وأنجزت موعدي، وبدا لي أن الساعات الأربع والعشرين الماضية أحدثت تغييرا مروعا، فقد رأيت العينين - وإن لبثتا غائرتين كثيرا في محجريهما - ثقيلتين مهمومتين تلتمعان، وترسلان بريقا مخيفا، يشفق المرء من التطلع إليه، وكانت الشفتان قد ارتدتا يابستين، محترقتين مشققتين في عدة أجزاء منهما، وشهدت البشرة الجافة الصلبة تتأجج من شدة الحرارة المحرقة، وبدا لي أن في وجه الرجل أمارات قلق موحش، لا يكاد يشبه شيء في هذه الأرض، وعلامات هياج نفسي رهيب، يدل دلالة بالغة على مدى فتكات المرض ومبلغ تلفه، وكانت الحمى قد بلغت أشدها.
واتخذت المجلس الذي شغلته في الليلة الماضية، ولبثت فيه ساعات، مصغيا إلى أصوات تزلزل قلب أشد المخلوقات الآدمية قسوة وجمودا ... أصوات رجل في سكرات الموت، مشرف على التلف.
وعرفت مما سمعته عن رأي الطبيب أن لا أمل في حياته، وبدا لي أنني جالس بجانب فراش رجل محتضر، وشهدت الأطراف الذاوية التي كانت إلى ساعات قليلة تتشوه وتتنكر لتسلية النظارة في الملهى، قد عادت تتلوى من عذاب الحريق وشدة الحمى ... وسمعت ضحكة المهرج المدوية، مختلطة بأنين المحتضر.
وإنه لمن الفاجع للنفس أن يسمع المرء العقل وهو يعود إلى ما كان يألفه من عمل أو حرفة وهو سليم موفور العافية، فترى البدن الراقد حيالك واهيا ذابلا لا حراك به، ولكن حين يكون ذلك العمل من نوع يتعارض أشد التعارض مع التفكير الجدي، أو الحرفة الرزينة، نجد الأثر الذي يحدث للمريض قويا بالغا، فلا عجب إذا كان الملهى والألحان هما الغالبين على كل ما عداهما من المشاهد، والموضوعات التي جعل الرجل يتحدث عنها في غشيته، ويرددها في غيبوبته، فقد خيل إليه أن الوقت مساء، وأن عليه دورا يمثله في تلك الليلة، وأنه قد تأخر عن الموعد، ولا بد له من مغادرة البيت في الحال، ولكن لماذا يحتجزونه ويمنعونه من الذهاب ... سيخسر الأجر إذا لم يذهب ... فليذهب حتما ... ولا يتخلف ... ولكن كلا ... إنهم لا يريدون أن يتركوه ... وراح يدفن وجهه في يديه المحترقتين، ويئن أنين المتوجع من ضعفه وقسوة معذبيه ... ثم يسكن لحظة، ويعود فيطلق بضعة ألحان رخيصة ... كانت هي آخر ما حفظه ... ونهض من فراشه، ونشر ذراعيه الذابلتين، وانثنى يتقلب فوق سريره القذر، وأخذ يمثل ... فقد توهم أنه على المسرح، وبعد سكون قصير أنشأ يغمغم بأنغام أغنية صاخبة، وعاد إلى بيته القديم بعد التمثيل ... وما أشد الحر في الحجرة ... لقد كان مريضا مدنفا، ولكنه الآن سليم وسعيد ... املأ الكأس ... وانزع القدح ...! من هذا الذي أبعده من شفتيه ... إنه ذلك المضطهد المتعقب عينه، الذي كان من قبل يطارده ... وعاد يتقلب فوق الوسادة، ويئن أنينا عاليا ... ثم تلت الأنين فترة غياب ونسيان مطلق، وإذا هو يهذي وينطلق في تيه متشعب من الحجرات الخفيضة السقوف ... حتى ليضطر أحيانا إلى الزحف على يديه وركبتيه ليمضي في طريقه ... وكان الطريق ضيقا ومظلما، وكلما دار منحرفا عنه، حال حائل بينه وبين التقدم في مسيره ... ووجد حشرات زواحف مخيفة، ذوات أعين تحملق فيه، وتملأ الهواء من حوله، وتبرق بريقا بشعا في وسط الظلام الكثيف الذي يغمر الموضع، كما كانت الجدران والسقف ملأى بالحيات والأفاعي ومختلف الزواحف، والسقف المقبوب يتسع شيئا فشيئا، حتى يبلغ حجما ضخما ... وإذا أشباح مرعبة تروح وتغدو من حوله، وقد رأى وجوها يعرفها، قد ارتدت قبيحة منكورة تمط شفاها له سخرية، وتلعب حواجبها هزءا به وتهكما، وإذا أصحابها يتقدمون نحوه، فيكوونه بقطع من حديد محمي، ويربطون رأسه بالحبال حتى ينحبس الدم منه، وهو يصارع في سبيل الحياة صراع مجنون هائج .
