقدار ما له عليها، وتصبح الحياة المتبادلة بينهما لا حياة هناء مشترك يتذوقان لذتها معا مسرورين بوجودها، ولكن حياة جهاد من جانب المرأة أن تجمع في يدها قوة تعدل ما وضع القانون في يد الرجل وحياة، تخبط من جهة الرجل في أمر زوجه وحياة شر وفساد من جانبهما معا.
لكن إذا حققنا لهما شيئا من المساواة مهما كانت جزئية، وجعلنا الزوج يشعر بوجوب احترام زوجته، وجعلناها تشعر هي من جانبها أنها عزيزة الجانب؛ لم يبق هناك من حاجة لما ترمي به اليوم، وبحق أغلب الأحيان، من المكر بزوجها وقياده إلى حيث تريد هي بطرق شيطانية لا يعرفها هو ولا يعرفها أمثاله، ولكنما يقف على دقاقها من عليه من الضغط الشديد مبلغ ما هو واقع على رأس المرأة.
والواقع أنه كلما تساوت حقوقهما أمام القانون كلما كانا أقرب للسعادة، ولكنا لا نطلب ذلك اليوم، لا نطلب للمرأة أن تطلق الرجل متى شاءت لأن الاجتماع الحاضر عندنا لا يساعد عليه ولا ينصح به، وليته كان ممكنا فكنا طلبناه ولكنه غير ممكن.
يقول أقوام إن هذه المساواة غير معقولة مطلقا؛ لأن طبيعة المرأة غير طبيعته، وإن بينها وبينه من الفروق في الوظائف الاجتماعية ما يجعلنا نجزم بوجوب التفريق، وأن نزيد في حقوقه على حقوقها، ولا أناقش مطلقا في أن بين الجنسين فرقا، ولكني أقول إنه مهما يكن الفرق فلا يدعو للتفرقة بينهما في التشريع ... هل نفرق نحن بين الغني والفقير أو بين القوي والضعيف أو بين العامل والكسلان أو بين العالم والجاهل، أو أنا نقول إن الناس جميعا متساوون أمام القانون، وتخالفهم في الطبقات والدرجات والأشكال لا يبرر مطلقا إيجاد تفاوت بينهم من الوجهة القانونية.
أو أنه يخلق فروقا؛ لأن الطبيعة وضعت الرجل في مركز غير الذي وضعت فيه المرأة؟ ما أشبهه إذ ذاك بالرومان والأقدمين ممن كانوا يحكمون العامة بقوانين غير التي تحكم الخاصة، وإذا كان اليوم الذي تساوى فيه جميع الرجال جاء قبل اليوم الذي يتساوى فيه جميع الناس؛ فليس ذلك لأن هذا اليوم الثاني غير آت، ولكن لأن اليوم الأول وجد أنصارا قبله.
كل ذلك نقوله مع اعتقادنا أن الزمان الآتي هو الذي سيحققه، وأما طلبنا اليوم فهو محصور في المواد التي قدمنا ذكرها والتي نظن أنها أقوى الضمانات في الحاضر لسعادة الفرد والعائلة، وبالتالي لسعادة المجموع.
الفصل الرابع
الاقتصاد السياسي وقواعد الأخلاق
لما جاء عصر الإصلاح وبدأ عهد التفكير الحر في أوروبا، وأصبح لمن سوى رجال الكهنوت حق النظر والبحث في الأمور، قام عدد كبير من العلماء يضعون قواعد العلوم المختلفة وفروع تلك العلوم، فانقطع جماعة للفلسفة النظرية، وألف آخرون في مسائل الأخلاق، وكتب غيرهم في السياسة، ووضع جماعة القواعد لعلم الاقتصاد السياسي، ومع تقارب هذه العلوم واتصالها فقد أطلق كل كاتب لنفسه العنان في السبيل الذي اختط طريقه غير مهتم بما يقال في العلوم الأخرى، ولا يتعارض نظرياتها مع النظريات التي يضعها هو في علمه أو فنه، وأصبح كل منهم معتمدا على دقته في المنطق الاعتماد كله، مؤمنا بالنتائج التي يصل إليها، معتبرا إياها القواعد والقوانين التي لا سبيل لنقضها والتي تعبر عن حقيقة الواقع في الحياة، فإذا اعترضت سبيله بنظرية أخرى في علم غير الذي يبحثه قال لك إن الوجود العام لا يستحيل معه التناقض، بل هو بعض مشتملاته، وإنه لذلك لا يعبأ باعتراضك، ويطلب منك إذا أردت مناقشته أن تأخذ نظريته كلها بناء واحدا، فإذا وجدت فيما بين أجزائها تناقضا كان لك أن تؤاخذه به، وكان ذلك الشأن يتبع أيضا فيما بين علماء الاقتصاد السياسي وعلماء الأخلاق، فالأولون يقولون إن نظريات علمهم ترمي لغرض خاص هو استفادة الإنسان بالحظ الأكبر من المال، أو بعبارتهم الخاصة أن علمهم هو العلم الذي يستظهر القوانين التي تضبط حاجات الإنسان في علاقاته بالمادة المقومة التي هي المال، وسواء لديهم أكانت هذه القوانين متفقة مع قواعد الخلق أو متعارضة معها؛ فإنهم لا يحجمون عن تقريرها، والعالم الأخلاقي بعد ذلك وشأنه في علمه الخاص ببيان أكمل الروابط التي تضمن بقاء الاجتماع الإنساني سعيدا بالخير والحق، وكان ذلك الشأن أيضا شأن علماء الأخلاق الذين كانوا يهتمون ببحث الصورة الأخلاقية الكاملة للإنسانية، ولو أدى وجودها على هذه الصورة لأن تكون مفلسة اقتصاديا تمام الإفلاس.
وقد وجه الاقتصاديون الأولون أكبر همهم إلى إقامة البناء الاقتصادي على أساس من فكرة المصلحة الذاتية التي يجب تركها وشأنها، تتكون وتنمو وتنتج كل ثمرها من غير أن يقف في وجهها مانع من قانون أو عائق من أي نوع كان، فتحكم المصلحة الذاتية في الأعمال والعلاقات الإنسانية هو، عند آدم سمث ومن تقدمه ومن سار على سنته، الضمان الوحيد لوصول الأفراد والأمم إلى الأوج من الحياة الاقتصادية، وكل شيء يقف في وجه هذه المصلحة الذاتية وحركتها لا يمكن أن يكون خيرا اقتصاديا، ولو استطاعت الجماعات والأمم أن تصل لتلغي كل القوانين وتعيش مضمونة السلم من غير حكومة، لكان إلغاء القوانين وانهيار الحكومات أكبر تقدم اقتصادي في نظر الفرديين يمكن للإنسانية تحقيقه.
ولا يحسبن أحد أن في تحكيم المصلحة الذاتية للأفراد ما يضر بحال الجماعة الاقتصادية؛ لأن المصالح الفردية تتقابل آخر الأمر وتكون مصلحة الأمة، وما دام الفرديون قد جعلوا المصلحة الذاتية أساسا فهم بذلك قد حرضوا كل فرد على أن يعمل أكثر ما يمكن، وبذلك تجني الجماعة أكبر مجموع ممكن من الجهود.
لكن تحكيم المصلحة الفردية يضعف الحال الأخلاقية حيث يجعل المبدأ السائد مبدأ تبرير الغاية للواسطة، وما دمتم يا سادتنا الفرديين تريدون تحديد القانون والحكومة وجعلهما مجرد شرطة لمنع الاعتداء الظاهر؛ فإنكم ستجعلون الغلبة في الحياة للماكرين والمخادعين والسفلة والمنافقين، كما أن ما يترتب على نظريتكم من مناصرة الملكية الفردية إلى أقصى الحدود سيحقق ظلم طائفة الملاك والرأسماليين لطائفة العمال والمفكرين ظلما فادحا، وستدسون بذلك في الروح العامة معنى الانقسام والنضال بدل تحقيق فكرة التعاون والتضامن، وستجنون بذلك على الإنسانية وأنتم لا تشعرون.
قال الانفراديون أول ما وجهت لهم هذه الاعتراضات: ما تلك إلا أوهام أخلاقي ينظر للنجوم ولا يقدر للقوانين الطبيعية حسابها، إنا يا سيدي الأخلاقي علماء نستنبط قوانين الطبيعة ونطبقها، ولا يهمنا ما تقول لأنه ليس من شأننا، وهذه القوانين تدلنا على أن المصلحة الذاتية هي الدافع الأول والأخير للعمل في الحياة، وكل منا مسوق للتقاعس فلا ينفق إلا أقل مجهود تستلزمه أحوال المعيشة، وما لم يكن هناك دافع داخلي يحرض على العمل هو دافع المنافسة قلت المجهودات التي تنفق وتدهورت أحوال الأمة الاقتصادية، وكل مداخلة خارجية يمكنها أن تحدد المجهود الفردي هي لذلك ضرر يجب استئصاله ومقاومته.
وما دمنا قد سلمنا بهذا الأساس فيجب أن نرتب عليه جميع نتائجه: الملكية الخاصة، وربح رأس المال، وإيجار الأرض، وكذلك أجرة العامل، وحرية التعاقد الفردي بشأن ذلك كله، والميراث عند عدم الوصية.
المال
كل ما في الوجود من تعس وشقوة، وكل ما يرتكب من جرائم وفظائع، وكل ما تتلوث به النفوس من رذائل ودناءات سببه المال، ليس ذلك لأن المال شر لذاته، لكنه وسيلة الخير والشر معا، فلما اختص به قوم دون آخرين سولت لهم نفوسهم أن يرتفعوا به عن مصاف من حرموا منه، فكان النضال وكان التنافس على أتعس صوره وأدناها.
ولو أن المال كان كالهواء والماء يتمتع الناس به جميعا كل حسب حاجته، وإلى مدى هذه الحاجة فقط؛ إذن لرأيتهم يعنون بطهارة المال عنايتهم بنقاوة الهواء، ثم يعود ذلك عليهم بالخير والبركة، ولكان لهم جميعا من بحبوحة العيش متسع.
بعض إصلاحات 22 إبريل سنة 1919
يجب السعي وراء استئصال داء بدأ يستفحل هو سوء تقسيم الملكية؛ فقد أصبحنا نرى في كل جهات القطر صاحب آلاف الأفدنة من ناحية والعمال البسطاء جدا من ناحية أخرى، والعهد الماضي الذي وجه عناية كبرى إلى ما يسمى تحسين الحال المادية، والذي خلق أسلحة شتى لأرباب الأموال لم يعن مطلقا لا بتربية الروح العامة ولا بمعرفة الأعمال النافعة من الوجهة الفعلية أو الأدبية ولا بتربية الفلاح، ولما كانت البلاد لا تحتمل تغييرا فاحشا في نظامها بسبب الجمود الذي أوصلها إليه العهد الماضي وجب إجراء بعض تغييرات للإسراع بالسير في سبيل الإصلاح، من هذه التغييرات ما يأتي:
أولا:
حل جميع الأوقاف الأهلية وجعلها مملوكة لمستحقيها حالا، كل على نسبة الاستحقاق الذي له، عدا إبقاء الخمس منها ينصرف ريعه حالا إلى جهة البر المحددة في حجة الوقف، مع مراعاة الضوابط الآتية فيما يتعلق بذلك.
ثانيا:
ينظر في جهة البر الموجهة إليها الأوقاف الخيرية، فإذا كانت خارج القطر وجب تحويلها إلى جهة في داخل القطر عدا أوقاف الحرمين، أما إن كانت داخل القطر فينظر في فائدة الجهة ومقدار مصلحتها، فإن تبين أن هناك فائدة منها ومصلحة عامة فيها بقي الريع موجها لها، وإن تبين أن لا فائدة منها يعين من الوقف ما يفي بحاجتها، ثم يحول الباقي إلى جهة ذات فائدة ومهمة للمصلحة العامة، مثال ذلك الأوقاف الموجهة إلى بعض المساجد؛ فإن هذه يعين منها على مقدار حاجة المسجد، والباقي يوجه ريعه إلى جهة أخرى كالأزهر أو كالجامعة المصرية أو كتعميم التعليم الابتدائي أو كأن تخلق حلقات علم في هذا المسجد نفسه.
ثالثا:
تتبع في الضريبة العقارية الطريقة النسبية، فالعشرون فدانا الأولى يؤخذ عنها عشرة في المائة من الريع، وما زاد على ذلك إلى مائة فدان يؤخذ منه خمسة عشر في المائة، وما زاد إلى ثلاثمائة عشرون في الماية، وما زاد إلى ستمائة خمس وعشرون في المائة، وما زاد إلى ألف ثلاثون في المائة، وإلى ألف وسبعمائة وخمسين أربعون في المائة، وإلى ثلاثة آلاف خمسين في المائة، وإلى خمسة آلاف خمس وستون في المائة، وما زاد عن ذلك خمس وسبعون في المائة.
رابعا:
تؤخذ الضريبة العقارية على المنازل في المدن على النسبة المقومة بالنسبة لقيمة المنزل على اعتبار أن كل مائة جنيه توازي فدانا.
خامسا:
تؤخذ ضرائب على الإيرادات بالنسبة للمشتغلين بالمهن وللمحلات التجارية أيا كان نوعها على اعتبار إيراد الفدان عشرة جنيهات.
سادسا:
يسار في طريقة الضرائب الجمركية على مبدأ المساواة بين جميع الأمم وحماية المصنوعات المصرية.
سابعا:
التعليم الأولي مجاني إجباري إلا لمن أثبت أن أبناءه ذكورا أو إناثا يتعلمون بمصاريف في إحدى المدارس، ومدة التعليم ست سنوات ابتداء من السادسة إلى الثانية عشرة: السنتين الأوليين يكون التعليم فيهما أربع ساعات كل يوم وساعتين رياضة، والسنين الباقية يكون التعليم فيها أربع ساعات وأربع ساعات عمل يدرس في الزراعة أو في أجدر الصنائع.
ثامنا:
تسري الضرائب على الأجانب إذا كان لها مثيل في الأمة التي ينتمون إليها بمجرد صدور قانون على الأهالي بها، أما إن لم يكن لها مثيل فتمر بالهيئة التشريعية الخاصة بنفاذ القوانين المصرية على الأجانب.
القسم الثالث
ما بعد المذكرات
بعد عشر سنوات
الرحلة إلى فلسطين ولبنان 1924
وأخيرا
استطعت أن أغادر مصر في يوم الثلاثاء 29 يوليو سنة 1924 بقطار الساعة الحادية عشرة صباحا قاصدا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على الباخرة الإيطالية كارينوليا من بواخر اللويد تريستينو، وغادرتها ومعي زوجي وابني، وسافر معنا والدي ليودعنا على ظهر الباخرة، وودعنا على المحطة رؤوف زكي وعزمي وأحمد الشيخ والغمراوي.
أذكرتني سفرتي هذه بسفرتي سنة 1914، في سنة 1914 غادرت المنصورة في يوم 2 أغسطس بقطار الساعة التاسعة صباحا قاصدا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على ظهر الباخرة برنس عباس من بواخر الشركة الخديوية في رفقة صديقي عبد الرحمن بك الرافعي، وكنا يومئذ وحيدين لأن كلا منا كان شابا لم يضطلع بعد من أعباء الحياة إلا بشؤون نفسه؛ لذلك لم يسافر معنا أحد ولم يودعنا على المحطة أحد.
2 أغسطس سنة 1914! ... 29 يوليو 1924!
عشر سنوات كاملة! عشر سنوات لم يشهد العالم مثلها في تاريخه من يوم كان العالم: تغير وجه الأرض أمام نظر الإنسان؛ إن تغيرت نفس الإنسان تغير وجه الأرض وإن لم يتغير في الوجود شيء! فالأرض أرض والسماء سماء والشمس تشرق وضاحة الجبين والقمر يحبو في سماواته فتتعلق بطلعته أحداق العاشقين.
عشر سنوات ما بين رحلتي الأولى ورحلتي الثانية إلى لبنان، وتاريخ الرحلة الأولى هو تاريخ إعلان الحرب الكبرى، أما تاريخ هذه الرحلة الثانية فلا يذكر بشيء لأن الحرب الكبرى الحقيقية لما تضع أوزارها، وكيف تضع أوزارها والدوافع إليها تزال قائمة! كيف تضع أوزارها ولا يزال الضيق مستحكما، ولا تزال الطوائف يرهق بعضها بعضا، ولا يزال بين الناس سيد ومسود وعابد ومعبود، ولا تزال الأمم تتحكم في الأمم، ولا يزال الإنسان لا يروى له ظمأ ولا تنقع له غلة إلا إذا ولغ في دم أخيه الإنسان.
في 2 أغسطس سنة 1914 كان العاقم قد أترع سلاما وعظمة فكان يتيه كبرا وغرورا، وكانت الحروب التي سبقت تلك السنة ما بين تركيا ودول البلقان، وبين تركيا وإيطاليا، وبين الروسيا واليابان، وبين إنكلترا والترنسفال، كانت هذه الحروب تافهة ضئيلة لم تتجاوز في نظر العالم أن كانت معارك فردية تنشب بين أمة وأمة، ثم تمر من غير أن يصيب العالم منها ألم يحرك قلبه أو يهز ضميره، كانت أشبه شيء بالجرح البسيط يصيب قدم الرجل والرجل سائر فلا يعبأ به ولا يهتم له ولا يفكر في الجرح الدامي الذي يهز قلبه ويرسل الرعب إلى فؤاده، ويهدد بالخطر حياته والذي ينتظره وراء الأكمة القريبة منه والتي يقصد هو إليها مطمئنا يريد أن يأخذ في أدغالها الأسد والوحش على غرة منها جميعا.
أترع العالم سلاما فتاه غرورا فاندفع إلى الحرب بكل قوته، فطال به مداها فابتلعت كل ما توفر له من شباب ومال وسلام، وها نحن في سنة 1924 نرجو السلام فإذا السلام سراب، ونطلب المال فإذا المال وعود تضطرب، ونطلب الشباب فإذا الشباب خلو من خير ما في الشباب، وإذا الشباب خلو من الإيمان بالحياة والأمل فيها والميل لغورها، إذا الشباب يرى الحياة قشورا ويأسا ولهوا.
تغير العالم بين سنة 1914 وسنة 1924 وتغيرت مصر كذلك، كانت مصر قبل الحرب وادعة تعمل في جد، وتعالج فروع الحياة المختلفة، وتسعى للإصلاح جهدها، حاسبة دائما حساب الإنكليز ووقوفهم في وجه كل حركة وكل نزعة استقلالية، أما مصر في سنة 1924 فلا تزال في اندفاعها الذي بدأته سنة 1918، ونسيت فروع الحياة وعلاجها وقامت تطلب استقلالها التام، وقد أتيح لها بفضل جهود أبنائها جميعا أن تزحزح الإنكليز عن موقفهم موقف العنت في وجه كل إصلاح، لكنها مع الأسف لم تفد من ذلك كثيرا؛ لأن الطوائف الصاخبة رفعت إلى منصة الحكم قوما لا يعرفون الإصلاح ولا يقدرون ما يصلح حياة المجموع.
وتغيرت أنا أيضا ... ومن ذا الذي لا يتغير؟ انتقلت من حياة إلى حياة فإلى حياة ثم إلى حياة أخرى، كنت في سنة 1914 الدكتور هيكل المحامي بالمنصورة، وكنت سعيدا تفيض بي المسرة، معافى من المرض، وحيدا لا أسأل عما أفعل، وكنت أجد فراغا من الوقت وطمأنينة إلى النفس يسمحان لي أن آخذ بنصيب فيما يحلو لي من ملذات الحياة، وكانت القراءة وكان التفكير الحر أحب هذه الملذات لنفسي وأحلاها عندي، وكنت ولا أزال في بدء الصبا وميعة الشباب لا أجد في الحياة إلا بسمات تفتر أحيانا عن ضحكات وعن قهقهات، وكان جو الوجود صفوا تجاوب فيه الضحكة الضحكة ويلتقي فيه الابتسام بالابتسام، فلما ارتحلنا إلى لبنان ثم حمي وطيس الحرب واضطرب نظام سير البواخر استشارني رفيقي الرافعي في أمر العودة حتى لا تؤخذ علينا المسالك ونحبس في دار الحرب، فكان جوابي في ابتسام: إن خانتنا الباخرة فلن يخوننا ظهر الجمل.