وفي نهاية إحدى تلك النوبات، وقد وجدت مشقة بالغة خلالها في احتجازه في فراشه، رأيته يهبط فيما يشبه النوم، وكان طول المراقبة وكثرة الإجهاد قد تغلبا على قواي، فأغمضت عيني بضع دقائق، ولكني لم ألبث أن شعرت بقبضة قوية خشنة تمسك بكتفي، فاستيقظت في الحال، فإذا أنا أراه قد تحامل في فراشه، واستوى في مرقده، وعرا وجهه تغير مروع، ولكنه أفاق من الغشية؛ إذ تبين لي أنه قد عرفني، ورأيت الطفل الذي كان قد انزعج من وقت طويل، واضطرب من شدة هذيانه، ينهض من فراشه الصغير، ويجري نحو أبيه صارخا من شدة الخوف، غير أن أمه عاجلته، فتناولته بين ذراعيها؛ مخافة أن يؤذيه وهو في عنفوان جنونه، ولكنها حين أبصرت التحول البادي على قسمات وجهه، وقفت مروعة جامدة بجانب سريره، وتناول كتفي في يد متشنجة راعشة، وباليد الأخرى ضرب صدره، وحاول جاهدا أن ينطق ... ولكنه لم يستطع ... فبسط ذراعيه نحوهما، وعاد يحاول مرة أخرى ... ولكن حشرجة قامت في حنجرته ... وخطف بريق على عينيه ... وانبعثت منه أنة قصيرة مختنقة ... وارتد إلى الوراء ... ميتا.
وكان يسعدنا أشد الإسعاد أن ندون رأي المستر بكوك في هذه القصة التي أسلفناها عليك، ولسنا نشك في أننا كنا نوافيك به، لولا وقوع حادث حال لسوء الحظ بيننا وبين إيراده.»
وكان المستر بكوك قد أعاد إلى المنضدة الكأس التي لبثت خلال العبارات الأخيرة من القصة مرفوعة بيده، وهم بالكلام - استنادا إلى ما ورد فعلا في كناشته، من أنه هم فعلا بأن يفتح فمه ليقول شيئا - لولا أن دخل غلام الفندق في تلك اللحظة، فقال له: «بعض السادات يا سيدي.»
وقد ذهبت الظنون إلى القول بأن المستر بكوك كان على وشك إلقاء بعض ملاحظات من شأنها أن تنير العالم كله، إن لم يقتصر نورها على المدينة القائمة على ضفاف «التايمز»، لولا هذه المقاطعة، فقد راح يطيل النظر عابسا في وجه الغلام، ثم أدار عينه في وجوه الجمع عامة، كأنما يطلب منهم خبرا يتصل بأمر أولئك الزائرين.
وعندئذ نهض المستر ونكل من مجلسه، فقال: «آه ... بعض صحاب لي، دعهم يتفضلوا بالدخول.» وأردف يقول عقب انصراف الخادم: «إنهم أناس لطاف جدا، ضباط من الآلاي السابع والتسعين، عرفتهم مصادفة في هذا الصباح، وسنأنس إليهم كثيرا.»
فاستعاد المستر بكوك طمأنينته في الحال، وما لبث الغلام أن عاد معلنا دخول ثلاثة سادات إلى الحجرة.
Неизвестная страница