ولم يكن أيسر من رحلتنا إلى لبنان يومئذ، لم نفكر في جواز السفر لحظة؛ لأنا لم نكن بحاجة إلى جواز سفر، ولم نفكر في الالتجاء إلى الحكومة، ولا في أمر الجمرك؛ لأن الأفراد كانوا أحرارا تحمي الحكومات حريتهم ولا تعتدي عليها، ولم يجل بخاطرنا أنا نجد في طريقنا إلا ما نريد ما دمنا لا نريد شرا ولا نكرا .
عدت ورفيقي من لبنان بعد ثلاثة أسابيع قضيناها في ربوعها بعيدين عن ضجة السياسة، جاهلين ميول الناس في مصر، مكتفين بالأخبار تنقلها إلينا صحف بيروت في الصباح لتكذبها صحف بيروت في المساء، عدنا على نفس الباخرة برنس عباس، وكانت يومئذ مكتظة بالعائدين الذين قنعوا بالقليل من الوقت قضوه في أحضان الطبيعة مخافة أن يمتد لهيب الحرب إلى تركيا فتصبح العودة إلى مصر محفوفة بالخطر، وتصبح الطبيعة الناضرة الباسمة كالحة عبوسا، ولم يكن للعائدين جميعا حديث غير حديث الحرب، ولم يكن لهم أمل إلا أن ينتصر فريق على فريق؛ ذلك بأنهم وهم جميعا من أمم محكومة كانوا يرجون في انتصار فريق على الآخر السبيل لحرية بلادهم وسعادتهم.
أما أنا فعدت إلى مصر أبعد ما يكون عن الميل لأي من الفريقين، فلما رأيت الناس تتعسهم الأهواء وتتنازعهم الشهوات أبديت رأيي في وجوب وقوف المصريين موقف الحياد، وأردت أن آخذ في الحركة السياسية الجديدة بمثل النصيب الذي كان لي قبلها، لكن الحرب وما ترتب عليها من إعلان الأحكام العرفية الإنكليزية، والمراقبة الصحفية وما أعقبها من إعلان إنكلترا حمايتها على مصر، وتطور الظروف بعد ذلك تطورا جعل كل تكهن بانتهاء الحرب عقيما، ذلك كله جعلني أميل عن السياسة لآخذ بأسباب البحث العلمي، فاستقصيت ما استطعت نظرية الجبر والاختيار وفكرة المسؤولية، وكتبت ما استقر عنده رأيي ونشرته في المقتطف، على أن هذا البحث لم يكف لسداد ميولي، فاشتغلت بالتدريس في قسم العلوم الجنائية بالجامعة المصرية سنة 1917، وبالتدريس في هذا القسم وفي قسم الحقوق سنة 1918 وسنة 1919 وسنة 1920 وسنة 1921 وسنة 1922، وقد استغرق التدريس أوقات قراءتي وبحثي، وكنت قد تزوجت سنة 1918، وكانت الحركة السياسية قد قامت سنة 1919 فأخذت فيها بنصيب جدي، واشتركت مع إخواني الذين ألفوا الحزب الديمقراطي كما اشتركت مع العاملين من الشبان في مختلف نواحي الحركة، ورزقت ممدوح والحركة الوطنية في أشدها.
وفي سنة 1921 نشب الخلاف بين عدلي باشا وسعد باشا، وكنت واقفا على مقدماته وأسبابه وكنت عليما بخفاياه ومخبآته، وكان سعد باشا قد بدأ يفكر تفكيرا جديا في أن يكون وحده وكيل الأمة ورمز أمانيها وعنوان استقلالها، والكل الذي تنبعث منه في البلاد كل حياة وكل فكرة وكل حركة، فلم يكن بد من الوقوف في وجه هذا التيار الذي أودى بحياة الحركات الوطنية في كل أمة قام فيها، وقد صادفت فكرتي هذه قبولا لدى إخواني أعضاء الحزب الديمقراطي الذين رأوا معي ما في الدكتاتورية من قضاء محتوم على الفكرة الديمقراطية، فوقفنا في صف الأقلية، وقفنا نحن أعضاء الحزب الديمقراطي العاملين بعيدين عن الاتصال بأية هيئة سياسية حريصين كل الحرص على حريتنا محتفظين بما تقضي أنفة الشباب الاحتفاظ به، لكن موقفنا هذا كان دقيقا محفوفا بالأخطار والمصاعب.
فقد كان من بيننا أعضاء قضت عليهم ميولهم الطائفية بالانضمام علانية إلى سعد باشا، وكان من بيننا آخرون أغراهم حب المظهر والولع بالهتاف إلى السير في طريق الأولين، وكان من بيننا كذلك أعضاء رأوا في التقرب من عدلي باشا ومن الحكومة سدادا لشهوات تقابل شهوات الأولين، وكان هؤلاء أشد إضرارا بالحزب لأنهم أظهروه في نظر السواد بمظهر المنتمي للحكومة، والله يعلم وعدلي باشا وسعد باشا يعلمان أنه كان حزبا بعيدا عن الانتماء لأية هيئة أو سلطة بعيدا عن الخضوع إلا لما تملي به ضمائر المتقدمين من أعضائه وذممهم.
وكان من أثر هذا الانفراج في الميول بين أعضاء الحزب والبعض الآخر وابتعاد عدد غير قليل من الفريقين عن مركز قيادة الحزب أن ضعف سلطانه بعض الضعف، لكنا استمسكنا بموقفنا، فلما انقطعت المفاوضات الرسمية في سنة 1921 كان الحزب أول من أعلن فكرة عدم التعاون مع الإنكليز في ظل مذكرة 3 ديسمبر، ولما نفي سعد باشا كان الحزب أشد هيئات الأمة حرصا على التمسك بفكرة عدم التعاون؛ لذلك ليس من الغلو في شيء أن يقال إن الحزب كان له أثر كبير في اقتناع الإنكليز بضرورة الاعتراف باستقلال مصر، بل إن من الحق أن يقال إن الحزب الديمقراطي كان هو الهيئة الوحيدة التي أثبتت في تقريرها عن مشروع لورد ملنر ضرورة إعلان إنكلترا إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال بصك منفرد كالصك الذي أعلنت به الحماية؛ لأن الاستقلال حق طبيعي لا يجوز التعاقد عليه.
أعلنت إنكلترا إنهاء الحماية واعترفت باستقلال مصر، فتألفت على أثر ذلك وزارة ثروت باشا، وفكرت في تأليف لجنة لوضع الدستور من الأحزاب والهيئات المختلفة، ولما خاطبت ثروت باشا في أمر تمثيل الحزب الديمقراطي في اللجنة أخبرني أنه لا يرى مانعا على أن يبدي الحزب له في الأمر رأيا بالقبول، وليس هنا محل لذكر الأسباب التي منعت من قبول هذه الفكرة عند زملائي، فالتحقت بإخواني أحمد بك أمين أستاذ القانون الجنائي بمدرسة الحقوق ومحمد بك متولي السكرتير العام المساعد لمجلس النواب حالا ومحمود بك صادق القاضي بالمحاكم الأهلية والشيخ عبد العزيز البشري القاضي بالمحاكم الشرعية في سكرتارية لجنة الدستور؛ حرصا على تحقيق بعض مبادئ كنت حريصا على أن تحقق.
ولما قاربت لجنة الدستور الانتهاء من عملها فكر عدلي باشا وأصحابه ومن بينهم أعضاء لجنة الدستور في تأليف حزب الأحرار الدستوريين وفي إنشاء جريدة السياسة، وكان الدفاع عن الدستور قبل صدوره وبعد صدوره هو الفكرة الأساسية التي تألف الحزب من أجلها، ودعيت يومئذ لرئاسة تحرير السياسة فلم أتردد في القبول لأني رأيت هذه الفكرة الجليلة من أشرف ما يدافع الإنسان عنه.
وكذلك انتقلت في هذه السنوات العشر من الدكتور هيكل المحامي بالمنصورة غير المسؤول إلا عن نفسه وعن عمله إلى الدكتور هيكل المحامي بمصر والمسؤول عن أهله وولده والأستاذ بالجامعة المصرية، وإلى الدكتور هيكل رئيس تحرير السياسة، وإذا صح ما قاله أناتل فرانس من أن الإنسان إذ ينتقل من حياة إلى حياة يموت حياة ليحيى حياة أخرى فقد ماتت لي في هذه السنوات العشر حيوات عدة واستبدلت بها حيوات عدة كذلك، ولست أدري أي هذه الحيوات خير، وقد تكون كلها متعادلة إن كانت تطورات نفسي واحدة في أطوار مختلفة.
بعد سنتين انقضتا في رئاسة تحرير السياسة شعرت بإجهاد شديد؛ لأنني شعرت لهذا العمل منذ توليته بمحبة شديدة ، وليس أشد إجهادا للنفس من حب العمل الذي يقوم الإنسان به، ينسى الإنسان نفسه فيه فلا يفكر في صحته ولا في طعامه ولا في نعمة الحياة ومسرتها؛ لأن الحب يحتل من النفس محل الصحة والطعام والنعمة والمسرة جميعا، شعرت بالإجهاد وجاء على أثر الإجهاد المرض، ثم عقب المرض نزال السياسة والحكومة في ساحة القضاء حين رفعت الدعوى الأولى التي اتهمت الحكومة فيها السياسة بإهانة هيئة مجلسي النواب والشيوخ، وفيما كانت هذه القضية منظورة كان التحقيق جاريا في قضية جديدة، تلك دعوى النيابة أن السياسة قذفت رئيس الوزراء وأهانت هيئة الوزارة وحضت الناس على كراهية نظام الحكم إلى غير ذلك من الادعاء، ولما انقضت الدعوى أمام القضاء جرت النيابة في تحقيق جديد هو نشر السياسة محضر تحقيق القضية الأولى، وجرت كذلك في التحقيق مع سعادة حلمي عيسى باشا عن مقالاته التي نشرها في السياسة، وباشرت تحقيقات جديدة مع صحف أخرى، وخيل للناس جميعا أن النيابة قد أعدت عدتها ليكون محرر السياسة معها في كل يوم للتحقيق معه.
وكنت قد اعتزمت السفر إلى لبنان للاستراحة من جهد العمل قبل أن تبدأ النيابة هجومها، فلما امتد خط ذلك الهجوم تمهلت حتى فرغت النيابة من تحقيقاتها، ثم خشيت أن أطلب جواز سفري وأن أحدد موعده فتطلبني النيابة للتحقيق في عشيته.
فوسطت من كلم النائب العمومي فعلمت من وسيطي أنه خاطب سعد باشا زغلول رئيس الحكومة مباشرة، وأن الأخير رأى أن ليس لي أن أسافر وضد السياسة قضيتان وأبدى - كما علمت - أنه على استعداد لحفظ القضيتين إن أنا اعتذرت عما نشرته السياسة من أن سعد باشا تداخل في الانتخابات التكميلية لمجلس النواب، وصرحت بأن الخبر مكذوب، ولما كنت أعلم صحة الخبر الذي نشرته السياسة لم أقبل التكذيب وعمدت إلى طلب جواز السفر وحددت موعده، وأعددت نفسي لنزال جديد مع الحكومة، لكن الحكومة لم تتعرض لي، ولست أدري أكان عدم تعرضها لأنها لم تعلم بسفري أم كان منها حرصا على الدستور والقانون أم أنها خشيت أن تظهر بمظهر المتعنت من غير أي مبرر للعنت؟.
وكذلك استطعت أخيرا أن أغادر مصر في يوم الثلاثاء في 29 يوليو سنة 1924 بقطار الساعة الحادية عشرة صباحا قاصدا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على الباخرة الإيطالية كارينوليا من بواخر اللويد تريستينو.
وصلنا بورسعيد الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان في انتظارنا أصدقاؤنا المقيمين بها، وعلى الرغم من أن الباخرة لا تقوم قبل الساعة الثامنة مساء فضلنا الذهاب توا إليها هربا من حر المدينة وطلبا لهواء البحر نستنشقه بضع ساعات قبل السفر، ولم يكن على ظهرها حين وصولنا إلا سيدة وابنتها وخادم.
كارينوليا باخرة صغيرة تبلغ حمولتها مائتين وخمسين ألف طن، وهي من البواخر التي تجوب شواطئ الشرق الأدنى على مهل؛ لأنها كما تنقل المسافرين تنقل المتاجر وتتسع لها أكثر من اتساعها لهم، وغرف الدرجة الأولى فيها قديمة النظام تسع كل واحدة منها ثلاثة من المسافرين، وصالونها الذي وضع به البيانو لا يمكن لأكثر من أربعة أشخاص أو خمسة الجلوس فيه، وغرفة المائدة المجاورة للصالون متسعة فوق سطح الباخرة وقد مدت فيها ثلاث مناضد طويلة حول كل منها أربع وعشرون مقعدا، فأما المنضدة الوسطى فكان يجلس إليها قبطان الباخرة والمتقدمون من رجالها، وأما اليمنى عند اتجاهك لحيزوم الباخرة فكان يجلس إليها العائلات، وكان يجلس باقي المسافرين إلى المائدة الثالثة.
وكنا نجلس إلى المائدة اليمنى، وكان معنا عائلات من السوريين واللبنانيين المقيمين بمصر، وكان لهذه المائدة مظهر ظرف؛ أن كان أكثر الذين يجلسون إليها من الأطفال ومن الشبان الذين لم يتجاوزوا سن الحلم، ولم يكن عليها من الرجال إلا ثلاث، المسيو عطا الله والدكتور سامي كمال وأنا.
وقد اخترنا المكان المجاور للدرج الهابط إلى (الكابين) حتى إذا أصيب أحدنا بدوار البحر كان على مقربة من مرقده، لكن اختيارنا لم يكن ذا فائدة لأن الباخرة كانت تسير كل يوم في المساء بعد أن يفرغ الناس من طعامهم، وكانت تقف في الصباح وتظل واقفة يومها ولا تعود للسير إلا مساء، وبذلك لم يكن أحد يشعر بأنا على سفر، بل كنا جميعا نرى أنها أشبه (بالكازينو) أو (بالبير) في عرف الإنجليز، ولو أن صالونها أو غرفة التدخين بها كانا أكثر سعة، ثم لو أن السطح لم يكن ضيقا بمقدار لا يتسع لمقعد طويل لكان شعورنا هذا معبرا عن حقيقة لا مجرد خيال ووهم.
كانت عائلة عطا الله بجوارنا على المائدة، ومسيو ميشيل عطا الله موظف بالبنك العقاري، وزوجه - مدام أديل عطا الله - أعرق منه في اللبنانية، ولهما ولدان وبنتان، فأما البنتان فطفلتان لم تبلغ إحداهما العامين وأما الأخرى فلم تبلغ الثالثة من عمرها، وهذه الأخرى واسمها جاكلين غاية في لطف الطفولة البريئة الباسمة.
لمدام عطا الله ميزة إحياء المجلس الذي تكون فيه، وهي تبالغ أحيانا في هذه الميزة، التي تعتبر من أجل ميزات الرجال والنساء إذا عرف صاحبها سبيل القصد فيها؛ لذلك لم نكد نأخذ مكاننا إلى جانبهم على المائدة حتى اتصل ما بيننا وبينهم، وسرعان ما توثقت رابطتهم بنا حتى كانت أساس تزاور بعد وصولنا جميعا إلى لبنان.
واتصل ما بيننا وبين باقي المسافرين شيئا فشيئا، وكان من بينهم جماعة من المصريين عرفناهم رجال كياسة وأدب ولطف، وصارت المركب أشبه بمنزل تقيم فيه عائلة واحدة، فارتفعت الكلفة إلى حد كبير ما بين الأشخاص، وأمضينا ثلاث ليال ويومين ناعمين مطمئنة نفوسنا بعيدين عن ضوضاء الناس وضجتهم، قانعين بدارنا المطمئنة فوق ظهر الماء، سعداء بالبحر المستسلم الهادئ، نتبادل أتفه الأحاديث لأنها أكثرها لذة فيروي بعضنا ما لاقى من قبل في لبنان، ويروي آخرون ما رأوا في غير لبنان، ثم يترك الأطفال أمهاتهم ليجيئوا إلينا، فيشعر كل منا بعطف على كل طفل ويأخذ معه في الحديث، وكذلك انقضى الوقت ولم نشعر بانقضائه، ومرت الأيام والليالي ولم يشك أحد سأم الفراغ.
تحركت كارينوليا في الساعة الثامنة مساء من بورسعيد، ولما تكد تتخطى أحجار المرفأ حتى هب نسيم البحر قويا رقيقا ينساب إلى نفوس متعبة وصدور مفعمة فينعش النفوس ويخفف أثقال الصدور، وابتعدت السفينة عن الشاطئ رويدا رويدا حتى غرقت أنوار المدينة المصرية في لجة الليل المدلهم، واستردتنا ظلمة ملأت ما بين السماء والماء، واختفى في ثناياها الأفق فجعلنا نلتمسه خلالها، وأرسل كل خيوط أحلامه وآماله تنادي حائرة في هذه المملكة الداجية لولا ما يتخللها من بريق النجوم في السماء ولمع الموج في استحياء، على أن لظلمة الدجى بين السماء والماء جمالا وجلالا لا مثال له في ظلمة جونا نحن أهل الأرض، ظلمة الأرض مملوءة بالأشباح وبالجرائم وبالشهوات وبالمخاوف، فيها الذئاب الضارية من وحش ومن بشر، وفيها هوس الشهوات وهواها وفيها الشر الحلو البريق، وفيها السوء يدبر وينظم، وينفذ أيضا، فهي ظلمة ثقيلة الظل كالحة عبوس الخير في اجتنابها والحذر منها، أما ظلمة ما بين السماء والمساء فمسرى الأرواح المنيرة تشعر بها وتكاد تلمسها، وتجد فيها دائما عزاء للنفس وسكينة للفؤاد وطمأنينة للقلب، هي أجنحة الملائكة حجبت الشمس لراحة ساكني الماء، وتركت أجنحة الشياطين تحجب الشمس لشقاء أهل الأرض.
غرقت أنوار بورسعيد في لجة الليل، وسرت السفينة تخترق أحشاء الليل، وبقي أهلها زمنا يمتعون بهواء الساعة العذب، ثم تسللوا إلى مضاجعهم واحدا بعد واحد، وطلع عليهم النهار والباخرة تسير وقد بدت تباشير الشاطئ فاتجهت الأنظار تجتلي طلائع يافا خلال ضوء النهار.
وكان على السفينة عدد جم من اليهود قضوا ليلهم في عنبر الدرجة الثالثة، لا يفكرون في أنوار بورسعيد ولا في أجنحة الملائكة وأجنحة الشياطين، ولا يطرق الكرى جفونهم إلا غرارا، وتخفق قلوبهم خفقة الطرب وهم في انتظار الصباح على جمر؛ لأنهم وحدهم أشد المسافرين حرصا على بلوغ يافا.
يافا، المرفأ السعيد، مدخل الوطن القومي، باب أرض الميعاد، إنك لن تقدر فلسطين في نظر اليهود كما تقدرها في هذه الساعة التي تنجلي فيها طلائع يافا، انظر إليهم! ... انظر إلى هؤلاء الفقراء في أسمالهم البالية وأطمارهم الرثة وقد طالت لحاهم وأرسلت شعورهم غدائر وغارت منهم الصدوغ والخدود، انظر إليهم يحدقون بعيونهم الحادة يفصل بينها أنفهم الطويل المصفر إلى ذلك الشاطئ المحبوب، انظر إليهم ترهم في نشوة وحشية وجذل مضطرب يصعدون معا فوق سطح المركب ويقفون في انتظار الشاطئ، فإذا بدا الشاطئ انفرجت شفاههم جميعا عن أغنية عبرية هي أغنية السلام لأرض الميعاد فرتلوها وأعادوها، ثم التمس كل واحد منهم إهابه وانتظر عند درج الباخرة لتقله (الشختورة) مع أصحابه فترده إلى التربة المقدسة وتعيده ليطأ في رفق رفات الأجداد، ولينبت من تراث هذه الرفات حياة ناضرة تتجلى فيما تراه إذا نزلت إلى يافا من كروم وبساتين.
رست كارينوليا ثم لم تكن إلا برهة حتى علمنا أن بين أحد اليهود في يافا وبين اللويد تريستينو تقاض حكم فيه ابتدائيا لمصلحة ذلك اليهودي، وقد انتهز مرسى الكارينوليا فأوقع عليها حجزا تحفظيا لم تكن لتستطيع معه أن تغادر مياه فلسطين لولا أن تداخل قنصل إيطاليا وأن قدم الضمان الكافي.
وقضينا يومنا على سطح السفينة ولم ينزل إلى الشاطئ إلا قليلون؛ لأن مينا يافا مشهورة باضطراب موجها مما يجعل العبور إلى الشاطئ فوق الفلائك غير ميسور.
وعاودت السفينة السير في الماء، ورست بنا في حيفا عندما بدت تباشير الصبح.
نزلت حيفا سنة 1914 وزرت دير الكرمل، وكانت حيفا في سنة 1914 من البلاد العثمانية التي تطلعت ألمانيا لبسط نفوذها في الشرق من طريقها؛ لذلك كانت مملوءة بالألمان وواقعة تحت نفوذهم.
وكأن الذكرى تدعو الإنسان للعود إلى الأمكنة التي سار من قبل فيها ليشهد ما صنع الزمان بها، وليرى إن كانت قد تغيرت بمقدار ما تغير، فنزل الأكثرون من ركاب السفينة ونزلنا معهم، ما أكبر الفرق بين الأمس واليوم! نزلت ورفيقي في سنة 1914 فلم يسألنا أحد من أنتم ولا فيم تنزلون، أما اليوم فيجب أن تودع جواز سفرك لدى عامل الجمرك الذي جاء إلى السفينة خصيصا لهذا، ومقابل إيداعك الجواز يناولك العامل ورقة تسمح لك بالمرور، فإذا عدت رد العامل جوازك إليك وضمن بذلك مغادرتك الديار، وهذا الفرق في المعاملة سببه ما دفعت الحرب إلى نفوس السواد من الثورة على كل نظام قائم، فرجال الحكم يريدون أن يطمئنوا إلى أن النازلين لا يقصدون إلى الإقامة في بلادهم، وإلى أن من قصد منهم إلى الإقامة ليس من محركي الثورات ولا من المهيجين، وهم يحرصون اليوم على ما لم يكونوا بالأمس يحرصون عليه لأسباب شتى، فنفوس أهل الأمم المختلفة لا تزال تملأها عوامل البغضاء منذ الحرب، لا يزال الإنكليزي ينظر إلى الألماني بعين الحذر، ولا يزال الفرنسي ينظر إلى الألمان بعين المقت، ولا يزال الألماني ينظر إليهما جميعا بعين الكراهية، وليست الأمم التي كانت متحالفة أيام الحرب لتخلو من النظر إلى بعضها البعض الآخر بعين الحقد، ففرنسا وإنكلترا تتنافسان النفوذ في الشرق وتخشى كل واحدة منهما أن تدس الأخرى لها الدسائس وأن تضع في سبيلها العقبات والعراقيل، وليس هذا كل السبب في مراقبة المهاجرين، بل ليس هو معظم السبب، فقد كانت الأمم تتنافس قبل الحرب وكانت تدس الدسائس، ولكن الهيئات الحاكمة كانت مطمئنة إلى أن قوة نفسية الأهلين وحرصهم على استتباب النظام واستمساكهم ببقائه كل ذلك كفيل بضياع آثار الدسائس سدى وببقاء الأمن والسكينة في البلاد، أما اليوم فالنظام القائم موضع النقد من كل إنسان، لا يرضاه الذين أصيبوا أثناء الحرب في ثورتهم وجاههم وصاروا فقراء بعد أن كان لهم الأمر والنهي، ولا الذين رفعتهم الحرب من أماكن الضعة إلى حظ من الثروة أحلهم محل الاحترام وجعلهم يرون ما أوتوا قليلا إلى جانب ما قاسوا من قبل، هؤلاء تدفعهم غلظة طبعهم للانتقام من ذوي الحسب والأصل القديم وممن لا يزالون بحكم الطبيعة سادة الوقت وإن لم يكونوا في منصة الحكم، كذلك ترى الدول لا يطمئن بعضها إلى بعض، وترى الأفراد لا يطمئنون إلى نظام الحكم، وترى الحكومات لا تطمئن إلى سكينة الأفراد؛ ولذلك كانت الرقابة وكان الحرص على مضايقة الحرية.
نزلنا حيفا وسلكنا السبيل إلى دير الكرمل، والدير يقع على ارتفاع عشرة ومائة متر فوق سطح البحر فيما أخبرنا أحد قساوسته، والطريق إليه اليوم هو الطريق الذي كان سنة 1914 ولم يغيرونه، وكان أثناء الحرب يتسع للأوتموبيل المدرع ولما هو أكبر من الأوتموبيل المدرع، تسير فوقه العربة صاعدة إلى الدير فإذا الجبل من يمينك والوادي عن يسارك وكأن الجبل والوادي هذه السنة أقل بهاء منهما في سنة 1914، ولعل أكبر السبب لذلك أنا صعدنا إلى الكرمل سنة 1914 والشمس منحدرة إلى المغيب يلذ ضوؤها العيون وتدع أشعتها نسمات الهواء تحرك أغصان الشجر وتتلاعب بأوراق النبات وتبعث إلى النفس مسرة تزيدنا حبا للحياة ولما فيها، أما اليوم فقد ذهبنا إلى الكرمل والشمس صاعدة إلى عرش الزوال والضوء حاد والأشعة قاسية والهواء ساكن ... ذلك في ظني أكبر السبب، وهو ليس بالعجيب، فالجبل والوادي صورة أمام العين، والصورة يزداد لدينا جمالها وينقص بمقدار ما ينبعث عليها من ضوء وعلى قدر ما في نفوسنا من استعداد للمتاع بالجمال.
جبال حيفا جرداء لا ترى عليها من النبت ولا من الشجر إلا القليل، وسفوحها فيما دون الطريق إلى الكرمل أكثر خضرة وبهاء، تنمو عليها بعض أشجار التوت والزيتون، وبطن الوادي سهل منحدر إلى الشاطئ تقوم فوقه أنواع من الزرع متجاور مختلف ألوانه.
تعبر في طريقك إلى الدير بابا كبيرا، تقف بك العربة عنده حتى تدفع رسم مرور العربة قرشين ونصف القرش يتقاضاها رجال الدير لينفقوا على الدير ومجاوراته منها، فإذا بلغت الدير وجدت تلقاءه نصبا أقيم فوق رفات قتلى الحرب من الحلفاء ذكرى لمجد الحرب ومجازرها، ووجدت إلى جانب الدير كنيسة وإلى جانب الكنيسة منزلا يأوي إليه الرهبان، وإلى جانب المنزل فندقا ينزل فيه حجاج من ذوي الورع والتقى.
دخلنا الكنيسة مع راهب نيف على الستين ممتلئ صحة أحمر الوجنات أبيض الشعر خاشع الطرف رضي النفس لين الكلام، وكنيسة الكرمل صغيرة رشيقة فيها من الضوء أكثر مما اعتادت الكنائس، وينحدر إليها النور من نوافذ ركبت في أعلى الجدار، وزانتها صور قدسية نقشت الزجاج تحكي أساطير المسيح المنجى والعذراء المضحية، وأنت إذ تتخطى باب الكنيسة المقابل لنصب شهداء الحرب تجد نفسك في فناء يبلغ ستة أمتار في خمسة، وترى إلى يسارك في هذا الفناء بابا هو باب منزل الرهبان، ثم تعدو درجة فإذا بك وسط الكنيسة، وإذا أمامك صورة العذراء وصورة المسيح تحف بهما الشموع وهما في بريقهما الذهبي مثال الخشوع والخضوع، وليس هذان النقشان كل ما في مذبح الكنيسة من إبداع، بل لقد نظمت حولهما من الأوعية والآثار المقدسة ما يكل الطرف عن الإحاطة به لأن قداسة مكان مقدس تحول دون تحديقك بدقائقه وبخاصة إذا كان عليك من راهب أو قسيس رقيب، ولأن قداسة الأماكن المقدسة تشتملها دائما ظلمة لا تبدد منها الشموع إلا بمقدار يزيدها قداسة، وليس من شأن الظلمة أن تجلو ما اشتملت، بل يكل النظر خلالها كلاله عند التحديق بنور الشمس الساطع الوهاج.
وليس مذبح كنيسة الكرمل قائما فوق سطح الأرض، بل هو يعلو كهف شعيب! وكهف شعيب نقر في جبل الكرمل لأكثر من تسعمائة سنة خلت، وقد بنيت الكنيسة وبني إلى جانبها الدير لتحل بهما بركات ذلك الكهف وساكنه.
ولست تستطيع إذ تنحدر إلى ما تحت المذبح على ثلاث درجات غير منتظمة أن تميز في ظلمة الكهف شيئا، وليس بك من حاجة لاختراق حجب تلك الظلمة، فهي ظلمة منيرة للمؤمنين وإن كانت داجية، وهي لغير المؤمنين قتام لا يحوي غير صخر ينطوي خلاله القبر القديم.
وخرجنا من الكنيسة بعد إذ تفضل الراهب الهرم فقص علينا طرفا من تاريخها، وسرنا فإذا حول الدير والكنيسة والمنزل والفندق وحشة الجبل يؤنسها إيمان أولئك الرهبان، ويعمرها بعض أشجار الجوز والخروب والصنوبر انتشرت متباعدة بعضها عن بعض، وأردنا أن نوغل في الجبل فخيل لنا أنه موحش كله، لكنني علمت بعد إذ أقمت بلبنان زمنا أن عند قمته مدفعا ضخما، وأن لهذا المدفع قصة، فقد استولى الحلفاء أيام الحرب على حيفا، وتراجع الأتراك وضباطهم من الألمان خلا الجندي القائم على هذا المدفع الذي أبى أن يتراجع وظل يصب الموت على المهاجمين حتى صمت صوته وصوت مدفعه.
وشققنا طريقنا وسط المدينة عائدين إلى الباخرة، ومررنا بحانوت ألماني يتكلم لغة أهل البلاد كأنه منهم؛ ذلك بأنه ولد في حيفا وكان يأمل مع الألمانيين أن تكون حيفا مصدر النفوذ على الشرق الأدنى والمتسلطة على سكة حديد بغداد والمهددة للهند وللهند الصينية.
وأمضينا بقية يومنا فوق ظهر الماء، وتحركت الباخرة في المساء، ثم تنفس صبح الجمعة عن شواطئ بيروت، وعند الساعة العاشرة كانت السيارة تقطع بنا الطريق من بيروت إلى برمانا.
بيروت عاصمة لبنان الكبير، ولم يدع لبنان كبيرا إلا بعد أن ضم الانتداب الفرنسي بيروت إليه وجعلها عاصمته، أما قبل ذلك فكان لبنان لبنان فقط، وكان وسط بلاد الدولة العلية إيالة تمتعت بالاستقلال الذاتي منذ سنة 1868.
ومن بيروت تتفرع الطرق إلى ربوع لبنان، فينبعث أحدها شمالا إلى طرابلس وإلى شمال لبنان، ويسير الآخر جنوبا إلى عاليه وصوفر والشام، ويتوسط هذين طريق يمر ببرمانا وبكفيا إلى ظهور الشوير، وتتفرع من هذه الطرق الثلاث الرئيسية الصاعدة من الشاطئ إلى قمم سلاسل لبنان طرق كثيرة أخرى بعضها يحاذي الأولى ويهبط البعض الآخر إلى بطن الوادي، يسير عليه من يريد أن ينتقل من إحدى سلاسل لبنان إلى سلسلة أخرى.
وليس في لبنان طريق لسكة حديد إلا ذلك الطريق القديم الصاعد من بيروت إلى صوفر فزحلة والمعلقة ورياق حيث يتفرع فيذهب فرع إلى الشام ويذهب آخر إلى سوريا، وهذا الطريق ممل بطيء يحتاج المسافر عليه من بيروت إلى دمشق لأكثر من ثمان ساعات، وقد كان الناس به راضين فرحين يوم لم يكن له منافس إلا العربات تجرها الجياد، أما اليوم لوى الناس عنه وجوههم وكادوا ينسونه لأن الأوتموبيلات قد قصرت الوقت وأذهبت الملال، والأتومبيلات في لبنان كثيرة يزيد عددها على الألفين، ونفقتها يسيرة إلى جانب سائر نفقات المصطاف، فلست تجد ما يدفعك إلى ركوب عربات سكة الحديد ولو كانت البلدة التي تقصد إليها واقعة عليها.
وأكثر الأوتموبيلات في لبنان من الطراز الأمريكي، والفورد عظيم الرواج، كذلك تجد الدودج والبويك والهدسن، أما الطراز الأوروبي كالفيات والرينو فنادر جدا؛ لأن طرق الجبل عسيرة، ولأن السيارات الأوربية عالية الثمن والبلاد ليست غنية وأهلها أحوج إلى النافع منهم إلى الجميل.
وتصعد الأوتموبيلات من الشاطئ على مستوى سطح البحر إلى صوفر أو إلى ظهور الشوير أو إلى أهدن، أي إلى أماكن ترتفع ما يناهز ألفا وخمسمائة متر فوق سطح البحر، وتصل إلى هذا الصعود في زمن وجيز لا يتجاوز الساعة ونصف الساعة، وتلك معجزة لمن لم يرها، كيف تتسلق السيارات الجبال الصاعدة إلى السماء؟ كيف يفكر إنسان في زيارة أرز لبنان وهو مطمئن إلى مقاعده الوثيرة في سيارته حتى يصل إلى بلدة بشرى المرتفعة فوق سطح البحر بمقدار 1550 مترا، وكيف يفكر أهل الجبل في تمهيد باقي الطريق إلى الأرز لتتسلق عليه الأوتموبيلات مرتفعة أربعمائة متر أخرى فوق مستوى بشرى؟ ليس تصور هذا الأمر يسيرا
لكنك تتصوره وتطمئن له وتسر به متى رأيته، فليست سلاسل لبنان ذاهبة في ارتفاعها إلى السماء توا من عند سطح البحر، ولست تجد هذا المنظر البديع الذي تجده حين تمر في الرفييرا بفرنسا وبإيطاليا فترى الجبال الشامخة تقوم على شاطئ البحر المتوسط لا يفصل بينهما إلا طريق تمر به العجلات ويجري فوقه الترام، فإذا نظرت عن جانب رأيت الأفق الأزرق الدائم الصفاء، ورأيت فيما بينك وبين الأفق الأمواج المتتالية تتدافع نحو الشاطئ لتنكسر عليه في دوي ورغاء وزبد، وإذا نظرت عن الجانب الآخر حال الجبل دون امتداد النظر فإذا رفعت طرفك كان الجبل دائما هو الذي يلقاه حتى يلقى الجبل السماء ... لست تجد هذا المنظر البديع في سلاسل لبنان إلا في بعض الطريق ما بين بيروت وطرابلس، فأنت في هذا البعض من الطريق ترى سيارتك تطير بين الماء والصخر على طريق لا تزيد سعته على ثمانية أمتار، ويقابلك أثناءه نفقان يلتقي عندهما البحر والجبر من غير واسطة، على أن بين جبال الرفييرا وهذا القسم من جبال لبنان فرق كبير، جبال الرفييرا رفيعة معطرة بالزهر مختلفة الوجوه ونباتية الصور، أما هذا القسم من جبال لبنان فلا تأخذ رفعته ولا يأخذ عبيره بالنظر، وإنما يأخذ بالنظر منه وجوم واستجمام وتقشف، وقد يكون للوجوم وللتقشف أثر على النفوس لا يقل عما لروعة البهاء والعطر من أثر.
أما سائر سلاسل لبنان فتنبت عند الشاطئ وترتفع رويدا رويدا حتى تبلغ غاية ارتفاعها بعد عدة كيلو مترات، فإذا أنت وقفت عند ملتقى الطرق بظاهره بيروت ومددت ببصرك رأيت القرى والضياع منثورة بعضها فوق بعض، ويتسنم بعضها الجبل ويحتمي البعض الآخر بالسفح، فإذا كان موقفك في إحدى ساعات الليل رأيت هذه القرى والضياع أنوارا يبدو لالأؤها إلى أن تنتهي عند القمم بلقيا نجوم السماء، وكأنها لولا لونها المحمار صورة هذه النجوم انطبعت على الأرض انطباعها على الماء، وكأن القمم هي الأفق الذي تلتقي عنده الصورة بالخيال.
تدرج الجبال في ارتفاعها من الشاطئ إلى القمة هو الذي جعل سير الأوتمبيلات فوق ظهرها ممكنا. لكن ... لا تحسب هذا التدرج هينا ترتقي وإياه في طريق مطمئن مستقيم يصل بين البدء والغاية كسيرك من شاطئ النيل إلى سفح الهرم، وإنما يتحايل الأوتموبيل على تسلق هذه السفوح تحايلا، فقد اختط الناس الطرق عليها في صورة شبه حلزونية عجب شكلها، تسير بك السيارة في طريق صاعد وتستمر في سيرتها خمسون مترا ثم يقابلها الوادي فتدور متسلقة في دورانها كوعا يمتد بعده طريق يحاذي الطريق الذي كانت تسير من قبل عليه، ولكنه يرتفع عنه ويظل صاعدا حتى لترى الطريق الأول أسفل منك بمقدار يبلغ في بعض الأحايين خمسة أمتار أو يزيد، ثم لا تمر بك دقيقة أو دقيقتان حتى إذا كوع آخر وإذا الأوتموبيل يتسلق، والويل له إن لم يكن قويا، فقد تراه في بعض هذه المواقف (متعسرا) يرسل البنزين إرسالا ويفحر في الأرض بعجلاته، ويدور كأنما يدور حول نفسه، ويحدث من الضجة ما يحدثه اللاهث المستغيث، وبينما يدور الأوتموبيل دوراته مسرعا مرة مبطئا أخرى تنجلي أمامك السفوح هابطة إلى الوادي مغطاة بأشجار الصنوبر تبدو خضرتها زاهية تحت ضوء الشمس أو قتاما إذا كانت على السفح المقابل، ويمتد الصنوبر في غاباته جليلا جميلا وتتموج هاماته تحت الضوء ويحدث فيها الهواء اهتزازات لطيفة تزيد موجها جلالا وجمالا.
اختط بنا الأوتموبيل الطريق من بيروت إلى برمانا، قد أذكرتنا بيروت ساعة نزلناها بحر القاهرة بعدما نسيناه ثلاثة أيام تباعا فوق سطح البحر، وسار يتعرج في هذه الطرق ويتسلق السفح مسرعا آنا مبطئا آونة، فلما علا فوق منازل بيروت وانكشف البحر وبدت السفوح الخضراء، هب نسيم رقيق كان يزداد رقة كلما ازددنا ارتفاعا، وبعد مسيرة نصف الساعة وقف بنا عند نبع ماء تقابله قهوة تدعى الخروبة؛ لأنها واقعة تحت شجرة خروب تظلها، وهناك وجدنا أوتومبيلات سبقتنا تستقي من هذا النبع؛ ذلك أن صعود السيارات يحوجها للماء كي تهدئ ما بجوفها من حرارة تكاد تحرقها.
ونبع الخروبة واحد من ألوف النبوع الموجودة في لبنان، فهذه البلاد لا تعرف ماء النهر، وإنما تتسرب مياه المطر فيها خلال الجبال وتظل تنساب في ثناياها ثم تنبع صافية باردة يشرب منها الناس والدواب وتستقي منها الأوتموبيلات وتدار بها الطواحين.
ومرت بنا السيارة في عين سعادة وبيت مري قبل أن تصل بنا إلى برامانا، وتلك قرى لبنان مثلها مثل سائر القرى، بنيت بيوتها من حجر الجبل، وغطيت سطوحها بالقرميد يسيل من فوقه المطر أثناء فصل الشتاء، وإنك لتدهش لما بين هذه القرى وقرانا في مصر من فرق، حجر بدل اللبن، وقرميد بدل الأحطاب، وتحيط بقرية لبنان سفوح الجبل بأشجارها وينابيعها، وتحيط بقرية مصر المزارع إلا أن تفصل بينهما حاجة الزرع من سماد وبقايا مياه الترع من مستنقعات، وترى في أكثر قرى لبنان من مظاهر المدنية، نور الكهرباء يضيئها في المساء، أما قرى مصر فتحترم ظلمة الليل أشد احترام.
ومعظم الفرق بين القريتين يرجع إلى أن لبنان جبل فالأحجار في متناول أهله، ولبنان مصيف فكل قرية من قراه تسعى لتتجمل كي تجذب إليها أنظار النازحين من مختلف جهات الشرق الأدنى يبتغون الراحة ويبتغون معها ما اعتادوا من ترف الحياة ونعيمها؛ لذلك كانت الكهرباء وكانت الفنادق في القرى ... ولذلك كانت ظاهر المنازل جذابا، وكان في أهل لبنان حفاوة وإسراع إلى النازل بين أظهرهم، فأما مصر فواد يجري النيل خلاله فيدر على أهله من أخلاف الرزق خيرا وبركة، من طينته المباركة يتخذ أهل القرى منازلهم، وفي تربته المباركة ينفقون مجهودهم ، فقريتهم لهم لا لغيرهم، ورزقهم من سعيهم لا من متاع غيرهم؛ ولذلك لم يعنوا بظاهر المنازل ولم يكن الفلاح المصري حفيا وإن كان شهما كريما.
لبنان مصيف الشرق الأدنى، حبته الطبيعة مناخا معتدلا ونسيما رقيقا ومنظرا بديعا، فاجتمع لديه البحر والجبل وما في البحر والجبل من جمال، يهب عليك الهواء نديا غير رطب ورقيقا غير قارس، وتسرح طرفك حيث شئت فيأخذ به جمال الشجر الباسق تارة وجلال الجبل الجدب طورا، فإذا كان المشرق أو المغرب أخذت الشمس زينتها لتحية الاستقبال أو لتحية الوداع، وهي تودع لبنان لتغيب في لجة البحر تاركة وراءها السحب في سوار من نار وفي قلائد من عقيق وذهب، ولن تراها تضن يوما بمغيب بديع، فإذا كانت أيام تكامل القمر اشتملت الوديان والسفوح والجبال لجة النور الرقيق الشفاف وامتدت هذه اللجة فانطرحت على سطح البحر وكست موجه حياة ونورا.
ومن خلال الأشجار وفي قمم الجبال ينبع الماء تارة وينحدر أخرى، وهو في نبعه وفي انحداره نمير رقيق تنبع الحياة حوله ويزيدها بهاء وجمالا، وهو في رقته وفي تبعثره يشعرك حقا أن لا حياة إلا حيث الماء، وأن بلدا يغيض ماؤه يقضى عليه لا محالة بالجدب وبالموت.
لبنان مصيف الشرق الأدنى ... وسويسرا مصيف أوربا ... ولبنان يمتاز على سويسرا بالبحر تغرب فيه شمسه، وتمتاز سويسرا على لبنان بالبحيرات تحتفظ بمياه الجبال لتتغذى منها أكبر أنهار أوربا ... وبين لبنان وسويسرا فرق آخر هو الفرق بين الشرق والغرب، فحيث سرت في سويسرا رأيت الإنسان سعيدا للطبيعة ورأيت الطبيعة خاضعة لحكم الإنسان، وحيث سرت في لبنان رأيت الإنسان عبدا للطبيعة خاضعا لحكمها، في سويسرا ترتفع إلى قمة الجبل بقوة جذب البخار أو الكهرباء لعربات (الفنيكولير)، وفي لبنان تدور حول السفوح وتسير حيث تأمرك تعاريج الجبل، ثم لا تبلغ بعد ذلك من عليا القمم إلا يسيرا، في سويسرا تتخطى من سفح إلى سفح وتخترق الجبال أميالا في جوف النفق، وفي لبنان تدور مع السفح لتهبط إلى الوادي وتعتلي الجبل لتدور حول سفحه كي تهبط إلى واد جديد، في سويسرا ما شئت من شجر وزهر، وفي لبنان أشجار قضت الطبيعة من الأبد أن تكون أشجار لبنان ... ترى أي شيء أحب لنفس أهل الشرق: الرضا بالقضاء أم السعي ليمسكوا بيدهم صرف القضاء! هم إلى اليوم بالقضاء راضون، فهل يكون القضاء في غد بهم راضيا؟
قد يحتاج إخضاع الطبيعة المترامية الأطراف إلى جهد وزمن، وقد يكون الشرقيون في كفاء بما حبت الطبيعة به لبنان من بهاء وجمال، لكن المصطاف يحتاج إلى جانب جمال الطبيعة عيشا رضيا، وذلك أول ما يدور حوله بحثه حين يصل إلى المصيف فيبحث في فنادقه وفي منازله عما يكفي حاجته ويضمن طمأنينته، وهو واجد في لبنان شيئا غير قليل من هذا، وهو بعد في حاجة منه إلى شيء غير قليل.
22 أغسطس سنة 1924
برمانا - بكفيا - اهدن:
في يوم الاثنين الماضي - 18 أغسطس - مر بي في برمانا عبد المنعم بك رسلان وعبد العزيز بك رضوان وشمس الدين بك عبد الغفار ومعهم الخواجه أمين عقل ولم أكن أعرفه من قبل، وقد علمت منهم أن إسماعيل باشا أباظة مصيف ببيت مري وأنهم ذاهبون لزيارته، فذهبت معهم وقابلناه ومن معه بلوكاندة العجيل، والرجل اليوم في العقد الثامن من عمره قد بلغ به الضعف كثيرا، وتحدث زائروه في الانتقال من بكفيا حيث يقيمون، فدعاهم إلى بيت مري حيث المنظر جميل والهواء رقيق والاجتماع يحبب في الإقامة، وعرض عليهم صاحب الفندق غرف الفندق، لكنهم رأوا تأجيل البت في الأمر لأنهم كانوا قد اعتزموا السفر إلى اهدن، وعرض علي شمس الدين أن أكون في جماعتهم فترددت ثم ذكرت له أن صديقنا الدكتور سامي كمال كان معتزما هذه السفرة، وإنني أسر إذا كان معنا، وكان الدكتور سامي مقيما في ظهور الشوير، فتم الاتفاق على أن نكون جميعا معا، وفي يوم الأربعاء وصلني ببرمانا تلغراف من عبد المنعم بك رسلان يخبرني فيه بأن أوتموبيلا سيكون عندي في الساعة الخامسة من صباح الخميس، واستيقظت قبيل هذه الساعة، ووصل الأوتوموبيل وذهبت قاصدا بكفيا في الساعة الخامسة والثلث، وكانت الشمس قد انجلى عنها غشاء المشرق المتورد وسطع نورها، وكان الهواء رقيقا صفرا، فجعلت السيارة تتسلل فوق طرق الجبل مختفية مرة وراء أكمة ثم مرتفعة فوق أكمة أخرى، وشجر الصنوبر يتكاثف في بعض الأماكن فيقع النظر منه على غابة تبدو جزوعها ملتفة قوية باسقة إلى السماء حتى تظلها رؤوس الصنوبر تتقارب فتبدو للعين كأنها قمة واحدة، ثم تصعد السيارة حتى إذا غابة الصنوبر التي كانت رفيعة أمامك قد صارت إلى جانبك، وإذا بك قد درت حولها في طرق الجبل المتعرجة المثنية الصاعدة وأختها فوق الأخرى تراها كأنها رقاب الجمال في لونها واستدارتها، أو كأنها سرب من الأفاعي انسابت هائمة من عند شاطئ البحر، فجعلت تتسلق الجبال وكأنها يطاردها مطارد، ولا تلبث إلا دقائق ثم إذا غابة الصنوبر قد بدت خاضعة رؤوسها مختفية جزوعها، وهذه الرؤوس الخضراء المتموجة تبدو تحت نور الشمس مطمئنة، وتبعث إلى الصدور شذا رقيقا لا تكاد تحسه، ولكنك تشعر للقياه بسرور، فتفتح له كل صدرك وتستنشقه ملء رئتيك، وكذلك ظللت أتسلق الجبل تطير بي السيارة فوق هذه الرقاب الملتفة على كتف الجبل، والتي تذرك دائما بين الجبل قائما من ناحية يحدثك بخضرته ونضارته وبسموه ورفعته حديث الوحدة الساكنة إلى نفسها، وبين الوادي هابطا في بطن مطمئن تنحدر إليه سفوح خضراء نضرة كلها شجر الصنوبر وكروم العنب والتين، وبلغت بكفيا في الساعة السادسة وأنا موقن أن أصحابي في انتظاري وأنا سنقوم توا إلى اهدن، لكن أصحابي كانوا لا يزالون نياما أو يكادون.
لبنان مصيف الشرق الأدنى، هو كذلك بطبيعة موقعه، فهو وسط بين تركيا والعراق وفلسطين والحجاز ومصر، والمواصلات إليه من هذه البلاد ميسورة سهلة، وأهله يتكلمون العربية التي يفهمها أهل هذه الأمم، وهواؤه معتدل، ومناظره جميلة، والتقاء البحر والجبل عنده يسمح لكل إنسان أن يختار المناخ الذي يناسب مزاجه، تجتمع فيه الفصول الأربع على ما قال أحد اللبنانيين، فهو يحمل الشتاء على رأسه، والربيع فوق أكتافه، والخريف على ذراعيه، والصيف تحت قدميه ...
لكن أهل الشرق لم يتجهوا للاصطياف بلبنان قبل الحرب لأن طرقه لم تكن مطروقة، ولأن الحاكمين فيه لم يعنوا بتمهيد وسائل الانتقال، فكان المصطاف الذاهب إلى ظهور الشوير يقضي سبع ساعات في العربة التي تنقله من بيروت، ومتى بلغ غايته فقد قضي عليه أن يبقى بها وبالقرى المجاورة مباشرة لها حتى يفكر في العودة من حيث أتى، وتلك حال لا تشجع المصطافين، وإذا كان طلب الاصطياف قليلا كان عرض حاجات المصطاف بالطبع قليلا كذلك؛ لذلك كان نادرا في الأزمان الماضية أن تجد فنادق في غير البلاد التي تمر بها سكة الحديد أو القريبة من بيروت، وكان العثور على منزل به من الأثاث ما يكفي حاجات المصطاف أندر كثيرا.
أما اليوم قد قربت الأوتومبيلات ما بين ربوع لبنان، وشعر اللبنانيون بأن ما حبت به الطبيعة بلادهم الجبلية يجعل الاصطياف ثروتهم الأساسية، وتيسر الطريق فأصبح الوصول إلى لبنان من كل الدول المجاورة لا يحتاج لأكثر من أربع وعشرين ساعة، فقد قصد المصطافون هذه الربوع الجميلة فكثرت الفنادق فيها، وفكر الأهالي في الاستعداد لمقابلتهم، ورأت الحكومة من جانبها تيسير الوسائل لزيادة الإيراد وزيادة الضرائب.
المقام بالفنادق حتم على كل مصطاف، فأنت بها قبل اختيار المنزل الذي تريده لمصيفك، وتنزل بها إذا لم تكن تريد المقام في بلد واحد، والمصطاف يطلب في الفنادق حظا من الراحة والمتاع، ويطمع في غذاء جيد وفرش نظيف والأدوات الصحية للراحة والنظافة، وهو يجد في أكثر الفنادق الكبيرة فرشا نظيفا ومقابلة حسنة، أما الغذاء فكان موضع شكوى النازلين بأكثر الفنادق هذا الصيف، ولعل ذلك يرجع إلى الفرق في الذوق بين تصور المصري والسوري نفس الطعام، ولعله يرجع أيضا إلى حرص كثيرين من أصحاب الفنادق على أن يكون لديهم أكبر حظ من الربح في هذا الصيف.
على أن من الناس من لا يكبر شأن الطعام، فما أكثر الممعودين، وما أكثر من تمتلئ غرفهم بألوان الحلوى وأصناف الفاكهة! ومنهم من أظهروا الرضى عن طعام الفنادق التي نزلوا فيها، لكنهم جميعا سخطوا على ما هو عام في فنادق لبنان ومنازلها من عدم وجود الأدوات الصحية بها، فقل أن تجد بفندق أو بمنزل حماما منتظما كامل الآلة، وقل أن تجد الماء الجاري في المنازل سواء للشرب أو (للقضيان) كما يقول اللبنانيون، وهم يعزون ذلك إلى قلة الماء في الجبل، ولست أرى صحة قولهم وهذه العيون والينابيع تجري طول العام وقليل من عناية الحكومة ومن تضامن الأهالي وتضافرهم كفيل بتوفير الماء لكل الغايات.
واللبنانيون أنفسهم يقدرون الحاجة إلى الماء وإلى الأدوات الصحية ويعملون لسدادها، فقد حضرت حينما كنت في بلدة اهدن اجتماعا أقامه الأهالي للنظر في إجراء الماء للمنازل من نبع سركيس أو من نبع غيره، وأهالي لبنان إذا تضامنوا نفذوا، وإنك لتعجب إذ ترى في كثير من قراهم التي لا يزيد عدد سكانها على الألفين أو على الثلاثة آلاف نور الكهرباء أجرته بلدية القرية في شوارعها وأدخلته إلى منازلها، وترى عربات الرش تسير في هذه القرى الصغيرة تخفف مما تثيره الأوتومبيلات من الغبار، وهي تقوم بالإنارة وبالرش وبما إليهما من وسائل الراحة بأقل ما يمكن من النفقات لأنها لا تريد أن يضيع مال الأهالي إلا فيما يجر عليهم أكبر حظ من الفائدة.
ويزيد الأمل في تقدم لبنان ليكون مصيفا مختارا ما تبديه الحكومة من العناية في هذا الشأن، فقد فكرت في عقد مؤتمر طبي يحضره عدد كبير من أطباء مصر ولبنان وسوريا وغيرها ليطوفوا البلاد وليبدوا رأيهم في مبلغ صلاح كل جهة من الجهات المعروفة وغير المعروفة للاصطياف، ولوجود الجراح المصري الكبير الدكتور علي بك إبراهيم بمصيفه في برمانا رأت حكومة الجبل الاستعانة برأيه، فأبدى لهم أن عقد المؤتمر من غير وجود المعلومات الكافية لدى الأطباء الذين يحضرونه لا ينتج الفائدة المطلوبة، فليس يستطيع طبيب أن ينصح لمريض بالذهاب إلى جهة معينة إلا إذا عرف على وجه الضبط مبلغ ارتفاع الجهة عن سطح البحر وتفاوت درجة الحرارة فيها خلال فصول السنة المختلفة وتفاوت درجة الرطوبة كذلك، ثم إن بلبنان ينابيع شتى يقال إن لمياه بعضها فائدة شفائية خاصة، وليس يمكن الاعتماد على هذا القول إلا إذا حللت مياه الينابيع في معامل كيمائية حائزة تمام الثقة، فلكي يكون للمؤتمر فائدته يجب أن توجد لدى أطبائه مقادير ارتفاع جهات الجبل المختلفة ودرجات الحرارة والرطوبة فيها، كما يجب أن توجد تحاليل المياه لتعرف فائدتها الشفائية معرفة صحيحة، وقد اقتنع أولو الأمر برأي الطبيب المصري الكبير واستبدلوا فكرة المؤتمر في هذا العام بنزهة طبية يقوم بها عدد من الأطباء لمشاهدة أماكن الاصطياف المختلفة مشاهدة أولية، فإذا كان العام القادم وتوفرت المعلومات الكافية على طريقة علمية دقيقة انعقد المؤتمر فكان لديه من نزهة هذا العام ومن المعلومات التي جمعت له ما يجعل نتائج اجتماعه موثوقا بها، وما يسمح للطبيب أن يرسل بمريضه إلى الجهة التي تناسبه لا لأن هذه الجهة ناسبت شخصا آخر من قبل، ولكن لأن ارتفاع هذه الجهة ومناخها وهواءها وماءها صالح له صلاحية علمية مقطوعا بها.
اقتنع أولو الأمر في حكومة لبنان برأي الطبيب المصري الكبير في أمر المؤتمر كما اقتنعوا برأيه فيما يجب على الحكومة لتوفير راحة المصطاف، ولضمان صحة الأهالي، فأصبح متوقعا أن تقرر مراقبة غذاء الفنادق والأدوات الصحية بها جعل مجاري وآبار الفنادق والمنازل صماء حتى لا تلوث مياه العيون التي يشرب منها الناس والدواب، فإذا توفر ذلك كله وتوفرت للمؤتمر المعلومات الطبية الصحيحة، وأسفر تحليل مياه بعض العيون عن فائدة شفائية كان مصيف الشرق الأدنى بديعا حقا، وكان إقبال الناس عليه كفيلا بسعي أهله لإخضاع الطبيعة لهم بدل خضوعهم للطبيعة وفي اجتهادهم للاستفادة من القوى الموفورة لديهم والتي يمكن تذليلها واستخدامها لفائدة السكان ولراحة المصيفين جميعا.
في لبنان قوى موفورة من انحدار المياه، يقدرون بعضها بما يزيد على عشرين ألف حصان، ولو ضمت القوى المختلفة بعضها إلى بعض لزادت على ما يحتاجه لبنان كله للنور ولسير عربات الكهرباء ... أخبرني المحترم الخوري أنطونيوس خوري قصبة بشرى وأرز لبنان أن نبع قاديشا الواقع على مقربة من الأرز ينحدر ماؤه بقوة قدرها في أقل أوقات اندفاعها بستة عشر ألف حصان، وأن شركة تألفت لاستغلال هذه القوة وإنارة سلاسل لبنان الشمالية كلها بالكهرباء من أرفع نقطها عند الأرز إلى مرفأ طرابلس، وأن ما توفر بعد ذلك من القوة يوجه إلى أعمال أخرى، فلو تم هذا المشروع في شمال لبنان وتمت مشروعات من مثله في سائر جهات الجبل وعاونت الكهرباء الأوتوموبيلات في قطع نواحي الجبل نجمت على أثر ذلك حاجة للكمال، وقامت أعمال التجديد واستطاع أهل الجبل أن ينفقوا ما لديهم من النشاط المحبوس اليوم على صناعات قليلة وزروع نادرة الثمر، فجعلوا من لبنان جنة الشرق، ووجد المصطاف كل حاجاته وكل ما يطمع فيه من كمال المتاع.
بل لو اتجهت العناية أكثر من هذا كله إلى حجز كمية من المياه الغزيرة التي تتدفق إلى الجبل طول الشتاء لتنمية الأشجار على السفوح الجرداء، ولتنويع ما هو موجود ولإدخال أشجار وأزهار جديدة إذن لفاقت سويسرا ولفاقت التيرول هذه النواحي البديعة التي أغدقت عليها الطبيعة من نعمها، والتي ظلت على حال أليمة من الفقر جعلها باقية اليوم كما كانت منذ القدم، وجعل الأكثرين من أهلها يضطرون للنزوح والهجرة إلى مصر، وإلى أمريكا، وإلى أستراليا طلبا للعيش وسعيا وراء الثروة.
Неизвестная страница